ولم توافق عزيزة أبدا إلا بعد أن أخبروها أن أجرتها لن ينالها سوء، وأن يوميتها سوف تحتسب، وكان خوفها الأكبر إذا رقدت أن ينقطع أجرها فيموت عبد الله وأولادها من الجوع.
وحين رقدت عزيزة وقد اطمأن قلبها على سريان اليومية، بدا وكأنما المرض كان يختزن قوته كلها لهذه اللحظة. فقد أحست - وكأنما فجأة - أنها فعلا مريضة، وأن المرض قد استبد بها إلى درجة لم تعد تستطيع معها أن ترفع ساقا أو تحرك يدا. •••
مع أن المأمور كان هو أول من عرف بحكاية عزيزة إلا أن خبرها كان قد وصل إلى العزبة الكبيرة حتى قبل أن يصلها هو. ذلك أنه الخبر الذي انتظره الناس فيها طويلا وتلقفوه تلقف الملهوب، فلم يكن فيه حل للغز الذي حيرهم فقط، ولكن الحل أيضا على وجه مرض، الحل كما أرادوه تماما وخافوا ألا يكون. حل بردت به صدورهم وهجعت خواطرهم وأعاد لهم الثقة في أنفسهم وأخلاقهم ونسائهم وقيمهم، تلك الثقة التي ظلت حائزة مزعزعة تحوم حولها الشكوك، وتتطاول عليها الألسن منذ اللحظة التي عثر فيها عبد المطلب الخفير على اللقيط.
ومن الفرحة التي قوبل بها الخبر في العزبة كان يخيل إليك أنه لو لم تكن هناك عزيزة وجذر بطاطا لتكفل واحد منهم أو أكثر بتأليف عزيزة من عنده، وألصق بها ما شاء من جذور البطاطا أو كيزان الذرة، ولسرت حكايته ودارت وأصبحت - في النهاية - حقيقة. فأن يعود للناس إيمانهم شيء ضروري، فإن لم يعد على هيئة حقيقة فليعد شبه حقيقة؛ إذ الإيمان سوف يتكفل بها ويجعل منها حقيقة. والناس تريد الإيمان على أية صورة، فإن لم تجد ما تؤمن به في الواقع آمنت به في الحكايات.
هللت العزبة الكبيرة للخبر بفلاحيها وأسطواتها وكل موظفيها، وحتى بالسائرين في طرقاتها. وكلما التقى أحدهم بالآخر صرخ فيه: مش قلت لك؟ علي الطلاق أنا م الأول قلت إنهم الترحيلة، جالك كلامي؟
ويؤمن الآخر على حديثه، بل ويكاد يقسم هو الآخر بيمين الطلاق وينتقل بهما الحديث من اللقيط إلى الترحيلة أنفسهم باعتبارهم أصحابه والمسئولين عنه.
ذلك هو ما حدث. فما كاد أهل العزبة يطمئنون على سلامة أنفسهم حتى بدءوا يستديرون للغرابوة الذين كانوا يتجاهلون وجودهم إلى تلك اللحظة، ويعيشون على أرض التفتيش يكاد لا يحس بهم إنسان. بدءوا كلما ذاع خبر عزيزة ولقيطها وحكايتها يصبحون محط أنظار الناس ومحل اهتمامهم، ولكن أي اهتمام؟!
الفلاحون الكبار والمزارعون لم يفعل الخبر أكثر من أن هيج كامن تقززهم من الغرابوة واشمئزازهم منهم، فأصبح الحديث عنهم يسبقه أو يتبعه سيل من الشتائم والبصقات. كأن الترحيلة في نظرهم حثالة آدمية تهبط على تفتيشهم مرة أو مرتين في العام كالوباء الذي لا مفر منه. فما بالك حين يكتشفون أن تلك الحثالة قد صدر عنها شيء حرام - كهذا الذي حدث منذ أيام - حاولت إخفاءه وإلصاقه بأهل العزبة؟ الترحيلة أنفسهم كانوا يكادوا يصبحون شيئا حراما، وكأن الناس جميعا مخلوقات حلال وهم وحدهم مخلوقات حرام، أية بشاعة يصبح عليها الحرام إذا ارتكب حراما!
نساء الفلاحين هن الأخريات كان لهن آراء مثل أزواجهن وآبائهن، بل أغرب من هذا كن أكثر حماسا وأكثر تحاملا، وكأنهن يستكثرن على الترحيلة أن تحمل إحداهن مثلما يحملن، وأن تلد مثلما يلدن، حتى لو كان حملها وولادتها حراما في حرام. •••
وفي عودة مسيحة أفندي إلى بيته في ذلك اليوم كان فرحا على غير العادة، بل دفعه الفرح إلى التهور، وآلى على زوجته أن تذبح لهم في ذلك اليوم وتوسع.
Bilinmeyen sayfa