وكانت زكية مدمنة قراءة الجرنال، حتى إنها كانت تعترض طريق زوجها وهو قادم من المحطة وتنزله من فوق الحمار بالقوة وتغتصب منه الجرنال، ولا تعطيه إياه إلا بعد فراغها تماما منه. ومحبوب واقف عاجز يخاف منها أكثر مما يخاف لو تأخر عن المأمور، فهو يستطيع إلقاء عبء التأخير على قطار الدلتا الذي ليس له مواعيد، أما زكية فأنى له أمامها بالقدرة على اختلاق المعاذير، والعزبة التي يسكن وإياها فيها تقع قبل العزبة الكبيرة حيث الإدارة، وهي على الدوام تنتظره وتقطع عليه الطريق؟
كانوا يقولون: إن الخطابات يتبادلها صفوت ولنده عن طريق محبوب، تعطيه لنده الخطاب وبدلا من أن يذهب به لقطار الدلتا يهرول به إلى حيث طلقات بندقية صفوت ولو كانت تدوي عند آخر التفتيش، وله الحلاوة واليمام والبقشيش.
كان خبر هذا كله عند مسيحة أفندي، وكم من مرة أوقف محبوبا وفتشه مدعيا أنه يبحث عن خطاب، وكل مرة لا يجد شيئا في حقيبة محبوب، ولا حتى في جيوبه حين يصر على تفتيش الجيوب.
واليوم - وبعد هذا الحادث الغريب - لعب الفأر في عب مسيحة أفندي، ولم يكن وقت انصرافه من المكتب قد حان مع أنه ليست هناك ساعات عمل محدودة، إلا أنه تعود أن يبقى في المكتب إلى وقت الغداء، ولكنه يومها قام وغادر المكتب والإدارة وعبر القنطرة الحجرية وتوجه إلى بيته القائم على رأس العزبة يتلقى تحيات الفلاحين بغمغمة لا يفتح فيها فمه. ومع هذا، وفيما هو فيه لا ينسى أن يضم ذيل جلبابه ويرفعه مخافة أن تعلق قذارات الطريق. كان في زيه الدائم: الجلباب الإفرنجي الأبيض الذي ليس له ياقة، والبالطو الأبيض والطربوش، جميعها بيضاء ولكنك لا تلمح فيها بقعة. كثيرا ما عيرت أم صفوت زوجها المأمور حين يأتي لها ببنطلونه الأصفر متسخا حاملا في ثنية ذيله الطين والحصى والتراب، تعيره وتقول له إنه لا يساوي قلامة ظفر مسيحة أفندي الذي ما رأته أبدا وعلى ملابسه ذرة تراب، بل تبلغ بمسيحة أفندي شدة حرصه على ملابسه أنه حين يسافر ويضطر اضطرارا إلى ارتداء البدلة الوحيدة التي يملكها، والتي تبدو على الدوام جديدة وكأنها بنت العام مع أن عمرها لا يقل عن العشرة الأعوام بأي حال، يبلغ حرصه درجة أن يضع منديلين حول ياقتها مخافة أن يتسرب عرق قفاه إليها إذا اكتفى بوضع منديل واحد.
بقامة قصيرة منحنية، وبوجه شاحب (إذ هو الوحيد بين سكان التفتيش الذي يعمل معظم نهاره في ظل المكتب)، وبذقن خضراء كثة، وبملابس ملمومة نظيفة ارتقى مسيحة أفندي الدرجات القلائل التي تؤدي إلى باب بيته، والباب مفتوح فلا تغلق أبواب الدور في الأرياف إلا لماما، ودخل. وكان لمسيحة أفندي ضجة دخول معتادة ما إن يطأ عتبة الباب حتى يبدأ أسئلته واستفساراته وتعليقاته، هيه، إنتو فين؟ بتعملوا إيه؟ بعت لكم الواد بالخضار، واتأخرتم في الغدا ليه؟ اللحمة كانت عجوزة ولا إيه؟ دي كويسة، وانتي مالك يا لنده، ضرسك تاعبك ولا إيه؟
يقول هذا وهو يهز رأسه هزات من يبحث بأنفه عن شيء، وينقب بعينيه الرماديتين عما خلف كل شيء. ولكنه هذه المرة دخل صامتا واجما. وفي الصالة المضيئة - أكثر من اللازم - كانت عفيفة زوجته جالسة أمام طبلية صغيرة ومعها أم إبراهيم زوجة فقي التفتيش، ودميان سلفها أخو مسيحة أفندي، وكان الثلاثة يصنعون «شعرية»، ودميان يمسك العجينة ويفتلها بيد وبيده الأخرى كان يقرأ الفنجال لأم إبراهيم ويقول لها: ح تشوفي خير بعد نقطتين. قولي يا رب.
وكاد مسيحة أفندي ينهر أخاه، ولم تكن هذه أيضا عادته، فهو يعرف - مثلما يعرف كل الناس - أن أخاه معتوه، وأن عقله يبدو أنه قد كف عن النمو مذ كان طفلا، فأصبح له جسد رجل قصير كأخيه في الخامسة والثلاثين، وعقل طفل في العاشرة، وذقن سوداء كثة كفرشة الملابس لا يحلقها إلا كل حين وحين. جلبابه الكزمير لم يتغير أبدا، وطاقيته ذات الحائط والمصنوعة من نفس قماش الجلباب على رأسه عمره ما خلعها، وعمله الخدمة في بيت أخيه، ينظف النحاس ويقيس الدواجن، ويعلم أرجل الكتاكيت حتى لا تتوه مع كتاكيت الجيران، ويغسل الملابس، ويحضر الطلبات من الدكان، ويرعى الأولاد ويمسح أحذيتهم، ويفعل هذا كله وهو يحيا في ملكوت طفولي من صنعه، يقابلك في منتصف الطريق فتقول له: إزيك يا خواجة دميان؟ فيوقفك قائلا: الله يسلمك، ثم يرفع وجهه إلى السماء وكأنه يقرأ ما كتب لك، ويبلل سبابته وإبهامه بلعابه ويضعهما فوق ظهر يده اليسرى، ثم يرفعهما ويقول لك: إن شاء الله سعيد. لعبة كبيرة للأطفال، ولعبة صغيرة للرجال، ولعبة رجالي للنساء، وكل ما كان يهم النساء، وأحيانا، هو هل دميان ينفع النساء أم لا ينفعهن؟ بعضهن يقلن إن الست عفيفة لا تستخبى عليه وتعامله كصبي حريم. وبعضهم يقول: لا، إن ذقنه الكثة السوداء خير دليل على رجولته. ويسألونه: لماذا لم تتزوج يا دميان؟ فيضحك ضحكته الغريبة التي تبدو وكأن رجلا يحاول أن يقلد ضحكة الأطفال ويقول: إلهي ربنا يخليك. حتى لقد بلغ العبث به إلى حد أن بعضهم كان يطلب منه أن يسلم، فكان يقول لهم: أنا مسلم وموحد بالله، ويقرأ الفاتحة وآية الكرسي، ورغم هذا فقد كان هناك رأي يقول إن دميان خبيث ولكنه يستعبط. المحرج في الأمر أن دميان كان شقيق مسيحة أفندي الباشكاتب، وأن تسخر من شقيق الباشكاتب أمر محرج، أو أحيانا أمر مبهج، وكأن الفلاحين يبهجهم أنهم يستطيعون أن يسخروا من الإدارة في مواجهتها حين يسخرون بدميان.
عسعس مسيحة أفندي بعينيه في الصالة والحجرة القريبة المفتوحة، ولكنه لم يلمح لنده. وأخيرا - وحين لم يجد بدا - سأل عنها زوجته، فقالت له: تعبانة شوية، وهب فيها مسيحة أفندي وكأنه فوجئ: تعبانة ليه؟ ما لها؟ وما قولتليش ليه؟ دي نسوان إيه دي؟! وهي فين؟
قالت له عفيفة: إنها راقدة على فراشهما، وبخطواته المتدحرجة وصل مسيحة أفندي إلى حجرة النوم. حجرة نوم عتيقة بالية بالغة القدم، نفس «جهاز» عفيفة الذي دخلت به من أعوام كثيرة مضت. الدولاب بلا ضلف، والسرير جددت ألواحه مرات، وعمدانه عليها بيض ذباب أسود متجمد، والناموسية معلقة من ثلاث نواح فقط والرابعة مقطوعة. كانت الناموسية مسدلة، وحتى قبل أن يرفعها قال - والفأر قد بدأ يزداد لعبا في عبه: ما لك يا لنده؟
ووجدها نائمة وحسب أنها تتناوم وازداد قلبه اضطرابا، ورفع الناموسية وواجهها. كان شعرها الأصفر المجعد الذي ما رآه أحد إلا مرتبا وأنيقا ومعتنى به، وكأنما تدرك صاحبته بغريزتها خشونته فتحاول باستمرار أن تجعله يبدو حريريا ناعما. كان شعرها منكوشا وخصل منه تغطي جبهتها، وعيناها منتفختان قليلا وكأنما انتهت صاحبتهما من نوبة بكاء.
Bilinmeyen sayfa