الجزء الأول: الهند والجزيرة العربية
مقدمة
تمهيد
المركز الأول: الهند
المركز الثاني: بلاد العرب
المراجع
الجزء الثاني: مصر والشام
مقدمة
تمهيد
1 - ركود الحياة العلمية في مصر والشام
2 - بوادر النهضة الإصلاحية في مصر والشام
3 - السيد محمد مرتضى - الحسيني الزبيدي
4 - الشيخ عبد الغني النابلسي
المراجع
الجزء الأول: الهند والجزيرة العربية
مقدمة
تمهيد
المركز الأول: الهند
المركز الثاني: بلاد العرب
المراجع
الجزء الثاني: مصر والشام
مقدمة
تمهيد
1 - ركود الحياة العلمية في مصر والشام
2 - بوادر النهضة الإصلاحية في مصر والشام
3 - السيد محمد مرتضى - الحسيني الزبيدي
4 - الشيخ عبد الغني النابلسي
المراجع
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
تأليف
جمال الدين الشيال
الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي فيما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.
الجزء
الهند والجزيرة العربية
مقدمة
عهد إلي معهد الدراسات العربية أن ألقي بعض المحاضرات عن مراكز الثقافة العربية في الشرق الإسلامي الحديث في القرون الثلاثة؛ السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر.
وكل من اشتغل بتاريخ الشرق الإسلامي يعلم أن هذه القرون الثلاثة كانت قرونا مظلمة، ويحسن إذا نحن قسمنا تاريخ العالم الإسلامي تقسيما زمنيا خاصا به، بعيدا عن التقسيم الزمني للتاريخ الأوروبي أن نسمي هذه الحقبة بالعصور الوسطى المظلمة؛ فإن ما سبقها إلى القرن الخامس عشر كان عصر ازدهار، وما لحقها حتى اليوم عصر نهضة وإحياء.
وفي هذه القرون الوسطى انقطعت الصلة بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي، وكان الشرق الإسلامي يسير إلى وراء، في حين كان الغرب الأوروبي يقفز إلى أمام، ومع هذا لم تخل بلدان الشرق الإسلامي من نشاط ثقافي وحركات إصلاحية هي في الواقع إرهاصات لحركة النهضة والإحياء التي عمت العالم الإسلامي كله في القرنين؛ التاسع عشر والعشرين.
ولم يكن العمل لإعداد هذه المحاضرات سهلا؛ فإن أحدا لم يعن بالتأريخ لهذه الحركات، وما كتب عن رجالها قليل نادر متفرق، وقد قسمت الموضوع إلى أربعة مراكز؛ الهند، وبلاد العرب، ومصر والشام، وإيران.
وفي هذا الجزء تحدثت عن مركزين؛ المركز الأول الهند، والمركز الثاني بلاد العرب، وجعلت محور حديثي الشخصيات الإصلاحية أو الثقافية التي برزت في كل مركز في هذه الحقبة من الزمن.
والشرق الإسلامي الذي أقصده هنا يمتد من مصر إلى الهند، وقد قصدت أن يمتد الموضوع إلى الهند الإسلامية؛ لأننا درجنا على أن نعنى بالتأريخ لبلدان الشرق الأدنى الإسلامية، ودرج شبابنا وطلابنا على العناية بهذا الجزء وحده من العالم الإسلامي، كأنه لا يوجد إلى الشرق من العراق بلاد أو شعوب إسلامية؛ ولهذا أحسب أن ما كتبته هنا عن أحمد سرهندي وشاه ولي الله دهلوي هو أول أو أوفى ما كتب عنهما في اللغة العربية، ومع هذا فأنا لا أعتقد أنني وفيت الموضوع حقه، وما فعلت أكثر من أن مهدت الطريق ونبهت الأذهان، وأرجو أن أوفق أو يوفق غيري في المستقبل لإيفاء هذين المصلحين حقهما من البحث، والعناية بدراسة مؤلفاتهما وتحليلها وتعريف قراء العربية بها.
هذا، وقد ألحقت بهذه الفصول قوائم كاملة بمؤلفات كل شخصية من الشخصيات التي تحدثت عنها، وقوائم أخرى بالمراجع التي تلقي ضوءا على الشخصية أو العصر الذي عاشت فيه.
وإني لأرجو أخيرا أن أوفق للحديث في جزء ثان عن المركزين الأخيرين. والله ولي التوفيق.
تمهيد
العالم الإسلامي في فجر العصر الحديث
شهد العالم الإسلامي في القرن السادس عشر تغيرات أساسية، ففي السنوات الأولى من هذا القرن اصطدمت قوى الدولة التركية العثمانية بقوى دولة المماليك، وعقدت ألوية النصر للدولة الأولى، وورثت ملك المماليك في الشام ومصر، وقضت على الخلافة العباسية الصورية القائمة في مصر، وانتزع سلاطين العثمانيين منذ ذلك الحين لقب الخلافة، وأصبحوا بهذا خلفاء للمسلمين بعد أن كانوا سلاطين على دولتهم التركية وحسب.
ثم امتد ملك الأتراك العثمانيين بعد هذا، وفي هذا القرن أيضا، حتى شمل بلاد العرب واليمن في آسيا، والجزائر وتونس وطرابلس في أفريقيا، ولم يبق خارجا عن ملك العثمانيين غير مراكش.
وفي أوائل هذا القرن أيضا قامت دولتان إسلاميتان جديدتان في القسم الشرقي من العالم الإسلامي:
الأولى : الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس، ومؤسسها هو الشاه إسماعيل الصفوي (906ه / 1500م)، وقد ضم إلى ملكه العراق العربي وديار بكر، وشمل ملكه بلاد فارس وخراسان جميعا، وامتدت دولته من الخليج الفارسي إلى بحر الخزر، وجعل عاصمته في تبريز.
وقد قام نزاع آخر بين هذه الدولة وبين دولة الأتراك العثمانيين، وانتصر السلطان سليم الأول في موقعة شالدران
Chàldirân (1514م)، ولكنه لم يكن انتصارا حاسما، ولم يستطع العثمانيون القضاء على ملك الصفويين قضاء تاما كما فعلوا بدولة المماليك، وكل ما نجحوا فيه هو ضم بلاد العراق والجزيرة في عهد مراد الرابع في سنة 1638م، وظلت الدولة الصفوية قائمة إلى أواخر القرن التاسع عشر (907-1311ه / 1502-1893م).
أما الدولة الثانية فهي دولة أباطرة المغول في الهند، ومؤسس هذه الدولة هو بابرشاه من سلالة تيمورلنك، وقد خلفه من نسله عدد من الأباطرة العظام من أمثال همايون وأكبر وجهانجير وشاه جهان وأورنجزيب، ثم خلف من بعدهم خلف من الملوك الضعاف، وظلت الدولة قائمة إلى أن انتهت في منتصف القرن التاسع عشر.
فهذه دول ثلاث اقتسمت الحكم في العالم الإسلامي في القرون الثلاث؛ السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، اثنتان منها سنيتان، وهما: الدولة التركية العثمانية، والدولة المغولية في الهند، والثالثة شيعية وهي الدولة الصفوية، وهي جميعا لم تكن دولا عربية الجنس أو اللسان، ولهذا أثره الواضح في اضمحلال الدراسات العربية، وانتعاش الدراسات التركية والفارسية.
ولقد بدأ العالم الإسلامي في القرن السادس عشر قويا مرهوب الجانب؛ لأن الدول الثلاث كانت دولا حربية، ولكنها لم تلبث في القرنين التاليين أن نالت منها عوامل الضعف والانحلال.
والسمة الظاهرة الواضحة للعالم الإسلامي في هذه القرون الثلاثة هي انعزاله وانقطاع الصلة بينه وبين العالم الأوروبي، في وقت كان العالم الأوروبي يخطو خطوات واسعات في نهضته العلمية وفي مخترعاته الصناعية وفي اكتشافاته الجغرافية.
أما المسلمون فقد نسوا علومهم المدنية القديمة، وبدءوا يجترون الكتب القديمة، وقصر اهتمامهم على العلوم الدينية واللغوية يبدءون فيها ويعيدون، وكان أقصى ما يستطيعه عالم منهم أن يكتب شرحا لمتن قديم أو حاشية على هذا الشرح، أو أن ينظم أبياتا من الشعر في مدح أحد الملوك أو السلاطين، أو يؤرخ بها وفاة واحد منهم.
وتدهور - تبعا لهذا - المجتمع الإسلامي، وانتقلت السيادة على العامة لنفر من المتصوفة الذين أشاعوا كثيرا من البدع المستحدثة التي تتنافى مع روح الإسلام.
ومع هذا فقد كانت تظهر وسط هذه الغياهب المظلمة وبين الحين والآخر بعض النجوم المضيئة تحاول أن تبدد هذا الظلام، وتبعث في المجتمع الإسلامي روحا تجديدية، تقوده إلى النهضة الثقافية الاجتماعية، وقد ظهرت هذه الحركات الإصلاحية أو الثقافية التجديدية في مختلف أجزاء العالم الإسلامي، وكان لها في المشرق الإسلامي مراكز أربعة: الهند، وبلاد العرب، ومصر والشام، وإيران.
وسنحاول أن نلقي بعض الضوء على كل مركز من هذه المراكز، وأن نتتبع النشاط الثقافي والحركات التجديدية التي ظهرت فيه.
المركز الأول: الهند
أحمد سرهندي - شاه ولي الله دهلوي (1) دخول الإسلام الهند وانتشاره بها
دخل الإسلام الهند عن طريقين: (1)
طريق السند، وقد دخل هذه المنطقة مع جيش البطل الشاب الفاتح محمد بن القاسم الثقفي في سنة 92ه، الذي استطاع أن يهزم ملك السند «داهر»، وأن يحاصر مدينة «الملتان» إلى أن استولى عليها، وحطم ما في معابدها من أوثان وأصنام، وقد امتدت فتوح محمد بن القاسم حتى شملت إقليم السند كله وجنوب البنجاب.
وظلت هذه الإمارة تابعة للخلافة، وعن طريقها انتشر الإسلام رويدا رويدا في المناطق الهندية المجاورة. (2)
والطريق الثاني هو منطقة الحدود الشمالية الغربية، وعبرها انحدرت جيوش محمد بن سبكتكين - أو محمود الغزنوي - (388-421ه) ففتحت إقليم البنجاب، وتقدمت حتى استولت على دلهي ومعظم الأجزاء الشمالية من الهند.
وتوالت على هذه المنطقة دول إسلامية كثيرة، إلى أن كان القرن السادس عشر، وانحدر بابر عبر نفس الطريق بجيوشه المغولية، مكونا دولة الأباطرة العظام التي مدت سلطانها حتى شمل معظم أجزاء الهند، والتي ظلت تحكم شبه القارة الهندية نحو ثلاثة قرون.
ونتيجة لهذه الفتوح ولقيام هذه الدول الإسلامية المتتابعة؛ انتشر الدين الإسلامي في جميع أنحاء الهند، ولكننا نلاحظ أن هناك عاملا آخر كان أكثر تأثيرا في انتشار الإسلام في الهند، وذلك هو سبيل الدعوة الدينية السلمية التي تسير مع ركب الحياة وتطورها؛ فعن طريق التجار واتصالاتهم، وعن طريق الفقهاء والوعاظ ودروسهم، وعن طريق العلماء والمتصوفة ورحلاتهم ومدارسهم؛ انتشر الإسلام بين الهنود، فهؤلاء جميعا كانوا في معظمهم من العرب، أو من المثقفين بالثقافة العربية، في حين أن الفتوح الإسلامية - باستثناء الفتح الأول الذي قاده محمد بن القاسم - قامت بها جيوش وعناصر غير عربية من الترك والفرس والمغول.
وهذه ناحية هامة نعتبرها مفتاح دراسة الإسلام في الهند؛ فإن هذه الجيوش التركية والمغولية كانت في معظمها حديثة عهد باعتناق الإسلام، وقد نقلت معها معالم الثقافة الفارسية ومظاهر الحياة التركية والمغولية؛ ولهذا انتشرت في المجتمع الإسلامي بالهند اللغة الفارسية ثم اللغة الأوردية، ولم تنتشر اللغة العربية، وبالتالي لم تزدهر الثقافة العربية في الهند ازدهارها في الأقاليم والدول الإسلامية الأخرى، وساعد على هذا أن معظم العلماء والمشايخ الذين وفدوا على الهند كانوا من علماء ما وراء النهر، وهؤلاء كانوا من أتباع مذهب أبي حنيفة، يعتمدون على كتب المتأخرين من فقهاء هذا المذهب، كما كانوا شغوفين بعلوم اليونان القديمة، ولغتهم الثقافية الأثيرة لديهم هي اللغة الفارسية؛ ولهذا اصطبغت الثقافة الإسلامية في الهند بهذه الصبغات الثلاث، ولم تقم على أسس سليمة قوية من الثقافة العربية.
ولكن ليس معنى هذا أن الهنود لم يعرفوا اللغة أو المؤلفات العربية، بل لقد عرفوها وانتشرت بينهم، وتعلمها الكثيرون منهم، بل وألفوا بها، ولكن الذي نعنيه أنها كانت أقل انتشارا وتأثيرا في المجتمع الإسلامي الهندي إذا قورنت بالثقافتين الفارسية والتركية المغولية.
وفي القرن السادس عشر، وفي عهد الإمبراطور المغولي جلال الدين محمد أكبر تعرض المجتمع الإسلامي في الهند لهزة عنيفة؛ فقد كان هذا الحاكم عظيما حقا، مصلحا حقا، ويعتبر عصره من أزهر العصور التي شهدتها الهند، ولكن حركته الإصلاحية لم تقتصر على الجيش والنظم الحربية والإدارية والمالية، ونواحي الحياة العلمية والأدبية والفنية، بل تعدت هذا كله إلى الدين؛ فقد اعتقد أكبر أنه لا يستطيع أن يحكم دولة تعتبر بحق متحفا أنثرولوجيا (جنسيا) حكما ناجحا؛ كانت الهند تضم خليطا عجيبا متباينا من الأجناس والأديان، والعادات والتقاليد والثقافات، فتطلع أكبر إلى توحيد هذا المجتمع الهندي في كل شيء، حتى في الدين. (2) أكبر والدين الإلهي (2-1) أكبر، الحاكم السني المتدين
ولي أكبر العرش في سنة 1556م وهو في الرابعة عشرة من عمره، وظل يحكم الهند خمسين عاما، وكان في العشرين سنة الأولى من حكمه مسلما سنيا كأحسن ما يكون المسلم السني، يحافظ على أصول الدين، ويؤدي الصلوات في المسجد وفي أوقاتها، بل لقد كان يقوم أحيانا مقام المؤذن فيدعو الناس للصلاة، وكان يحترم علماء الدين والمتصوفة الزاهدين ويبجلهم، ويؤثر صحبتهم، فيقضي في حضرتهم الساعات الطوال، ولا يتردد في إجابة مطالبهم مهما ضؤلت، وكان يحج في كل عام لزيارة ضريح الشيخ سليم الششتي في مدينة أجمير
Ajmer
فيطوف به عدة مرات، ثم يجلس في حضرته وقتا طويلا، وقد سمى ابنه سليما باسم هذا الشيخ، وهو الذي سيعرف - فيما بعد - باسم جهانجير
jahangir .
وكان أكبر لا يبدأ عملا أو قولا إلا بدأه بقوله: «يا هادي، يا معين»، وكان لهاتين الكلمتين - فيما يقال - أثر السحر في نفسه، كما كانتا تثيران حماس أتباعه الشديد، فكان جنود جيشه - مسلمين وهنودا - إذا سمعوه يدعو هذا الدعاء يرددونه وراءه في صوت جهوري، ثم ينقضون على العدو دون خوف أو وجل.
وكان أكبر يعتقد في الفقراء والمتصوفة، ويزور زواياهم حافي القدمين في أغلب الأحوال، وقد دفعته هذه الروح الدينية إلى الإقبال على دراسة القرآن والحديث، وساعدته حافظة قوية على استيعاب كل ما يلقيه عليه أساتذته.
ولم يقنع أكبر بهذا، بل أصدر أوامره بتعيين القضاة والمفتين في كل جزء من أجزاء مملكته؛ ليحكموا بين الناس بالعدل تبعا لأصول الشريعة الإسلامية، وكان يستجيب لمشورة العلماء في اضطهاد المتزندقة والملحدين.
وقرب أكبر إليه عددا من العلماء، كانوا بمثابة الرواد يوجهونه ويثقفونه؛ من أشهرهم: بيرم خان
Bairam Khan ، وعبد الله مخدوم الملك
Abdullah Makhdûm-ul-Mulk ، والشيخ عبدون نبي
Abdun-Nabi ، ولكنه كان يؤثر الشيخ عبدون بتقديره واحترامه وثقته، حتى إنه عينه صدرا للصدور، وكان يدعوه إلى حضرته يوميا؛ حيث يجلس بين يديه ليتلقى دروسا في الحديث. (2-2) عبادة خانة، والتمهيد لإعلان الدين الإلهي
هكذا بدأ أكبر، وهكذا ظل طوال العشرين سنة الأولى من حكمه مسلما سنيا متدينا مخلصا لعقيدته؛ مما جمع قلوب السنة من مسلمي الهند على حبه وتأييده، ولكنه انقلب فجأة إلى رجل حر التفكير، ونفض عن عقله وروحه هذا الإخلاص القديم، وبدأ يفكر في إيجاد دين جديد! فبدأ في سنة 1575م بإنشاء دار خاصة في فاتحبور سكري
Fatihpur Sikri
سماها: «عبادة خانة
Ibadat khanah »، ودعا الفقهاء والعلماء من السنة والشيعة مساء كل خميس لحضور هذه الدار، ومناقشة المذاهب في حضرته؛ بغية التقريب بين الآراء المختلفة، وتوحيد الإسلام في مذهب واحد، ولكن هذه المناقشات لم تأت بالنتيجة المطلوبة، بل على العكس وسعت الشقة وزادت في عوامل الخلاف، وراح كل فريق يتهم الفريق الآخر بالكفر والمروق.
وفي إحدى أمسيات الخميس في سنة 1578م اشتد النقاش بين العلماء حتى لقد وصم بعضهم البعض الآخر بالكفر في حضرة السلطان، ولم يعد هناك أمل في تآلف العلماء - وهو الهدف الذي كان يرمي إلى تحقيقه أكبر - وعند ذلك ألقي على الحاضرين سؤال هام:
من يكون صاحب الحق في إصدار الفتاوى والأوامر الدينية الواجب اتباعها إذا اشتد الخلاف بين الفقهاء؟ وتقدم واحد من الحضور وهو الشيخ مبارك وقال: إن السلطان يكون صاحب هذا الحق.
وتنفيذا لهذا الاقتراح كتب محضر لإعلان أكبر «إمامي عادل
Imam-I
c
Ādil »، أي إماما عادلا، ووقع على هذا المحضر العلماء والفقهاء في رجب من سنة 987ه، ومن بينهم مخدوم الملك وعبدون نبي، ووقع عليها بالموافقة كذلك الإمبراطور أكبر.
هذه الوثيقة وضعت السلطة كلها في يد أكبر، ورفعته إلى مرتبة أعلى من مرتبة المجتهد، وهي مرتبة الإمام العادل، وأصبح بذلك الحاكم المطلق، على أن يكون عماد حكمه الرجوع إلى القرآن والسنة والقياس، وأهم من هذا أن هذه الوثيقة جعلت لأكبر - إلى جانب سلطاته الزمنية - السلطان الروحي على رعاياه، وبالتالي سلب العلماء هذا السلطان، ولم يعد لهم الحق في أن يتدخلوا في شئون الحكم. (2-3) إعلان الدين الإلهي
وبعد قليل خطا أكبر خطوة أخرى أشد جرأة، فبدأ يفكر في وسيلة تمكنه من توحيد المجتمعين الإسلامي والهندي؛ ليقل الخلاف بين رعاياه، وليصبحوا أكثر تواؤما وانسجاما، وهداه تفكيره إلى إنشاء دين جديد يجمع أصول الديانتين الإسلامية والهندية ومحاسنهما، ولم يكن يسمح حتى ذلك الحين بدخول عبادة خانة إلا لعلماء المسلمين، فبدأ أكبر بدعوة علماء الأديان الأخرى لهذه الدار، والمشاركة في النقاش والجدل الديني، يدافع كل فريق عن دينه ويبدي محاسنه.
وبعد هذه التمهيدات دعا السلطان إلى اجتماع عام حضره كبار العلماء من كل دين وقادة الجيش، وفيه تحدث السلطان عن الأضرار التي تعود على المجتمع من كثرة الأديان وتعددها، وأعلن عن ضرورة إيجاد دين واحد يضم محاسن الأديان المختلفة الموجودة في الهند ويعتنقه الجميع، وبهذا - كما قال - «يمكن تقديس الخالق، ويمكن للسلام والرفاهية أن يسودا بين الناس، وأن يشمل الأمن الدولة.»
ولقد سمى أكبر هذا الدين الجديد «ديني إلهي
Din-i-Ilahi » أو الدين الإلهي، وتتلخص أصوله في: توحيد الله، وهو حجر الزاوية في الإسلام، وتقوم طقوسه على أسس من الصوفية المستمدة من الديانتين الهندوكية والزرادشتية.
وفرض على أتباع هذا الدين أن يؤمنوا بوحدانية الله، وبأن أكبر خليفته على الأرض، وأن يقدموا لجلالته أربعة أشياء؛ الثروة والحياة والشرف والدين.
وفرض عليهم أيضا أن يمتنعوا عن أكل اللحوم بجميع أصنافها، وأن يسجدوا للإمبراطور.
ومن طقوس هذا الدين الجديد تقديس الشمس والنار.
وحدد يوم الأحد ليكون يوم الاحتفال بدخول الناس في الدين الجديد، يتسلمون من صاحب الجلالة «الاسم الأعظم» وشعار الدين الجديد وهو «الله أكبر».
ووضع للدين الإلهي تحية جديدة تحل محل تحية الإسلام: «السلام عليكم» وردها: «وعليكم السلام»، وجعلت التحية الجديدة: «الله أكبر» وردها: «جل جلاله».
وبين الحين والحين كان الإمبراطور يصدر لأتباع دينه الجديد بعض التنظيمات واللوائح الجديدة. (2-4) الدين الإلهي بين مؤيديه ومعارضيه
فالدين الجديد - كما يتضح من هذه القواعد والأسس - يعكس أهداف الإمبراطور التي كان يرمي من ورائها إلى توحيد الأجناس الهندية المختلفة تحت راية دين واحد وعقيدة واحدة؛ فالروح التي دفعت أكبر إلى ابتداع هذا الدين هي روح الحاكم المصلح الذي يريد أن يزيل الفوارق بين رعاياه، والذي يعتقد أنه كلما زادت عوامل الألفة والوحدة بين الشعب، أدى هذا إلى قوة الدولة وأمنها واستقرارها.
وإذا نحن نظرنا إلى هذا الدين الجديد نظرة فاحصة؛ وجدنا أنه اقتبس الروح من الإسلام، بينما صاغ الجسم من الهندوكية والزرادشتية.
فالروح التي تتمثل في وحدانية الله مأخوذة عن الإسلام، والجسم الذي يتمثل في الطقوس المختلفة مأخوذة عن الديانتين الأخريين، ولم ينس الدين الجديد أن يرضي المسيحيين، فجعل يوم الأحد يوم التدشين للداخلين فيه أو للمؤمنين الجدد، وبذلك خرج هذا الدين الإلهي الجديد وهو يمثل جميع الديانات الموجودة في الهند، فهو دين عالمي هندي، فيه ما يرضي وفيه ما يجذب أتباع كل دين آخر.
وقد اختلف المؤرخون في تقديرهم لهذا الدين الجديد، فأعجب به الكثيرون من الغربيين، ورأوا فيه بشير نهضة أو حركة إحياء هندية كبرى، وقالوا في مجال الدفاع عن أكبر: إننا لكي نحسن فهمه وفهم دينه الجديد؛ يجب أن ننظر إليه على أنه حاكم مصلح مجدد، منشئ لإمبراطورية قوية، لا على أنه نبي أو رسول جاء يبشر بدين جديد، فالعقيدة التي دعا لها لم تكن هدفا في حد ذاتها، وإنما كانت وسيلة لهدف أكبر، هو التوحيد بين طوائف الشعب؛ لتكوين هند قوية موحدة.
وأما معارضوه فهم كثرة: بعضهم من الغربيين، والغالبية العظمى من المسلمين، وخاصة مسلمي الهند - معاصرين وغير معاصرين - وهؤلاء ينظرون إلى الدين الجديد باعتبار أنه دين أولا، وهكذا سماه صاحبه، ويحكمون على أكبر باعتباره ملكا مسلما دعا إلى دين جديد، معظم ما فيه لا يقره الإسلام، بل يعتبره مروقا وإلحادا وكفرا.
يقول
Smith
أحد الغربيين الذين أرخوا لأكبر: «كان الدين الإلهي دليلا على حماقة أكبر، لا على حكمته.» ويسمي هذا الدين في مكان آخر من كتابه «بالاختراع السخيف
a silly invention ».
أما رأي المجتمع الهندي الإسلامي في الدين الإلهي فيمثله خير تمثيل ما كتبه المؤرخ المعاصر «بداؤني
Badàoni »، لقد اعتبر هذا الكاتب - وكان محقا في رأيه - الدين الإلهي كفرا وإلحادا، وأحصى النواحي التي خرج فيها عن أصول الإسلام في النقط الآتية: (1)
أباح السجود للإمبراطور، والإسلام يمنع السجود إلا لله سبحانه وتعالى. (2)
دعا إلى عبادة أو تقديس الشمس والنار، وفي هذا رجوع للوثنية القديمة. (3)
سمح بوضع الحلاليف في القصر الإمبراطوري، واعتبر النظر إليها كل صباح عملا يستحق التقدير، والإسلام يحرم أكل لحم الخنزير، وبالتالي يحض على كراهيته. (4)
حرم أكل لحم البقر، والثوم، والبصل، وهذه أشياء أحلها الإسلام، كما حرم تربية اللحى، وقد كانت اللحى الشعار المميز للمسلمين في الهند في ذلك الحين؛ لأن الهندوكيين كانوا يحلقون لحاهم. (5)
نفى عددا كبيرا من الملا
Mullahs - أي العلماء - والمشايخ. (6)
منع ختان الأطفال قبل سن الثانية عشرة، وزواج البنات قبل سن البلوغ. (7)
حارب دراسة اللغة العربية. (8)
منع الأذان والصلوات الجامعة. (9)
أمر بتغيير الأسماء الإسلامية من أمثال: محمد وأحمد ومصطفى؛ لأنها تسبب الضيق للإمبراطور. (10)
أوقف الحج إلى مكة وصيام شهر رمضان. (11)
حرم دراسة القرآن والحديث. (12)
أمر بأن تحول المساجد والجوامع إلى مخازن وأماكن للحراسة.
ويختم بداؤني نقده بقوله: إن الإسلام بهذا قد هدمت أركانه، وانقض بنيانه، ولم يمض غير خمس أو ست سنوات حتى انقلب كل شيء رأسا على عقب، ولم يبق في نفس أكبر أثر ضئيل من دينه القديم القويم الإسلام، بل لقد أبدى مظاهر العداء الشديد للدين الذي آمن به في شبابه، والذي آمن به أسلافه من قبل.
وهكذا يعتبر بداؤني، ويوافقه في هذا
Smith
سنة 1582م - وهي السنة التي أعلن فيها الدين الإلهي - حدا فاصلا في حياة أكبر، ويريان أن أكبر لا يمكن اعتباره مسلما بعد هذه السنة.
ولم تكن التغيرات التي أحدثها أكبر مقصورة على الدين وحده، بل أحدث تغييرات أخرى تؤذي شعور المسلم؛ لأنها ذات صلة وثيقة بالتشريع أو النظام الإسلامي؛ فقد تزوج أكبر من بنات أمراء الهندوك؛ ليرتبط وإياهم برابطة ولاء النسب، غير أنه سمح لأولئك الزوجات بالاحتفاظ بدياناتهن، وبالقيام بشعائر هذه الأديان داخل القصر الإمبراطوري، كما أنه استبدل التقويم الهجري بتقويم جديد سماه التقويم الإلهي، يبتدئ بسنة جلوسه على العرش، وجعل شعار أتباعه «الله أكبر»، وكان يعني به أن أكبر هو الله!
هذه الحركة هزت المجتمع الإسلامي في الهند هزة عنيفة، غير أن كل من عارضها أو قاومها من العلماء كان نصيبه النفي والاضطهاد والتشريد، ومع هذا فقد لقيت الحركة تأييدا من بعض العلماء المسلمين الذين كانوا يبتغون الوسيلة والقربى إلى السلطان، والحقيقة أنه لولا تأييد هذا النفر من العلماء لما استطاع أكبر أن يقيم دعائم دينه الجديد، وفي هذا يقول أحمد سرهندي: «ومما لا شك فيه أن كل ما وقع من المداهنة والتخاذل في الأحكام الشرعية في هذا الزمان، وما ظهر من الفساد والوهن في نشر الدعوة الإلهية وإبقاء مآثرها في هذا العصر، إنما يرجع سببه إلى علماء السوء الذين هم لصوص الدين، وشر من تحت أديم السماء، أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.»
ومع هذا فإن نفرا آخرين من العلماء المخلصين، الثابتين على إيمانهم، المتمسكين بدينهم عارضوا الدين الإلهي معارضة عنيفة، كان على رأس هؤلاء هذا العالم الذي اقتبسنا قوله الآن، السيد أحمد سرهندي، فقام هذا الرجل بحركة تجديدية مضادة، تعتبر في الواقع رد فعل لحركة أكبر الإلحادية. (3) أحمد سرهندي (971-1034ه / 1564-1625م) مجدد الألف الثانية
ويعرف أحمد سرهندي باسم «مجددي ألفي ثاني» أي مجدد الألف الثانية، وهو واحد من كبار المسلمين والمتصوفة الذين برزوا في تاريخ الهند، وقد بذل جهودا كبيرة في سبيل تجديد الإسلام، وتنقيته من الشوائب التي لصقت به، وخاصة بعد حركة الهرطقة والمروق التي كان قد بدأها الإمبراطور أكبر (1556-1605م). (3-1) حياته الأولى
ولد أحمد في مدينة سرهند (إحدى مدن ولاية بتيالا
في شرقي البنجاب) في سنة 971ه / 1564م، ووالده الشيخ عبد الأحد ينتهي نسبه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وقد تلقى أحمد علومه الأولى على والده، ثم أتم دراسته بعد ذلك في مدينة سيالكوت
Siyālkôt .
واتجه أحمد بعد ذلك إلى العاصمة أجرا
Agra
حيث كان دائم التردد على مجالس الوزير الأول أبي الفضل وأخيه فيضي (وهما من العلماء البارزين في ذلك الوقت)، ويرجح مؤرخوه أنه كتب في هذه الفترة رسالته الصغيرة التي سماها «الرسالة التهليلية» في نقد المذهب الشيعي [وقد ترجم هذه الرسالة فيما بعد إلى العربية شاه ولي الله دهلوي،
1
وأرفق بها مقدمة تحدث فيها عن التيارات الدينية في بلاط الملك الأكبر، وعن نشاط الشيخ أحمد].
وبعد سنوات قليلة عاد إلى مدينته سرهند، وفي سنة 1008ه دخل في الطريقة النقشبندية، بعد أن أخذ العهد على أحد شيوخها وهو الخواجة
Kh
w
adja
باقي بالله (ت1012) الذي كان يقيم في مدينة دلهي في ذلك الوقت. (3-2) أحمد سرهندي وجهانجير
نشأ أحمد سرهندي في الربع الأخير من القرن العاشر للهجرة (16م) في نفس الوقت الذي كان أكبر يدعو فيه لدينه الجديد، فأخذ يرقب الأحوال، وبدأ ينظم حركة واسعة لمعارضة هذه الحركة الإلحادية، وبث أتباعه ومريديه في أنحاء البلاد، وكتب إلى قواد الجيش وكبار الموظفين ممن يأنس فيهم الرشد والإسلام الصحيح، ينبههم إلى هذا الخطر الداهم، ويحذرهم عاقبة هذه الفتنة العمياء، وما قد يكون لها من آثار خطيرة على الإسلام والمسلمين في الهند.
ولم تظهر آثار دعوته إلا بعد موت أكبر، وفي عهد ابنه جهانجير (1014-1037ه)، فقد سار هذا الابن على نهج أبيه، واضطهد علماء السنة ونكل بهم، وقرب إليه علماء الشيعة، واتخذهم بطانة له.
وعندما اشتد حماس الشيخ أحمد في معارضة الدين الإلهي وما خلفه من آثار وفي مناهضة المذهب الشيعي، وعندما نشط هو وأتباعه في دعوتهم التجديدية لمحاربة البدع والعودة بالإسلام إلى أصوله الأولى، غضب عليه جهانجير - بإيعاز علماء الشيعة ورجال القصر - واعتبر نشاطه خطرا على الدولة والعرش، وأمر بالقبض عليه، وسجنه في حصن جواليور
Gwalior ، ولكنه سرعان ما عفا عنه وأمر بإطلاق سراحه، وخلع عليه، ووصله بمبلغ من المال.
وقد اختلفت الروايات عند ذكر الأسباب التي دفعت الإمبراطور جهانجير إلى العفو عن الشيخ أحمد؛ تقول إحدى هذه الروايات: إن الإمبراطور رأى فيما يرى النائم أن الشيخ أحمد قد ظلم، وأن رجلا صالحا يقول له وهو عاض على يديه: «ويحك! قد حبست رجلا لا ترى مثله في الصلاح والورع.»
وتقول رواية أخرى - وهي أقرب إلى الصحة: إنه لم يمض على دخول الشيخ أحمد السجن إلا أيام قليلة حتى تغير الحال غير الحال، وأخذ الرجل ينفث من روحه بين المسجونين والجناة من القتلة والسارقين، ويلقي عليهم مواعظه، فإذا بهم بين يوم وليلة قد انقلبوا خلقا آخر، وبدءوا يأتمرون بأوامر الشيخ في ذلة وخشوع، ويؤدون فروضهم الدينية في أوقاتها وفي حرص شديد؛ مما أثار عجب مدير السجن وإعجابه، فكتب إلى الإمبراطور يقول له: إن هذا السجين - الشيخ أحمد - ليس كغيره من نزلاء السجن، وإنما هو في الحقيقة ملك قلما يأتي الدهر بمثله، فإن وافق السلطان أطلقنا سراحه، وأكرمناه بما يستحقه.
عند ذلك ندم جهانجير على ما صدر منه في حق الشيخ أحمد، وأمر في الحال بإحضاره إلى قصره في أجرا، ولما علم بقربه من العاصمة أرسل ابنه وولي عهده الأمير «خرم» - شاه جهان فيما بعد - لاستقباله والترحيب به، ولما دخل الشيخ أحمد على الإمبراطور حياه وحيا حاشيته بتحية الإسلام، ولم يسجد له، فحفظها الإمبراطور في نفسه، وتلقاه رغم هذا بالترحاب، وأبقاه معه في القصر لينتفع بنصائحه. (3-3) نجاح حركة السيد أحمد التجديدية
وكان لبقاء الشيخ في القصر آثار طيبة؛ فقد استطاع أن يقنع الإمبراطور بإلغاء كثير من البدع التي استحدثها أبوه أكبر، فأصدر بعد قليل أمرا ملكيا نص فيه على ما يأتي: (1)
تحريم السجود للملك. (2)
إباحة ذبح البقر وأكل لحمه. (3)
إعادة بناء المساجد المهدمة. (4)
إبطال القوانين المعارضة للشريعة الإسلامية. (5)
تعيين القضاة والمحتسبين في مختلف المدن الهندية.
وبذلك آتت حركة الشيخ أحمد التجديدية أكلها، وعاد للمجتمع الإسلامي في الهند اطمئنانه، وانتهت حركة الاضطهاد لعلماء السنة، وبدأ المسلمون يحسون الحرية التامة في القيام بشعائر دينهم. (3-4) مؤلفات السيد أحمد المجددي
وقد كتب الشيخ أحمد جملة من الرسائل في موضوعات دينية مختلفة، منها:
المبدأ والمعاد (دلهي، 1311).
رسالة تهليلية، وقد طبعت ملحقة بمجموعة رسائله «مكتوبات» وطبعت في لكناو.
معارف لدنية.
مكاشفات غيبية.
رسالة في إثبات النبوة.
آداب المريدين.
شرح رباعيات أستاذه خواجه باقي بالله.
وأشهر آثاره الفكرية جميعا مجموعة رسائله المعروفة باسم «مكتوبات» التي أرسلها إلى تلاميذه ومريديه وبعض الشخصيات الأخرى المعاصرة، لشرح كثير من الموضوعات الإسلامية التي كانت موضع جدل ومناقشة، ولا زالت هذه المكتوبات تحتل حتى اليوم مكانها الجدير بها بين أهم ما خلفه الفكر الإسلامي في الهند من تراث قديم.
2 (3-5) السيد أحمد مجدد الألف الثانية
وقد أطلق مولانا عبد الحكيم السيالكوتي بحق على الشيخ أحمد سرهندي لقب «مجددي ألفي ثاني» أي مجدد الألف الثانية، وذلك تحقيقا للحديث الشريف الذي يقول: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» وقد عني المسلمون في مختلف الأقطار الإسلامية بهذا الحديث، كلما تأخرت بلادهم، أو انتشرت فيها البدع المستحدثة، فكانوا ينظرون إلى وراء، ويرون أنه لا صلاح لحاضرهم إلا بالعودة إلى ما كان عليه النبي والصحابة في العصر الإسلامي الأول، وبالعودة إلى أصول الإسلام ومنابعه الحقيقية من قرآن وسنة، وكانوا دائما يحصون أسماء من ظهر من المجددين على رأس المئين الماضية، ويرتقبون ظهور المجدد الجديد.
وقد كتب السيوطي أرجوزة أحصى فيها المجددين إلى القرن التاسع الهجري، وسماها «تحفة المهتدين بأخبار المجددين»، وجعل نفسه فيها المجدد للقرن التاسع، قال:
وهذه تاسعة المئين قد
أتت، ولا يخلف ما الهادي وعد
وقد رجوت أنني المجدد
فيها، ففضل الله ليس يجحد
ونتيجة للجهود الطيبة التي بذلها الشيخ أحمد سرهندي لمحاربة البدع المستحدثة، ولتجديد الإسلام وتخليصه من الشوائب التي علقت به؛ اعتبر نفسه واعتبره معاصروه بحق مجدد الألف الثانية، أي مجدد المئة الحادية عشرة، وقد ذاع صيته وانتشرت طريقته وآراؤه خارج حدود الهند في أفغانستان وفي أواسط آسيا. (3-6) وفاته
وتوفي الشيخ أحمد المجددي في سنة 1034ه/1624م ودفن في مدينة سرهند، ولا يزال الناس حتى اليوم يتوافدون على قبره؛ لزيارته والتماس البركة في رحابه.
وقد ازدادت شهرته ذيوعا، وكثر تلاميذه وأتباع طريقته بعد وفاته، وهم الذين يعرفون حتى اليوم باسم «المجددية»، ومما ساعد على انتشار تلاميذه وكثرة عددهم الأحوال السيئة الناجمة بعد ذلك عن سيادة السيخ، وسيطرتهم على إقليم البنجاب. (3-7) الجديد في طريقة الشيخ أحمد
ومع أن الشيخ اتصل - منذ شبابه - بكثير من الطرق الصوفية المعروفة على عهده - وخاصة الطريقة النقشبندية - فقد تحاشى الكثير من مغالاتهم، ولا سيما نزعاتهم وأفكارهم القائلة بوحدة الوجود
، ثم حاول في طريقته أن يقرب بين فريقي الصوفية: القائلين بفكرة التوحيد
Monotheism ، والقائلين بفكرة وحدة الوجود، وقال هو بالأخذ بفكرة وحدة الشهود، بدلا من فكرة وحدة الوجود؛ وذلك لأنه لاحظ أن الكثيرين من المتصوفة في عصره قد تأثروا بفلسفة البراهمة، وأخذوا بكثير من عقائدهم وأفكارهم، كوحدة الوجود والحلول والاتحاد وغيرها؛ ولذلك ركز الكثير من جهوده لتفنيد هذه الآراء والرد عليها، وخاصة آراء محيي الدين بن عربي في وحدة الوجود، ورسائل
3
الشيخ أحمد مليئة بالأدلة والمناقشات التي يهاجم فيها فكرة وحدة الوجود، والتي يدعو فيها لفكرة وحدة الشهود، وبهذا نستطيع أن نقول: إن هذه الفكرة تعتبر بحق الشيء الجديد الذي قدمه الشيخ المجدد لعالم الفكر الإسلامي الديني. (3-8) جهود الشيخ أحمد في إصلاح المجتمع الإسلامي في الهند
لم تقصر جهود الشيخ على هذا، بل لا بد أن نذكر له مساعيه الحميدة لإصلاح شأن الحكومة ورجالها؛ فقد كان يعتقد أنهم القدوة، إذا صلحوا صلحت الرعية والبلاد كلها، وإذا فسدوا فسد المجتمع الذي يقومون على شئونه، كذلك كان الشيخ المجدد يعتقد أن الكثير من الفساد القائم يرجع أسبابه إلى العلماء الذين تهافتوا على الدنيا وعلى إرضاء السلطان؛ ولهذا بذل الكثير من جهوده لمحاربة هذا الصنف من العلماء، ومناهضة بدعهم والرد عليها.
ولقد كانت حركة أحمد سرهندي في الواقع عميقة الأثر في المجتمع الهندي الإسلامي؛ فقد تأثر بها الكثيرون بعده، وكانت ممهدة لحركة تجديدية أخرى قام بها مجدد ثان في القرن الثامن عشر، هو العالم الهندي الكبير شاه ولي الله دهلوي. (3-9) حركة عبد الحق دهلوي
وبين الحركتين ظهرت جهود أخرى سارت في نفس الطريق:
منها جهود الشيخ عبد الحق دهلوي (958-1052ه/1551-1642م)، وقد عاصر الشيخ المجدد بعض الوقت، ولكنه توفي بعده بنحو ثمانية عشر عاما، وقد عني الشيخ عبد الحق أكثر ما عني بإحياء السنة النبوية ودراسة علم الحديث، وألف في هذا العلم كتبا كثيرة، وشرح «مشكاة المصابيح» للتبريزي بالعربية والفارسية معا، فهو بهذا يعتبر أول عالم وقف جهوده في شمال الهند على نشر السنة النبوية وتدريس كتبها وشرح متونها.
وقد درس الشيخ عبد الحق أولا في فاتح بور، وفي سنة 996ه ذهب لمكة؛ لأداء فريضة الحج، وهناك درس على كبار العلماء (ذكرهم في كتابه زاد المتقين)، وبعد عودته أقام يدرس في دلهي مدة تقرب من نصف القرن، وخلال هذه المدة حاز إعجاب الإمبراطور جهانجير وابنه شاه جهان، وقبره موجود في حوضي شمسي في دلهي، ونقش على حائط القبة موجز لحياته، ونص هذا النقش موجود كاملا في كتاب: «غلاب علي أزاد، مآثر الكرام، أجرا، 1328، ص201».
وقد ترك عبد الحق 49 مؤلفا بالعربية والفارسية، هذه أهمها:
ديوان شعر.
لمحة التنقيح، وهو شرح بالعربية على مشكاة المصابيح للتبريزي، وله أيضا شرح بالفارسية على نفس الكتاب، طبع في لكناو 1277ه.
أخبار الأخيار، وهو تراجم لأولياء الهند بصفة خاصة.
زبدة الآثار، وهو ترجمة لعبد القادر الجيلاني.
مفتاح الفتوح، وهو ترجمة فارسية مع التعليقات لكتاب الجيلاني «فتوح الغيب».
ذكر الملوك، وهو تاريخ مختصر للهند منذ عهد الغوريين إلى عهد أكبر.
جذب القلوب، وهو تاريخ للمدينة، مبني في معظمه على كتاب السمهودي.
مدارج النبوة، وهو سيرة للرسول.
وأهم ما يؤثر عنه جهوده المشكورة للاهتمام بدراسة الحديث في الهند. (3-10) جهود السلطان أورنجزيب الإصلاحية
ومن هذه الجهود جهود رسمية، بذلها الإمبراطور أبو الظفر محيي الدين عالم جير أورنك زيب (1068-1118ه).
فقد كان هذا الإمبراطور - على عكس سابقيه من الأباطرة - متدينا شديد التمسك بدينه، سنيا شديد التعلق بمذهبه والدفاع عنه، حتى لقد عرف بالملك الزاهد، ولي الحكم في الأربعين من عمره، وطالت مدة حكمه حتى بلغت الخمسين عاما، وكانت سياسته الدينية تعارض سياسة جده «أكبر» تمام المعارضة؛ ولهذا أصدر أوامره بإلغاء كثير من القوانين والنظم والمراسيم التي سبق أن سنها «أكبر» والتي كانت تدخل في نطاق البدع المستحدثة التي ينكرها الإسلام. وفيما يلي أمثلة للإصلاحات الدينية التي أحدثها:
ألغى التقويم الإلهي الذي كان قد أصدره أكبر ، وأحله محل التقويم الهجري.
منع الاحتفال بعيد رأس السنة الشمسية، وقد كان أكبر سن الاحتفال به إرضاء للمجوس.
كان من عادة السلاطين التيموريين أن يتصدقوا على الفقراء بوزن أجسامهم من الذهب والجواهر الغالية؛ ظنا منهم أن هذا الصنيع يقيهم نوائب الدهر وموبقاته، وقد ألغى أورنجزيب هذه العادة.
كان من عادة الملوك من أسرته أن يظهروا للناس من شرف قصورهم كل صباح؛ لتتمتع الرعية برؤية وجوههم، واعتبر أورنجزيب هذه العادة تشبها بما كان يفعله الملوك الوثنيون مع رعاياهم، فألغاها.
كان أكبر قد أباح بيع الخمر علنا، ثم جاء ابنه جهانجير فمنعها، ولكن أوامره لم تنفذ؛ لأنه كان مدمنا للشرب؛ ولهذا أباح للناس شربها داخل بيوتهم، ثم خلفه ابنه شاه جهان، فتشدد في منع الخمر، ولكنه استثنى النصارى، فلما ولي أورنجزيب منع الجميع من شربها منعا باتا، وتشدد في تنفيذ هذا الأمر، وعين موظفين لمراقبة من يقبل على شرب الخمر ولمعاقبتهم العقاب الصارم.
كذلك أصدر أورنجزيب أوامره بمنع المقامرة منعا باتا، وبأن تخير الراقصات والبغايا بين الزواج أو مغادرة الدولة.
وقد توفي أورنجزيب في سنة 1118ه، ودفن في مدينة أورنج أباد - في ولاية حيدر أباد الدكن - فكان خاتمة الأباطرة العظام في الهند، وتوالى الملوك بعده من بنيه وبني بنيه، ولكنهم كانوا جميعا ضعاف الشخصية، فساءت أحوال البلاد، ونشطت العناصر غير الإسلامية وكثرت الثورات، ووسط هذه الفوضى الشاملة ظهر مصلح جديد، هو شاه ولي الله دهلوي. (4) شاه ولي الله دهلوي (1114-1176ه/1703-1762م)
إحدى الشخصيات البارزة في تاريخ الهند الإسلامية، وهو علامة بحاثة، ومفكر متعمق، وفقيه واسع الفكر والأفق، ومتصوف ورع، ومصلح متحمس؛ ولهذا فقد ترك في تاريخ الهند الفكري أثرا لا يمحى.
وقد حبته الطبيعة بمؤهلات وهبات سخية في الفكر والعاطفة، فكان نافذ العقل خفاق القلب، وقد أحسن استخدام هذه المؤهلات فيما يعود بالنفع الغزير على حركة الإحياء الإسلامية في الهند.
ولد ولي الله في عصر ساده الانحلال والفوضى، ولكنه كان يتطلع دائما إلى عالم يسوده السلام والتقدم. (4-1) المدرسة الرحيمية
ولقد أصبح المعهد الذي أسسه وأسماه المدرسة الرحيمية «مدرسائي رحيمية
Madrasah-i-Rahimia » نواة لحركة ثورية تهدف إلى تجديد الفكر الديني في الإسلام، وقد توافد على هذه المدرسة الطلاب من جميع أنحاء الهند قاصيها ودانيها، ولا شك أن حركة ولي الله تمثل فجر عصر جديد في عالم الفقه والأدب الإسلامي. (4-2) جهوده في تقريب القرآن والحديث لأفهام العامة في الهند
ولقد تعلق شاه ولي الله بدراسة القرآن والحديث، وكان أول عالم هندي ترجم كتاب الله الكريم إلى اللغة الفارسية؛ لغة الشعب، حقيقة لقد سبقه في هذا الميدان مولانا شهاب الدين دولت آبادي الذي عاش قبل ولي الله بسنوات طويلة، وألف كتابه «بحر مواج»، ولكن «بحر مواج» يعتبر تفسيرا أكثر منه ترجمة، ولقد كتبه مؤلفه للفقهاء لا للرجل العادي، أما هدف شاه ولي الله فكان مختلفا جد الاختلاف، لقد أراد أن يجعل القرآن مفهوما للرجل العادي ذي الثقافة البسيطة، وبهذا يعتبر كتابه «فتح الرحمن» أول ترجمة للقرآن يسهل فهمها ويمكن الوثوق بها والاعتماد عليها. كذلك يعتبر كتاباه الآخران: «مقدمة في تفسير القرآن المجيد» و«الفوز الكبير في أصول التفسير» دليلين لهما قيمتهما الكبرى لكل من حاول بعده أن يقوم على هذه المهمة الخطيرة؛ مهمة ترجمة القرآن.
وبذل شاه ولي الله جهودا أخرى موفقة لتقريب أحاديث الرسول - عليه السلام - لأفهام الشعب في الهند، وبذلك استحق أن يطلق عليه لقب «محدث».
ويعتبر كتابه «حجة الله البالغة» الذي هو بحق خير إنتاجه الفكري أفضل ما أخرجته الدراسات الهندية الإسلامية؛ فإن نظرات المؤلف الثاقبة اللماحة إلى قواعد الإسلام الأساسية، وعرضه الجلي الواضح للحقائق وأدلته القوية المقنعة، كل ذلك يضفي على هذا الكتاب هالة من الخلود. (4-3) عرض عام لجهود شاه ولي الله الإصلاحية في الدين
ونحن لا نستطيع أن نتحدث في تفصيل هنا عن شخصية شاه ولي الله وجهوده الإصلاحية في الدين والمجتمع الإسلامي الهندي، ولكننا سنشير إلى أهم هذه الجهود والآراء الإصلاحية:
كان التشيع قد صادف قبولا في بلاط أباطرة المغول منذ عهد همايون (ت964ه)، ودخل في هذا المذهب عدد كبير من الأمراء وكبار الموظفين، وعظم شأن هؤلاء في عهد جهانجير بوجه خاص، فاستولوا على المناصب الحكومية الكبرى، وكان لهذا تأثيره الواضح في الشعب، فمال الكثيرون إلى هذا المذهب، وقد بذل شاه ولي الله جهودا كبيرة للدفاع عن أهل السنة، وألف كتابه «إزالة الخفاء عن تاريخ الخلفاء» وأثبت فيه فضل الخلفاء الراشدين، وفصل فيه القول على أسس الحكومة الإسلامية الأولى، وما بذلته من جهود لنشر الإسلام ومد مفتوح وتنظيم للدولة الجديدة.
كان علماء الهنود في عهده يعتمدون كثيرا على علم الكلام، ويعتقدون أنه قوام الدين وروحه، فسعى شاه ولي الله ليوضح لهم أهمية علمي: الفقه والحديث، وضرورة العناية بهما وبدراستهما؛ لفهم حقيقة الإسلام.
ولم يكن علماء الهند المسلمون يعنون بتفهم كتاب الله، ولعل هذا راجع إلى جهل معظمهم باللغة العربية، أو عدم تعمقهم في دراستها، أما شاه ولي الله فقد كان يؤمن إيمانا قويا أن الفهم الصحيح للإسلام يستلزم تفهم كتاب الله؛ ولهذا عني عناية خاصة بوضع مؤلف جامع في أصول التفسير، وأبان للمسلمين وجه الخطأ في منهجهم، وأوضح لهم أن المنهج السليم يقتضي قراءة القرآن لدراسته وتدبر آياته والاهتداء بهديه، لا للتبرك به دون فهم أو وعي لأسراره.
لم يكن شاه ولي الله رجل نظريات وحسب، بل كان يدعو الدعوة ثم يردفها بالوسائل العملية لتحقيقها، وقد أدرك أن دعوته السالفة لتفهم القرآن وتدبر آياته وحكمه من العسير تحقيقها؛ لأن العامة من مسلمي الهند كانوا يجهلون اللغة العربية جهلا تاما؛ ولهذا بادر بترجمة ألفاظ القرآن ومفرداته إلى اللغة الفارسية - وهي اللغة الرسمية وقتذاك - ليتمكن العامة من فهم معاني هذه الألفاظ عند تلاوة القرآن بأصله العربي، وقد سار على نهجه أبناؤه فيما بعد، فترجم الشاه رفيع الدين (ت1233ه) والشاه عبد القادر (ت1230ه) ألفاظ القرآن ومفرداته إلى الأوردية، ولا زالت هذه الترجمة المرجع للخاصة والعامة في الهند، رغم ما ظهر بعدها من ترجمات أخرى كثيرة.
كان المذهب الحنفي هو المذهب المعتمد عند مسلمي الهند، وكانت كتب هذا المذهب تؤخذ على علاتها، لا يجرؤ أحد على معارضتها أو مناقشتها، ولكن شاه ولي الله درس المذاهب المختلفة، ولم يرضه هذا الجمود وهذا التقليد الأعمى، فبدأ يدعو مواطنيه إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وإلى ترك التقليد الجامد، وأن ينظروا إلى أقوال الفقهاء بعين البحث والتحقيق، وشرح لهم مسألة الاجتهاد والتقليد، وأسباب اختلاف المجتهدين، وكان في دعواه وفي دروسه وفي مؤلفاته يسعى دائما للتوفيق بين مذاهب الأئمة، فإن تعذر عليه ذلك أخذ ما يوافق الأحاديث الصحيحة، ورجحه على غيره، وقد طبق طريقته هذه تطبيقا ناجحا في كتابه الرائع «حجة الله البالغة»، وفي كتيبه الصغير «الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف».
عني شاه ولي الله كذلك بعلوم السنة، فعمل على نشرها في الهند، فكان بهذا متمما لما بدأه الشيخ عبد الحق دهلوي، وشاه ولي الله أول من شرح كتاب الإمام مالك «الموطأ» بالعربية والفارسية، وألف رسالة صغيرة باسم «الفضل المبين من حديث النبي الأمين»، وفي أسرار الفقه والحديث وضع كتابه الذي أشرنا إليه «حجة الله البالغة». (4-4) شاه ولي الله المفكر والمصلح السياسي
ومع هذا فإن نواحي العظمة في شاه ولي الله ليست مقصورة على نبوغه في عالم الأدب والعلوم الدينية، فإنه لم يكن عالما دينيا ذا شهرة وقداسة وحسب، بل لقد كان مفكرا سياسيا نافذ البصيرة كذلك.
ولقد تأثرت نفسه الحساسة الصافية بالأحوال السياسية المضطربة التي كانت تسود الهند في القرن الثامن عشر، وقد عثر أخيرا خليق أحمد نظامي على مجموعة مخطوطة تضم رسائل شاه ولي الله السياسية، كتبها مولانا الشيخ محمد عاشق الفولاتي
oh Phulat
أعز تلاميذ ولي الله وأقربهم إليه، وقد كتب نظامي مقالا في مجلة
Islamic Culture
حلل فيه بعض هذه الرسائل، وأشار إلى أهميتها القصوى في دراسة الأحداث السياسية للهند في القرن الثامن عشر، ثم نشر هذه الرسائل بعد ذلك في كتاب مستقل. (4-5) الحالة في الهند في القرن 18
كان القرن الثامن عشر في الهند تسوده الفوضى ويشيع فيه الترف؛ إذ لم يكد أورنجزيب ينتقل إلى العالم الآخر (1707م) حتى ظهرت عوامل الانقسام والتفكك واضحة، وعجز خلفاؤه البله الضعاف عن السيطرة على العناصر الجامحة في الوقت المناسب، ونتيجة لهذا سادت الدولة عوامل الفوضى والاضطراب، وأصبح التاج المغولي ألعوبة تتداولها أيدي الأطراف المتنافسة، وتتابع عدد من الملوك الصغار كالدمى على مسرح السياسة في سرعة عجيبة، لا يكاد يظهر واحد منهم حتى يختفي وشيكا، وأصبح تاج شاه جهان وأورنجزيب طيفا لمجد غابر.
ولقد أثار ضعف الحكومة المركزية أطماع الأمراء وحكام الأقاليم، وتبع ذلك سباق جنوني في سبيل الحصول على السلطة السياسية؛ كذلك أفسدت مؤامرات النبلاء ودسائس البلاط حياة الشعب.
ولقد أفادت الطوائف المنقسمة المختلفة الفائدة الكبرى من ضعف الحكومة المركزية، وخاصة طوائف المراتا
Marathas ، والسيخ
Sikhs ، والجات
Jats ، فبدأت تثور - بعد أن استعادت ثقتها بنفسها - على إمبراطورية المغول المترنحة.
أما المراتا فقد حجبوا الحكومة الشرعية تماما في جوجرات
Gujrat
وملوا
Malwa
وبندلخاند
Bundelkhand ، واستعملوا السلاح في البنغال
Bengal
وبهار
Bihar
ودواب
Daob ، بل لقد طرقوا أبواب دلهي، حتى أثارت آثامهم وشرورهم الرعب في قلوب الشعب.
كذلك عاث السيخ في البنجاب سلبا ونهبا، وعبرت عصاباتهم نهر جمنة
Jumna ، وخربت المدن الهامة، وأشاعوا الذعر والفزع في كل مكان حتى اضطر بعض الأفراد إلى تغيير أسمائهم؛ ليحموا أنفسهم من فظائع السيخ.
أما ثورات الجات فقد خلقت للحكومة المركزية مشكلة شائكة؛ فقد كانوا - بحكم قربهم الشديد من العاصمة - مصدر فزع دائم لسكان دلهي، وليس أحسن من وصف
Harcharam Das
لما فعله الجات؛ فقد قال: «كان سكان دلهي يتنقلون من بيت إلى بيت، ويتدافعون من حارة إلى حارة في يأس قاتل وحيرة مميتة، كأنهم سفينة محطمة تتقاذفها الأمواج، كل فرد كان ينطلق مذهولا بلا غاية، وكأنه قد أصيب بمس من الجنون.»
وكأن هذه الهزات الداخلية لم تكن كافية لتصيب كيان الحكومة المغولية بالشلل، فإن نادر شاه ملك الأفغان لم يلبث أن أغار على الهند في سنة 1739م، وكانت غارته هذه القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد تلاشت نهائيا كرامة الإمبراطورية المغولية، وسلبت الهند كل ثرواتها، وجمعت الحركات المعادية للمغول قواها، وأشاعت مناظر المجاعات والتخريب غير المتوقعة عوامل الرعب واليأس في قلوب الشعب.
كانت دلهي قلب الإمبراطورية؛ ولهذا كان لزام عليها أن تتحمل نتائج الصدمة التي يحدثها كل اضطراب داخلي أو ضغط خارجي، وقد غمرت هذه المحن والبلايا سكان مدينة دلهي، بحيث أصبحوا يحسون أن الحياة ذاتها عبء ثقيل لا يحتمل، بل إن بعض المسلمين فكروا أمام هذه الظروف العصيبة أن يحرقوا أنفسهم ليتخلصوا من الحياة، وبدأ اليأس والتشاؤم ينخر في أرواحهم كما ينخر السوس العظام! •••
كانت هذه الأحداث جميعا تدور أمام ناظري شاه ولي الله، فتعصر قلبه عصرا وتلفح روحه بالنيران، ولقد عبر عن أحزانه الكامنة في قلبه بهذا البيت الرائع من الشعر:
كأن نجوما أومضت في الغياهب
عيون الأفاعي، أو رءوس العقارب
ولكنه لم يكن بالرجل الذي يسمح لليأس أن يغشي بصره أو بصيرته، فبينما كان كل فرد غيره قد نال منه الرعب والاضطراب، استعان هو بذهنه الواضح وبشجاعته النادرة، وراح يبحث عن أسباب هذه المتاعب جميعا، وقد استطاع كدارس ذكي نقاد للتاريخ الإنساني أن يكتشف هذه الأسباب وأن يضع أصبعه على مواطن الداء. (4-6) عقيدة شاه ولي الله أنه مجدد عصره
وكان شاه ولي الله يعتقد أن العناية الإلهية قد اختارته لإصلاح هذا النظام السياسي والاجتماعي الفاسد؛ فقد كتب مرة في «فيوض الحرمين» يقول: «رأيتني في المنام قائم الزمان، أعني بذلك أن الله إذا أراد شيئا من نظام الخير جعلني كالجارحة لإتمام مراده.»
ولعل ولي الله كان يعتبر نفسه لهذا مجدد عصره؛ تحقيقا للحديث المعروف: «إن الله يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.»
وهو يكرر هذه الفكرة أكثر من مرة وفي أكثر من مؤلف من مؤلفاته؛ فهو يقول في موضع آخر من نفس المرجع «فيوض الحرمين»: «وأقرب الناس إلى المجددية: المحدثون القدماء كالبخاري ومسلم وأشباههم، ولما تمت دورة الحكمة ألبسني الله تعالى خلعة المجددية، فعلمت علم الجمع بين المختلفات، وعلمت أن الرأي في الشريعة تحريف وفي القضاء مكرمة، وأشار إلي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إشارة روحانية أن مراد الحق فيك أن يجمع شملا من شمل الأمة المرحومة بك.»
وفي كتابه «التفهيمات»، يقول بالفارسية ما ترجمته:
لقد ألهمت (أو كلفت) أن أنقل هذه الحقيقة إلى الناس: هذا الوقت وقتك، وهذا الزمان زمانك، وإنه لمسكين ذلك الذي لا ينضوي تحت لوائك.
وفي موضع آخر من نفس المرجع يقول:
ومن نعم الله علي - ولا فخر - أن جعلني ناطق هذه الدورة وحكيمها، وقائد هذه الطبقة وزعيمها.
بهذه العقيدة الراسخة في نفسه تقدم شاه ولي الله بشجاعة يعمل على إصلاح المفاسد السياسية والاجتماعية التي سادت المجتمع الهندي في القرن الثامن عشر.
ولا بد لنا لكي نفهم آراء ولي الله وجهوده الإصلاحية أن نلقي نظرة سريعة على آرائه التي حلل بها الموقف في الهند في القرن الثامن عشر. (4-7) تحليل شاه ولي الله للموقف في الهند في القرن 18
درس شاه ولي الله الموقف في الهند في ذلك الوقت دراسة تحليلية، ونظر إليه نظرة السياسي الواقعي، وبذلك استطاع أن يشخص كل الأدواء التي تصيب كيان الدولة السياسي، وهو في كتابه «حجة الله البالغة» يشير في «باب سياسة المدينة» إلى أسباب الفوضى والمحن، فيقول: «وغالب سبب خراب البلدان في هذا الزمان شيئان:
أحدهما:
تضييقهم على بيت المال بأن يعتادوا التكسب بالأخذ منه؛ على أنهم من الغزاة، أو من العلماء الذين لهم حق فيه، أو من الذين جرت عادة الملوك بصلتهم: كالزهاد والشعراء، أو بوجه من وجوه التكدي، ويكون العمدة عندهم هو التكسب دون القيام بالمصلحة، فيدخل قوم على قوم، فينغصون عليهم، ويصيرون كلا على المدينة.
والثاني:
ضرب الضرائب الثقيلة على الزراع والتجار والمتحرفة، والتشديد عليهم حتى يفضي إلى إجحاف المطاوعين واستئصالهم، وإلى تمنع أولي بأس شديد وبغيهم، وإنما تصلح المدينة بالجباية اليسيرة، وإقامة الحفظة بقدر الضرورة، فليتنبه أهل الزمان لهذه النكتة.» (4-8) مقترحات شاه ولي الله لعلاج هذه الحالة
هذه هي أسباب الخراب كما صورها ولي الله، وقد وصف السبل لعلاجها في مؤلف آخر من مؤلفاته، وهو كتاب «التفهيمات الإلهية»، فهو في هذا الكتاب يقترح وسائل محددة لإعادة السلام إلى الدولة، وللقضاء على عوامل الفساد، يقول ولي الله مقدما النصيحة للملوك: «فرضاء الملأ الأعلى أن تنصبوا في كل ناصبة وفي كل مسيرة ثلاثة أيام أو أربعة أيام أميرا عادلا؛ يأخذ للمظلوم حقه من الظالم، ويقيم الحدود، ويجتهد أن لا يحصل فيهم بغي ولا قتال، ولا ارتداد ولا كبيرة، ويفشو الإسلام، ويظهر شعائره، ويأخذ بفرائضه كل أحد.
ويكون لأمير كل بلد شوكة يقدر بها على إصلاح بلده، ولا يكون له شوكة يتمتع بسببها ويعصى على السلطان.
وينصب في كل إقليم كبير أميرا يقلده القتال فقط، يكون جمعه اثنا عشر ألفا من المجاهدين، لا يخافون في الله لومة لائم، يقاتلون كل باغ وعاد.
فإذا كان ذلك، فرضاء الملأ الأعلى أن يفتش حينئذ عن النظامات المنزلية والعقود ونحوهما؛ حتى لا يكون شيء إلا موافق الشرع، حتى يأمن الناس من كل وجه.»
4 (4-9) رسائل ولي الله كمرجع أصيل لدراسة الحالة في الهند في القرن 18، ومشروعاته واقتراحاته وجهوده لإصلاحها
هذا ما ذكره ولي الله في كتبه وتصانيفه المختلفة بطريقة ضمنية لماحة غير مباشرة، ولكن رسائله المكتشفة حديثا تعتبر وثائق خطيرة لها أهميتها القصوى لدراسة أحوال الهند وأحداثها في القرن الثامن عشر، كما أنها تكشف عن الدور الخطير الذي لعبه رجل الدين والفيلسوف المتصوف في توجيه الأحداث، وعن محاولاته الجدية لتحديد أسباب الفساد، وعن مقترحاته لإصلاح الدولة وحكامها وساستها.
المحاولة الأولى: مقترحات مقدمة إلى الملك والوزراء والأمراء
ففي خطاب من هذه الخطابات يوجه شاه ولي الله الحديث إلى الملك والوزراء والأمراء، ويبين لهم الأسباب الحقيقية للفوضى، ثم يقدم لهم مقترحاته لعلاجها؛ يقول بالفارسية ما ترجمته:
إن من المنتظر من فضل حضرتكم أنكم إذا عملتم بموجب هذه الكلمات لكانت النتيجة تقوية أمور السلطنة وبقاء الدولة ورفعة منزلتها.
ثم يلخص خطته الإصلاحية في النقط الآتية:
أولا:
يجب أن تشدد الرقابة على حصون الجات
jats
وقلاعهم، ويجب أن يلقن الأشرار درسا قاسيا حتى لا يعودوا إلى إحداث الشغب والاضطرابات.
وقد خص شاه ولي الله حركات الجات بعناية كبرى تفوق عنايته بحركات السيخ
Sikh
والمراتا
Maratha ؛ لأن الجات كانوا قريبين جدا من العاصمة، وبهذا كان لتمردهم ولنشاطهم تأثير مباشر على الأداة الحكومية المركزية.
ثانيا:
يجب أن تمتد أراضي الخالصة حتى مدينة أكبر أباد من ناحية، وحتى مدينة سرهند
Sarhind
من ناحية أخرى؛ لأن «موجب ضعف أمور السلطنة» كما يقول ولي الله: «هو نقصان أراضي الخالصة وقلة أموال الخزانة»؛ فقد تحقق لديه أنه لا يمكن أن يوجد استقرار اقتصادي ما لم تتكاثر أراضي الخالصة، وبغير هذا السبيل يصبح الإمبراطور دائما تحت رحمة حكام الأقاليم والجاجير دارية
Jagirdars (أصحاب الإقطاعات).
ثالثا:
الجاجير
Jagirs (الإقطاعات) يجب أن لا تعطى إلى صغار المنصبدارية
Mansabdars ؛ لأنهم لا يستطيعون إدارتها والإشراف عليها، ويضطرون أن يعهدوا بها إلى الملتزمين، وبهذا يتضاعف شقاء الفلاحين وتزيد متاعب الدولة.
رابعا:
يجب أن يعامل الخونة والمارقون بمنتهى الحزم، وأولئك الذين يعاونون الأعداء يجب أن يؤخذوا بالشدة، وأن ينزل بهم العقاب الصارم الرادع، وأن يجردوا من إقطاعاتهم ومناصبهم.
خامسا:
يجب أن يعاد تنظيم الجيوش، وأن تدرب تدريبا صالحا، ولتحقيق هذا الهدف الأخير تتبع الوسائل الآتية: (أ)
يراعى في الضباط أن يكونوا شجعانا وعلى ولاء تام للإمبراطور. (ب)
من بدرت منه بادرة خيانة من الأجناد يجب أن يفصل. (ج)
يجب أن تدفع رواتب الأجناد بنظام؛ لأنهم يضطرون عند تأخير رواتبهم إلى الاقتراض بالربا، وفي هذا مفسدة لهم.
سادسا:
يجب أن يستغنى عن طريقة الالتزام في جمع إيرادات أراضي الخالصة؛ لأن هذا النظام - كما يقول ولي الله - يؤدي إلى خراب الأراضي، وإلى إرهاق الرعية والفلاحين.
سابعا:
يجب أن يختار القاضي والمحتسب من بين الرجال الذين عرف عنهم النزاهة والاستقامة، ويجب أن يكونا فوق المظان والشبهات.
ثامنا:
يجب أن لا يصرف الإمبراطور والنبلاء أوقاتهم في الملاهي والمسرات، ويجب أن يتوبوا عن آثامهم الماضية، وأن يعفوا عن حياة الترف في المستقبل.
ويختم شاه ولي الله هذا الخطاب بقوله: إن الإمبراطور لو اتبع هذه الأقوال والنصائح «فإن نصيبه يكون بقاء السلطنة وتأييد الغيب ونصرة الله.»
المحاولة الثانية: الاستعانة بنظام الملك
ولكن مع هذا فإن العجز والضعف كانا قد بلغا من حكام المغول مداهما؛ ولهذا لم تصادف دعوة شاه ولي الله إلا آذانا صماء؛ فقد كان هؤلاء الحكام أضعف من أن يستطيعوا إيقاف عوامل الفوضى والفساد، أو القضاء عليها.
فقد شاه ولي الله الأمل في الإمبراطور المغولي، واعتقد أنه إذا كان للسلام والهدوء أن يعودا إلى الدولة، وإذا كان من الممكن القضاء على عوامل الفساد، وإذا كان من الممكن إنقاذ المجتمع الهندي من الانحلال الروحي والانحطاط الخلقي، فإنه يجب عليه أن يبحث عن قوى أخرى فعالة تستطيع أن تقوم بهذا الواجب.
وإلى هذا فإن أهداف شاه ولي الله الأساسية لم تكن ترمي إلى إنقاذ الإمبراطورية المغولية والمحافظة عليها، بل إنه كان يهدف إلى إنقاذ التجانس الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي اللذين كانا موجودين في الأيام الطيبة السالفة، وتحقيقا لهذه الأهداف؛ أرسل شاه ولي الله بعض رسائل أخرى إلى نظام الملك.
وفي واحدة منها يتقدم إليه بالرجاء أن يبذل أقصى ما يستطيع من جهد؛ للقضاء على ارتفاع أسعار الغلة (القمح)، وعلى أسباب الخراب والفوضى التي شاعت في أطراف العالم الهندي؛ فإنه إن فعل يكون قد قام بعمل جليل هام.
وفي رسالة أخرى يحرض شاه ولي الله نظام الملك أن يستخدم نفوذه في وضع حد لعناصر الفوضى والاضطراب، وهو في هذه الرسالة يضع كل ثقته في نظام الملك، ويفضي إليه في صراحة تامة بما لا يستطيع أن يفضي به إلى غيره، فهو يقول له: «إن الأشياء التي ألقي بها إلى خاصتي بطريق غير مباشر أتحدث إليك عنها الآن بصراحة؛ حتى لا يكون لك عذر فيما بعد.»
ولكن نظام الملك كان قد وجه نشاطه عن الشمال إلى الجنوب، وعزف كذلك عن العناية بأمور العاصمة؛ حيث كانت المنافسات بين الأمراء قد ملأت الجو بالغش والخديعة والاحتيال.
المحاولة الثالثة: الاستعانة بنجيب الدولة وقوى الروهلا
وللمرة الثانية لم ييئس شاه ولي الله، بل ولى وجهه شطر فرق الروهلا
Rohillas ، وهي فرق في الجيش وفيرة العدد، ولها هيبة كبيرة ترجع إلى تنظيماتها العسكرية وإلى خصائصها الجنسية الحربية.
ولم تكن الشرور التي أفسدت الأداة الحكومية والعسكرية المغولية قد أصابت الروهلا، ويضاف إلى هذا أنهم كانوا يتمتعون بمكانة حربية عظمى، كما أنهم سايروا الثورة التي غيرت كثيرا من وسائل الحرب في الهند؛ يقول عنهم
Sarkar : «إن حماسهم المنظم للقتال، والعمل النشيط القائم على ذكاء الجنود الفردي لم يكن له مثيل في الهند في ذلك الوقت.»
لهذا حاول شاه ولي الله أن يتصل بنجيب الدولة قائد الروهلا؛ عساه يستطيع أن يقوم بما لم يستطع الإمبراطور المغولي ونظام الملك عمله.
وفي إحدى رسائله إليه يقول:
إني أعلم أن تجديد الملة والأمة يعتمد عليك.
وكانت خطته تتلخص في أن يستخدم الروهلا؛ ليكونوا كالدرع الواقية ضد هجوم القوى المسببة للقلاقل.
كان نجيب الدولة قائدا ممتازا، وكان شاه ولي الله يعزه ويقدره؛ لما يتسم به من صفات طيبة، فقد كان يمتاز ببصيرة مستشفة لحقائق السياسة، وبمهارة دبلوماسية فائقة، وإرادة حازمة صارمة؛ ولهذا كان يؤثره عالمنا المتصوف ولي الله بالتشجيع والتوجيه، ويضفي عليه الكثير من بركاته وإلهامه.
وهناك بين مجموعة الرسائل المشار إليها ثماني رسائل تلقي أضواء جديدة على العلاقات بين شاه ولي الله وسردار - أو قائد - الروهلا (نجيب الدولة).
يقول ولي الله في إحدى هذه الرسائل:
يوجد في الهند ثلاث فرق موصوفة بالشدة والصلابة، وإذا لم تستأصل هذه الفرق الثلاث فلن يشعر الإمبراطور أو الأمراء أو الرعية بالاطمئنان.
وهذه الرسائل تبين في وضوح أن شاه ولي الله لعب دورا هاما في رفع الروح المعنوية بين الروهلا وفي نفس قائدهم نجيب الدولة؛ ففي رسالة أخرى يطلب من نجيب الدولة أن لا يدع للصدمات الوقتية فرصة لإشاعة اليأس في نفسه، وينصحه أن يثابر دائما على القيام بالواجبات التي ألقيت على كاهله وإتمام ما بدأ به، ثم يسأله أن ينبئه دائما بتحركات جيوشه؛ ليتمكن من دعاء الله، وأن يطلب له من فضل الكريم النصر والفتح القريب .
وحدث أن بعض طوائف الخونة من المسلمين تخلوا عن نجيب الدولة وانضموا إلى الجات
Jats ؛ مما دفع نجيب الدولة إلى التشاؤم، فكتب إليه شاه ولي الله يقول:
إذا كانت جماعة من بين المسلمين انضمت إلى الجات فيجب أن لا يستولي عليك الوسواس، وإني أعتقد أنه ولو أن الظاهر أن العدو يفوق جيشك عددا، فإنه لن يصيبك ضرر ما.
المحاولة الرابعة: شاه ولي الله وأحمد شاه أبدالي
بذل نجيب الدولة كل ما استطاع بذله لمقاومة قوى الفوضى والاضطراب، ولكن الجو في البلاط لم يكن يوحي البتة بأي نوع من التجانس أو الثقة، والأمراء كانوا جد حريصين على تضحية مصالح الدولة على مذبح أطماعهم الشخصية، وفي نفس الوقت كان ضغط المراتا يزداد تباعا على الأجزاء الشمالية، واستطاعوا - بعد تحالفهم مع الجات - أن يهزموا نجيب الدولة، وأن يستولوا على إقليم البنجاب.
عند ذلك بدأ شاه ولي الله يدرس الموقف من جديد، وقرر أن يدعو أحمد شاه أبدالي حاكم الأفغان ليأتي بجيوشه؛ لإنقاذ الهند المسلمة.
أرسل ولي الله خطابا مطولا في أربعة عشر صفحة إلى أحمد شاه أطلعه فيه على تطورات الموقف السياسي في الهند، ورجاه أن يسرع لإنقاذ المسلمين من خطر سيطرة الماراتا، وهذا الخطاب يعتبر بحق وثيقة من أهم الوثائق التاريخية لدراسة الحالة في الهند في القرن الثامن عشر.
في القسم الأول من هذا الخطاب يقدم شاه ولي الله وصفا تفصيليا للانقلاب السياسي الذي أصاب الأجزاء الشمالية، ثم يحلل العوامل التي ساعدت على قيام القوى المعارضة، وهي قوى: الماراتا والسيخ والجات.
ومما يثير إعجاب دارس التاريخ في هذا الخطاب إدراك شاه ولي الله الفائق للدوافع وردود الأفعال للقوى السياسية التي كانت تعمل في الهند في القرن 18.
كما أنه لا ينسى - عند مناقشته للأحداث السياسية الهامة - أن يشير إلى أثر العوامل الجغرافية في كل مرحلة من مراحل التطور.
وفي نفس الخطاب يعطي شاه ولي الله تقديراته لمدى قوة جيوش المارتا والجات.
وبعد كل هذه التفصيلات عن الجات والماراتا أطلع شاه ولي الله أحمد شاه أبدالي على الأزمة الاقتصادية التي تعانيها الإمبراطورية المغولية؛ يقول: «هناك مائة ألف روح في خدمة الإمبراطور، بعضهم يمنح المرتبات، والبعض الآخر جاجاردارية (أي مقطعين)، ونتيجة الأحوال المضطربة لا يستطيع هؤلاء الجاجاردارية السيطرة على إقطاعاتهم (
jagirs )؛ ولهذا فهم يعانون كثيرا من المشاق.
أما أصحاب المرتبات فإنهم لا يتقاضونها؛ لأن الخزانة خاوية.»
وبعد أن عرض على أحمد شاه أبدالي أحوال الهند السياسية والاقتصادية والأوضاع المؤلمة البائسة التي يعانيها المسلمون، يتقدم إليه بالرجاء قائلا: «ولا جرم أنه أصبح من فروض العين على حضرتكم أن تسرعوا بقصد هندستان؛ لتقضوا على تسلط الكفار هناك.» (4-10) تحذير ولي الله لأحمد أبدالي أن لا يكرر ما فعله نادر شاه عند غزوه الهند
وهناك شيء آخر لم ينس شاه ولي الله أن يشير إلى أهميته وهو يتحدث إلى هذا القائد الأجنبي، لقد رأى بعينيه المصائب التي حلت بالشعب إبان غارة نادر شاه على الهند، وإليه يرجع الفضل في إقناع الناس بعدم الإقدام على إحراق أنفسهم، ولقد أدرك شاه ولي الله أيضا أن النتائج السياسية لغزوة نادر شاه لم تأت بفائدة للمسلمين أو للإمبراطورية المغولية؛ ولهذا فقد حذر أحمد شاه أبدالي أن يكرر ما فعل نادر شاه، فيقول في خطابه له: «وأستعيذ بالله أن يتكرر ما حدث أثناء غزوة نادر شاه.
لقد شتت شمل المسلمين وحطمهم، وفي نفس الوقت ترك المراتا والجات سالمين غانمين يفعلون ما يشاءون، وبعد هذا زادت دولة الكفار قوة، بينما تفرقت جيوش الإسلام، وأصبحت سلطنة دلهي بمنزلة لعب الصبيان.» (4-11) احتياطات ولي الله لحماية سكان دلهي
لقد تأثر شاه ولي الله بالآلام التي كان يعانيها سكان دلهي تأثرا بالغا، فاتخذ جميع الاحتياطات لإنقاذ دلهي من أي فوضى قد تأتي نتيجة لازمة لأي نضال مسلح، فكتب إلى نجيب الدولة يقول:
عندما تعبر أفواج الجيوش الشاهانية إلى دلهي يجب أن تبذل الاهتمام الكلي؛ لتحمي أهل المدينة من أي ظلم يحيق بهم.
لقد خضعوا أكثر من مرة لنهب أموالهم وهتك ناموسهم، إن آهات المظلومين لا تضيع هباء، فإذا كنت تريد أن ييسر لك النجاح في أداء هذا الواجب، فاحذر أن يصاب أحد من المسلمين أو أهل الذمة في دلهي بأذى. (4-12) إعداد الرأي العام للغزو المرتقب
ولكي يعد الرأي العام لهذا النضال الأعظم؛ أرسل شاه ولي الله الرسل لتلاميذه ومريديه وأقربائه، ينبئهم بغزوة أحمد شاه أبدالي المتوقعة، فكتب - على سبيل المثال - إلى الشيخ محمد عاشق الفولاتي
of
يقول له: «وصل إلى علم الفقير أن أبدالي سيأتي ثانية لإزالة الكفار وإبادة دولتهم.»
ولقد وجدت دعوة شاه ولي الله أذنا صاغية، وسرعان ما استجاب لها أحمد شاه، وخرج بجيوشه متجها إلى الهند، وانتصر في موقعة بانيبات
.
وجميع دارسي التاريخ يعلمون أن هذه الموقعة الحاسمة غيرت تاريخ الهند سياسيا تغييرا أساسيا في القرن الثامن عشر، ولكن القلة هم الذين يعرفون أن هذه المعركة التاريخية أتت نتيجة لإيعاز شاه ولي الله دهلوي.
لقد كان معلم المدرسة الرحيمية يحس إحساسا قويا بحاجات العصر السياسية، فلقد كتب هو نفسه قبل معركة بانيبات بسنوات يقول:
فلو فرض أن يكون هذا الرجل في زمان، واقتضت الأسباب أن يكون إصلاح الناس بإقامة الحروب، ونفث في قلبه إصلاحهم؛ لقام هذا الرجل بأمر الحرب أتم قيام، وكان إماما في الحرب لا يقاس. (4-13) الرأي في شاه ولي الله وحركته الإصلاحية
وبعد، فإن كل المؤرخين الذين ترجموا لشاه ولي الله ركزوا جهودهم للحديث عن جهود الرجل في ميدان الإصلاح الفكري والديني، وتكلموا بإسهاب عن مؤلفاته، وبخاصة «حجة الله البالغة»، ولكن أحدا منهم لم يفطن إلى الدور الهام الذي لعبه الرجل في ميدان الإصلاح السياسي، ومحاولاته المتكررة لإنقاذ الهند من براثن الفوضى التي كانت تريم عليها، تلك المحاولات التي انتهت باستعانته واستغاثته بملك مسلم مجاور، هو أحمد شاه أبدالي، بعد أن جرب كل الوسائل الممكنة لإتمام هذا الإصلاح على أيدي القوى الداخلية، فشاه ولي الله لم يكن - كمعظم مفكري الإسلام السياسيين - يفرق بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، بل كان يرى أنهما كالجناحين لطائر واحد، ولا يستطيع الطائر أن يقوى وأن يحلق في السماء إلا إذا قوي الجناحان جميعا.
ولم تمت حركة شاه ولي الله الإصلاحية التجديدية بموته، بل كانت كبذرة طيبة ألقيت في أرض طيبة؛ فقد رعى حركته الإصلاحية من بعده أولاده وأحفاده وتلاميذه، وكانوا رواد الحركات الإصلاحية التجديدية في الهند الإسلامية في القرن التاسع عشر، ولا بد لإيفاء الحديث عن جهودهم الإصلاحية من فصل آخر مستقل.
المركز الثاني: بلاد العرب
محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه/1703-1791م)
كانت بلاد العرب المركز الثاني من مراكز الحركات الثقافية أو الحركات الإصلاحية التي ظهرت في الشرق الإسلامي في هذه الحقبة من الزمن.
وفي هذه البلاد قام محمد بن عبد الوهاب بحركته الإصلاحية، وفي الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة في اليمن دعا الإمام الشوكاني - في نفس الوقت تقريبا - دعوة إصلاحية مشابهة.
والحركة الوهابية أولى الحركات الإصلاحية التي ظهرت في الدولة العثمانية، أو بمعنى أصح: بين الشعوب العربية الخاضعة للدولة العثمانية، وستتلوها حركات إصلاحية أخرى، تنبثق في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، بعضها مشابه للحركة الوهابية، وبعضها متأثر بها آخذ عنها، وتعدد هذه الحركات الإصلاحية وظهورها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي في وقت واحد أو في أوقات متقاربة، وتشابهها جميعها أو معظمها في صدورها عن منبع واحد، وعملها لهدف واحد؛ دليل كاف على يقظة وعي جديد في الأمة الإسلامية، وإحساس بمدى ما وصلت إليه هذه الأمة من تأخر وفساد، والرغبة كل الرغبة في علاج هذا التأخر، وإصلاح هذا الفساد.
وظاهرة أخرى تميز هذه الحركة؛ هي ظهورها في إقليم نجد، في تلك المنطقة الصحراوية المباركة؛ حيث انبثق نور الإسلام الأول، والبيئة الصحراوية كانت دائما أصلح البيئات لظهور الدعوات الإصلاحية، وخاصة تلك التي تدعو إلى دين جديد، أو التي تقوم على أساس من الدين، فهذه البيئة تكون عادة بعيدة عن مؤثرات المدنية، وعن حياة الحضر التي أفسدها الانغماس في الترف، وسكان هذه البيئة يكونون عادة - لبساطتهم وبداوتهم - أكثر تقبلا لمثل هذه الدعوات الإصلاحية التي تدعو إلى التقشف والبساطة والجهاد والمثل العليا.
نشأ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العيينة إحدى قرى نجد، وبدأ بالقرآن فأتم حفظه في العاشرة من عمره، ثم تتلمذ على والده الشيخ عبد الوهاب - وكان قاضيا للعيينة - فقرأ عليه الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان منذ طفولته وصباه شغوفا بالعلم والدراسة، لا يلهو كما يلهو الصبيان، بل يصرف وقته كله في قراءة كتب الفقه والتفسير، والحديث والعقائد، ثم بدأ الرحلة بعد ذلك؛ ليستزيد من العلم، فذهب إلى مكة وأدى فريضة الحج، ثم انتقل إلى المدينة، ثم طوف في البلاد الإسلامية المجاورة يأخذ على شيوخها وعلمائها، فزار الأحساء وأقام في البصرة نحو أربع سنوات، وفي بغداد خمس سنوات، ثم انتقل إلى كردستان وأمضى بها سنة، ثم رحل إلى بلاد فارس، فزار همذان وأصفهان حيث درس فلسفة الإشراق والتصوف، ثم زار مدينة قم، وعاد أخيرا إلى حريملة حيث كان يقيم أبوه - بعد تركه العيينة - وهناك استأنف الدراسة على أبيه، وهناك بدأ دعوته.
كان محمد بن عبد الوهاب حين وصل حريملة في نحو الخامسة أو السادسة والثلاثين من عمره، وقد تم نضجه واتسعت ثقافته، واستوعب الكثير من تجاريبه ومشاهداته أثناء رحلته، وقد بدأ دعوته بجدال أبيه وقومه، وكان موضع الجدال «الوحدانية»؛ رسالة الإسلام وفكرته الأساسية، هذه الفكرة التي تدعو إلى عبادة الله الذي لا إله إلا هو، والتي تنكر عبادة كل شيء سواه، والتي تحارب تعدد الآلهة وعبادة الأوثان والأصنام، ثم تأثر في دراسته بمذهب ابن حنبل؛ فأبوه حنبلي، وكتب هذا المذهب هي أول ما قرأ منذ طفولته الأولى، ومذهب ابن حنبل أكثر المذاهب تشددا في الرجوع إلى القرآن والسنة، وإنكار البدع المستحدثة، وقد كان محمد بن عبد الوهاب يرى في نجد أشياء كثيرة لا تتفق وهذا المذهب، ثم هو قد رأى في رحلته أشياء كثيرة أخرى بعدت بالمسلمين عن روح الإسلام الصحيحة، وعن الوحدانية السليمة التي جاء بها الإسلام.
فمعنى قولنا: «لا إله إلا الله» أن الله وحده هو خالق هذا الكون ومنظمه وفق القوانين التي وضعها، وهو وحده الواجب العبادة لا شريك له، ولكن المسلمين على عهد محمد بن عبد الوهاب قد نسوا أو تناسوا هذه العقيدة الواضحة، وراحوا يقدسون الأولياء، ويحجون إلى قبورهم، ويتمسحون بأضرحتهم، ويقدمون لهم النذور، ويستشفعون بهم لجلب منفعة أو لدفع ضر، وانتشرت هذه الأضرحة والقبور في كل مكان وفي كل مدينة من مدن العالم الإسلامي ، ولم يكتفوا بهذا، بل عادوا إلى الجاهلية الأولى فقدسوا الجماد والنبات.
وقد فصل ابن غنام - تلميذ ابن عبد الوهاب ومؤرخه - الحديث عن هذه المنكرات والبدع في كتابه
1 «روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام»، وأحصى القبور والأضرحة والأحجار والأشجار التي كان المسلمون يقبلون عليها ويعظمونها، وقدم لهذا الإحصاء بقوله: إن المسلمين قد عدلوا إلى «عبادة الأولياء والصالحين، وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجدوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث، والخطوب المعضلة والكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات، وتفريج الشدائد والكربات، من الأحياء منهم والأموات، وكثيرا ما يعتقد النفع والإضرار في الجمادات، كالأحجار والأشجار ... أحدثوا من الكفر والفجور، والإشراك بعبادة أهل القبور، وصرف الدعاء لهم من النذور،
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون .»
ثم يضرب ابن غنام الأمثال لما كان يحدث في مدن الإسلام المختلفة، ويبدأ بنجد فيقول: إن أهلها كانوا يعكفون على «قبر زيد بن الخطاب، فيدعونه لتفريج الكرب بفصيح الخطاب، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب.» وفي بليدة الفدا «ذكر النخل المعروف بالفحال، يأتونه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الأفعال، وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، فتضمه بيديها بحضور ورجاء الانفراج، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول ...» «وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق، ويعلقون فيها - إذا ولدت المرأة ذكرا - الخرق، لعلهم عن الموت يسلمون.» «وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الحكام أن يظلمها، فصاحت ودعت، فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير ... فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون، أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعبدون؟!»
ثم يشير المؤلف بعد ذلك إلى ما كان يفعله المسلمون عند قبور ميمونة بنت الحارث والسيدة خديجة وعبد الله بن عباس، وإلى ما يفعل عند قبر النبي عليه السلام «من الأمور المحرمة العظام؛ من تعفير الخدود، والانحناء بالخضوع والسجود، واتخاذ ذلك القبر عيدا ... إلخ .»
وأما ما يفعل في جدة مما عمت به البلوى، فقد بلغ من الضلال والفحش الغاية القصوى؛ فعندهم - كما يقول ابن غنام - قبر طوله ستون ذراعا، عليه قبة، يزعمون أنه قبر أمنا حواء، يجبي عنده السدنة من الأموال كل سنة ما لا يكاد يخطر على البال، «فلا يدخل يسلم على أمه كل إنسان، إلا مسلما دراهم عاجلا من غير توان، أيبخل أحد من اللئام - فضلا عن الكرام - ببذل بعض الحطام، ويدع الدخول على أمه والسلام؟!»
وعند أهل جدة أيضا معبد يسمى العلوي، غالوا في تعظيمه كل المغالاة «فلو دخل قبره قاتل نفس أو غاصب أو سارق، لم يعترض بمكروه من مؤمن ولا فاسق.» ولم يجسر أحد أن يخرجه من هناك، فمن استجار به أجير، ولم يعرج عليه حاكم ولا وزير.»
ثم ينتقل ابن غنام من بلاد العرب إلى أقطار العالم الإسلامي الأخرى، فيشير إلى ما يوجد بها من قبور أو جماد أو نبات يعكف المسلمون على تعظيمها والتقرب إليها والاستغاثة بها؛ فمن البلاد التي ذكرها: مصر، واليمن، وحضرموت، والشحر، وعدن، ومخا، والحديدة، وحلب، ودمشق، والموصل، والعراق، وبلاد الأكراد، ومشهد، والقطيف، والبحرين ... إلخ.
كانت هذه الأفعال وأشباهها هي التي أثارت محمد بن عبد الوهاب ودفعته دفعا إلى القيام بدعوته الإصلاحية، وكانت هذه الدعوة تتلخص في الرجوع إلى القرآن والسنة، إلى الإسلام في حالته الأولى إلى التوحيد؛ ولذلك كان أتباعه يسمون بالموحدين، وإنما سماهم أعداء الحركة بالوهابية؛ إضعافا لشأنهم.
ولتحقيق هذا كله كانت الدعوة تنادي بمحاربة البدع المضللة وزيارة القبور وتقديم النذور والاستشفاع بالأولياء والإيمان بالخرافات وتقديس بعض الجمادات والنبات، كما كانت تحارب المتصوفة وما أحدثوا من طقوس يرى الموحدون أنها تمثل مظاهر الشرك والوثنية، كحلقات الذكر وما يصاحبها - في بعض الطرق - من رقص وطرب، وتقديس الأولياء من الأحياء والأموات، والإيمان بما لهم من قدرة على الإتيان بالخوارق والمعجزات، والاستغاثة بهم لجلب نفع أو دفع ضر، وهكذا.
ودعوة محمد بن عبد الوهاب - على هذا الوضع - لم تكن جديدة، بل سبقتها قبل ذلك بنحو خمسة قرون حركة كبرى مشابهة، هي حركة تقي الدين ابن تيمية في القرن الثالث عشر الميلادي، ثم حركة تلميذه ابن قيم الجوزية في القرن الرابع عشر، وابن تيمية وتلميذه حنبليا المذهب، وقد أثارت حركتهما ضجة كبرى في مصر والشام، وقامت المناقشات العنيفة بين الفقهاء ورجال الدين من أتباع ابن تيمية ومعارضيه، وكاد الأمر ينتهي إلى فتنة لولا أن الحكومة كانت تتدخل بين الحين والآخر، فتحد من نشاط ابن تيمية قليلا، أو تودعه السجن وقتا ما في مصر أو في الشام.
فالمنبع الذي صدرت عنه الحركتان؛ حركة ابن تيمية وحركة ابن عبد الوهاب واحد، هو مذهب ابن حنبل، ولكن ابن عبد الوهاب تأثر كذلك بحركة ابن تيمية، وقرأ كتبه ورسائله وفتاواه، وتفهمها وأخذ عنها وترسم خطاه وأخذ بآرائه، كما تأثر كذلك بكتب تلميذه ابن قيم الجوزية وآرائه، ومما يثبت هذا كله أن بعض رسائل ابن تيمية الموجودة في المتحف البريطاني مكتوبة بخط محمد بن عبد الوهاب، فهي مما كان ينسخه لنفسه، وهو في رسائله التي كتبها لشرح دعوته أو لمناقشة معارضيه يعتمد كثيرا على آراء ابن تيمية وابن قيم الجوزية ويستشهد بأقوالهما.
ومع هذا فنحن نلاحظ أن حركة ابن تيمية - رغم الضجة التي أحدثتها - لم تبلغ من النجاح ما بلغته حركة ابن عبد الوهاب؛ وذلك لأسباب كثيرة:
منها أن بيئة الحضر التي ظهر فيها ابن تيمية بدعوته لم تكن البيئة الصالحة لنجاح الدعوة وانتشارها، فسكان الحضر تشغلهم شئون الحياة ومباهجها وعوامل الترف والرفاهية، والدعوة تنادي بالزهد والتقشف والبساطة، ولو أنها ظهرت بين البدو في بيئة صحراوية للاقت نجاحا أكثر.
ومنها أن ابن تيمية - وهو يدعو للعودة إلى الإسلام في حالته الأولى - اضطر إلى مهاجمة كل الفرق الدينية التي وجدت منذ ظهر الإسلام إلى عهده؛ كالخوارج والمرجئة، والرافضة والقدرية، والمعتزلة والجهمية، والكرامية والأشعرية، والنصيرية وغيرها، واضطر كذلك إلى الطعن في رجال الدين والمتصوفة وفقهاء المذاهب المختلفة، ومعظم هؤلاء كانوا يلون الوظائف الكبرى في الدولة كوظائف قضاء القضاة والحسبة ومشيخة الشيوخ والتدريس، وكانوا تبعا لهذا ينالون الأموال الجمة التي تأتيهم من الجوامك والرواتب والأوقاف والنذور ... إلخ، ونجاح دعوة ابن تيمية يسلبهم كل ما كان لهم من سلطان ومال؛ ولهذا كانوا هم - لا الشعب - الذين حملوا عليه وحاربوا دعوته، إلى أن أضعفوا من شأنها، أما بلاد العرب فلم يكن بها هذا العدد الوفير من العلماء والفقهاء والمتصوفة وأتباع المذاهب المختلفة، ولم يكن للقلة الموجودة منهم في بلاد العرب من المصالح قدر ما كان لعلماء مصر والشام على عهد ابن تيمية. حقيقة قد عارض ابن عبد الوهاب بعض معاصريه من علماء نجد والأحساء، ولكن معارضتهم لم تكن من القوة بحيث تؤثر في حركة ابن عبد الوهاب أو تضعف من شأنها.
ومنها أن حركة ابن تيمية ظهرت والعالم الإسلامي لا يزال في عنفوان قوته، بعد أن انتصر انتصاراته الحاسمة على الصليبيين والتتار في حطين وعين جالوت، وبينما هو يبذل الجهود لمقاومة غزوات التتار المتجددة على الشام، في حين أن دعوة ابن عبد الوهاب ظهرت والعالم الإسلامي قد شاخ ونالت منه عوامل الضعف والانحلال، فربط المسلمون في أذهانهم بين عوامل التأخر الديني وعوامل الضعف السياسي، ورأوا أن الأولى سبب للثانية، واعتقدوا أن القضاء على عوامل التأخر الديني والعودة إلى أصول الإسلام قد يقضي على عوامل الضعف السياسي، ويعيد للعالم الإسلامي ما كان له من عزة وقوة.
ومنها أن حركة ابن تيمية اقتصرت على الجدل الديني والمناقشات الفقهية، ولم تستعن بسند حربي أو بقوة سياسية، أما ابن عبد الوهاب فكان أبعد نظرا وأكثر نجاحا، ورأى أنه لكي يضمن لدعوته النجاح؛ لا بد له أن يضع لها برنامجا سياسيا إلى جانب البرنامج الديني، وأن يستعين بقوة سياسية حربية، وأدرك منذ اللحظة الأولى أنه لا أمل في الدولة العثمانية التي كانت تحكم جميع أجزاء العالم الإسلامي الواقعة في الشرق الأوسط؛ لأنها كانت دولة ضعيفة، وهي في ضعفها ترى في كل حركة إصلاحية خطرا عليها وعلى كيانها؛ فهي لذلك تحارب كل مصلح، وتناهض كل ناصح.
وأدرك ابن عبد الوهاب كذلك أنه لا أمل في علماء الدين في الحواضر الإسلامية الكبرى؛ كالقسطنطينية ودمشق والقاهرة، فهم قد تحولوا مع الزمن إلى عقول جامدة، لا تنشط إلى تفكير جديد أو إلى محاولة للإصلاح، وهم قد أصبحوا موظفين رسميين يؤمنون بالطاعة العمياء لولي الأمر ما دامت لهم مناصبهم الموقرة وأرزاقهم الموصولة؛ ولذلك لم يكونوا على استعداد لأن يجازفوا بهذا كله في سبيل نظريات أو دعوات جديدة تتطلب الكثير من الجهد والتضحية، وقد يكتب لها النجاح أو الفشل.
لهذا كله قدر محمد بن عبد الوهاب أنه - لكي يدرك شيئا من النجاح لدعوته - لا بد له أن يتعاون مع قوة سياسية حربية؛ لأن النظريات والمثل العليا لا تستطيع أن تنتصر بقوتها وصدقها وحسب، بل بما يؤيدها من قوى السياسة؛ ولهذا اتصل بأمير الدرعية محمد بن سعود، وتعاهد الرجلان على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى استقامة الشعائر، ونشر الدعوة في جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها.
ونجحت الدعوة شيئا فشيئا، ودخل الناس فيها أفواجا، ومن عارضها من أمراء أو شيوخ العرب حورب وأخضع بالقوة، وكلما دخل الرجلان - الشيخ والأمير - بلدة أزالا البدع ونشرا تعاليمهما، وبعد موتهما تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يعملوا متآزرين لنصرة الدعوة، وظلوا يعملون إلى أن دخلوا مكة والمدينة.
وعند ذلك شعرت الدولة العثمانية بخطر الحركة وخطر نجاحها، إن نجاحها يؤدي إلى فصل الحجاز، وخروجه من يدها، أو بمعنى آخر خروج الحرمين الشريفين، وهذا يفقدها الشيء الكثير؛ يفقدها الزعامة التي تتمتع بها على العالم الإسلامي بحكم إشرافها على هذين الحرمين، في وقت كانت قد بدأت تسعى فيه إلى القضاء على عوامل الضعف الداخلية وتقوية الصلات بينها وبين أجزاء العالم الإسلامي؛ باعتبارها مركز الخلافة الإسلامية.
وكانت الدولة العثمانية مشغولة في ذلك الوقت بنضالها مع العالم الخارجي، ولم يكن لديها القوة الحربية الكافية التي ترسلها لبلاد العرب، فاستعانت بمحمد علي، وأرسل محمد علي جيوشه إلى الحجاز، وسافر إلى هناك بنفسه، وظلت هذه الجيوش تقاوم الوهابيين إلى أن انتصرت عليهم، وفي نفس الوقت نشطت الدعوة العثمانية في جميع أنحاء العالم الإسلامي ضد هذه الحركة، واتهمت الوهابيين بالكفر والخروج على طاعة الخليفة، وشارك علماء المسلمين في هذه الدعوة التشهيرية، وشارك الإنجليز كذلك في التشهير بالدعوة الوهابية وتشويه مبادئها؛ لأن أي اضطراب يصيب بلاد العرب يهدد طريق تجارتهم إلى الهند؛ ولأن بعض مسلمي الهند قد اتصلوا بالحركة في مواسم الحج، وبدءوا عند عودتهم إلى وطنهم يدعون دعوات إصلاحية مشابهة.
وهكذا اجتمعت قوى كثيرة على محاربة الدعوة الوهابية؛ ولهذا فشلت الحركة في أول الأمر فشلا ظاهريا، فلم تلق الأفكار الوهابية قبولا في المجتمع الإسلامي خارج بلاد العرب، حتى إن بعض المصلحين المعاصرين من أمثال شاه ولي الله الدهلوي كان يتهم بالوهابية لتنفير الناس من اتباعه، ولعل هذا راجع إلى أن المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت كان يتعلق بفكرة الوحدة أو الجامعة الإسلامية، ويرى أن هذه الوحدة هي السبيل للنهضة ولمقاومة الخطر الأوروبي، وأن أي انفصال أو أية دعوة انفصالية تؤدي حتما إلى إضعاف الخلافة رمز هذه الوحدة، وقد كانت الحركة الوهابية حركة انفصالية؛ لأن سعودا الثاني عندما فتح المدينة ودخلها في سنة 1803م، أرسل إلى السلطان ينهاه عن إرسال المحمل السنوي إلى الحجاز مصحوبا بالطبول والزمور، ثم أخذ يعد الحملات لمهاجمة العراق والشام.
وقد أثارت الحركة الوهابية معارضة نفر آخر من المسلمين، وخاصة رجال الدولة والعلماء؛ لأنها اصطنعت أسلوب القوة والعنف لتنفيذ تعاليمها، فاعتبرت البلاد الإسلامية التي لا تؤمن بمبادئها والتي تنتشر فيها البدع دار حرب وجهاد، وكان الوهابيون إذا دخلوا بلدا استعملوا العنف لإجبار أهلها على اعتناق مبادئهم، فهم عند دخولهم مكة مثلا هدموا كثيرا من القباب الأثرية؛ كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي عليه السلام، ولما دخلوا المدينة نزعوا بعض الزينة والمعادن الثمينة والحلي التي كانت تزين قبر الرسول، مما أثار شعور المسلمين وأسفهم، ولكن الوهابيين لم يريدوا أن يلتزموا أضعف الإيمان فيعملوا على تغيير المنكر باللسان، بل أرادوا أن يستعملوا أقوى الإيمان، فاستعانوا بالأيدي لتغيير هذا المنكر.
وقد أثارت الحركة الوهابية عند ظهورها جدلا كثيرا، فأيدها الكثيرون وعارضها الكثيرون، ومن الغريب أن أشد الناس معارضة للشيخ محمد عبد الوهاب كان أخاه الشيخ سليمان مؤلف كتاب «الصواعق الإلهية»، وهو ينكر على أخيه مرتبة الاجتهاد، ويعارض تفسيراته بتفسيرات تقابلها، ويعتمد في مناقشته على نفس المراجع التي يعتمد عليها أخوه، وهي كتب ابن تيمية وابن القيم، وأهم ما ينتقد فيه أخاه مسألة تكفير المسلمين المتعلقين بالبدع والخرافات؛ فسليمان يلتمس لهؤلاء العذر من جهلهم، ويرى أن تعلقهم بالبدع خطأ ناشئ عن الجهل، ومن الواجب تبصيرهم بأمور دينهم، أما محمد بن عبد الوهاب فيغالي ويعتبر هذا التعلق إثما، ويكفر صاحبه، ويعتبر بلاد هؤلاء المسلمين دار حرب ويدعو لجهادهم، وسليمان يقول مثلا في معرض مناقشته لآراء أخيه: «إن هذه الأمور حدثت من قبل زمن الإمام أحمد، وفي زمان أئمة الإسلام، وأنكرها من أنكرها منهم، ولا زالت حتى ملأت بلاد الإسلام كلها، وفعلت هذه الأفاعيل كلها، تكفرون بها، ولم يرو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفروا بذلك، ولا قالوا: هؤلاء مرتدون، ولا أمروا بجهادهم، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم! بل كفرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها، أتظنون أن هذه الأمور من الوسائط التي يكفر فاعلها إجماعا، وتمضي قرون الأئمة من ثمانمائة عام ولم يرو عن عالم من علماء المسلمين أنه كفر؟! نبهنا الله وإياكم من الضلال.»
ومما أخذه المعارضون على الحركة الوهابية كذلك تزمتها الشديد واتهامها لكل من لا يأخذ بمبادئها بالكفر والمروق، واقتصارها على الدعوة إلى إصلاح الروح والعقيدة بالارتداد إلى الإسلام الأول، وإهمالها ناحية الإصلاح المادي، بل لقد غالى الوهابيون في أول عهدهم، فاعتبروا المخترعات الأوروبية الجديدة - كالتلغراف والسيارات والتليفون - من البدع المستحدثة التي لا يرضى عنها الدين.
ولقد عاصر الحركة الوهابية حركة إصلاحية أخرى في مصر؛ هي حركة محمد علي، ولكنها عنيت بالناحية الحضارية المادية وبالنقل عن أوروبا؛ لأنها أدركت أن سر تفوق أوروبا يرجع إلى نهضتها العلمية، ولو أن الحركتين اتفقتا وتعاونتا لنال العالم العربي الإسلامي خير كثير؛ لأن العالم الإسلامي حين كان قويا مرهوب الجانب لم تقم قوته على الدين وحده أو على الحضارة المادية وحدها، وإنما قامت عليهما جميعا.
ولكنه لم يكن من طبيعة الأشياء أن يدعو محمد بن عبد الوهاب هذه الدعوة المزدوجة؛ لأن ثقافته كانت دينية بحتة، وتأثر فيها بأساتذة من المتشددين من أمثال ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية الذين يلتزمون الأصول، ولا يحيدون عنها قيد شعرة، وهو في رحلاته زار بلادا إسلامية لم تكن تعرف حتى ذلك الحين شيئا عن الحضارة الأوروبية الحديثة أو العلوم الأوروبية.
ولكن فشل الدعوة الوهابية كان فشلا ظاهريا ومؤقتا؛ فإن السعوديين لم يلبثوا أن حاولوا تكوين دولتهم من جديد، وقد نجحوا، ثم حاولوا بعد هذا النجاح أن يوائموا بين المبادئ الوهابية وبين مقتضيات المدنية الحديثة، فعدلوا نظرتهم إلى البلاد الإسلامية الأخرى، واعتبروا أهلها مسلمين، وفتحوا الأبواب لمظاهر المدنية الحديثة، فاستعملوا التلغراف والتليفون والراديو والسيارة والطيارة، وأخذوا يعملون لنشر التعليم المدني إلى جانب التعليم الديني.
أما الدعوة نفسها فقد كانت أعمق جذورا وأقوى آثارا خارج بلاد العرب؛ ففي مواسم الحج اجتمع المسلمون من مختلف أجزاء العالم الإسلامي في مكة والمدينة، واستمعوا إلى دعوة محمد بن عبد الوهاب ومبادئها، وآمن الكثيرون منهم بها، وتحمس لها البعض من القادة المصلحين، فلما عادوا إلى بلادهم أخذوا يعملون على نشرها؛ لهذا لم يكن من الغريب أن كل الحركات الإصلاحية التي ظهرت في العالم الإسلامي في أواخر القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر كانت كلها دعوات دينية، كما كان معظمها متأثرا بالدعوة الوهابية، سائرا على نهجها. •••
ففي اليمن، وفي نفس الوقت ظهر الإمام الشوكاني (1172-1250ه/1758-1834م) ودعا دعوة مشابهة لدعوة ابن عبد الوهاب، فنادى بمحاربة البدع والتقليد، ونادى بالاجتهاد. حقيقة أنه لم يتصل بابن عبد الوهاب ولم يأخذ عنه، ولكن الدعوة واحدة؛ لأن المقدمات والأسباب التي أثرت في الرجلين واحدة، ولأن المنبع الذي صدرا عنه كان واحدا؛ فإن الشوكاني تأثر بمبادئ ابن تيمية؛ ولهذا ألف كتابه «نيل الأوطار» لشرح كتاب ابن تيمية «منتقى الأخبار»، ثم ألف بعد ذلك رسالته «القول المفيد في حكم التقليد»، وقد أثارت دعوته مناقشات كلامية وجدلا فقهيا عنيفا بينه وبين معاصريه من العلماء، وخاصة في صنعاء، ولكنها لم تخرج عن هذا النطاق، ولم يصطنع الشوكاني العنف والقوة كما فعل محمد بن عبد الوهاب. •••
وفي أوائل القرن التاسع عشر حج الزعيم الهندي السيد أحمد بن عرفان، واعتنق المذهب الوهابي، فلما عاد إلى بلاده بذل جهودا صادقة لنشره في إقليم البنجاب، وحارب البدع والخرافات حربا عنيفة، وأنشأ دولة وهابية، وامتد سلطانه حتى هدد شمال الهند، وهاجم الوعاظ ورجال الدين، وأعلن الجهاد على كل من لم يؤمن بمذهبه أو يعتنق دعوته، وأن الهند دار حرب، وقد أثار بحركته المتاعب الكثيرة للحكومة الإنجليزية، ولكنها قاومته وأتباعه إلى أن أخضعتهم.
والسيد أحمد بن عرفان البريلوي
Ahmad Brelwi (1201-1246ه/1786-1831م) مصلح ديني مجاهد، أبوه محمد عرفان، وينتهي نسبه إلى الحسين بن علي، ولد في 6 صفر سنة 1201ه/28 نوفمبر سنة 1786م في مدينة بريلي
Breli
حيث تلقى دروسه الأولى، ثم انتقل إلى لكناو
Lucknow ، وبعد أن أقام فيها شهورا قليلة انتقل إلى دلهي حوالي سنة 1219ه/1804م، حيث تتلمذ على الشاه عبد العزيز أكبر أولاد شاه ولي الله، ودرس كذلك على أخيه الأصغر شاه عبد القادر.
وحوالي سنة 1222ه/1807م عاد إلى بريلي حيث تأهل، وفي سنة 1225ه/1810م رحل إلى راجبو تانا
Racjputana
حيث عمل جنديا لمدة سبع سنوات في جيش نواب أمير خان
Nawab Amir Khan
حاكم إقليم تونك
Tonk .
وفي سنة 1232ه/1817م ترك خدمة النواب وعاد إلى دلهي، ثم أثارته حالة الضعف والتأخر التي كان يعانيها مواطنوه من المسلمين، فبدأ رحلة إصلاحية تبشيرية لتعليم الناس ووعظهم، وكانت آراؤه تشبه إلى حد كبير آراء محمد بن عبد الوهاب، فقد كان يدعو إلى العودة إلى الإسلام في حالته البسيطة الأولى، وتنقيته مما علق به من بدع وخرافات، وتقديس مبالغ فيه للأنبياء والأولياء، وسرعان ما ذاع صيته في كل مكان واعتنق مبادئه آلاف من المسلمين.
ومن أشهر تلاميذه وأصحابه الذين شاركوه جهاده: مولاي محمد إسماعيل، ابن أخي الشاه عبد العزيز، ومولاي عبد الحي، ختن (زوج بنت) الشاه عبد العزيز، ومولاي يوسف الفولاتي
of Phulhat
من نسل شاه أهل الله، الأخ الأكبر لشاه ولي الله.
وفي سنة 1236ه/1821م خرج السيد أحمد لأداء فريضة الحج «وتخلف شهورا قليلة في كلكتا وهو في طريقه إلى مكة، وبعد عودته إلى الهند سنة 1239ه/1824م بدأ يعد العدة للجهاد، ويتضح جليا من رسائله أنه كان يهدف من وراء حركته الإصلاحية إلى وضع حد لحكم الإنجليز والسيخ، وإلى استعادة الحكم الإسلامي في الهند، وكان أول أهدافه القضاء على حكم السيخ في البنجاب.
وبعد أن حصل على عطف المسلمين في كابل وقندهار، ووعد بتأييدهم له، بدأ حملته في سنة 1241ه/1826م وتحت قيادته جيش من أتباعه المتحمسين، ومر في طريقه بإقليم راجبوتانا والسند وبلوخستان وأفغانستان، إلى أن وصل مدينة بشاور، ثم هاجم جيش السيخ وهزمه عند أكوراختاك
Akora Khattak (في 20 نوفمبر سنة 1826م)، ولكنه هزم في موقعة سيدو
Saydo
بعد أن تخلى عنه يار محمد خان دراني
Yar Med Khan Durrani
وإخوته، ومع أنه نجح في احتلال مدينة بشاور في سنة 1830م فقد فت في عضده خيانة الدرانيين وبعض الخانات المحليين؛ ولهذا قرر أن يلجأ إلى منطقة كشمير، وفي طريقه اشتبكت به جيوش السيخ في بالاكوت
Balakot
في سنة 1246ه/1831م حيث هزم جيشه، واستشهد السيد أحمد كما استشهد معه شاه محمد إسماعيل، ورغم هذه الهزيمة فقد استمرت فلول جيشه في نضالهم في إقليم الحدود الشمالية الغربية؛ لتحقيق الأهداف التي رسمها قائدهم في حياته.
وقد تابع تلاميذه حركته الإصلاحية في الهند، وأنتجوا أدبا دينيا ضخما، اصطنعوا اللغة الأوردية؛ ليضمنوا إيصال تعاليمهم إلى الشعب، كما آثر أتباعه الاشتغال بالنشاط التجاري، بدلا من الالتحاق بالوظائف تحت حكم الإنجليز.
وقد ترك السيد أحمد بعض الرسائل القصيرة والكتيبات التي تعالج الموضوعات الدينية. كذلك ينسب إليه أنه كان الموحي للأفكار التي أثبتها تلميذاه: شاه محمد إسماعيل، ومولاي عبد الحي في كتابهما الذي ألفاه باللغة الفارسية، وعنوانه «صراط مستقيم»، ولا تزال مجموعات كثيرة من رسائل السيد أحمد المكتوبة بالفارسية مخطوطة حتى الآن. •••
كذلك تأثر السيد محمد بن علي السنوسي بالمذهب الوهابي، حين ذهب لأداء فريضة الحج، فلما عاد إلى وطنه أخذ يعمل على نشرها، ثم أخذ بعد ذلك يؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب وفيها شيء كثير من الآراء الوهابية؛ من ضرورة الرجوع إلى الإسلام الأول في بساطته الأولى، وتنقيته من البدع، وإن كانت تقوم على أساس آخر من التصوف، وهو ما كان ينكره المذهب الوهابي.
فالسنوسية طريقة من طرق التصوف تقوم على الأخوة والزهد والعبادة، والتزام أصول الإسلام، ولا يطلب من المريد حين يأخذ العهد إلا أن يقرأ الفاتحة؛ للحفاظ على هذا العهد، ثم يمر المريدون بدرجات ثلاث؛ أولها درجة الخواص، وثانيتها درجة الإخوان، وثالثتها درجة المنتسبين.
والسيد محمد بن علي السنوسي مالكي المذهب، ولكنه مجتهد، وقد يخالف المذهب في بعض الموضوعات التي يصح عنده أنها أقرب إلى السنة، ولم يبدأ الشيخ اجتهاده إلا بعد أن اكتمل نضجه، ودرس الفقه والتفسير والحديث في بلده، وفي مراكش ومصر والحجاز، واتصل بعلماء هذه البلدان، وتعرف على الطرق الصوفية المنتشرة فيها، ثم بدأ الدعوة لطريقته بعد عودته لوطنه، فلم ترض الحكومة العثمانية عنه ولا عن دعوته، فقد كانت تخشى دائما مثل هذه الدعوات الإصلاحية، وما قد تؤدي إليه من حركات انفصالية، فاضطر الشيخ إلى الاعتكاف في واحة جغبوب، وبنى هناك مسجدا ومدرسة للعلوم الدينية، واتخذ لنفسه أسلوبا جديدا لنشر الدعوة، وذلك ببناء الزوايا لأتباعه في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وسرعان ما انتشرت هذه الزوايا في برقة وطرابلس والسودان ومصر وبلاد العرب، وفي كتاب
ثبت بأسماء مائة وست وأربعين مدينة وقرية بها زوايا للسنوسية، ويقوم شيخ الزاوية عادة مقام المرشد لتابعيه ومريديه في أمور دينهم ودنياهم.
ولكن الطريقة السنوسية تختلف عن غيرها من طرق التصوف في أنها تحارب الغلو في تقديس الشيوخ والأولياء من الأحياء والأموات، أو في الأخذ بالطقوس الوثنية؛ من التمسح بالقبور والأضرحة، وتقديم النذور، والإيمان بقدرة المشايخ على جلب النفع أو دفع الضرر، وغاية ما تسمح به زيارة الأضرحة والمقامات للدعاء لصاحبها والترحم عليه، والتماس العظة والبركة في رحابه، وهذا هو وجه الشبه بينها وبين الحركة الوهابية، ومدى ما قد يكون لهذه الحركة الأخيرة من أثر فيها، فالدعوتان تتفقان في المناداة بالاجتهاد ومحاربة البدع، وتختلفان في أن الحركة الوهابية تصطنع العنف في تنفيذ مبادئها، وأن الحركة السنوسية تصطنع طرق المتصوفة من إنشاء الزوايا، واتخاذها أماكن للزهد والعبادة، وتثقيف المريدين وتعليمهم أصول دينهم.
وقد عارضت السنوسية في أول الأمر السيادة العثمانية، وكان من برنامجها إعداد المريدين للجهاد، وكان هذا الاتجاه ضروريا؛ لتمكينها من القيام بواجبها في نشر الدعوة، وتنظيم البدو في الصحراء الليبية.
وقد أفاد هذا التنظيم والإعداد فائدة كبرى، فهم عندما ووجهوا بالغزو الأوروبي قاموا بدور المدافعين عن دينهم ووطنهم، وقد بدءوا هذا الجهاد أولا عند التدخل الفرنسي في أفريقيا الاستوائية، ثم تحالفوا بعد ذلك مع تركيا في نضالها مع الإيطاليين في ليبيا ومع الإنجليز في مصر، ومع أن السنوسيين قد حطموا حربيا نتيجة لهذا النضال، وبدا للناس جميعا أن الفاشست قد قضوا عليهم؛ فإن الأخوة السنوسية أظهرت حيويتها الكامنة عندما بعثت بعثا جديدا مفاجئا، إبان العمل على طرد الإيطاليين من برقة. •••
ونستطيع أن نلمس أثر الدعوة الوهابية في مصر في أفكار محمد عبده الإصلاحية؛ فقد كانت هذه الأفكار ترمي إلى تحقيق هدفين، هما قوام الدعوة الوهابية؛ وهما: فتح باب الاجتهاد، ومحاربة البدع وما يتصل بها من التعلق بالخرافات وإشراك القبور والأولياء مع الله سبحانه وتعالى. •••
ولمحمد بن عبد الوهاب إنتاج علمي وفير، شرح فيه دعوته وآراءه، بعضه رسائل وفتاوى، وقد أثبتها جميعا تلميذه ابن غنام في كتابه، غير أن أهم مؤلفاته كتاب: «التوحيد ... حق المولى على العبيد» وفيه يحصي الشيخ الذنوب التي تكفر صاحبها وتعتبر شركا بالله، فمن الشرك في رأيه اتخاذ الرقى والتمائم للوقاية، والتبرك بالشجر والحجر، والاستعانة بغير الله، والنذر لغير الله، والذبح لغير الله، وأن الغلو في بناء قبور الصالحين وتقديسها يصيرها أوثانا تعبد من دون الله، وأن الاستشفاء بالأنواء حرام، والتصوير حرام، وحذر من المغالاة في تعظيم النبي - عليه السلام - مستشهدا بقول أنس: «إن أناسا قالوا: يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل.»
المراجع
لم أشأ أن أثقل الهوامش بالإشارة إلى المراجع؛ ليفرغ القارئ إلى قراءة الموضوع نفسه والتفكير فيه، وآثرت أن أقدم في ختام هذه الفصول قائمة وافية بالمراجع - ما أفدت منها وما لم أفد - ليرجع إليها من يريد الاستزادة من المعرفة عن هذه الشخصيات، أو عن العصر الذي عاشوا فيه، وأفردت مراجع كل فصل وحدها، وبدأتها بثبت شامل لمؤلفات العالم المترجم له، ثم أردفت هذا الثبت بقائمة المراجع الشرقية (عربية وفارسية)، وختمتها بقائمة المراجع الأوروبية. (1) مراجع الفصل الأول: أحمد سرهندي (أ) مؤلفات أحمد سرهندي (1)
آداب المريدين. (2)
رسالة تهليلية (طبعت ملحقة بمجموعة رسائله - المكتوبات - طبعة لكناو، 1913م، وقد ترجم هذه الرسالة - فيما بعد - إلى العربية شاه ولي الله دهلوي، وأضاف إليها مقدمة تحدث فيها عن التيارات الدينية في بلاط أكبر، وعن نشاط الشيخ أحمد). (3)
رسالة في إثبات النبوة. (4)
شرح رباعيات أستاذه خواجه باقي بالله. (5)
المبدأ والمعاد، دلهي، 1311ه. (6)
معارف لدنية. (7)
مكاشفات غيبية. (8)
مكتوبات أحمد سرهندي (بالفارسية، نحو 550 رسالة)، طبعت أكثر من مرة في الهند: لكناو 1913م، دلهي 1288ه و1290ه، أمر تسر 1331-1334ه. (ب) مراجع شرقية: (بالعربية والفارسية والأوردية) (1)
أبو الخير (أحمد المكي): هدية أحمدية (بالفارسية)، كونبور 1313ه. (2)
إحسان (محمد): روضة القيموية (بالفارسية) لا يزال مخطوطا، وله ترجمة أوردية طبعت في لاهور 1336ه. (3)
أحمد (محمد رءوف): جواهر علوية (بالفارسية)، وله ترجمة أوردية، طبعت في لاهور. (4)
أزاد (غلام علي): سبحة المرجان، بومباي 1303ه. (5)
أزاد (مولانا أبو الكلام): تذكرة، كلكتا، 1919م. (6)
إكرام (س. م): روضي كوثر، كراجي. (7)
باقر (محمد): كنز الهداية (بالفارسية) ألفه سنة 1075ه، لا يزال مخطوطا، وله ترجمة أوردية قام بها عرفان أحمد أنصاري، طبعت في لاهور. (8)
بدايوني (عبد القادر): منتخب التواريخ، كلكتا 1868م. (9)
بيل (T. W. Beale) : مفتاح التواريخ، كونبور 1867م. (10)
توزوكي جهانجيري
Tuzuk-i-Djhangiri ، علجرة 1864م. (11)
دهلوي (مولانا عبد الحق محدث):
أخبار الأخيار، دلهي 1332ه.
طبقاتي أكبري (وله ترجمة إنجليزية، كلكتا 1936م). (12)
رضا (الشيخ رشيد): المقدمة التي كتبها لكتابه (تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده). (13)
سروار (مفتي غلام): خزينة الأصفياء، جزءان، كونبور 1894م. (14)
صبري (مصطفى): مواقف العقل والعلم، القاهرة، 1950م، ج3، ص275-299. (15)
صديق حسن خان: الحطة في ذكر الصحاح الستة. (16)
الصعيدي (عبد المتعال): المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر. (17)
عباس (محمد إحسان): سوانح عمري خطرت مجددي ألفي ثاني (بالفارسية)، رامبور 1926م. (18)
عبد الأحد (محمد): حالات مقاماتي شيخ أحمد فاروقي سرهندي (بالفارسية)، دلهي 1329ه. (19)
على (رحمن): تذكر هيء علمائي هند (بالفارسية)، لكناو 1914م. (20)
فضل الله (محمد): عمدة المقامات (بالفارسية)، ألفه سنة 1233ه. (21)
كاشمي (محمد هاشم): زبدة المقامات، طبع حجر، كونبور (بدون تاريخ). (22)
محمد بن يحيى (المعروف بالمحسن التيمي البكري الترهتي): اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبد الغني، طبع الهند، 1280ه. (23)
منظور (م) (قام بنشر عدد خاص من مجلة الفرقان عن مجدد الألف الثانية بريلي، 1938م
M. Manzūr, ed. al-Furkān, Mudjaddid Number, Breilly, 1938 ). (24)
ميان (محمد): علمائي هند كاشند أرماضي، دلهي 1942م. (25)
النقشبندي (محمد أمين): مقاماتي أحمدية (بالفارسية)، ألفه سنة 1068ه، لا يزال مخطوطا، وله ترجمة أوردية طبعت في لاهور. (ج) مراجع أوروبية (1)
Ahmad (Burhan): The Mudjaddid’s Conception of Tawhid, Lahore 1940. (2)
Ahmad (Zubaid): The Contribution of India to Arabic Literature. (3)
Amir Ali: Spirit of Islam. (4)
Arnold (J. W.): The Preaching of Islam. (5)
Badaoni (Abdul Qadir): Muntakhib-ut-Tawarikh (an Enhlish Translation by Ranking & Rowe). Calkatta 1868. (انظر قائمة المراجع الشرقية.) (6)
Briggs (j): History of the Rise of Muhammadan
(7)
Brockelmann (Carl) :
Geschichte der Arabichen Litteratur.
Leiden, 1898-1939. (8)
Havell: The History of Aryan Rule in India from the Earliest Times to the Death of Akbar. (9)
c
Inayatullah (Sh): Ahmad Sirhindi (art. in: Ency. Islam. new edition). (10)
Jaffar (S. M.): Medieval India. (11)
Moreland (W. H.): India to the Death of Akbar. (12)
Shafi
c (Mohammad) :
c
Abd al-Hakk B. Sayf al-Din al-Dihlawi al-Bukhari.
ɔ
Abu l-Madjid. (art. in: Ency. Islam. New edition). (13)
Smith (Vincent. A.): Akbar, the Great Moghul. (2) مراجع الفصل الثاني: شاه ولي الله دهلوي (أ) مؤلفات شاه ولي الله دهلوي (1)
آثار المحدثين. (2)
أجوبة عن ثلاث مسائل. (3)
الإرشاد إلى مهمات علم الإسناد. (4)
إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء. (5)
أطيب النغم في مدح سيد العرب والعجم. (6)
الاعتقاد الصحيح. (7)
الانتباه في سلاسل أولياء الله. (8)
إنسان العين في مشايخ الحرمين. (9)
الإنصاف في بيان سبب الخلاف. (10)
أنفاس العارفين. (11)
تأويل الأحاديث في رموز قصص الأنبياء. (12)
التفهيمات الإلهية. (13)
تنوير العينين في رفع اليدين. (14)
حجة الله البالغة. (15)
الدر الثمين في مبشرات النبي الأمين. (16)
الرسالة العزيزية في المعاني (أو النفائس) الارتضائية. (17)
رسالة في تحقيق وحدة الوجود. (18)
رسالة في مسألة علم الواجب. (19)
رسالة الدهلوي. (20)
شرح تراجم أبواب صحيح البخاري. (21)
عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد. (22)
فتح الخبير بما لا بد من حفظه في علم التفسير. (23)
فتح الرحمن في ترجمة القرآن (إلى الفارسية). (24)
الفضل المبين من حديث النبي الأمين. (25)
الفوز الكبير في أصول التفسير. (26)
فيوض الحرمين. (27)
القول الجميل في أصول الطرق الأربعة (النقشبندية والجيلانية والششتية والمجددية). (28)
القول الجميل في علم السلوك. (29)
كتاب الخير الكثير الملقب بخزائن الحكمة (في التصوف). (30)
المسوى في فقه الحديث (باللغة العربية، رتب فيه أحاديث الموطأ ترتيبا يسهل تناوله). (31)
المصفى (بالفارسية، شرح فيه الموطأ شرحا وافيا، وجرد فيه الأحاديث والآثار). (32)
مقدمة سنية في الانتصار بالفرقة السنية. (33)
النوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر. (ب) مراجع شرقية (1)
سندي (مولانا عبيد الله): شاه ولي الله أوران كي سياسي تحريك، مقال بالفارسية في:
Sind-Sagar Acadamy, Lahore . (2)
شاه ولي الله دهلوي: أنفاس العارفين، مطبعي مجتباي، دلهي، 1335ه (تحدث فيه بالتفصيل عن أسرته وجدوده). (3)
صديق حسن خان: الحطة في ذكر الصحاح الستة. (4)
الكتاني (عبد الحي): فهرس الفهارس والأثبات، ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات جزءان، المطبعة الجديدة بفاس، 346-347ه. (5)
محمد بن يحيى (المعروف بالمحسن التيمي البكري الترهتي): اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبد الغني، طبع الهند 1280ه. (6)
مولوي رحيم نجش: حياة ولي، أفضل المطابع، دلهي 1319ه. (7)
نعماني (مولانا شبلي): تاريخي علمي كلام (بالفارسية، والمؤلف يرفع ولي والله إلى مكانة أعلى من مكانة ابن رشد وابن تيمية والغزالي). (8) ؟: الجزء اللطيف في ترجمة العبد الضعيف، مطبعي أحمد، دلهي. (9)
عدد خاص من مجلة الفرقان، بريلي 1360ه، عن شاه ولي الله. (ج) مراجع أوروبية (1)
Ahmad (Zubaid): The Contribution of India to Arabic Literature. (2)
Akbarabadi (Sayyid Ahmad): Maulana
c
Obaid-Ullah Sindhi and his Critics (in: Sindh-Sagar Academy, Lahore, January 1946). (3)
Allan (and others): The Combridge Shorter History of India. (4)
Brockelmann (Carl): Geschichte der Arabichen Litteratur, Leiden, 1898-1939. (5)
Cunnighan: History of the Sikhs. (6)
Edwardr (and Garratt): Mughal Rule in India. (7)
Elliot (and Dowson): History of India as told by its Historians (8 volumes). (8)
Gibb: Mohammadanism, London 1950. (9)
Hearn: Seven Cities of Delhi. (10)
Hidayat (Husain): Shah Wali Ullah (art. in: Journal of the Asiatic Society of Bengal, 1912). (11)
Husain (Agha Mahdi): Le Gouvernment du Sultanat de Delhi. (Etude Critique d’Ibn Battuta et des Historiens du 14
e
Siecle). (12)
Husain (Sayyid Ghulam): Siyar-ul-Mutakhereen (in Persian), an English Translation by: Col. Briggs. (13)
Hunter (W. W.): The Indian Musalmans, London 1871. (14)
Ishwari Prasad: History of Medieval India. (15)
Irvine (William): Later Lughals. (16)
Jaffar (S. M.): Education in Muslim India. (17)
Some Cultural Aspects of Muslim Rule in India. (18)
Jarric (Du): Akbar and the Jesuits. (19)
Jadunath Sarkar (Sir): The Fall of the Mughal Empire. (20)
History of Aurangzeb (5 volumes). (21)
Mughal Administration. (22)
Keen: The Fall of the Mogul Empire. (23)
Kincaid (and Parasins): History of the Maratha
(24)
Lane-Poole (Stanley): Aurangzeb (Rulers of India). (25)
Medieval India Under the Muslim Rule. (26)
Law (N. N.): Promotion of Learning in India during Mohammadan Rule. (27)
Macauliffe (M. A.): The Sikh Religion, its Gurūs, Sacred writings and Authors. (28)
Malcolm: Sketch of the Sikhs. (29)
Malleson (Colonel): Akbar. (30)
Moreland (W. H.): From Akbar to Aurangzeb. (31)
(32)
Sarwar (Muhammad): Life of Maulana
c
Obaid-Ullah sindhi. (33)
Siddiqi (M. Mazheruddin):
c
Obaid-Ullah Sindhi (Islamic Literature, vol VIII, No 7, July 1956. P. 379-389). (ومولانا عبيد الله سندي من تلاميذ شاه ولي الله.) (34)
Sindhi (
c
Obaid-Ullah): Shah Walli-Ullah and his Political Movement (Sindh-Sagar Academy, Lahore 1944). (35)
Smith (Vincent A.): Oxford History of India. (36)
Smith (Wilfred Cantwell): Modern Islam in India, London 1946. (37)
Storey: Perslan Literature, Vol 1. (38)
Titus (M.): Indian Islam, London 1930. (39)
Ronade: Rise of Maratha Power. (3) مراجع الفصل الثالث: محمد بن عبد الوهاب (أ) مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (1)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (2)
أصول الإيمان. (3)
تفسير شهادة أن لا إله إلا الله. (4)
تفسير الفاتحة. (5)
رسالة (أو كتاب) التوحيد. (6)
رسالة في التقليد وأنه جائز لا واجب. (7)
رسالة كشف الشبهات. (8)
مجموعة رسائله إلى أهل البلاد النجدية والأقطار الإسلامية (أثبتها ابن غنام في الفصل الثالث من تاريخه الذي لم ينشر، انظر قائمة المراجع العربية في الصفحة التالية). (9)
معرفة العبد ربه ودينه ونبيه. (10)
معنى الكلمة الطيبة. (11)
مفيد المستفيد. (12)
كتاب الكبائر. (ب) المراجع العربية (1)
أمين (أحمد): زعماء الإصلاح في العصر الحديث، القاهرة 1948م. (2)
الجبرتي (عبد الرحمن): عجائب الآثار في التراجم والأخبار، المطبعة الأهلية، القاهرة، 1322ه. (3)
الرافعي (عبد الرحمن): تاريخ الحركة القومية، عصر محمد علي، القاهرة، 1929م. (4)
الزركلي (خير الدين): الأعلام، القاهرة، 1928م. (5)
أبو زهرة (محمد): ابن تيمية، القاهرة ، 1952م. (6)
ابن حنبل، القاهرة، 1947م. (7)
شرف الدين (عبد العظيم عبد السلام): ابن قيم الجوزية، عصره ومنهجه، القاهرة، 1956م. (8)
ابن غنام (حسين، الوهابي): روضية الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام (مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 2263، تاريخ). (9)
المرادي (محمد خليل): سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، القاهرة، 1291ه. (10)
المراعني (عبد العزيز): ابن تيمية (مجموعة أعلام الإسلام)، القاهرة، 1945م. (11)
مؤنس (حسين): الشرق الإسلامي في العصر الحديث، الطبعة الثانية، القاهرة، 1938م. (ج) المراجع الأوروبية (1)
Brydges (H. I.): A Brief History of the Wahauby. London 1834. (2)
Burchardrt (Y. I.): Notes on the Bedwins and Wahaubys. London 1831. (3)
Corancez: Histoire des Wahhabis depuis leur origine jusqu’à la fin de 1809. Paris 1810. (4)
Gibb (H. A. R.): Modern Trends in Islam. (5)
Mohammadanism. London 1950. (6)
Guillaume (Alfred): Islam. Edinburgh 1954. (7)
(8)
Roussean (I. B.): Notes sur les Wahhabies. (9)
Sodlier: The Diary of a Journey across Arabia during the year 1816. Bombay 1899.
الجزء
مصر والشام
مقدمة
بدأت أحاضر في هذا الموضوع في معهد الدراسات العربية في العام الماضي، فألقيت بعض الأضواء على الحركات الإصلاحية التي ظهرت في الهند وفي شبه الجزيرة العربية فيما بين القرنين: السادس عشر والثامن عشر.
وتفضل المعهد فدعاني هذا العام لأكمل الحديث في نفس الموضوع، فحاولت في هذه المجموعة الصغيرة من المحاضرات أن ألقي أضواء أخرى على بعض الحركات الإصلاحية والمراكز الثقافية في مصر والشام في نفس المدة.
وقد قسمت الحديث في هذه المحاضرات إلى فصول أربعة، شرحت في الفصل الأول ركود الحياة العلمية في مصر والشام في فجر العصر الحديث، وتكلمت في الفصل الثاني عن بوادر النهضة الإصلاحية في هذين الإقليمين في أواخر القرن الثامن عشر.
ثم اخترت شخصيتين من الشخصيات التي تمثل هذه النهضة الثقافية: إحداهما شخصية مصرية، وهي شخصية السيد محمد مرتضى الزبيدي الحسيني، وأفردت لها الفصل الثالث، والثانية شخصية شامية، وهي شخصية الشيخ عبد الغني النابلسي، وأفردت لها الفصل الرابع.
وإني لأكرر هنا ما قلته في مقدمة الجزء الأول من أنني لم أوف الموضوع حقه، وما فعلت أكثر من أن مهدت الطريق ونبهت الأذهان.
وقد ألحقت بهذه الفصول قوائم بمؤلفات العالمين الجليلين: السيد محمد مرتضى الزبيدي، والشيخ عبد الغني النابلسي، وقوائم أخرى بالمراجع التي تنير للقارئ الموضوع والعصر بصفة عامة.
وإني أنتهز هذه الفرصة لأقدم شكري القلبي الجزيل لأستاذي الجليل، عميد المؤرخين المصريين، ومدير معهد الدراسات العربية العالية، الأستاذ الكبير محمد شفيق غربال؛ فهو الذي أتاح لي هذه الفرصة الطيبة؛ لمعالجة هذا الموضوع.
جمال الدين الشيال
الإسكندرية في 6 ذو القعدة سنة 1377ه/25 مايو سنة 1958م
تمهيد
كانت مصر قد أصبحت في العصر المملوكي مركز النشاط العلمي والثقافي في العالم الإسلامي؛ فهي محط رحال العلماء، وقبلة أنظار الطلاب، وخاصة بعد أن قضي نهائيا على الدولة الإسلامية في الأندلس، وبعد أن قضى المغول على الخلافة العباسية في بغداد، وقامت في العراق وما يليه شرقا دولة إيلخانات فارس ثم الدولة الصفوية، وهما دولتان غير عربيتين.
وبلغت الحركة العلمية في مصر أوجها في القرن الخامس عشر الميلادي، ووصلت حركة التأليف الذروة من حيث وفرة الإنتاج وتنوعه، ومن حيث عدد الكتاب والمؤلفين والمؤرخين، ولعل السمة الظاهرة التي تميز المؤلفين في هذا القرن أنهم كانوا وافري الإنتاج، وأنهم كانوا في معظمهم مؤلفي موسوعات، ويكفي أن نشير هنا إلى أسماء بعضهم؛ من أمثال ابن خلدون والقلقشندي والمقريزي وابن حجر والعيني وابن تغري بردي وابن الصيرفي والسخاوي والسيوطي وابن إياس ... إلخ.
وقد شهد الشرق الأوسط الإسلامي في بداية القرن السادس عشر تغيرا أساسيا؛ فقد نجح الأتراك العثمانيون في القضاء على الدولة المملوكية في مصر والشام، وفي الانتصار على الدولة الصفوية، ونتيجة لهذا الانتصار المزدوج؛ ضمت مصر والشام - كما ضم العراق العربي - إلى أملاك الدولة العثمانية.
الفصل الأول
ركود الحياة العلمية في مصر والشام
فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر
أصبحت القسطنطينية - بعد انتقال الخلافة الإسلامية إليها - مركز الثقل ومحور الارتكاز في العالم الإسلامي، ولعل هذا يفسر لنا - بعض التفسير - ركود الحركة العلمية في مصر والشام طيلة القرون الثلاثة التي خضعتا فيها للحكم العثماني؛ فقد أصبحت القسطنطينية هي مركز النشاط العلمي في الدولة العثمانية؛ فهي مقر السلطان والخليفة، بل هي عاصمة الدولة الإسلامية، والدولة كانت تركية اللسان، فمن البديهي إذن أن تنشط حركة التأليف بين علماء الأتراك وباللغة التركية، وأن تضعف حركة التأليف باللغة العربية.
يضاف إلى هذا أن السلطان سليما الأول كان قد صحب معه حين خروجه من مصر عددا من كبار العلماء، وكل ماهر في فن أو صنعة، كما حمل معه معظم ما كانت تذخر به مكتبات القاهرة من نوادر الكتب والمؤلفات.
وتدهورت الأحوال في مصر والشام تدهورا شديدا في النواحي الثقافية والصحية والاقتصادية؛ نتيجة للعزلة التي عاش فيها هذان القطران، ولانقطاع الصلة بينهما وبين العالم الخارجي في العصر العثماني.
وتوزعت السلطة في مصر بين قوى ثلاث: الباشا العثماني، والديوان، والمماليك، ثم لم تلبث السلطة أن تركزت إلى حد كبير في أيدي البكوات المماليك، وخاصة في القرن الثامن عشر عندما ضعفت الدولة العثمانية، وشغلت بحروبها المستمرة مع الدولتين الأوروبيتين المجاورتين: الروسيا والنمسا.
ولكن هؤلاء البكوات المماليك شغلوا بأطماعهم، وقامت بينهم المنافسات الحربية المتتابعة، وكان الشعب هو دائما الضحية بما كان يصيبه من سلب ونهب، أو مصادرة لأمواله أو اغتصاب لحقوقه ...
وكان الشعب إذا حزبه الأمر أو اشتد به الضيق يلجأ إلى العلماء، يشكو إليهم ما يصيبه من ظلم، وكان العلماء يستمعون دائما إلى هذه الشكوى، ويسعون لدى الأمراء والحكام لرفع هذا الحيف والظلم، وما يزالون بهم حتى يستجيبوا لنداء الواجب والقانون.
وبذلك أصبحت للعلماء زعامة تقليدية، تستمد مقوماتها من روح الإسلام ومن الشريعة الإسلامية، فالمجتمع يقوم على أسس من الشريعة الإسلامية؛ فهي القانون الذي تلتزمه الدولة في أحكامها، والعلماء هم أصحاب هذه الشريعة ودارسوها، منهم الفقهاء والقضاة والمفتون والمدرسون. (1) معاهد العلم
وكان الجامع الأزهر هو أكبر المعاهد العلمية في مصر، ولكنه مع هذا لم يكن المعهد الوحيد للدراسات العليا ولتخريج العلماء، بل كان يوجد إلى جانبه عدد من المدارس والمساجد تشاركه في القيام بهذه المهمة.
ومع هذا فقد كان الأزهر أهم هذه المعاهد جميعا وأشهرها، وقد يرجع هذا إلى أنه كان أغناها؛ لوفرة الأوقاف المرصودة للصرف عليه وعلى طلابه وشيوخه، وإلى أنه كان يمتاز بكثرة عدد مدرسيه؛ فقد كان به في العصر العثماني نحو ستين أو سبعين مدرسا، يقومون بالتدريس للجم الغفير من الطلاب، وكان معظم هؤلاء الطلاب من القاهرة أو من مدن مصر المختلفة، وإلى جانبهم توجد أعداد أخرى من الطلاب الوافدين من البلاد الإسلامية الأخرى.
ونتيجة للشهرة والسمعة العلمية الطيبة التي كان يتمتع بها الأزهر أصبحت مساجد القاهرة ومدارسها الأخرى تعتبر وكأنها فروع له، حقيقة كان لهذه المساجد والمدارس أوقافها الخاصة، ولكن كانت القاعدة أن وظائف التدريس بها يتولاها شيوخ من الأزهر.
وإلى جانب هذا كانت توجد في مصر نحو ثماني عشرة أو عشرين مدينة من المدن الكبرى بها مدارس للتعليم العالي، وكان يختلف عددها في كل مدينة؛ من مدرسة واحدة إلى سبع مدارس، وفي هذه المدارس أيضا كان المدرسون عادة شيوخا تلقوا تعليمهم في الأزهر، وكانت هذه المدارس بدورها تمد الأزهر بمعظم طلابه، ويكفي أن نشير هنا - للدلالة على أهمية هذه الظاهرة - إلى أن الشيوخ الذين تولوا مشيخة الأزهر في القرن الثامن عشر لم يكن من بينهم واحد قاهري الأصل.
وكانت أكثر هذه المدارس نشاطا وأفضلها دراسة هي مدارس الإسكندرية ورشيد ودمياط ودسوق والمحلة والمنصورة وطنطا في الوجه البحري، وطهطا في الوجه القبلي.
أما في الشام فقد كان التعليم أقل مركزية، فإلى جانب المركزين الرئيسيين: حلب ودمشق كانت توجد مدارس إقليمية في مدن أخرى كثيرة، وخاصة في بيت المقدس ونابلس.
وإلى جانب المساجد الجامعة في دمشق وحلب - التي كانت تعتبر المراكز الكبرى للدراسات الدينية - كان يوجد في المدينتين عدد من المدارس والمساجد التعليمية، بعضها متصل بالمسجد الجامع معتمد عليه، والبعض الآخر منفصل عنه، والمرادي يشير إلى وجود ما لا يقل عن 45 مدرسة في دمشق - بما فيها المساجد - في القرن 18، ومن المرجح أن عددها في حلب لم يكن أقل من هذا.
1
وكان طلاب العلم في مصر والشام لا يزالون في هذا العصر العثماني حريصين على التقليد القديم الطيب، وهو الرحلة في طلب العلم والاستزادة من المعرفة، وفي التراجم التي يزدحم بها كتابا: المرادي والجبرتي أمثلة كثيرة للعلماء الذين كانوا يرحلون إلى مدن مصر المختلفة، وخاصة دمياط والإسكندرية وطنطا وطهطا وأسيوط، أو إلى دمشق وبيت المقدس، أو إلى المدينتين المقدستين مكة والمدينة؛ للأخذ عمن في هذه المدن من شيوخ، وكثيرون من الشوام كانوا يلتحقون بالأزهر؛ حيث يوجد رواق خاص لهم كان من أكثر الأروقة نشاطا، كما كان بعضهم يرحل إلى إستانبول؛ حيث يشتغلون بالتدريس في مدارسها. (2) نظم التعليم: مزاياها وعيوبها
وكانت الدراسة في هذه المعاهد قد تأخرت كثيرا عما كانت عليه في العصور السابقة؛ فهي لا تعنى إلا بالعلوم اللغوية؛ من نحو وصرف وبلاغة وعروض، وبالفقه وعلوم الشريعة، والمنطق ومبادئ الحساب.
وقد كان لنظام التعليم في هذه المعاهد مزايا كثيرة؛ يقول لين بول مثلا عند كلامه عن الأزهر: «إن نظام الجامعة الأزهرية نظام مثالي كامل؛ فإن أفقر شاب يتقدم إليها يرحب به في الحال، ويستطيع أن يتعلم كل ما يعرفه الأساتذة، ويمكنه أن يحصل أعلى تعليم يمكن أن يحصله مسلم، وبالطرق الإسلامية، وذلك دون أن يطالب بدفع قرش واحد.»
2
ومع هذا فقد كان للنظام عيوب كثيرة؛ منها أن وظائف التدريس كانت أحيانا تؤخذ بالوراثة لا بالجدارة، فيعين الابن مدرسا مكان أبيه، ولو لم يكن كفئا لتولي هذه الوظيفة.
ومنها أن بعض المدرسين كان يوكل إليه التدريس في أكثر من مدرسة، أو يتولى أكثر من وظيفة، وبذلك لا يكون لديه الوقت أو الجهد الكافي للقيام بالتدريس على الوجه الأكمل.
ومنها أيضا جمود الدراسات وتأخرها، بحيث أصبح المدرسون يرددون ما قاله السابقون، ويدرسون المتون والكتب القديمة دون أن يؤلفوا أو يكتبوا جديدا، فانعدم الابتكار ، وأثر هذا بالتالي في الطلاب، فأصبحوا يعيدون ما يسمعون، ويعنون بالمسائل الشكلية التافهة، ويعتمدون على الاستذكار والحفظ عن ظهر قلب، دون الفهم أو الوعي السليم.
ونستطيع أن نتبين من تراجم شيوخ هذا العصر وعلمائه أن بعضهم كان غزير الإنتاج؛ فكم من عالم أنتج العشرات من الكتب والرسائل، ولكننا لا نستطيع أن نجد من بينها بحثا له قيمة أو كتابا يضيف إلى العلم جديدا، أو رسالة فيها شيء من الابتكار أو أصالة الفكر، وإنما كان أقصى ما يفعله الواحد منهم أن يكتب شرحا لمتن، أو يضيف حاشية على شرح، فنحن نستطيع أن نسمي هذا العصر بحق عصر الشروح والحواشي، ومن الممكن أن نقدر الحالة العلمية في العالم العربي على ضوء ما أنتجه العلماء ورجال الفكر في هذا العصر:
كان العالم العربي قد فقد استقلاله السياسي، وأصبح في عزلة تامة، وانقطعت الصلات بينه وبين غرب أروبا، وكان الناس يعيشون في ظلام العصور الوسطى، وزادت الحالة سوءا نتيجة لانتشار المتصوفة وانقلاب التصوف إلى نوع من الدروشة، فأصبح الناس يعتقدون في الخرافات والغيبيات، والسحر والشعوذة، وغدا كل مجذوب وليا من أولياء الله الصالحين، وكل أبله شيخا جليلا تلتمس بركاته ويرجى رضاؤه ودعواته، ونال كثير من الشيوخ مكانة مرموقة لدى العامة والمتعلمين، بل ولدى الخاصة والحكام؛ لتأليفهم رسائل في هذه الموضوعات، أو لاشتغالهم بقراءة الغيب، وعمل الأحجبة والتمائم والتعاويذ. (3) الدراسات الطبية
وأهم ما يعيب الحياة الثقافية في العالم العربي في هذا العصر العثماني أنها تأخرت كثيرا عما كانت عليه في القرون السابقة، ولعل خير دليل على هذا ما وصلت إليه حالة الطب مثلا من الناحيتين: النظرية والعملية.
ففي أوائل القرن السابع عشر كانت لا تزال هناك بقايا من العلوم الطبية التي عرفها المسلمون في عصورهم المزدهرة، وإن كانت قد تأثرت هذه البقايا كثيرا بالسحر والخرافات، ورغم هذا فقد ألفت في مصر وسوريا بعض الرسائل والكتب في الطب.
وخير هذه الكتب هو «تذكرة داود» لصاحبها داود الأنطاكي، وهو طبيب ضرير، ولد في أنطاكية، وفيها درس الطب وعلوم الأوائل واللغة اليونانية على رجل من العجم كان قد وفد على بلدته، ثم رحل داود بعد ذلك إلى دمشق، واستقر في القاهرة سنين طويلة، وزار مكة أخيرا، وبها توفي سنة 1008ه.
وكانت مهنة الطب تورث - كبقية المهن - في معظم الأحوال، ومع هذا لم يكن غريبا أن تجد قاضيا أو عالما يعين رئيسا للأطباء.
والظاهرة الجديدة أن المجتمع في مصر بدأ يستعمل - إلى جانب الطب العربي المعتمد على الطب اليوناني القديم - نوعا جديدا عرف بالطب النبوي، وهو أشتات من المعلومات القائمة على دراسة الإشارات الطبية والصحية الواردة في الأحاديث النبوية.
وقد أورد العالم الفرنسي «روييه
Rouyer » معلومات كثيرة عن حالة الطب في مصر
3
في أواخر القرن الثامن عشر في الفصل الذي كتبه في كتاب
Description de l’Egypte I, 1217-32 ، وعنوانه:
Notice sur les Médicamens Usuels des Egytiens .
وتبعا لهذا؛ تأخر علم الصيدلة والأقرباذين، كما تدهورت أحوال المستشفيات وأصبح البيمارستان يستعمل مستشفى للعلاج ومصحة للأمراض العقلية، وظهرت طبقة من الحلاقين الصحيين تمارس العلاج والجراحة، ولم تكن الحالة في سوريا تختلف كثيرا عنها في مصر.
ولكن في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر بدأ يظهر في القاهرة عدد من الأطباء الأوروبيين وعدد من الصيدليات الأوروبية، ويذكر
Rouyer (ص222-223) أنه كان يوجد في القاهرة ثلاث صيدليات: واحدة يديرها يوناني، والأخريان يديرهما جماعة من البنادقة، وكان معظم روادها من الأوروبيين والسوريين المسيحيين، ومع هذا كان يتردد عليها نفر من المصريين - مسلمين وأقباطا، أما في دمشق فقد كان الدكتور شابوكو
Chaboceau
هو الطبيب الأوروبي الوحيد بها.
4
يضاف إلى هذا أن كتابين أوروبيين في الطب قد ترجما إلى التركية والعربية في أواخر هذا القرن.
5 (4) الدراسات العلمية
وكانت العلوم الأخرى التي عرفها العرب باسم «العلوم الفلسفية» أو «علوم الأوائل» - مثل الفلسفة والرياضيات والفلك - قد أصابها ما أصاب الطب من ركود وجمود، وفي الأوصاف التي أوردها الرحالة الأوروبيون - من أمثال «سافاري» و«فولني» - في رحلاتهم صور واضحة لهذا التأخر والجمود العلمي، قال فولني يصف الحالة الصناعية والعلمية في مصر في القرن الثامن عشر: «الجهل عام في هذه البلاد مثل سائر الدولة التركية، وهو يشمل كل الطبقات، ويتجلى في كل النواحي الأدبية والطبيعية وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية؛ فإنها في أبسط أحوالها، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وجد فهو إفرنجي، أما الصياغة فأصحابها فيها أكثر مما في أزمير وحلب، لكنهم جهلاء، وإنما يتقنون المنسوجات الحريرية، وإن كانت أقل إتقانا وأغلى ثمنا من تلك التي تصنع في أوروبا، أما العلم فوجود الأزهر فيها جعلها قبلة الطلاب في الشرق الإسلامي.»
وحتى هذا العلم، وحتى هذا الأزهر لم يكونا في القرن الثامن عشر في حالة طيبة مبشرة، بل شملتهما - كما ذكرنا من قبل - موجة من الركود والجمود، وقد وصف مؤرخ مصر في هذا القرن عبد الرحمن الجبرتي مدى ما وصلت إليه الحالة العلمية من تأخر وصفا يغني عن غيره من أقوال الرحالة الأوروبيين.
ذكر الجبرتي أن أحمد باشا الوالي التركي على مصر (1162-1163ه/1749-1750م) كان «من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر واستقر بالقلعة، وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم: الشيخ عبد الله الشبراوي - شيخ الجامع الأزهر - والشيخ سالم النفراوي، والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا، وقالوا: «لا نعرف هذه العلوم»، فتعجب وسكت.»
ثم ذكر الجبرتي أن الشيخ الشبراوي طلع على عادته إلى القلعة في يوم جمعة، واستأذن، ودخل عند الباشا يحادثه، فقال له الباشا: المسموع عندنا في الديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، فقال له الشيخ: «هي يا مولانا - كما سمعتم - معدن العلوم والمعارف»، فقال: «وأين هي وأنتم أعظم علمائها؟ وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم، فلم أجد عندكم منها شيئا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، ونبذتم المقاصد»، فقال له: «نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث؛ كعلم الحساب والغبار» فقال له: «وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحة العبادة؛ كالعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، وأوقات الصوم والأهلة، وغير ذلك» فقال: «نعم، معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات، وأمور ذوقية؛ كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل، والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك؛ غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق، فيندر فيهم القابلية لذلك»، فقال: «وأين البعض؟» فقال: «موجودون في بيوتهم، يسعى إليهم» ثم أخبره عن الشيخ الوالد (يقصد والده الشيخ حسن الجبرتي، العالم الرياضي الفلكي الكبير في ذلك الحين) وعرفه عنه وأطنب في ذكره.»
ثم ذكر الجبرتي بعد ذلك أن الباشا أرسل إلى الشيخ حسن الجبرتي، فاستدعاه لمقابلته، وأنه «سر برؤياه واغتبط به كثيرا، وكان يتردد إليه يومين في الجمعة، وأدرك منه مأموله ... ولازم المطالعة عليه مدة ولايته، وكان يقول: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني.»
وأخيرا يختم الجبرتي قصة والده وعلماء مصر مع الباشا بجملة لطيفة فيها نقد ساخر لاذع، فيقول: «وكان المرحوم الشيخ عبد الله الشبراوي كلما تلاقى مع المرحوم الوالد يقول له: «سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا؛ فإنه لولا وجودك كنا جميعا عنده حميرا ...» (5) الدراسات الأدبية
ولم يكن الإنتاج الأدبي في هذا العصر يفضل كثيرا الإنتاج العلمي؛ فقد بلغ الأدب أقصى مراحل التأخر أسلوبا ومنهجا وموضوعا، وقد يعلل البعض تأخر الأدب إلى انصراف الناس إلى الدراسات الدينية والصوفية، ولكن هذا الانصراف لا ينهض وحده سببا كافيا، بل هناك في الحقيقة أسباب أخرى حالت دون ظهور أدباء ممتازين أو إنتاج أدبي رفيع مبتكر، ولعل أهم هذه الأسباب أن أدباء العرب في هذا العصر قد فقدوا رعاية الحكام والرؤساء إلا في حالات قليلة نادرة منذ انضمت البلاد العربية للدولة العثمانية، وهذا النوع من الأدب الرفيع لا يزدهر إلا إذا نال صاحبه شيئا من التشجيع والرعاية.
وكان لانقطاع الصلة بين البلاد العربية والعالم الخارجي أثر واضح كذلك في تأخر الأدب في هذا العصر؛ فقد فقدت الدراسات الأدبية الدوافع المثيرة والنقد المفيد، ولم تتح لها فرصة الاتصال بين الأفكار أو المحاكاة أو المقارنة بينها وبين الآداب الأخرى، فانكمش الأدباء العرب على أنفسهم، وعاشوا في عزلة تامة داخل ديارهم يجترون الأدب الماضي الذي أنتجه أسلافهم، ثم يلفظونه أدبا جديدا فاقد الروح ممسوخ الأسلوب، وحتى الأدبين الشرقيين المعاصرين: التركي والفارسي كان الاتصال بهما ضعيفا، وكان أثر هذا الاتصال ضئيلا - فيما عدا مدينة حلب إلى حد ما.
وقد يكون لنوع الحياة التي كان يحياها أدباء هذا العصر أثر في ضعف إنتاجهم الأدبي؛ فقد تدهورت الحالة الاقتصادية وقل الرخاء، وضاقت - نتيجة لذلك - الآفاق التي يحلق فيها الأدباء، وقلت مظاهر الحضارة والصورة الفنية التي توحي إليهم، فعنوا في إنتاجهم بالأسلوب دون المعنى، وبالصنعة دون المبنى، وعنوا عناية كبرى بالمحسنات البديعية على اختلاف أنواعها؛ يستعينون بها على تنميق الأسلوب، واستنفدوا جهدهم في نظم أنواع عجيبة من الشعر، بعضها مما تصح قراءته طردا وعكسا، وبعضها مما تصح قراءته أفقا وعرضا، وأكثروا من الأشعار الملغزة أو المؤرخة لإقامة مبنى أو لوفاة عظيم ... إلخ. (6) الدراسات التاريخية
أما حركة التأليف التاريخي - التي بدأت في مصر الإسلامية بابن عبد الحكم، والتي ظلت مستمرة متصلة مزدهرة إلى أواخر القرن الخامس عشر - فقد انقطعت انقطاعا يكاد يكون تاما في العصر العثماني، ولا نكاد نجد مؤرخا مصريا له شأن أو قيمة بعد ابن إياس، اللهم إلا إذا اعتبرنا صوفيا كالشعراني مؤرخا حين يكتب كتابه «الطبقات الكبرى» في تراجم الصوفية!
حقيقة لقد ظهر في مصر في العصر العثماني عدد من المؤلفين الذين كتبوا في التاريخ، ولكنهم في جملتهم لا يستطيعون أن يرقوا إلى مرتبة من سبقوهم من مؤرخي القرن الخامس عشر أو القرون التي قبله، ويكفي لإيضاح هذه الحقيقة أن نأتي هنا بأمثلة للمؤرخين المصريين القلائل الذين ظهروا في هذا العصر العثماني.
منهم محمد بن أبي السرور البكري الصديقي، وقد عاش في القرن الحادي عشر (17م )، وتوفي سنة 1087ه، وله ثلاثة كتب تاريخية لا زالت مخطوطة، وهي: (1)
الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة، وفيه يؤرخ لولاة مصر وقضاة العسكر في العصر العثماني إلى سنة 1054ه. (2)
عيون الأخبار ونزهة الأبصار، وهو تاريخ مختصر لمصر والدول التي تعاقبت على حكمها، إلى آخر عصر المماليك الجراكسة. (3)
المنح الرحمانية في الدولة العثمانية، وفيه يؤرخ لسلاطين آل عثمان، وينتهي إلى سنة 1039ه.
ومن هؤلاء المؤرخين الإسحاقي المنوفي «محمد بن عبد المعطي» وهو من رجال القرن الحادي عشر أيضا، ترجم له المحبي فقال: إنه كان قاضيا فاضلا عالما مؤرخا، كثير النظم للشعر، صحيح الفكرة، وله تاريخ لطيف ورسائل كثيرة، قرأ ببلده على شيوخ كثيرين، وكان يتردد إلى مصر، وأخذ بها عن أكابر علمائها، وتوفي سنة 1060ه ببلدة منوف.
وكتابه التاريخي عنوانه «لطائف أخبار الأول، فمن تصرف في مصر من أرباب الدول» رتبه على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة، وأرخ فيه لمن ولي مصر من حكام منذ الفتح العربي إلى أوائل القرن الحادي عشر، وانتهى من تأليفه سنة 1033ه، وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة طبعات مختلفة في السنوات 1276 و1296 و1300ه.
ومنهم أيضا مرعي الحنبلي، وهو من رجال القرن العاشر (16م) ومن مؤلفاته في التاريخ «درر الفوائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة» ضمنه أخبار الحاج والمنازل، وكيفية الرحيل والنزول والإقامة، وأرخ فيه لمن حج بالناس من الخلفاء والصحابة، والأمراء والأعيان، من مختلف البقاع والأماكن، كما شرح مناسك الحج على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ورتب الحوادث فيه على السنين الهجرية، ويوجد من هذا الكتاب الجزء الأول فقط، وينتهي إلى آخر الباب الثالث «فيمن ولي إمرة الحاج إلى سنة 966ه» وهو مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 37م.
ونحب أن نشير هنا إلى أن المصريين كانوا هم السابقين في وضع كتب تترجم لرجال قرن بأكمله؛ بدأ هذا النوع من كتب التراجم ابن حجر، حين ألف كتابه «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة»، ثم أتى بعده تلميذه السخاوي فألف كتابه «الضوء اللامع في تراجم أعيان القرن التاسع».
ثم انقطع هذا اللون من ألوان التأليف التاريخي من مصر في العصر العثماني، وانتقل إلى أيدي السوريين، فألفوا كتبا ثلاثة ضخمة للترجمة للرجال الذين عاشوا في قرون العصر العثماني الثلاثة: العاشر والحادي عشر والثاني عشر:
أرخ الغزي (نجم الدين محمد بن محمد) لرجال القرن العاشر في كتابه: «الكواكب السائرة في تراجم أعيان المائة العاشرة».
وأرخ المحبي لرجال القرن الحادي عشر في كتابه «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر».
وأرخ المرادي لرجال القرن الثاني عشر في كتابه «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر».
وسيحاول مؤرخ مصري - هو أحمد تيمور - إتمام السلسلة فيما بعد بالترجمة لرجال القرن الثالث عشر، ولكنه لم ينجز من مؤلفه هذا إلا قسما يسيرا هو الذي طبع بعد وفاته بعنوان: «تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر» (القاهرة 1940م).
الفصل الثاني
بوادر النهضة الإصلاحية في مصر والشام
في أواخر القرن الثامن عشر
نتيجة لهذا كله؛ جمد التفكير في العالم الإسلامي، وقل الابتكار في التأليف، وخمدت الهمم وخفتت الأصوات التي تطالب بالإصلاح، إلا في حالات نادرة متفرقة، حين كان يتصدر بعض العلماء للدفاع عن مصالح الشعب.
ولكن هذا الجمود بدأ يذوب شيئا فشيئا في القرن الثامن عشر، وبدأت تظهر في المجتمع العربي في مصر والشام بوادر نهضة إصلاحية جديدة، وتبدو بوادر هذه النهضة واضحة في مظاهر ثلاثة: (1)
في المواقف الجريئة المشرفة التي بدأ يقفها العلماء من الأمراء والحكام لردعهم ومنعهم من الظلم، وللدفاع عن مصالح الشعب وحقوقه. (2)
وفي الحركات التي قام بها بعض الأفراد والجماعات؛ لمهاجمة الأولياء والدراويش، ومحاربة البدع والخرافات التي أشاعوها في المجتمع، والمناداة بهدم الأضرحة وعدم التمسح بها أو الاستغاثة بأصحابها أو الاعتقاد في كراماتهم. (3)
وفي ظهور عدد من العلماء والمفكرين يعتبرون بحق طلائع نهضة ثقافية جديدة.
وسنشير لكل ظاهرة من هذه الظواهر بشيء من التفصيل؛ لبيان أهميتها: (1) الظاهرة الأولى: زعامة العلماء
كانت مصر في العصر العثماني نهبا مقسما بين الباشا التركي وقواد حاميته وأمراء المماليك، أما حقوق الشعب فكانت مضيعة ، لا يعنى بها هؤلاء الحكام في قليل أو كثير، ولم يكن يحد من سلطان هؤلاء الحكام غير سلطان العلماء؛ فهم رجال الدين، وهم حملة القرآن، وهم أصحاب السلطان الروحي، ولم يكن رجال الحكم من جند وأمراء يخشون شيئا قدر خشيتهم لهذا السلطان الروحي، والشعب لم تكن تربطه بهؤلاء الحكام صلة؛ فهم غرباء عنه جنسا ولغة ومشاعر، أما العلماء فهم مصريون مثله، نشئوا كلهم في قلب الريف، يحسون إحساس أهليهم وإخوانهم، وهم بعد قد تفقهوا في أمور الدين الإسلامي، وعرفوا أنه دين يقوم على المساواة والعدل، وأنه يأبى الظلم والجور والعسف، وأنه يعتبر كل راع مسئولا عن رعيته، ويطالب كل حاكم بأن يلتزم الحق والعدل والإنصاف في حكمه، فهؤلاء العلماء كانوا في نظر الحاكمين والمحكومين رمزا للشرع، للقانون السماوي الذي يحكم بمقتضاه حكام هذه البلاد الإسلامية.
لهذا عقد للعلماء في العصر العثماني نوع من الزعامة الاختيارية ارتضاه الحكام والمحكومون جميعا، فكان الشعب إذا ضاق بحكامه لجأ إلى زعمائه، يشكو لهم ما به من ضيق، وكان العلماء يسعون بهذه الشكوى إلى الحكام، ويقدمون لهم النصيحة، وقد يرفقون بهم في النصيحة وقد يعنفون، وكان الحكام يستمعون دائما لهذا النصح، ويستجيبون دائما لهذه الوساطة، والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي هنا بإيراد بعضها:
حدث في سنة 1114ه/1702م «أن أهل الأسواق أصابهم غبن من وراء تزييف النقود، فاجتمعوا ودخلوا الجامع الأزهر، وشكوا أمرهم إلى العلماء، وألزموهم بالركوب معهم إلى الديوان»، واضطر الباشا أن يصدر أمره بعقد اجتماع عام، حضره الأمراء والقاضي التركي والأغوات (قواد فرق الجيش) ونقيب الأشراف وكبار العلماء.
ولم ينفض الاجتماع إلا بعد أن اتخذ المجتمعون قرارات تزيل شكوى الناس وتحفظ مصالحهم.
وفي سنة 1148ه/1735م أرسل السلطان إلى مصر بعض الأوامر المالية، وكان أحدها يقضي بإبطال بعض المرتبات التي كانت تصرف في وجوه الخير، واجتمع أعضاء الديوان لسماع هذه الأوامر، فلما قرئ المرسوم السلطاني عقب عليه القاضي العثماني بقوله: «أمر السلطان لا يخالف، وتجب طاعته»، فانبرى له في الحال أحد الأعضاء المصريين من العلماء، وهو الشيخ سليمان المنصوري، فقال: «يا شيخ الإسلام، هذه المرتبات كانت من فعل نائب السلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شيء جرت به العادة مدة الملوك المتقدمين، وتداوله الناس ورتبوه على خيرات ومساجد وأسبلة، فلا يجوز إبطال ذلك، وإذا بطل بطلت الخيرات، وتعطلت الشعائر المرصد لها ذلك، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يبطله، وإن أمر ولي الأمر بإبطاله لا يسلم له ويخالف أمره؛ لأن ذلك مخالفة للشرع، ولا يسلم للإمام في فعل يخالف الشرع.»
وكان لمعارضة الشيخ أثر قوي، فلم ينفذ أمر السلطان، وعدلت الحكومة عن الأخذ به.
كان هذا الشيخ وأمثاله من العلماء - الذين لا يخشون في الحق لومة لائم - شعارهم دائما الإيمان بالمثل العليا في العدل والحق وأداء الواجب، كما نص عليها وأكدها الإسلام.
ولهذا كان حكام العصر يخشون دائما بأسهم؛ لأن هذا البأس مستمد من قوة الشرع، ومن قوة الشعب الذي يعبرون عن آرائه وحقوقه.
ولهذا أيضا كان معظم الحكام يوقرون هؤلاء العلماء، ويسعون إليهم يسألونهم الرأي والمشورة والنصيحة، ومصداق هذا ما قاله الجبرتي في ترجمته للشيخ محمد بن سالم الحفني؛ فقد وصفه بأنه «كان قطب رحى الديار المصرية، لا يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه ومشورته.»
ومن هذا النوع من العلماء الشيخ علي الصعيدي، وكان معاصرا للأميرين الكبيرين اللذين حاولا أول محاولة للاستقلال عن الدولة العثمانية، وهما: علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وقد كانا يجلان الشيخ ويبجلانه، فإذا دخل عليهما أفسحا له وقبلا يده، ولم يردا له شفاعة، وكان كثير الشفاعة لديهما.
وكان الناس يلجئون إليه دائما بشكاواهم، فيرصدها في ثبت؛ حتى لا ينسى شيئا منها، ثم يذهب بها إلى أبي الذهب، فيجيبه إلى كل ما يطلب، ولا يخالفه في شيء مما يرجوه فيه، وإذا حدث وأبدى شيئا من الامتعاض أو التردد قال له الشيخ: «لا تضجر ولا تأسف على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا؛ فإن الدنيا فانية، وكلنا نموت، ويوم القيامة يسألنا الله عن تأخرنا عن نصحك ، وها نحن نصحناك وخرجنا من العهدة.»
أما إذا امتنع الأمير عن رفع مظلمة من المظالم فإن الشيخ كان يصرخ في وجهه ويقول له: «اتق النار وعذاب جهنم»، ثم يمسك يده ويقول: «أنا خائف على هذه اليد من النار.»
وفي أواخر القرن الثامن عشر في عهد الطاغيتين: مراد وإبراهيم، ثارت خصومة بين رجل فقير من عامة الشعب وأمير من أمراء المماليك، ولجأ الرجل إلى القضاء، فحكم له، فثار الأمير وأرعد وأبرق، وأبى أن يخضع لحكم القانون، وأدرك العلماء أنهم حماة الشرع، فطالبوا باحترام كلمة القانون، وتزعمهم الشيخ الدردير، وأيدهم الشعب في غضبتهم، وقامت مظاهرة خطيرة في شوارع القاهرة، وأغلق التجار حوانيتهم، وكاد الأمر ينتهي إلى فوضى شاملة، لولا أن تداركه بعض العقلاء من الأمراء، فأرسلوا إلى الأمير المغتصب يطلبون إليه النزول عند رأي القانون، فأذعن مضطرا، ولكن العلماء لم يأمنوا لهذا الإذعان، وأصروا على أن يحصلوا على وثيقة تثبت هذا الحق، فكتب صلح رسمي أقر فيه الأمراء بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه الشرع.
وبعد ذلك بقليل اعتدى والي القاهرة على رجل قصاب من أهل الحسينية، وعنف عليه، واشتد في مطالبته بأموال للحكومة، وأراد أن يقبض عليه بغير أمر شرعي، فثار أهل الحسينية ولجئوا إلى الشيخ العروسي، فحمل الشيخ الشكوى إلى الأمراء، وجادلهم في شأنها، وطالبهم بالتزام حدود الشرع، واضطر الأمراء إلى الإذعان، وعزلوا الوالي، وعينوا مكانه واليا جديدا، ونزل الوالي الجديد إلى الأزهر وقابل المشايخ واسترضاهم.
وفي سنة 1209ه/1795م اشتد أحد الأمراء في مطالبة الأهالي في بلبيس بالأموال، ونالهم من شره أذى كثير، فشكوا ما أصابهم إلى الشيخ الشرقاوي، والشيخ من الشرقية، وقد ناله شيء من هذا العنت، فقد كانت له أرض في بلبيس، فسعى بهذه الشكوى إلى مراد وإبراهيم، وأراد أن يمنع الظلم بالحسنى، ولكن الأميرين ركبا رأسيهما، ولم يصنعا شيئا، فدعا الشيخ الناس إلى الثورة، فاستجابوا له، وسادت الفوضى في القاهرة، وكاد الأمر ينتهي إلى ثورة دموية شاملة، وعند ذلك خضع الأمراء! يقول الجبرتي في وصف هذه الأحداث وما انتهت إليه: «فنزل الباشا إلى بيت إبراهيم بك، واجتمع الأمراء هناك، وأرسلوا إلى المشايخ، فختم الشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير ... ودار الكلام وطال الحديث، وانحط الأمر على أنهم (أي الأمراء) تابوا ورجعوا، والتزموا بما شرط العلماء عليهم، وانعقد الصلح على شروط؛ منها ... أن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس ... وأن يسيروا في الناس سيرة حسنة ... وكان القاضي حاضرا بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، وفرمن
1
عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلها إلى مراد بك، فختم عليها أيضا، وانجلت الفتنة ورجع المشايخ، وحول كل منهم وأمامه وخلفه جملة من العامة وهم ينادون ...» (2) الظاهرة الثانية: محاربة البدع والخرافات
أما الظاهرة الثانية فتمثلها الأصوات التي ارتفعت في مصر في القرن الثامن عشر لإلغاء البدع التي أشاعها المتصوفة والمتدروشون، والحقيقة أن البلاد العربية - وخاصة مصر - كانت قد انقلبت في العصر العثماني إلى خانقاه أو تكية كبرى، وانتشرت فيها الطرق الصوفية من كل نوع ولون، والغريب أن مصر لم ينشأ من بنيها شيخ ذو طريقة، وإنما هذه الطرق بعضها ظهر في الشرق، وبعضها ظهر في الغرب، ثم وفدت هذه وتلك إلى مصر، ووجدت في ربوعها وبين أهليها صدرا رحبا، فنمت وترعرعت، وتفرعت إلى طرق فرعية كثيرة، ونتيجة للجهل الفاشي وللفقر المدقع؛ تعلق المصريون من مختلف الطبقات - وخاصة رجال الفلاحة وأصحاب الحرف - بهذه الطرق الصوفية؛ يلتمسون في رحاب الروح وفي نعيم الآخرة الموعود عوضا عن الفقر المادي الذي يعيشون في كنفه، وعن الظلم والعسف والقهر الذي ينزله بهم حكامهم، وقد تطور الحال حتى أصبح كل مجذوب شيخا، وكل معتوه وليا من أولياء الله الصالحين! وفي تاريخ الجبرتي أمثلة كثيرة لهؤلاء.
وقد قامت من قبل خصومة بين الفقهاء والمتصوفة، وظلت هذه الخصومة قائمة في العصر العثماني.
فالفقهاء كانوا يرون أن طريق المعرفة هو الشرع ودراسة القرآن والسنة وعلوم الدين المختلفة؛ من تفسير وحديث وفقه وأصول، أما المتصوفة فكانوا يرون أن طريق المعرفة هو الذوق والزهد والعبادة، والفناء في حب الله سبحانه وتعالى، وقليل من الشيوخ من جمع بين الفقه والتصوف؛ مثل ابن عطاء الله السكندري في القرن الثالث عشر، وعبد الوهاب الشعراني في القرن السادس عشر (في هذا العصر العثماني).
والتصوف في حد ذاته لا خطر منه على المجتمع؛ فهو يدعو إلى رياضة النفس والروح، وإلى التقشف والعبادة، والزهد والفناء في حب الله، وبعض الطرق الصوفية - كالطريقة الشاذلية - لا تدعو إلى التكاسل والتواكل، وإنما تحض على العمل والسعي في طلب الرزق، وإنما نشأت الخطورة منه في العصر العثماني عندما ساد وانتشر حتى ادعى الولاية - كما أسلفنا - كل جاهل وكل مجنون، وعندما غالى المتصوفة في الدفاع عن أنفسهم ومكانتهم وكراماتهم، وأخذوا يكتبون الرسائل في تحذير الناس من الشك في الشيوخ وكراماتهم التي كانوا يدعونها أحياء وأمواتا، والتي كانت تفوق في بعض الأحيان معجزات الأنبياء عليهم السلام، وكل هذا يتعارض ومبادئ الإسلام الصحيحة السمحة اليسيرة، ويفسد عقائد الناس ...
لهذا لم يكن غريبا أن ترتفع الأصوات في الحين بعد الحين لمقاومة هذه البدع التي انتشرت باسم الدين وباسم التصوف، وكان هذا النقد أو هذه المقاومة تتخذ أحيانا شكلا عنيفا، وتتخذ أحيانا أخرى شكل الجدل النظري، وكان يقوم بها تارة الحكام والأجناد، كما كان يقوم بها أحيانا أخرى رجال الفكر من العلماء والفقهاء، والوعاظ والشعراء. (2-1) أمثلة: الشيخ علي البكري وصاحبته
من المجاذيب الذين فشا اعتقاد الناس فيهم: رجل اسمه علي البكري، ترجم له الجبرتي في وفيات سنة 1207ه/1792-1793م، فقال: إنه كان رجلا معتوها، يمشي في الطرقات عاري الرأس مكشوف السوءتين في أغلب الأحوال، أو يسير حافي القدمين وقد لبس قميصا وطاقية، ويخلط في كلامه ويهذي، فيتبعه الأطفال وعامة الناس وهم بين منكر لأحواله ومصدق لولايته، ولكن أكثر الناس قد مالوا إليه، وصحت عندهم ولايته «كما هي عادة أهل مصر في أمثاله» كما يقول الجبرتي.
وكان لعلي البكري أخ صاحب دهاء ومكر، فعمل على استغلال عقيدة الناس في أخيه سعيا وراء الثروة، فمنعه من التجوال في الشوارع، وحجزه في منزله وألبسه ثيابا ، وأظهر للناس أنه أذن له بذلك، وأنه تولى القطبانية، وصدق الناس دعاواه واشتد إيمانهم به، وأقبلوا على زيارته في منزله، والسماع إلى هذيانه وخلطه وتأويل كلامه بما يوافق رغباتهم وما في نفوسهم، وانهالت عليه الخيرات والنذور، وخصه بالبر نساء الأمراء والأكابر، حتى أثرى أخوه واغتنى، يقول الجبرتي: «ونفقت سلعته وصادت شبكته، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة، حتى صار مثل البو العظيم.»
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشيخ في أوقات تجواله تبعته امرأة معتوهة لا تقل عنه خبلا، ولزمته في تنقله وتجواله، وسرعان ما آمن الناس بها أيضا، واعتقدوا في ولايتها، وأشاعوا أن الشيخ قد «لحظها وجذبها» فأصبحت مثله من الأولياء الصالحين، ثم ارتقت درجة أخرى من درجات الجذب، فخرجت معه إلى الشارع في زي الرجال، يتبعهما أنى سارا الجم الغفير من الفقراء والعامة والأطفال الصغار، ومنهم - كما يقول الجبرتي - من اقتدى بهما «ونزع ثيابه وتحنجل في مشيته»، فقيل: إن الشيخ قد جذبه أو مسه، فصار وليا! وكانت المرأة ترقى أحيانا على درج عال، وتفحش في القول، فيزداد إيمان الناس بها، ويتزاحمون على تقبيل يدها؛ تبركا بها!
وتفاقم الحال وكثر أتباع الرجل والمرأة حتى كانا إذا مرا بشارع كثر الضجيج وعلت الأصوات، واجترأ أتباعه فنهبوا الدكاكين، واستولوا على ما فيها من متاع وبضاعة، ومر هذا الموكب يوما ببيت جندي يدعى جعفر كاشف، فقبض على الشيخ وأدخله إلى داره ومعه المرأة وسائر المجاذيب، ثم طرد الناس الملتفين حوله، وقدم له ما يأكله، ثم أطلقه بعد ذلك إلى حال سبيله، أما المرأة والمجاذيب فقد أخذ يضربهم حتى طير الولاية من رءوسهم، ثم أطلق سراح المجاذيب، وأرسل المرأة إلى المارستان، وربطها عند المجانين.
ورغم هذا فقد ظل الناس يؤمنون بولاية الشيخ ورفيقته حتى بعد موتهما؛ فقد توفي الشيخ في سنة 1207ه، فأقام أخوه على قبره مقصورة ومقاما، ورتب له المقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين، يتغنون بكراماته وأوصافه في قصائدهم، وكان هؤلاء المريدون - كما يقول الجبرتي: «يتواجدون ويتصايحون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في عبابهم وجيوبهم.»
أما المرأة فقد لبثت في المارستان وقتا ما، ثم أطلق سراحها، فخرجت إلى الشوارع، وإذا بها «شيخة على انفرادها» يعتقد الناس في ولايتها، ويؤمن النساء - بوجه خاص - في كراماتها، وبعد مماتها أقيمت لها الموالد، وقدمت لها الهدايا والنذور. (2-2) العنزة المباركة
كان ادعاء الولاية إذن طريقا سهلا ميسورا لاصطناع الغنى واجتلاب الثروات، في وقت فشا فيه الفقر واشتد الضيق بالناس، وقد يكون هذا سببا من أهم أسباب انتشار التصوف وكثرة المجاذيب والدراويش، ولكن الناس تغالوا في هذا الباب حتى نسبوا الولاية والكرامات إلى الحيوانات، فعل هذا كبير خدام مشهد السيدة نفيسة؛ فقد أتى هذا الرجل بعنزة، وادعى أن السيدة أوصت بها خيرا حتى أصبحت تأتي بالكرامات، وشاع خبر العنزة، فآمن الناس بها وبما قاله الشيخ فيها، وصاروا يهدون إليها الهدايا من الفستق واللوز والسكر وماء الورد، وعمل النساء لها قلائد وأساور وحليا من الذهب، وتزاحم الناس ونساء الأمراء والكبراء على زيارتها والتبرك بها.
وسمع الأمير عبد الرحمن كتخدا بخبرها، فأرسل يستدعي الشيخ وعنزته بدعوى أنه يريد التبرك بها هو وحريمه، فركب الرجل - والعنزة في حجره - وسار في موكب حافل تتقدمه الطبول والزمور، وتحيط به البيارق والجم الغفير من الناس، إلى أن وصل إلى منزل الأمير، فاحتفى به، وأدخل العنزة إلى الحريم ليتبرك بها نساؤه، ثم أمر بذبحها وأطعم صاحبها من لحمها، ولما أراد الانصراف طلب العنزة فعرفه أنها هي التي أكل لحمها، ثم وبخه وأنبه على فعلته، وأمر أن يعاد إلى بيته في موكب حافل، ولكن شتان بين الموكبين؛ فقد وضع جلد العنزة على عمامة الشيخ، والطبول والزمور تزفه، والناس يسخرون منه إلى أن وصل إلى داره. (2-3) محاولات سلبية للإصلاح
عنف رفيق
هذه أمثلة للمقاومة العنيفة، ولكنه عنف - كما نرى - كان رفيقا غاية الرفق لم يزد على ضرب بعض المجاذيب، أو إلحاق امرأة بالمارستان، أو ذبح العنزة صاحبة الولاية والكرامات، ويدخل في هذا الباب ما فعله نابليون ؛ فقد هال الرجل ما رآه من هوس هؤلاء المجاذيب، فاستفتى علماء مصر في شعبان سنة 1215ه في أمر الفقراء الذين يدورون في الأسواق، ويكشفون عوراتهم ويصرخون ويدعون الولاية ويعتقدهم العوام، وهم مع هذا لا يصلون صلاة المسلمين ولا يصومون، وسأل العلماء رأي الإسلام في جواز مسلكهم هذا أو تحريمه، فأجاب الفقهاء بأن هذا كله حرام ومخالف لديننا وشرعنا وسنتنا، فشكرهم نابليون على فتواهم، وأمر رجال الإدارة بتتبع هؤلاء الفقراء والقبض عليهم، فمن كان منهم مجنونا ربط بالمارستان، ومن كان كامل الرشد نفي من البلد إن أبى تغيير مسلكه.
فتاوى الفقهاء
وهذه الفتوى التي أصدرها العلماء تشرح - في وضوح - موقفهم من التصوف والمتصوفة، وهي خير دليل على الخصومة التي كانت قائمة بين الفريقين، وقد اتخذت هذه الخصومة - كما أسلفنا - أشكالا أخرى، لعل أبرزها وأوضحها تلك الفتاوى أو الرسائل التي ألفها علماء هذا العصر لنقد المتصوفة وتجريحهم والحط من شأنهم، ومن أمثلة هذه الفتاوى والرسائل الفتوى التي أصدرها الشيخ علي الصعيدي في سنة 1197ه ردا على سؤال وجه إليه بصدد طريقة الذكر عند طائفة المطاوعة التي كان يتخذ فقراؤها المغنين والأعلام والطبول، ويستعملون السبح الكبيرة والملاحف والسراويل، يضعها الغلمان الذين يجلسون خلف الذاكرين فوق رءوسهم أو يمسكون بها ظهورهم ... وغير ذلك من البدع.
ومن الرسائل تلك الرسالة التي كتبها الشيخ محمد صفي الدين الحنفي في سنة 1105ه وأسماها «الصاعقة المحرقة»، وهاجم فيها التصوف وأهله هجوما عنيفا، وخاصة أولئك الفقراء الذين اتخذوا الرقص واللعب دينا وخلطوهما بالعبادة، وراحوا في حلقات الذكر يدورون مركبين أيديهم إلى وراء، وقداء رءوسهم بالتصعيد والتسفيل والتلوي على هيئة معروفة في لعبة «ركض الديك» عند النصارى.
صوت المجتمع والشعر
ومن الأصوات التي ارتفعت للتنديد بهذا النفر من مدعي الولاية صوت الشعر، وكثيرا ما كان الشعر ترجمانا لأحوال المجتمع ولأحداث السياسة، وقد عاش في مصر في القرن الثامن عشر شاعر مجيد اسمه حسن البدري الحجازي، وكان هذا الشاعر شديد الانفعال لما يحدث حوله، وفي المقطوعات الكثيرة التي نقلها عنه الجبرتي في تاريخه صور جميلة للحياتين: السياسية والاجتماعية في مصر على عهده، وهو في كثير من هذه المقطوعات يضج بالشكوى من أدعياء العلم الجهلة، ومن أدعياء التصوف المجاذيب، قال تعقيبا على حادث الشيخ علي البكري سالف الذكر:
ليتنا لم نعش إلى أن رأينا
كل ذي جنة لدى الناس قطبا
علما هم به يلوذون بل قد
تخذوه من دون ذي العرش ربا
إذ نسوا الله قائلين: فلان - عن جميع الأنام - يفرج كربا
وإذا مات يجعلوه مزارا
وله يهرعون عجما وعربا
بعضهم قبل الضريح وبعض
عتب الباب قبلوه وتربا
هكذا المشركون تفعل مع أص
نامهم تبتغي بذلك قربا
وأولو العلم والقران عليهم
صب سوط العذاب والمقت صبا
إذ رموهم بالفسق والزور والجو
ر وظلم العباد سلبا ونهبا
كل ذا من عمى البصيرة والوي
ل لشخص أعمى له الله قلبا
والحجازي من سمي حسنا ين
ظر ما خالف الشريعة صعبا
فالحذار الحذار من فعل أهل ال
جهل لو عالما يدرس كتبا
جعل العلم فخ صيد لدنيا
ه فساوى في صنعة السوء كلبا
لا، بل الكلب منه خير؛ إذ الكل
ب عديم العقاب في يوم عقبى
وللبدري الحجازي قصيدة أخرى أشد عنفا هاجم فيها مدعي الولاية بوجه عام؛ قال:
احذر أولي التسبيح والسبحة
والصوف والعكاز والشملة
والدلق والأبريق لا سيما
شيوخ إبليس أولي الشعرة
حوت أباليس بتعداد ما
حوت شعورا بل بلا عدة
والمكر فات الحصر كالبحر، بل
يعد فيه البحر كالقطرة
فصار إبليس لهم تابعا
يقول: يا للعون والنجدة
مما حويتم علموني؛ فما
لي عنكم في المكر من غنية
لكم قيادي وانقيادي وما
مثلكم في الناد والندوة
بملء أفواه ينادون: يا
أهل الوفا، يا صاحب النوبة
يا شافعي يا قطب يا رافعي
يا للرفاعي يا بني الرفعة
يا سيدي أحمد يا أوليا
ء الكون عينونا على الحملة
ذو كرة والمال يبغون، ما
لهم بغير المال من بغية
لكنهم في الفسق أرقى الورى
كما ترى من غير ما مرية
والقصيدة طويلة، نكتفي منها بهذا القدر . (2-4) محاولة إيجابية للإصلاح
في هذه الأمثلة جميعا كان الاستنكار سلبيا، ومع هذا فقد أشار الجبرتي إلى محاولة إيجابية واحدة لمحاربة البدع والقضاء عليها، كان صاحب هذه المحاولة واعظا روميا (أي تركي الأصل)، وكان يعقد مجالس وعظه في جامع المؤيد.
وفي ليلة من ليالي رمضان سنة 1123ه/1711م بعد أن انتهى من وعظه بدأ ينتقد «ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء، وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم» وقال: إن «فعل ذلك كفر يجب على الناس تركه، وعلى ولاة الأمور السعي في إبطال ذلك، «وذكر أيضا قول الشعراني في طبقاته: إن بعض الأولياء اطلع على اللوح المحفوظ! أنه لا يجوز ذلك، ولا تطلع الأنبياء - فضلا عن الأولياء - على اللوح المحفوظ، وأنه لا يجوز بناء القباب على ضرائح الأولياء والتكايا، ويجب هدم ذلك، وذكر أيضا وقوف الفقراء بباب زويلة في ليالي رمضان.»
إن ما قاله هذا الواعظ وما دعا إليه كان جديدا، وكان جريئا، وخاصة في ذلك العصر، لقد سبق محمد بن عبد الوهاب بثلاث وثلاثين سنة؛ فقد بدأ ابن عبد الوهاب دعوته حوالي سنة 1744م، أما هذا الواعظ فقد نادى بنفس الآراء في سنة 1123ه/1711م.
وقد استجاب المستمعون في مسجد المؤيد لدعواه، وأراد الرجل أن يفعل ما فعله ابن عبد الوهاب؛ أن يقوم المنكر بيده ولسانه جميعا، فخرج ووراءه أتباعه بعد صلاة التراويح، ووقفوا جميعا بالنبابيت والأسلحة على باب زويلة، «فهرب الذين يقفون به، فقطعوا الجوخ والأكر المعلقة، وهم يقولون: أين الأولياء؟!»
بدأت عروش الأولياء والشيوخ إذن تهتز، ولم يعد الأمر فتوى تصدر أو شعرا ينظم، بل أصبح نبوتا يصدع الرأس، أو سلاحا يقتل، عند ذلك أسرع العامة المفتونون بمشايخهم إلى علماء الأزهر يسألونهم الفتوى في أمر هذا الواعظ وما يقول، ومن العجيب أن شيوخ الأزهر هم الذين حاربوا هذه الدعوى وقضوا عليها! ولكنني لا أرى في هذا عجبا؛ فإن شيوخ الأزهر لم يكونوا جميعا من المعادين للتصوف، بل كان بعضهم يجمع - كما قلنا - بين علمي: الشريعة والتصوف، وكان الكثيرون منهم - وهذا أهم - خطباء أو أئمة أو وعاظا أو مدرسين في الزوايا والجوامع، وكانت لهم من أوقافها مرتبات وجامكيات تدر عليهم الرزق الوفير، كما كانت لهم أنصبة أخرى من الهدايا والنذور التي تقدم لأصحاب الأضرحة، وهم بعد هذا كله موظفون في الدولة، تربطهم بها روابط الولاء، ومن العسير عليهم أن يستجيبوا للثورة أو يسيروا في ركابها.
وأصدر شيخان من شيوخ الأزهر - هما: الشيخ أحمد النفراوي والشيخ أحمد الخليفي - فتوى ينقضان فيها رأي هذا الواعظ، ويطلبان من الوالي زجره على ما قال.
وحمل الناس هذه الفتوى إلى الواعظ في مجلس وعظه، فقرأها، ولكنه غضب وثار، وقال: إن كان العلماء أفتوا بغير ما قلت فليأتوا لمجادلتي في مجلس القاضي! ثم وجه خطابه إلى أتباعه وقال: «فهل منكم من يساعدني على ذلك وينصر الحق؟» فكانت إجابة أنصاره: «نحن معك، لا نفارقك.»
وترك الواعظ كرسي وعظه، وخرج من المسجد وحوله جماعة من أنصاره يزيدون على الألف ، وتقدم بهم في شوارع القاهرة إلى أن وصل إلى بيت القاضي؛ وانزعج القاضي واضطرب عندما رأى هذا الجمع المحتشد، وسألهم عما يريدون. فقالوا: «نريد أن تحضر اللذين أصدرا هذه الفتوى؛ لنباحثهما أمامك» فقال القاضي لمن يخاطبه: «اصرفوا هؤلاء الجموع ثم نحضرهما ونستمع إلى مجادلتكم معهم»، ولكن أحدا لم ينصرف، بل التفوا جميعا حول القاضي وقالوا له: «ماذا تقول أنت في هذه الفتوى؟»
وخشي القاضي بأس المتظاهرين، فأنكر الفتوى وقال: «هي باطلة»، غير أنهم لم يقنعوا بهذا الإنكار الشفوي، وطلبوا منه أن يسجل إنكاره هذا كتابة، ولكن القاضي لم يكن يعني ما يقول وإنما هو أراد أن يتخلص من هؤلاء الثائرين المتظاهرين؛ لهذا لم يلبث أن انتحل عذرا آخر، فقال لهم: «إن الوقت قد ضاق والشهود قد خرجوا، فلنترك ذلك إلى غد.»
عند ذلك اشتدت ثورة المتظاهرين، وكان الترجمان هو الذي ينقل الحديث بينهم وبين القاضي (فقد كان القاضي تركيا لا يفهم العربية)، فانقضوا عليه وضربوه، وانتهز القاضي الفرصة ففر هو وحريمه، ولم يترك الناس نائب القاضي حتى كتب لهم حجة بصواب رأي الواعظ وخطأ رأي الشيخين: النفراوي والخليفي.
ولم تنته الفتنة عند هذا الحد؛ فقد ذهب الناس بعد ذلك بأيام إلى مسجد المؤيد؛ ليحضروا درس وعظهم فلم يجدوه، وسرت شائعة أن القاضي منعه من الوعظ! يقول الجبرتي: «فقام رجل منهم وقال: أيها الناس، من أراد أن ينصر الحق فليقم معي، فتبعه الجمع الغفير، فمضى بهم إلى مجلس القاضي، فلما رآهم القاضي ومن في المحكمة طارت عقولهم من الخوف، وفر من بها من الشهود ولم يبق إلا القاضي، فدخلوا عليه، وقالوا له: أين شيخنا؟
فقال: لا أدري.
فقالوا له: قم واركب معنا إلى الديوان، ونكلم الباشا في هذا الأمر، ونسأله أن يحضر لنا أخصامنا الذين أفتوا بقتل شيخنا، ونتباحث معهم، فإن أثبتوا دعواهم نجوا من أيدينا وإلا قتلناهم.
فركب القاضي معهم مكرها، وتبعوه من خلفه وأمامه إلى أن طلعوا إلى الديوان، فسأله الباشا عن سبب حضوره في غير وقته، فقال: انظر إلى هؤلاء الذين ملئوا الديوان والحوش، فهم الذين أتوا بي.
وعرفه عن قصتهم.»
وهال الباشا ما رآه من تجمع الناس وغضبهم، وخشي شرهم إن هو عارض رأيهم، فأصدر أمره بأن يحضر الشيخان لمناقشة الواعظ، وخرج الناس فأحضروا شيخهم وأجلسوه على كرسي وعظه بجامع المؤيد، واتفق معهم على أن يأتوه بالشيخين في اليوم التالي؛ ليذهبوا جميعا إلى القاضي، ويناقشوا الأمر أمامه.
غير أن الباشا لم يكن جادا في أمره، وإنما هو أراد أن يتقي شرهم، فلما خرجوا أرسل رسالة إلى إبراهيم بك وقيطاس بك «يعرفهم ما حصل وما فعله العامة من سوء الأدب، وقصدهم تحريك الفتن، وتحقيرنا نحن والقاضي» وختم رسالته بتهديد الأميرين بأنه سيغادر مصر هو والقاضي إن لم يعملا على وضع حد لهذه الفتنة، قال: «وقد عزمت أنا والقاضي على السفر من البلد.»
وأدرك الأمراء المماليك خطورة الموقف، فأصدروا أمرهم بنفي الواعظ خارج مصر، وتفرق أنصاره، فقد صدر الأمر أيضا إلى الأغا «أن يركب، ومن رآه منهم قبض عليه، وأن يدخل جامع المؤيد، ويطرد من يسكنه من السقط.»
وهكذا شهدت مصر أول حركة إصلاحية في القرن الثامن عشر، ولكنها لم تدم إلا أياما قليلة، ولم يكتب لها النجاح؛ فإن المجتمع المصري لم يكن مستعدا بعد لتقبل هذه الدعوى، ومن المؤسف حقا أن الجبرتي لم يزدنا علما بها، فلم يذكر لنا اسم هذا الواعظ أو شيئا من سيرته: أين نشأ؟ وأين تعلم؟ ومن شيوخه؟ وكيف كان نوع ثقافته؟ وبمن تأثر في دعواه؟ هل كان كخلفه ابن عبد الوهاب متأثرا بآراء ابن تيمية أو كانت حركته رد فعل طبيعيا لما كان يراه في القاهرة وغيرها من مدن مصر من انتشار للبدع والشعوذة والخرافات؟ كل ذلك لا نعلم عنه شيئا! (3) الظاهرة الثالثة: نهضة ثقافية تلقائية
أما الظاهرة الثالثة فكانت تمثلها نهضة ثقافية علمية، بدأت تباشيرها تظهر في مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت هذه النهضة تلقائية، بمعنى أنها نبتت نباتا داخليا في مصر، ولم تكن متأثرة بأي مؤثر خارجي شرقي أو غربي، وكان يمثلها مجموعة من رجال الفكر المصريين لم تعرف مصر شبيها لهم في القرون الثلاثة السابقة؛ ففي ميدان الدراسات الرياضية والفلكية ظهر الشيخ حسن الجبرتي، وفي ميدان الشعر والنثر ظهر رجال كالشيخ محمد الشبراوي والشيخ حسن العطار - وقد وليا مشيخة الأزهر - والشيخ إسماعيل الخشاب، وفي التاريخ ظهر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وفي ميدان الدراسات اللغوية والدينية ظهر السيد محمد مرتضى الزبيدي، وكان من الممكن أن تسير هذه النهضة في طريقها وتتطور تطورا طبيعيا، وأغلب الظن أن هذا التطور كان سيأخذ شكلا بعثيا إحيائيا، بمعنى أن هذه النهضة كانت ستعمل على بعث أمجاد الماضي العلمية، ونشر التراث القديم.
غير أن النهضة التلقائية أصيبت بقطع أو انفصال وقتي عند مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر؛ فقد أتى مع الحملة عدد من العلماء الفرنسيين، وكان هؤلاء العلماء، بل كانت الحملة كلها تحمل معها إلى مصر مظاهر نهضة علمية مختلفة عن مظاهر النهضة المصرية اختلافا بينا في كل شيء. وزار نفر من العلماء المصريين المعهد الذي أنشأه العلماء الفرنسيون في القاهرة ، وزاروا المكتبة والمطبعة، وبهرهم ما رأوا، وبدءوا يفكرون ويقارنون بين ما في أيديهم من علم وما في أيدي هؤلاء الفرنسيين من علم.
2
وجلت الحملة عن مصر وحدثت اضطرابات، واستقر الأمر لمحمد علي واليا على مصر، وأدرك النظام الجديد أنه لا بد من النقل عن الغرب إذا كانت مصر تريد نهضة حقيقية تساير بها العالم، وفتحت المدارس الجديدة، وأرسلت البعثات إلى أوروبا، ووقفت حركة التأليف مؤقتا؛ لتبدأ حركة الترجمة،
3
ولتستمر طوال عصر محمد علي.
وخير من يمثل هذه النهضة الفكرية الثقافية الجديدة في مصر هو السيد محمد مرتضى الزبيدي، وخير من يمثلها في الشام هو الشيخ عبد الغني النابلسي، وسنحاول فيما يلي أن نرسم صورة لسيرة كل واحد منهما، ولجهوده العلمية.
الفصل الثالث
السيد محمد مرتضى - الحسيني الزبيدي
1145-1205ه/1732-1791م (1) السيد محمد نموذج المواطن المسلم في عصره
رسم له تلميذه عبد الرحمن الجبرتي في مفتتح ترجمته له صورة جامعة مانعة، فقال: هو «شيخنا علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، الذي جاب في اللغة والحديث كل فج، وخاض من العلم كل لج ... الرحالة النسابة، الفقيه المحدث، اللغوي النحوي الأصولي، الناظم الناثر، الشيخ أبو الفيض، السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق، الشهير بمرتضى، الحسيني الزبيدي.»
والحقيقة أن السيد مرتضى خير نموذج يمثل ثقافة العالم الإسلامي في عصره، تلك الثقافة التي كان قوامها الدراسات اللغوية والدينية بجميع فروعها؛ فهو - كما نص الجبرتي - لغوي ونحوي، وناظم وناثر، وهو فقيه ومحدث، وأصولي ونسابة، وهو بعد هذا كله رحالة، يذرع البلاد الإسلامية طولا وعرضا في طلب العلم، وتلك كانت كذلك شيمة معظم العلماء المسلمين في عصره، وفي الأعصر السابقة.
ولكنه امتاز عن علماء عصره بميزات كثيرة؛ فكان متوقد الذهن شديد الذكاء غزير العلم متعدد الثقافة، دءوبا على العمل وافر الإنتاج، وقد حاول أن يخرج بدروسه ومؤلفاته عن منطقة الجمود الفكري التي سادت العصر، وأن يجدد فيما يقول وفيما يكتب، ولكنه كان في تجديده سلفيا، وما كان يستطيع أن يكون غير ذلك، فكان يحاول أن يحيي طريقة السلف الصالح في دراسة الحديث، كما بدأ يختار لدروسه كتبا من الأصول الهامة التي كتبت في العصور السابقة المزدهرة. وكان السيد مرتضى إلى هذا مدرسا ناجحا كأحسن ما يكون المدرس الناجح، يجيد التعبير ويحسن العرض والشرح والمناقشة، فكان - كما وصفه تلميذه الجبرتي بحق - «علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام.»
والسيد مرتضى يعتبر مرة أخرى خير نموذج للمواطن المسلم؛ فقد كان العالم الإسلامي إلى عصره - وقبل أن يفتته الاستعمار الأوروبي إلى دول متفرقة - يعتبر وطنا واحدا، وكان أي مواطن - وخاصة إذا كان عالما - يستطيع أن ينتقل من بلد إلى بلد دون حرج؛ فقد يولد العالم في إقليم، ويتلقى العلم في إقليم ثان، ويعيش في إقليم ثالث، ثم يموت في إقليم رابع، فهو يلقى الترحاب في كل هذه الأقاليم؛ لأنها جميعا تكون الوطن الإسلامي الأكبر.
هكذا كان السيد محمد؛ فهو - كما يصفه الكتاني في فهرس الفهارس: «واسطي عراقي أصلا، هندي مولدا، زبيدي علما وشهرة، مصري إقامة ووفاة ، حنفي مذهبا، قادري إرادة، نقشبندي سلوكا، أشعري عقيدة.»
فأسرة الزبيدي عراقية الأصل من مدينة واسط، ثم ارتحلت إلى الهند، والرحلة المتبادلة بين الهند الإسلامية والبلاد العربية - وخاصة العراق والجزيرة العربية - لم تكن شيئا غريبا في تلك العصور، ولا نعرف متى رحلت هذه الأسرة، ولكننا نعرف أنها استقرت في «بلجرام» وهي قصبة على خمسة فراسخ من قنوج وراء نهر الجانج، وبها ولد صاحبنا محمد في سنة 1145ه/1732م.
وكانت أسرته أسرة علم؛ فإن من جدوده من كان قطبا، ومنهم من كان وليا صالحا، ومنهم من كان محدثا كبيرا، فقد قال الكتاني في التعريف به: «... محمد بن أبي الغلام محمد، ابن القطب أبي عبد الله محمد، ابن الولي الصالح الخطيب أبي الضياء محمد، ابن عبد الرزاق الحسيني، من قبيل أبي عبد الله محمد المحدث الكبير ...» (1-1) دراسته الأولى في الهند وتتلمذه لشاه ولي الله
وفي الهند تلقى السيد محمد دروسه الأولى، فتتلمذ على المحدث محمد فاخر الألهابادي، وعلى العالم المصلح المجدد شاه ولي الله دهلوي، فسمع عليه الحديث وأجازه.
لقد كانت في الهند حينذاك نهضة دينية تجديدية، يتزعمها شاه ولي الله،
1
فقد كان المذهب الحنفي هو المذهب المعتمد عند مسلمي الهند، وكانت كتب هذا المذهب تؤخذ على علاتها، لا يجرؤ أحد على معارضتها أو مناقشتها، ولكن شاه ولي الله درس المذاهب المختلفة، ولم يرضه هذا الجمود وهذا التقليد الأعمى، فبدأ يدعو مواطنيه إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، وإلى ترك التقليد الجامد، وأن ينظروا إلى أقوال الفقهاء بعين البحث والتحقيق، وشرح لهم مسألة الاجتهاد والتقليد، وأسباب اختلاف المجتهدين، وكان في دعواه وفي دروسه وفي مؤلفاته يسعى دائما للتوفيق بين مذاهب الأئمة، فإن تعذر عليه ذلك أخذ ما يوافق الأحاديث الصحيحة، ورجحه على غيره، وقد طبق طريقته هذه تطبيقا ناجحا في كتابه الرائع: «حجة الله البالغة»، وفي كتيبه الصغير: «الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف».
كان لتلمذة الزبيدي إذن في شبابه الأول على هذا المصلح الكبير أثر جد خطير في تكوينه الفكري؛ فقد تأثر به وبطريقته وبمنهجه، وعني كما عني أستاذه بالحديث، وتعمق في دراسته ودراسة كل العلوم المتصلة به؛ من أنساب ولغة، وفقه وأصول. (1-2) أساتذته في زبيد وبلاد العرب
وغادر السيد محمد الهند إلى اليمن في سن مبكرة، وأغلب الظن أنه قام برحلته هذه وهو في الخامسة عشرة من عمره أو نحوها؛ فإن من ترجموا له ذكروا أنه اجتمع بالشيخ عبد الله الميرغني أول مرة في مكة سنة 1163ه، أي وهو في الثامنة عشرة، وفي اليمن استقر السيد محمد في مدينة زبيد، وكانت زبيد منذ فجر الإسلام مركزا من أهم المراكز العلمية، نبغ فيها عدد من كبار العلماء، وإليها ينتسبون.
2
كانت زبيد المدرسة الثانية التي أكمل فيها السيد محمد دراساته؛ فقد أخذ عن الكثيرين من علمائها، وخاصة أستاذه العالم اللغوي رضي الدين عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي الزبيدي، ومنذ هذه المرحلة بدأ ينضم إلى سلسلة العلماء المنتسبين إلى زبيد، فلم ينسب إلى موطن أسرته العراق، ولم ينسب إلى موطنه الثاني الذي ولد فيه؛ الهند، وإنما نسب إلى موطنه العلمي الذي أتم فيه دراسته، وأصبح يعرف بعد ذلك بالسيد محمد مرتضى الزبيدي.
وكان السيد محمد أثناء مقامه في زبيد دائم التردد على الحجاز؛ بغية القيام بفريضة الحج، وللأخذ عن علماء مكة والمدينة، وقد كان الحجاز يعج في ذلك الوقت بالعلماء الوافدين إليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وكان الكثيرون منهم يؤثرون المجاورة والاستقرار هناك، وعدم العودة إلى أوطانهم.
وقد تتلمذ الزبيدي على مشاهير هؤلاء العلماء، حتى إن الكتاني يذكر أن شيوخه في هذين القطرين - اليمن والحجاز - يزيدون على ثلاثمائة، وقال هو عن نفسه في ألفيته:
وقل أن ترى كتابا يعتمد
إلا ولي فيه اتصال بالسند
أو عالما إلا ولي إليه
وسائط توقفني عليه
وقد أشار الجبرتي إلى بعضهم وهم: الشيخ عبد الله السندي، والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي، والشيخ عبد الله السقاف، والمسند محمد بن علاء الدين المزجاجي ... إلخ.
وإذا كان الزبيدي قد تلقى العلم عن هذا العدد الكبير من العلماء فإنه لم يتأثر في تكوينه العلمي إلا بعدد قليل منهم، وإلى هذه القلة يرجع الفضل في توجيهه إلى الدراسات التي فرغ لها وشغف بها، وصرف بقية حياته وخلاصة جهوده لإتقانها والتأليف فيها.
من هؤلاء العلماء العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن الطيب الفاسي، ذكره الزبيدي في مقدمته لتاج العروس عند تعداد من سبقه من العلماء الذين شرحوا القاموس، وقرظ شرحه وقال: إنه كان عمدته ومرجعه في هذا الفن، قال: «ومن أجمع ما كتب عليه (أي القاموس) مما سمعت ورأيت: شرح شيخنا الإمام اللغوي أبي عبد الله محمد بن الطيب بن محمد الفاسي، المتولد بفاس سنة 1110ه، والمتوفى بالمدينة المنورة سنة 1170ه، وهو عمدتي في هذا الفن، والمقلد جيدي العاطل بحلي تقريره المستحسن، وشرحه هذا عندي في مجلدين ضخمين ...»
ومنهم العالم اللغوي المحدث رضي الدين عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي الزبيدي، ذكره السيد مرتضى في مقدمة التاج عند تعداد الأسانيد التي تصل بينه وبين مؤلف القاموس، قال: «حدثنا شيخنا الإمام الفقيه اللغوي رضي الدين عبد الخالق بن أبي بكر الزين بن النمري المزجاجي الزبيدي الحنفي، وذلك بمدينة زبيد - حرسها الله تعالى - بحضور جمع الفقهاء بقراءتي عليه قدر الثلث، وسماعي له فيما قرئ عليه في بعض منه ... إلخ» ثم ينقل الإسناد بعد ذلك من شيخ إلى شيخ إلى أن يصل إلى مؤلف القاموس.
ومنهم العالم الصوفي الكبير السيد عبد الله الميرغني، وقد ترجم له الجبرتي، فذكر أنه ولد بمكة وبها نشأ، وحضر دروس بعض علمائها، واجتمع بقطب زمانه السيد يوسف المهدلي، فانتسب إليه ولازمه، وتفرغ بعد ذلك للعبادة، وكانت له كرامات كثيرة، وقد اجتمع به السيد مرتضى عند زيارته الأولى لمكة سنة 1163ه، فأعجب به ولازمه وأخذ عنه، وطلب منه الإجازة وإسناد كتب الحديث.
وقد حدث خلاف بين السيد عبد الله ميرغني وبين أهل مكة في سنة 1166ه فآثر أن يترك مكة، وانتقل إلى الطائف بأهله وعياله، وألف في هذا الحادث كتابه: «السهم الراحض في نحر الرافض».
وفي هذه السنة خرج الزبيدي من اليمن قاصدا الحجاز، ولكنه في هذه المرة لم يقم بمكة، وإنما اتجه إلى الطائف لزيارة أستاذه السيد عبد الله، ولازمه هناك مدة أخرى، ويقول الجبرتي: إنه قرأ عليه في هذه المرة كتبا في الفقه وكثيرا من مؤلفاته، وأجازه.
وقد توفي السيد عبد الله
3
في سنة 1207ه/1792-1793م، وهو جد السيد محمد عثمان الميرغني مؤسس الطريقة الميرغنية التي انتشرت بعد ذلك في مصر والسودان والحبشة خلال القرن التاسع عشر.
وللسيد عبد الله مؤلفات كثيرة، ذكرها الجبرتي في ترجمته له، ومن بينها كتاب شرحه الزبيدي فيما بعد، قال الجبرتي: «ومن مؤلفاته: فرائض واجبات الإسلام لعامة المؤمنين، وشرحها شيخنا المذكور (أي الزبيدي) شرحا نفيسا.»
وكان السيد مرتضى أكثر تأثرا في هذه الفترة بشيخه وأستاذه الشيخ عبد الرحمن العيدروس.
4
والعيدروس من أكبر علماء القرن الثامن عشر، ويجمع بينه وبين الزبيدي أوجه شبه كثيرة؛ فإن أسرته بعضها كان يسكن الهند وبعضها يقيم في اليمن، ومن جدوده من كان خطيبا أو وليا صالحا، ولبعضهم مقامات ومزارات في الهند، وقد ولد عبد الرحمن في تريم ببلاد اليمن، وبها نشأ ودرس، ثم سافر إلى الهند في صحبة والده في سنة 1153ه، فزار كثيرا من مدنها، وأقام هناك نحو عشر سنوات، ثم عاد إلى مكة وزار الطائف، ورحل إلى مصر، فأحسن أهلها استقباله، وزار بعد ذلك دمشق، ونزل هناك ضيفا على أسرة المرادي المشهورة.
وفي سنة 1191ه زار الأستانة، فلقي إقبالا وترحيبا، ورتبت له الدولة راتبا يصرفه في مصر، ومر في طريق عودته بمدينة صيدا حيث تعرف على واليها أحمد باشا الجزار، ثم عاد إلى مصر التي اتخذها دار مقام، وتعددت رحلاته إلى مدن الصعيد والوجه البحري، وحج سبع عشرة مرة، وتوفي بالقاهرة.
وصفه المرادي بأنه «الأستاذ العارف الكامل العالم العامل، أحد الأولياء الراسخين والأصفياء العارفين، العلامة الحبر النحرير، صاحب الكرامات والمكاشفات مربي المريدين ومرشد السالكين، قطب العارفين أبو الفضل وجيه الدين.»
وللعيدروس مؤلفات كثيرة، معظمها في الشعر أو التصوف، وأهمها: منظومة سماها: «العرف العاطر، في معرفة الخواطر، وغيرها من الجواهر» وله شرح عليها، و«فتح الرحمن، بشرح صلاة أبي الفتيان»، ورسالتان في الطريقة النقشبندية، وديوان شعر سماه «ترويح البال، وتهييج البلبال»، وديوان شعر آخر سماه «تنميق الأسفار»، وقد روى فيه ما جرى له مع إخوان الأدب في أسفاره المختلفة. (1-3) سفره إلى مصر
وقد لازم الزبيدي شيخه العيدروس أثناء زياراته لمكة ومقامه بها، وقرأ عليه مختصر السعد وطرفا من الإحياء، وألبسه الخرقة، وأجازه بمروياته.
قال الزبيدي: «وهو الذي شوقني إلى دخول مصر بما وصفه لي من علمائها وأمرائها وأدبائها، وما فيها من المشاهد الكرام، فاشتاقت نفسي لرؤياها، وحضرت مع الركب، وكان الذي كان.»
وكان حضوره إلى مصر في التاسع من صفر سنة 1167ه، وسكن بخان الصاغة.
يقول الجبرتي: وكان «أول من عاشره وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر، وحضر دروس أشياخ الوقت؛ مثل الشيخ: أحمد الملوي، والجوهري، والحفني، والبليدي، والصعيدي، والمدابغي، وغيرهم، وتلقى عنهم، وأجازوه وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه.»
واتصل السيد محمد مرتضى بأعيان مصر وكبار رجالها وأمرائها، «واعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا عزبان ووالاه بره، حتى راج أمره، وترونق حاله، واشتهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة، وركب الخيول المسومة.»
وبدأ السيد محمد - مدفوعا بحبه للرحلة، ونهمه للاستزادة من العلم - يتنقل في أنحاء مصر، فسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابر أعيانه وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام، وأولاد نصير، وأولاد وافي، وهادوه وبروه. وارتحل كذلك إلى مدن الوجه البحري الكبرى، فزار دمياط، ورشيد، والمنصورة، وغيرها من المدن التي كانت عامرة بالعلماء، حافلة بحلقات العلم، واجتمع بشيوخ هذه المدن وعلمائها وأصحاب الطرق فيها، وتلقى عنهم وأخذوا عنه، وأجازوه وأجازهم، قال الجبرتي: «وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية، تحتوي على لطائف ومحاورات ومدائح نظما ونثرا، لو جمعت كانت مجلدا ضخما.»
جاب الزبيدي في مصر جنوبا وشمالا، وتعرف على من بها من العلماء، وحضر حلقات الدرس، وأخذ عن مشاهيرهم وأخذوا عنه، وتعرف عليه الأمراء والأعيان وشيوخ العرب وبروه وأكرموه، ووجد بهذا كله ضالته في مصر، فردد قول الشاعر القديم:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر (1-4) زواجه
وقر رأيه على البقاء في مصر، ورأى أنه لكي يحيا حياة هادئة مستقرة؛ لا بد أن يتأهل، فتزوج من سيدة مصرية فاضلة، اسمها زبيدة، واتخذ له بعد الزواج سكنا جديدا في عطفة الغسال، مع احتفاظه بسكنه القديم بوكالة الصاغة، فهذا السكن القديم قريب من الأزهر، حي المساجد والمدارس، والعلم والعلماء.
ولم يذكر هو ولم يذكر من ترجموا له شيئا عن الأسرة التي تزوج منها أو عن تاريخ زواجه، ولكنني أرجح أن هذا الزواج تم حوالي سنة 1174ه، أي بعد وصوله إلى مصر بنحو سبع سنوات؛ فإنه يذكر أنه أتم شرح القاموس في سنة 1188ه، وأنه قضى في شرحه أربعة عشر عاما، وما كان الزبيدي يستطيع أن يتم عملا علميا شاقا كهذا إلا إذا كان يحيا حياة منظمة هادئة مستقرة، أي بعد زواجه، وخاصة أنه كان موفقا في زواجه؛ فقد رزق زوجة يحبها وتحبه، وتبذل قصارى جهدها للحدب عليه وتوفير وسائل الراحة له، كما نص على ذلك هو في الشعر الكثير الذي رثاها به. (1-5) شرح القاموس
بدأ الزبيدي إذن عمله العلمي الضخم - وهو شرح القاموس - حوالي سنة 1174ه، وقد دفعه إلى هذا العمل ما شاهده من رغبة العلماء في فهمه، وما أحسه من حاجتهم - وخاصة علماء الحديث - إلى الاستعانة به في دروسهم ودراساتهم، يقول في مقدمته: «فلما آنست من تناهي فاقة الأفاضل إلى استكشاف غوامضه والغوص على مشكلاته، ولا سيما من انتدب منهم لتدريس علم غريب الحديث، وإقراء الكتب الكبار من قوانين العربية في القديم والحديث، فناط به الرغبة كل طالب، وعشا ضوء ناره كل مقتبس، ووجه إليه النجعة كل رائد ... قرعت ظنبوب اجتهادي، واستسعيت يعبوب اعتنائي في وضع شرح عليه ممزوج العبارة، جامع لمواده بالتصريح في بعض وفي بعض بالإشارة ...»
ولم يكن العمل في شرح القاموس يسيرا؛ فقد كانت اللغة العربية قد غدت غريبة - أو كالغريبة - في مجتمع يحكمه الأتراك، وفي وقت تدهورت فيه اللغة العربية، وسادتها اللكنة، وكثر فيها استعمال العامي والحوشي والغريب.
ولذلك فهو يقول في مقدمته: «وقد جمعته في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح - عليه السلام - الفلك وقومه منه يسخرون.»
تسامع الناس في مصر إذن أن الزبيدي يضع شرحا كبيرا للقاموس، فسخروا منه؛ لأنه عمل ضخم يحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل، ولكن الرجل كان ذا همة عالية، فرسم خطة العمل، وبدأ يجمع مكتبة البحث وهي - كما قدر - مكتبة ضخمة كان لا بد أن تضم معاجم اللغة السابقة كلها؛ كالصحاح للجوهري، واللسان للفيروزآبادي، والجمهرة لابن دريد، والمخصص والمحكم لابن سيده، والتهذيب للأزهري، وفصيح ثعلب، والأساس والفائق للزمخشري، وإصلاح المنطق لابن السكيت، والخصائص لابن جني، والمجمل لابن فارس، والمعرب للجواليقي ... إلخ.
وجمع إلى جانب هذه المعاجم كتب التاريخ والحديث والإسناد، والأنساب والرجال والتراجم، وكتب الجغرافية والرحلات ونظم الحكم، وكتب الطب والحيوان والنبات، ودواوين الشعر، وقد أثبت الزبيدي أسماء هذه المراجع في مقدمة شرح القاموس، ومن أهمها: معجم البلدان لأبي عبيد البكري، ومعجم الصحابة لتقي الدين بن فهد، والذيل على إكمال الإكمال لأبي حامد الصابوني، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وطبقات الشافعية للسبكي، والتكملة لوفيات النقلة للمنذري، ولباب الأنساب للسيوطي، وشرح مقامات الحريري للشريشي، والوافي بالوفيات للصفدي، وتاريخ الإسلام للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير، والطالع السعيد للإدفوي، وقوانين الدواوين لابن مماتي، ومختصره لابن الجيعان، والخطط للمقريزي، وجمهرة الأنساب لابن حزم، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري ... إلخ ... إلخ، وهي قائمة طويلة، إن دلت على شيء فإنما تدل على ثقافة الزبيدي الواسعة المتعددة الألوان، وعلى معرفته الوثيقة بالمكتبة العربية، وبالمراجع الأصيلة الهامة.
ولم يكن جمع هذه المكتبة بالأمر اليسير؛ فقد كانت هذه المراجع ضاعت وتبعثرت مذ قلت عناية القوم بها، يؤيدنا في رأينا هذا الجبرتي، معاصر الزبيدي وتلميذه؛ فقد أشار في مقدمة تاريخه إلى أمهات الكتب التاريخية التي ألفت قبل عصره، ثم قال: «وهذه صارت أسماء من غير مسميات؛ فإنا لم نر من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدشتة، بقيت في خزائن كتب الأوقاف بالمدارس مما تداولته أيدي الصحافين، وباعها القومة والمباشرون ، ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم ... إلخ.»
ومع هذا لم يأل الزبيدي جهدا في جمع هذه البقايا، فكان لا يبخل بمال في سبيل شراء الكتب أو استنساخها
5
حتى استطاع أن يكون لنفسه مكتبة خاصة غنية كبيرة، ولكنه كان إذا أعجزه الحصول على كتاب ما، سعى للاطلاع عليه في مكتبات المساجد والمدارس، وقد أشار في مقدمة التاج إلى الكتب التي قرأها في هذه المكتبات، فقال: إنه اطلع على نسخة من الصحاح للجوهري في خزانة الأمير أزبك، وظفر بنسخة من تهذيب التهذيب لأبي الثناء محمود بن أبي بكر التنوخي - هي مسودة المصنف - في خزانة الأشرف بالعنبرانيين، وعثر على كتابي: العباب والتكملة على الصحاح - وهما للرضي الصاغاني - في خزانة الأمير صرغتمش، ووقف على نسخة من الجمهرة لابن دريد في خزانة المؤيد، وظفر بالمعرب للجواليقي في خزانة الملك الأشرف قايتباي، وبأجزاء من معجم البلدان لياقوت في الخزانة المحمودية ... وهكذا.
وكانت طريقته في شرح القاموس أن يأتي بالمتن، ثم يشرحه ويضيف إليه، معتمدا على المعاجم اللغوية الأخرى، فينتقي منها ما لم يذكره صاحب القاموس ويضيفه إليه، ثم يستعين مرة ثانية بدواوين الشعر، فيستشهد بالأبيات التي تتضمن اللفظ الذي يشرحه، ثم يستعين مرة ثالثة بكتب التاريخ والتراجم، والجغرافيا والرحلات، فيضيف أسماء الرجال وأسماء المواقع والبلدان المتصلة بكل مادة يشرحها.
ثم هو يضيف بعد هذا كله جديدا من عنده، يضعه تحت عنوان «المستدرك»، وهذا الجديد هو في معظمه خلاصة تجاريبه، والمعرفة التي حصلها خلال رحلاته في الهند وبلاد العرب ومصر، وقد يكون هذا المستدرك لفظا علميا يستعمله أهل مصر أو أهل اليمن أو أهل الهند، وقد يكون موقعا أو قرية في قطر من هذه الأقطار، فلهذه المستدركات أهمية كبرى؛ لأنها تتضمن معلومات جديدة انفرد بها الزبيدي، ولا تجدها في مرجع أو في معجم لغوي آخر.
فهو يقول - مثلا - في المستدرك على مادة «كنت»: «ومما يستدرك عليه: كجرات اسم ناحية متسعة بأرض الهند، وتعرف بنهروالته وبأحمد أباد»، وقال في المستدرك على «عرث»: «العرطنيثا أصل شجرة يقال لها: بخور مريم، يغسل به الثياب، وهو رومي ... وهو المعروف بالركفة في مصر»، وقال في المستدرك على حجب: «والمحجب كمعظم: لقب جماعة، منهم شيخنا الصالح الصوفي، صفي الدين أحمد بن عبد الرحمن المخاثي، اشتغل بالحديث وأجازنا»، وقال في المستدرك على «بانب»: ومما يستدرك عليه: بانوب قرية من قرى مصر من إقليم الغربية، ذكرها ابن الجيعان في كتاب القوانين، والذي في المعجم لياقوت أن بانوب اسم لثلاثة قرى بمصر؛ في الشرقية، والغربية، والأشمونين» ... إلخ.
وأتم الرجل هذا العمل العلمي الضخم الذي تنوء به العصبة أولو القوة من العلماء؛ فإن عملا كهذا تقوم به في عصرنا لجان ولجان، تقضي في إنجازه سنوات وسنوات، ولكن الزبيدي قام به وحده، وأنجزه في أربعة عشر عاما، نص على هذا في مقدمة التاج، قال: «وكان مدة إملائي في هذا الكتاب من الأعوام 14 سنة وأيام، مع شواغل الدهر وتفاقم الكروب بلا انفصام، وكان آخر ذلك في نهار الخميس بين الصلاتين، ثاني شهر رجب سنة 1188ه بمنزلي في عطفة الغسال بخط سويقة المظفر بمصر.»
وأفعمت نفس الزبيدي بالفرح أن وفقه الله لإتمام هذا الشرح، وسماه «تاج العروس من جواهر القاموس»، وأراد أن يشاركه غيره من العلماء هذه الفرحة، فاستن سنة طيبة، وأولم وليمة حافلة في منزله، جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت وأطلعهم عليه؛ يقول الجبرتي - وكان حاضرا هذا الحفل: «فاغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة اطلاعه ورسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تقاريظهم نثرا ونظما.»
ثم ذكر أسماء العلماء الذين قرظوه، وهم صفوة العلماء في مصر في ذلك الوقت؛ فمنهم «شيخ الكل في عصره الشيخ علي الصعيدي»، ومنهم أستاذه السيد عبد الرحمن العيدروس، ومنهم الشيخ أحمد الدردير، والشيخ محمد الأمير، والشيخ حسن الجداوي، والشيخ أحمد البيلي، والشيخ عطية الأجهوري، والشيخ عيسى البراوي، والشيخ محمد الزيات، والشيخ محمد عبادة، والشيخ محمد العوفي، والشيخ حسن الهواري، والشيخ أبو الأنوار السادات، والشيخ علي القناوي، والشيخ علي خرائط، والشيخ عبد القادر بن خليل المدني، والشيخ محمد المكي، والسيد علي المقدسي، والشيخ عبد الرحمن مفتي جرجا، والشيخ علي الشاوري، والشيخ محمد الخربتاوي، والشيخ عبد الرحمن المقري، وكان آخرهم عالما من علماء العراق هو الشيخ محمد سعيد البغدادي السويدي، وقد قرظه نظما ارتجالا،
6
وأورد تقريظه هذا الجبرتي في تاريخه.
ولما أتم محمد بك أبو الذهب بناء مسجده المعروف بالقرب من الأزهر ألحق به - كالعادة - خزانة للكتب، وزودها بعدد كبير من أمهات الكتب، ولم يضن في سبيل ذلك بالمال، وقد حدثه العلماء المقربون إليه عن «تاج العروس» وأطنبوا في مدحه، وعرفوه - كما يقول الجبرتي - «أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها، وانفردت بذلك دون غيرها، ورغبوه في ذلك فطلبه، وعوضه عنه مائة ألف درهم فضة، ووضعه فيها.»
وكان شيخ السادات الوفائية في ذلك الوقت هو السيد أبو الأنوار ابن وفا، وكان من عادته أن يكني من يحضر مجلسه من العلماء الذين يمتازون بالجد في التحصيل أو النبوغ، وقد كنى السيد المرتضى بأبي الفيض، وكان ذلك في يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة 1182ه، وكانت كنية موفقة؛ فقد بدأ السيد مرتضي يفيض على الناس فعلا من علمه، واتجه إلى إحياء الكتب ومناهج الدراسة القديمة، وخاصة في علم الحديث؛ ميدان تخصصه الأول، وحرص - على حد قول الجبرتي - «على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون؛ كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين، وألف في ذلك كتبا ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة.» (1-6) سكنه الجديد في سويقة اللالا
وفي سنة 1189ه كان الزبيدي قد بلغ الرابعة والأربعين من عمره وأصبح رجلا بل كهلا مكتمل الرجولة ناضج الفكر واسع المعرفة، وكان قد مضى عليه في مصر اثنتان وعشرون سنة، فعرفه العلماء والكبراء، وذاع صيته في الأوساط العلمية، وخاصة بعد أن احتفل بالفراغ من شرح القاموس منذ شهور قليلة، فرأى أن ينتقل من عطفة الغسال إلى حي جديد يتناسب ومكانته الجديدة، فانتقل إلى منزل بسويقة اللالا بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي في أوائل سنة 1189ه، وكان هذا الحي عامرا بالأكابر والأعيان، فأحدقوا به، ورحبوا بمقامه بينهم، وأقبلوا على زيارته ومهاداته، وهو يظهر لهم التعفف والغنى، ويعظهم ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقى، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب، وبهذا الأسلوب وغيره عرف السيد محمد مرتضى أن يستحوذ على إعجاب جيرته من أهل الحي الجديد؛ فقد كان المجتمع القاهري - كما قلنا - تغمره موجة من التصوف، ويكاد كل فرد فيه ينتمي إلى طريقة من الطرق الصوفية، وكان الزبيدي يلفت النظر إليه كلما مر في الحي؛ فقد كان ربعة، نحيف البدن، ذهبي اللون، متناسب الأعضاء، معتدل اللحية، قد وخطه الشيب في أكثرها، وكان مترفها في ملابسه، ويختلف في هيئته وبزته عن العلماء المصريين، فيعتم - مثل أهل مكة - عمامة منحرفة بشاش أبيض، ولها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكة وشراريب حرير طولها قريب من فتر، وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وبعض أطرافه ظاهر.
فانجذبت قلوب أهل الحي إليه، وتناقلوا خبره، وترددوا على داره يستمعون إلى دروسه وأحاديثه، فأسرهم بكلامه ، وملك عليهم ألبابهم؛ فقد كان كما يقول الجبرتي: «وقورا محتشما، مستحضرا للنوادر والمناسبات، ذكيا لوذعيا، فطنا ألمعيا، روض فضله نضير، وما له في سعة الحفظ نظير»، وكان إلى هذا يعرف اللغتين: التركية والفارسية، وبعض لسان الكرج. (1-7) طريقته في تدريس الحديث
وكانت معظم دروس الزبيدي في هذه الفترة في علوم الحديث، وكان منهجه في التدريس جديدا كذلك، لفت إليه الأنظار، وجذب إليه الأعيان أولا، ثم شيوخ الأزهر ثانيا؛ لأنه أحيا طريقة السلف الصالح في تدريس الحديث، فكان لا يكتفي بإملاء الأحاديث، بل يذكر الأسانيد والرواة والمخرجين، وكان لا يلقي بهذه المعلومات من كتاب في يده، بل يلقيها ارتجالا من حفظه، وعلى طرق مختلفة وبأساليب متباينة، وكان يبدأ كل من يفد عليه للأخذ عنه بأن يملي عليه الحديث المسلسل بالأولين - وهو حديث الرحمة - بروايته ومخرجيه، ثم يكتب له سندا بذلك وإجازة وسماع الحاضرين.
كان هذا أسلوب المحدثين القدامى، وقد نسيه العلماء في العصر العثماني، فنفض عنه الزبيدي الغبار، وأحياه من جديد، فبهر عقول أهل العلم في القاهرة، وسعى إليه شيوخ الأزهر - وهم قادة العلم في وقتهم - يسألونه الإجازة، ولكن الزبيدي كان يرى أن الدراسة الجدية يجب أن ترتفع عن المظاهر والشكليات، فقال لهم: «لا بد من قراءة أوائل الكتب»، فقبلوا واتفق على أن يبدأ معهم درسا يقرأ لهم فيه صحيح البخاري، واختار أن يلقي درسه هذا يومي: الإثنين والخميس من كل أسبوع في جامع شيخون؛ «تباعدا عن الناس.»
يقول الجبرتي: «وتناقل في الناس سعي علماء الأزهر - مثل الشيخ أحمد السجاعي، والشيخ مصطفى الطائي، والشيخ سليمان الأكراشي، وغيرهم - للأخذ عنه؛ فازداد شأنه وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان.»
لم يعد الدرس إذن خاصا بعلماء الأزهر، بل أصبح درسا عاما، وأقبل الناس على سماعه من كل حدب وصوب، ومن كل الطبقات، والتمس الحضور من الشيخ أن لا يكتفي برواية الأحاديث وأسانيدها، بل يشرحها لهم، فأجابهم إلى طلبهم، وانتقل - كما يقول الجبرتي - «من الرواية إلى الدراية» وصار درسا عظيما ، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضا، وصار يملي على الجماعة - بعد قراءة شيء من الصحيح - حديثا من المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه، ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجبون من ذلك؛ لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين.»
أصبح الزبيدي بعد هذه الدروس حديث القوم في حي الصليبة والقلعة، بل في الأوساط العلمية كلها في القاهرة، فطلب منه أهل حي الحنفي أن يخصهم بدرس آخر، فأجاب سؤلهم وافتتح درسا جديدا في مسجد الحنفي، كان يقرأ فيه الشمائل بعد العصر في بقية أيام الأسبوع، فارتفعت مكانته، وذاعت شهرته، وأقبل الناس من كل فج لسماع هذه الدروس الجديدة.
وتسابق الصفوة والأعيان على دعوته إلى منازلهم؛ ليأخذوا عنه الحديث هم وأولادهم وأفراد أسراتهم، وكانوا يحتفلون بزيارته احتفالا كبيرا، ويولمون الولائم، وكان هو يضفي على هذه الدروس ما تستحقه من وقار وقداسة، ويتبع أسلوب المحدثين القدامى في ذلك، فيصحب معه خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء، ويجلس صاحب المنزل ومعه أصحابه وأحبابه وأولاده، ومن خلف الستائر تجلس بناته ونساؤه، وقد تناثرت في المكان مجامر البخور والعود، والرائحة الزكية تضوع فتملأ المجلس مدة القراءة، ثم يبدأ الشيخ فيقرأ للمجتمعين شيئا من الأجزاء الحديثية؛ كثلاثيات البخاري أو الدارمي، أو بعض المسلسلات، ثم يختمون جميعا الدرس بالصلاة على النبي -
صلى الله عليه وسلم ، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين بما فيهم النساء والصبيان والبنات، ويثبت اليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ في ختام هذا السجل أو الإجازة: «صحيح ذلك»، ويوقع باسمه.
وقد ذكر الجبرتي - وكان تلميذا للزبيدي - أنه حضر كثيرا من هذه الدروس، وذكر كذلك أن الشيخ زاد نشاطه، فكان يعقد دروسا أخرى في منزله القديم بخان الصاغة - قريبا من الأزهر، وفي منزلي الجبرتي في الصنادقية وبولاق، وأنه كان يخرج في بعض الأحيان مع نفر من تلاميذه المقربين إلى المتنزهات والأماكن الخلوية، مثل غيط المعدية أو الأزبكية، حيث يعقد لهم دروسا في الهواء الطلق يقرأ عليهم فيها بعض الأجزاء الحديثية. (1-8) السيد محمد عالم من أعلام الفكر في مصر والعالم الإسلامي
وأقبلت الدنيا على الشيخ؛ فقد تجاوزت شهرته الأوساط العلمية إلى أوساط الأمراء والحكام، فانجذب إليه بعض الأمراء الكبار؛ مثل مصطفى بك الإسكندراني، وأيوب بك الدفتردار، وسعوا إليه في منزله؛ لحضور دروسه، وقدموا إليه الهدايا الجزيلة، وعندما حضر الرئيس عبد الرزاق أفندي من الديار الرومية إلى مصر، وسمع بالزبيدي ذهب لزيارته والتمس منه الإجازة، وطلب أن يقرأ عليه مقامات الحريري، فأجابه إلى طلبه، وكان يحضر عنده بعد درس شيخون، فيقرأ معه المقامات ويشرح له معانيها وألفاظها.
ولما حضر إلى مصر محمد باشا عزت الكبير في سنة 1191ه أكرمه ودعاه إلى القلعة، وخلع عليه فروة سمور، ورتب له تعيينا من كلاره؛ من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، كما رتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين، وغلالا من الأنبار، ثم أرسل إلى الأستانة تقريرا يعرف فيه الدولة ورجالها بالشيخ ومكانته، فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة، وقدره مائة وخمسون نصفا فضة في كل يوم.
أصبح السيد محمد مرتضى بعد سنة علما من أعلام الفكر والعلم، لا في مصر وحدها ، بل في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولا في أوساط العلماء وحسب، بل في أوساط الحكام والأمراء والملوك في مختلف الدول الإسلامية، فطلبه السلطان عبد الحميد للذهاب إلى عاصمة الخلافة في سنة 1194ه، فأجاب، ثم امتنع.
يقول الجبرتي: «وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق، وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية.»
وأصبح الشيخ يعيش في بحبوحة من العيش، فاشترى الجواري وأولم الولائم للضيوف وأكرم الوافدين عليه، وأصبح بيته محجة يحج إليها كل الواردين والوافدين على مصر من أنحاء العالم الإسلامي، ومصر بحكم مركزها المتوسط يكثر بها الوارد والوافد من الشرق ومن الغرب؛ للزيارة أو للتجارة، أو في الطريق إلى الحج، وكان هؤلاء جميعا يحملون للسيد الهدايا والصلات من الطرف الغريبة الموجودة في كل إقليم، وكان السيد بدوره يرسل الطرف من هدايا كل إقليم إلى الإقليم الذي لا توجد فيه، فيأتيه في مقابلها أضعافها؛ فقد أهدي إليه مرة أغنام من إقليم فزان، وهي - كما وصفها الجبرتي - «عجيبة الخلقة عظيمة الجثة، يشبه رأسها رأس العجل»، فأرسل منها إلى أولاد السلطان عبد الحميد، فأعجبوا بها كثيرا.
وكان أهل كل إقليم يهادونه بأغرب وأجمل ما في إقليمهم، فكانت تأتيه من السودان الطيور والببغاوات والجواري والعبيد، وكان يأتيه من الهند واليمن ماء الكاري والمربيات، والعود والعنبر والعطر بالأرطال. (1-9) اعتقاد المغاربة والمشارقة في ولايته
وكان أهل المغرب أكثر الناس حبا له وتعلقا به واعتقادا فيه؛ يقول الجبرتي: «وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى، حتى إن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجا ولم يزره ولم يصله بشيء، لا يكون حجه كاملا!»
وقد بلغ السيد محمد هذه المكانة في قلوب المغاربة؛ لذكائه ورقته في معاملتهم وحسن ضيافته لهم، فكان إذا زاره واحد منهم سأله عن اسمه وأهله وبلده، ومكان سكنه ... إلخ، وحفظ هذا كله أو سجله عنده، فإذا ورد عليه بعد ذلك زائر آخر له صلة بالزائر السابق، فيبادره بالسؤال عنه فيقول له: «فلان طيب؟ فيقول: نعم سيدي. ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان، وزوجته وابنته، ويشير له باسم حارته وداره، وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد، ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة، ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصراح»؛ ولذلك كان المغاربة يتزاحمون على بابه في موسم الحج ازدحاما شديدا من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئا: إما موزونات فضة أو تمرا أو شمعا، على قدر فقره وغناه، وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها، ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم بقطعة ورق - ولو بمقدار الأنملة - فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده.»
ولم يكن اعتقاد المشارقة في السيد مرتضى أقل من اعتقاد المغاربة، وخاصة الأمراء والحكام، وكان أقواهم عقيدة في ولايته أحمد باشا الجزار حاكم سوريا، فكان يراسله ويهاديه، وإذا وفد عليه وافد من مصر سأله عن السيد محمد، فإن مدحه وأثنى عليه، وأجاب أنه يعرفه ويجتمع به ويأخذ عنه، أحبه وأكرمه، وأجزل صلته، وإن أجاب بأنه لا يعرفه ولا صلة له به، نفر عنه وقابله بالوجوم، ولم يحقق له مطلبا، وقد عرفت هذه الخلة عن الجزار، فكانت المفتاح الذي يستعمله الناس للوصول إلى قلبه، والحصول على عطفه.
ومع إقبال الحياة والناس على السيد مرتضى، ومع مكابة الملوك والعلماء له، وشهرته التي ذاعت في جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ لم تفتر همته ولم يقل نشاطه، بل ظل دءوبا على العمل والإنتاج، مداوما على إلقاء دروسه في مسجد الحنفي وفي مسجد شيخون، وفي منزله ومنازل أصدقائه، وكانت كتبه التي ألفها ودروسه التي ألقاها تدور في معظمها حول علم الحديث. وقد أحصى له الكتاني اثنين وثلاثين كتابا كلها في علم الحديث، كما أحصى له عشرين كتابا أخرى فيما سماه «الصنعة الحديثية»، أي العلوم المتصلة بالحديث.
ومن كتب المجموعة الأولى: كتاب عنوانه «الأمالي الشيخونية» ويقع في مجلدين، وقال في التعقيب عليه: «وقد بلغت أربعمائة مجلس إلى تاريخ إجازته لأبي الأمداد محمد بن إسماعيل الربعي اليمني، وذلك تمام سنة 1195ه.» (1-10) وفاة زوجته وانعكافه
ويبدو أن السيد مرتضى انقطع عن إلقاء دروسه أو أماليه الشيخونية في علم الحديث في أواخر هذه السنة، وهي سنة 1195ه؛ فقد أصيب بعد ذلك بقليل بالملمة الكبرى التي هدت كيانه وأدمت قلبه، وصرفته عن الحياة، ودفعته إلى العزلة والتفرغ للعبادة، وتأليفه كتابه الآخر الكبير «شرح إحياء علوم الدين للغزالي»، هذه الحادثة هي فقد زوجته؛ فقد توفيت في سنة 1196ه، وحزن عليها الزبيدي حزنا كثيرا، ودفنها عند مشهد السيدة رقية، وبنى على قبرها مقاما ومقصورة، وزوده بالستائر والفرش والقناديل، ولازم قبرها أياما طويلة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكو والقهوة والشربات»، ثم اشترى قطعة أرض مجاورة للقبر، وبنى عليها منزلا صغيرا، وأثثه وأسكن به أمها، وكان يبيت به أحيانا وقد رثاها كثير من الشعراء، فكان يجيزهم بالمال الوفير، ورثاها هو بشعر كثير جميل لم يطلع الناس عليه، وإنما عثر على بعضه تلميذه وصديقه عبد الرحمن الجبرتي في أوراقه المدشتة، ونقل بعض هذا الشعر في تاريخه، وهو شعر جميل في معظمه، يدل على وفاء نادر، وفيه يعبر الزبيدي عن حزنه وألمه لفقد هذه الزوجة الحبيبة، ويصف جودها وحلمها وحياءها وطيب محتدها، ويذرف الدمع سخينا لفقدها، ويبكي حبها وحدبها عليه، وطاعتها له، وعنايتها بتوفير الراحة له.
وهذا لون من الشعر قل أن نجد له أشباها كثيرة من الشعر العربي، ومنه الديوانان اللذان يضمان ما قاله عزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي - من الشعراء المحدثين - في زوجتيهما بعد وفاتهما.
ومما قاله الزبيدي في رثاء زوجته:
أصابت يد البين المشت شمائلي
وحاقت نظامي عاديات النوائب
وكنت إذا ما زرت زبدا سحيرة
أعود إلى رحلي بطين الحقائب
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض غر الكواعب
فتاة الندى والجود والحلم والحيا
ولا يكشف الأخلاق غير التجارب
فديت لها، ما يستذم رداؤها
عميدة قوم من كرام أطايب
عليها سلام الله في كل حالة
ويصحبه الرضوان فوق المراتب
مدى الدهر ما ناحت حمامة أيكة
بشجو يثير الحزن من كل نادب
ويقول لمن يطالبه بالسلوان:
يقولون لا تبكي زبيدة واتئد
وسل هموم النفس بالذكر والصبر
وتأتي لي الأشجان من كل وجهة
بمختلف الأحزان بالهم والفكر
وهل لي تسل من فراق حبيبة
لها الجدث الأعلى بيشكر من مصر
أبى الدمع إلا أن يعاهد أعيني
بمحجرها، والقدر يجري إلى القدر
فإما تروني لا تزال مدامعي
لدى ذكرها تجري إلى آخر العمر
ويقول أيضا:
خليلي ما للأنس أضحى مقطعا
وما لفؤادي لا يزال مروعا
أمن غير الدهر المشت وحادث
ألم برحلي أم تذكرت مصرعا
وإلا فراق من أليفة مهجتي
زبيدة ذات الحسن والفضل أجمعا
مضت فمضت عني بها كل لذة
تقر بها عيناي فانقطعا معا
لقد شربت كأسا سنشرب كلنا
كما شربت لم يجد عن ذاك مدفعا
فمن مبلغ صحبي بمكة أنني
بكيت فلم أترك لعيني مدمعا
ثم يستعين بالصبر فيخونه، ويتمنى أن لو كان سبقها بالموت، ويعبر عن هذا كله بقوله:
خليلي هل ذكرى الأحبة نافع
فقد خانني الصبر الجميل العواقب؟
وهل لي عود في الحمى أم تراجع
لوصل بتلك الآنسات الكواعب؟
لقد رحلت عني الحبيبة غدوة
وسارت إلى بيت بأعلى السباسب
أقول وما يدري أناس غدوا بها
إلى اللحد ماذا أرجوا في السباسب
تأخرت عنها في المسير، وليتني
تقدمت لا ألوي على حزن نادب
ثم يصفها وهي تنتقل إلى العالم الآخر في غلائلها الخضر، وقد طافت بها الملائكة، ودقت لها السماء طبولها مرحبة بها، فيقول:
زبيدة شدت للرحيل مطيها
غداة الثلاثا في غلائلها الخضر
وطافت بها الأملاك من كل وجهة
ودق لها طبل السماء بلا نكر
تميس كما ماست عروس بدلها
وتخطر تيها في البرانس والأزر
سأبكي عليها ما حييت، وإن أمت
ستبكي عظامي والأضالع في القبر
ولست بها مستبقيا فيض عبرة
ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر
ثم هو يشير في مقطوعة أخرى إلى سجاياها الكريمة وحدبها عليه، فيقول:
يا لهف نفسي حسن أخلاق لها
جبلت عليه ووصلة الأرحام
وإطاعة للبعل ثم عناية
صرفت لإطعام، ولين كلام
تلك المكارم فابكها ما رنحت
ريح الصبا سحرا غصون بشام ... إلخ. (1-11) شرح كتاب الإحيا
وكان السيد محمد مرتضي قد شرع في شرح كتاب إحياء علوم الدين للغزالي في سنة 1190ه، أي: بعد فراغه من شرح القاموس بنحو سنتين؛ فقد طلب إليه تلاميذه ومريدوه أن يقرأ لهم هذا الكتاب، فآثر أن يتبع القراءة بالشرح؛ لضبط ألفاظه، وتفسير معانيه، وقد نص هو على هذا في مقدمة الشرح؛ قال: «وبعد، فهذه تقريرات شريفة، وتحريرات منيفة، أمليتها على كتاب الإحيا للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - حين سئلت في إقرائه ... على أني لم أر أحدا من العلماء قديما وحديثا - مع كثرة تداول هذا الكتاب بين أيديهم، وتبركهم بقراءته في سائر الأقطار، خصوصا في قطر اليمن المأنوس بالأخيار - اعتنى بضبط ألفاظه المشكلة، ولا فصل بنود عقوده المجملة، وقد شرح الله صدري لشرحه بإلهام، وسعى يعبوب فكري لتحصيله باهتمام ... إلخ.»
وشابه منهجه في شرح الإحياء منهجه في شرح القاموس إلى حد كبير؛ فقد كتب له مقدمة طويلة فيها دراسة قيمة للغزالي وكتابه، وقدم بين يدي هذا كله قائمة كاملة بالمراجع التي أفاد منها عند إعداد هذا الشرح، وهي كثيرة العدد متنوعة الفنون؛ فمنها المعاجم اللغوية الكثيرة، وفي مقدمتها شرحه للقاموس، ومنها عشرات الكتب الأخرى في علوم اللغة والحديث والتفسير، والتاريخ والرجال والتراجم، وأصول الدين والفقه وفروعه، والتصوف ... إلخ.
وأتى بعد هذا بترجمة طويلة مفصلة لحياة الغزالي، تحدث فيها عن مولده ونشأته الأولى، وطلبه للعلم، وشيوخه الذين أخذ عنهم، ثم أشار إلى رسائله ومكاتباته وفتاواه، وأتى بنماذج من شعره، وعرض الآراء التي تقول بأنه كان مجدد المائة الخامسة، وأتى بثبت كامل لمؤلفاته، ورتبها ترتيبا أبجديا.
وانتقل من هذا كله إلى ذكر الطاعنين عليه في الإحياء وخاصة الطرطوشي والمازري وابن قيم الجوزية، وأتى بموجز لطعونهم مع تحليلها ومناقشتها، والرد عليها.
ثم ختم هذه المقدمة القيمة بالكلام عن تلاميذ الغزالي، وإحصاء من اختصروا الإحياء، أو حاولوا شرحه قبله .
وقد انتهى الزبيدي من الجزء الأول في «يوم الجمعة بعد الصلاة، لخمس بقين من محرم الحرام، افتتاح سنة 1193ه.»
وفي سنة 1196ه أصيب بفقد زوجه، فلزم داره «واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك، إلا في النادر؛ لغرض من الأغراض، وترك الدروس والإقراء، واعتكف بداخل الحريم، وأغلق الباب، ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين»؛ أرسل إليه مرة أيوب بك الدفتردار مع نجله هدية بمناسبة حلول شهر رمضان، وكانت تشتمل على خمسين أردبا من البر وأحمال من الأرز، والسمن والعسل والزيت وخمسمائة ريال، وبقج كساوي من الأقمشة الهندية والجوخ، ولكنه ردها وأبى أن يأخذها.
وكان مولاي محمد سلطان المغرب يهاديه كثيرا، فيقبل هداياه، ولكنه أرسل إليه في سنة 1201ه - أي بعد عزلته - هدية لها قدر كبير، فردها وتورع عن قبولها.
انطوى السيد محمد إذن على نفسه، وانقطع عن دروسه، وامتنع عن مقابلة تلاميذه وأصحابه، وانعكف في منزله وقد استبد به الألم وغمره الحزن على فقد زوجته، فهو دائم البكاء عليها، دائم الحنين إلى أوقات الصفاء التي عاشها معها. حقيقة لقد تزوج بعدها غيرها، ولكن يبدو أنها لم تكن مثلها، فلم تستطع أن تنسيه أحزانه، أو أن تخرجه من عزلته، فلم يجد عزاء إلا في كتاب الإحياء، فانصرف إليه بكله، وأعطاه كل جهده ووقته، فلم يكن يوقف العمل فيه إلا عند سماعه الأذان يدعو للصلاة، وكان لا يجد متنفسا للإعلان عما به من ألم وضيق إلا في الأشعار التي ينظمها، أو في افتتاحيات وخواتيم الأجزاء المتتابعة لشرح الإحياء؛ فهو يقول مثلا في ختام الجزء الرابع: «وقد فرغ من تحريره وتهذيبه - مع تشتيت البال واختلال الأحوال - صبيحة يوم الجمعة المبارك لأربع بقين من شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1198ه بمنزله بسويقة لالا، مؤلفه العبد المضطر، أبو الفيض، محمد مرتضى الحسيني، أصلح الله خلله، وتقبل عمله، وبلغه أمله.»
وقال في مقدمة الجزء الخامس عند الابتداء لشرح «كتاب الأذكار والدعوات»:
كتاب الأذكار والدعوات ... سلكت شعابه ورضت صعابه، فكم من مشكل قد أعربت عنه، وبينت ما أبهم منه ... حتى وضح سبيله للواردين، وراق زلاله للشاربين، هذا مع ما أنا فيه من اختلاف الأحوال، وتشتيت البال، وتواتر الأنكاد والأهوال، وكدورات تفرق الأوصال، وأشغال تحجب الخواطر عن الأعمال، متوسلا بيمن جاه مؤلفه إلى المولى اللطيف، أن يمن علينا بالعفو والعافية والنجدة من كل محيف، عسى الكرب الذي أمسيت فيه، يكون وراءه فرج قريب؛ إنه على فرجه قدير، وبما أملته جدير.
وقال في ختام هذا الجزء:
فرغ من تسويد هذا الكتاب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى، أبو الفيض، محمد مرتضى الحسيني، لطف الله به، وأخذه بيده في الشدائد والكروب، وأنجاه من كل ضيق وجلا عنه الخطوب، عند أذان ظهر يوم السبت 15 جمادى الأولى من شهور سنة 1199ه، أرانا الله خيرها، وكفانا ضيرها.
وقد صرف الزبيدي في تأليف هذا الشرح الكبير أحد عشر عاما، فقد قال في ختامه: ... وكانت مدة إملائه مع شواغل الدهر وإبلائه أحد عشر عاما إلا أياما، آخرها الخامسة من نهار الأحد، خامس جمادى الثانية من شهور سنة 1201ه، وذلك بمنزلي في سويقة لالا بمدينة مصر، حرسها الله تعالى وسائر بلاد الإسلام، والحمد لله في البدء والختام.
وقد طبع هذا الشرح في المطبعة الميمنية بالقاهرة في سنة 1311ه، ويقع في عشر مجلدات كبيرة، وعنوانه: «إتحاف السادة المتقين، بشرح أسرار إحياء علوم الدين»، وطبع على هوامشه ثلاثة كتب أخرى: أولها كتاب الإحياء نفسه، وثانيها كتاب الإملاء عن إشكالات الإحياء للغزالي أيضا، أجاب فيه على بعض الإشكالات التي أثارها من تصدوا لنقد كتابه، وثالثها كتاب «تعريف الأحياء بفضائل الإحياء» للشيخ عبد القادر بن عبد الله العيدروس. (1-12) مؤلفاته الأخرى
وللزبيدي مؤلفات كثيرة أخرى غير هذين الشرحين على القاموس والإحياء، معظمها في الحديث، أو في العلوم المتصلة به، أو في التصوف، وله في الفقه الحنفي كتاب قيم أسماه «الجواهر المنيفة، في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة» قرظه الجبرتي بقوله: «وهو كتاب نفيس حافل، رتبه ترتيب كتب الحديث - من تقديم ما روي عنه في الاعتقاديات، ثم في العمليات - على ترتيب كتب الفقه.»
وله كتب ورسائل أخرى ألف بعضها باسم أصدقائه، وألف البعض الآخر لمعالجة نواح من مشاكل المجتمع في عصره، فمن النوع الأول:
كتاب «حكمة الإشراق، إلى كتاب الآفاق»
7
في تاريخ الخط والخطاطين ألفه باسم نابغة الخط في عصره الأمير حسن أفندي بن عبد الله الملقب بالرشدي، وجعله هدية إلى خزانته.
وكتاب «شرح الصدر، في شرح أسماء أهل بدر» في عشرين كراسة.
وكتاب «التفتيش، في معنى لفظ درويش» وألفهما باسم صديقه علي أفندي درويش.
وكتاب «عقيلة الأتراب، في سند الطريقة والأحزاب» صنفه باسم الشيخ عبد الوهاب الشربيني.
8
ومن النوع الثاني:
كتاب «هدية الإخوان، في شجرة الدخان». (1-13) مؤلفاته التاريخية
وللزبيدي تسعة مؤلفات في التاريخ، ما بين كتاب ورسالة، وفيما يلي بيانها:
المعجم الأكبر، وقد ترجم فيه لنحو ستمائة من شيوخه والآخذين عنه.
المعجم الصغير.
معجم شيوخ العلامة عبد الرحمن الأجهوري شيخ القراء بمصر.
معجم شيوخ السجادة الوفائية.
رفع نقاب الخفا، عمن انتمى إلى وفا وأبي الوفا.
رشف سلاف الرحيق، في نسب حضرة الصديق.
رسالة في طبقات الحفاظ.
ترويح القلوب، بذكر ملوك بني أيوب.
جذوة الاقتباس، في نسب بني العباس.
9
وله عدا هذا كتاب تاريخي عاشر، أسماه «المعجم المختص» ذكر فيه شيوخه ومن أخذ عنه أو ساجله أو جالسه من رفيق وصاحب وصالح، وقال في مقدمته: «وقد أذكر فيه من أحبني في الله وأحببته، أو استفدت منه شيئا، أو أنشدني شيئا أو كاتبني أو كاتبته، أو بلوت منه معروفا وكرما ... إلخ»، وقد عثر الجبرتي على مسودة هذا المعجم في تركة الزبيدي بعد وفاته، وقال: إنه يقع في نحو عشرة كراريس، ورتبه صاحبه على حروف المعجم، غير أنه لم يتمه، وترك في الحروف بياضات كثيرة، وغالب ما فيها - على حد قوله - «آفاقيون من أهل المغرب والروم والشام والحجاز، بل والسودان، والذين ليس لهم شهرة ولا كثير بضاعة من الأحياء والأموات، وأهمل من يستحق أن يترجم من كبار العلماء والأعاظم ونحوهم ...»
10
ولهذا الكتاب قصة طريفة، تربط بينه وبين التاريخين الهامين اللذين ألفا في مصر والشام في القرن الثامن عشر، وهما: «عجائب الآثار، في التراجم والأخبار» للمؤرخ المصري الجبرتي، و«سلك الدرر، في أعيان القرن الثاني عشر» للمؤرخ الشامي المرادي.
وقد روى هذه القصة الجبرتي في سياق ترجمته للمرادي، فقال: إنه «كان - رحمه الله - مغرما بصيد الشوارد وقيد الأوابد، واستعلام الأخبار وجمع الآثار، وتراجم العصريين على طريق المؤرخين، وراسل فضلاء البلدان البعيدة، ووصلهم بالهدايا والرغائب العديدة، والتمس من كل جمع تراجم أهل بلاده، وأخبار وأعيان أهل القرن الثاني عشر بحسب وسع همته واجتهاده»، ثم عقب على هذا بقوله: «وكان هو السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ - يقصد كتابه عجائب الآثار - على هذا النسق»، ثم أوضح بعد هذا أن شيخه الزبيدي كان واحدا ممن راسلهم المرادي يسألهم أن يمدوه بتراجم القطر أو البلد الذي يعيشون فيه، وقد سأل الزبيدي أن يجمع له تراجم المصريين الذين عاشوا في القرن الثاني عشر، وكان الزبيدي مشغولا بمؤلفاته الأخرى، وهو بعد ليس من أهل مصر؛ ولهذا رأى أن يلجأ إلى تلميذه عبد الرحمن الجبرتي؛ ليعينه في هذا الأمر، فطلب إليه أن يجمع هذه التراجم، دون أن يعرفه بالقصد من جمعها، واستجاب الجبرتي لاقتراح أستاذه، وجمع ما تيسر جمعه، وحمله إليه يوما وعنده بعض الشاميين، وأطلعه عليه؛ يقول الجبرتي: «فسر بذلك كثيرا، وطارحني وطارحته في نحو ذلك بمسمع من المجالس.»
وأرسل الزبيدي بعض هذه التراجم إلى صديقه المرادي، وأفاد من البعض الآخر في وضع معجمه، ثم توفي الزبيدي بعد قليل، وختم على تركته بما فيها من كتب وأوراق مدة ما، ثم بيعت بالمزاد، واشترى الجبرتي منها ما يريد، ووجد هذه التراجم وغيرها من مسودات الشيخ ورسائله وأوراقه ضمن ما اشترى، وأفاد منها كثيرا عند تأليف كتابه عجائب الآثار.
وعلم المرادي بوفاة السيد محمد مرتضى، فأرسل إلى الجبرتي يروي له القصة كلها، ويسأله أن يبحث عن بقية التراجم التي كان قد جمعها السيد له ويرسلها إليه، يقول الجبرتي: «فعند ذلك أرسل إلي (أي المرادي) كتابا، وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي يستدعي تحصيل ما جمعه السيد من أوراقه، وضم ما جمعه الفقير (أي الجبرتي) وما تيسر ضمه أيضا وإرساله ... فلما رأيت ذلك وعلمت سببه، وتحققت رغبة الطالب لذلك جمعت ما كنت سودته وزدت فيه، وهي تراجم فقط دون الأخبار والوقائع، وفي أثناء ذلك ورد علينا نعي المترجم «المرادي»؛ ففترت الهمة، وطرحت تلك الأوراق في زوايا الإهمال مدة طويلة، حتى كادت تتناثر وتضيع، إلى أن حصل عندي باعث من نفسي على جمعها، مع ضم الوقائع والحوادث والمتجددات على هذا النسق ...»
وقد عثر الجبرتي في رسائل الزبيدي على الرسالة التي كان قد أرسلها إليه المرادي يستحثه على موافاته بالتراجم التي جمعها، وأثبت الجبرتي نص هذه الرسالة في كتابه «عجائب الآثار»، وتاريخها ربيع الثاني سنة 1200ه.
وفي سنة 1205ه انتشر الطاعون في مدينة القاهرة، وأصيب به الكثيرون ومات بالإصابة أعداد لا تحصى، «ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه، فلا تجد إلا مريضا أو ميتا، أو عائدا أو معزيا، أو مشيعا أو راجعا من صلاة جنازة أو دفن، أو مشغولا في تجهيز ميت، أو باكيا على نفسه موهوما، ولا تبطل صلاة الجنائز من المساجد والمصليات، ولا يصلى إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة، وندر جدا من يشتكي ولا يموت.»
11
ووافى يوم الجمعة من شهر شعبان من هذه السنة، وتوضأ السيد محمد مرتضى، وخرج يؤدي صلاة الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره بسويقة لالا، ولكنه لم يكد ينتهي من الصلاة حتى كانت العدوى قد انتقلت إليه، فعاد إلى منزله ولزم الفراش، واعتقل لسانه في تلك الليلة، ولم يطل به المرض غير يوم واحد، وأحست زوجته وأقاربها بدنو أجل الشيخ، فتركوه يعاني آلام مرضه، وشغلوا بجمع التحف والهدايا! ومات أبو الفيض محمد مرتضى يوم الأحد، ولكن الزوجة لم تعلن موته إلا يوم الإثنين بعد أن انتهت من نقل ما خف حمله وغلا ثمنه!
ولم يترك الرجل ابنا ولا ابنة، ولم يرثه أحد من الشعراء، ولم يصل عليه في الأزهر، ولم يمش وراء جنازته أحد من أصدقائه العلماء؛ فقد كان كل إنسان مشغولا بنفسه أو بغيره! وهكذا اختفى الرجل الذي كان ملء السمع والبصر في مصر وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ اختفى في صمت وهدوء، لم يشعر باختفائه إنسان، ولم يحتفل بموته إنسان، ولكنه خلف وراءه ثروة علمية ضخمة، وذكرى طيبة عطرة.
وقد دفن السيد محمد مرتضى بقبر أعده لنفسه بجانب زوجته الأولى، بمشهد السيدة رقية، رحمه الله، وأثابه بقدر ما قدم للعلم وللإسلام والعربية من خدمات، وإنها لكثيرة.
الفصل الرابع
الشيخ عبد الغني النابلسي
1050-1143ه/1641-1731م
ولد عبد الغني بن إسماعيل النابلسي في دمشق، في الخامس من ذي الحجة سنة 1050ه، أي في بداية النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري (17م) وعمر طويلا؛ فقد عاش ثلاثة وتسعين عاما، وتوفي في سنة 1143ه، أي في أواخر النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري (18م)، وقد كان خلال هذا القرن زعيم الحياتين: الدينية والأدبية في الشام دون منازع؛ فقد كان متعدد الثقافة غزير الإنتاج، ألف في موضوعات كثيرة متعددة.
وأسرته من نابلس أصلا، ولكنها انتقلت إلى دمشق، واستقرت بها قبل مولده بسنوات طويلة، وبرز من أفرادها كثيرون، نبغوا في ميادين العلم والدين والأدب؛ فالمحبي ترجم لجده في كتابه «خلاصة الأثر، 2 / 433» ووصفه بأنه «شيخ مشايخ الشام.»
وكانت الأسرة شافعية المذهب، غير أن أباه إسماعيل تحول إلى المذهب الحنفي، وكذلك كان عبد الغني.
وقد شغف عبد الغني - منذ صباه - بالتصوف، وراقته حياة الزهد والعبادة، فاتصل بشيوخ الطريقتين: القادرية والنقشبندية، ولم ينصرف في شبابه إلى ما كان ينصرف إليه أنداده من حياة اللهو والمتعة، وإنما اتخذ لنفسه خلوة في منزله، ولزم هذه الخلوة سبع سنوات طوالا، عكف في أثنائها - إلى جانب صلاته وتعبده - على دراسة مؤلفات ثلاثة من كبار المتصوفة الذين مزجوا الفلسفة بالتصوف، وهم: محيى الدين بن عربي وابن سبعين وعفيف الدين التلمساني.
وكان عبد الغني أديبا مرهف الحس وشاعرا مطبوعا؛ ولهذا كان الشعر في معظم الأحوال وسيلته للتعبير عن نفسه، وعن أحاسيسه الدينية والصوفية، وقد بدأ في شبابه، فنظم قصيدة طويلة في مدح الرسول أسماها «البديعيات» وهي أول إنتاجه الفكري.
وأعجب الناس بالبديعية إعجابا شديدا؛ فقد كانت قصيدة قوية معبرة رائعة؛ ولهذا ساورهم الشك أن يكون عبد الغني هو ناظمها ومنشئها، ولكن عبد الغني استطاع أن يسكت هذا الشك حين ألف شرحا لقصيدته.
وكان النابلسي محبا للرحلة، وله رحلات كثيرة زار فيها معظم أجزاء العالم الإسلامي، فكانت رحلته الأولى إلى إستانبول عاصمة الدولة في سنة 1075ه/1664م وهو بعد في الخامسة والعشرين من عمره.
وبعد خمس وعشرين سنة أخرى - أي في سنة 1100ه/1688م - زار البقاع ولبنان.
وفي سنة 1101ه/1689م زار بيت المقدس.
وفي سنة 1105ه/1693م زار مصر والحجاز.
وفي سنة 1112ه/1700م زار طرابلس الشام.
وفي كل هذه الرحلات، وفي كل هذه الأقطار والبلدان التي زارها كان دائم الصلة بالعلماء والمتصوفة يأخذ عنهم ويأخذون عنه، وقد ألف النابلسي كتبا كثيرة في وصف هذه الرحلات، غير أنه لم يعن في هذه الرحلات بوصف المدن والمشاهد والأماكن التي زارها من النواحي التاريخية والجغرافية والأثرية والطبوغرافية، وإنما عني - شأنه في ذلك شأن غيره من الرحالة في العصر العثماني - بوصف تجاريبه الصوفية الشخصية، واتصالاته بأعلام الفكر والأدب والتصوف الذين قابلهم؛ فرحلاته لهذا تلقي أضواء كثيرة على الحياتين: الثقافية والدينية في بلدان الشرق الإسلامي على عصره، وقد كانت هذه الرحلات أنموذجا احتذاه الرحالة من العلماء والأدباء الذين أتوا بعده، وخاصة تلميذه الرحالة والعالم الدمشقي مصطفى البكري، والرحالة والأديب المصري أسعد اللقيمي.
ويعتبر الشيخ عبد الغني بحق «شيخ مشايخ الشام» في عهده، وقد وصفه تلميذه المرادي في ترجمته له بأنه «أعظم من ترجمته علما وولاية وزهدا وشهرة ودراية»، والمرادي صادق في وصفه؛ فقد تتلمذ على النابلسي كل علماء عصره، فما منهم إلا من أخذ عنه أو حضر دروسه أو قرأ عليه أو كان من مريديه.
وقضى الشيخ عبد الغني حياته كلها إماما متعبدا أو مدرسا أو مؤلفا؛ ولهذا كثرت مؤلفاته، فبلغت نحو المائتين أو المائتين وخمسين مؤلفا، ونستطيع أن نصنف هذه المؤلفات إلى مجموعات ثلاث:
كتب في التصوف.
دواوين شعرية.
كتب في الرحلات.
أما كتبه الصوفية فإنه لم يأت فيها بجديد، وإنما هي في معظمها تعليقات وشروح لكتب نفر من كبار الصوفية السابقين؛ من أمثال ابن عربي، والجبيلي، وابن الفارض، وهو في هذه الشروح لا يلخص أو يجمل آراء هؤلاء المتصوفة السابقين، ولكنه يفسرها ويشرح غامضها، ويأتي في هذا التفسير والشرح بكثير من الجديد الذي يعتبر مرجعا هاما لدراسة آرائه الدينية والفقهية بوجه عام.
ودراستنا لهذه المجموعة من كتب النابلسي تبين أنه قد تأثر في آرائه الصوفية بتيارين من تيارات التفكير الصوفي، وهما: التيار المغربي الأندلسي الذي يمثله أبو مدين، وابن مشيش، والششتري. والتيار الفارسي التركي الذي يمثله أوحد الدين نوري، ومحمود الإسكوداري، ومحمد برجالي.
وإلى جانب هذه الشروح كتب النابلسي كذلك عن الطرق الصوفية التي كان ينتمي إليها، وخاصة الطريقة المولوية.
والذي نلاحظه أنه في آرائه الصوفية كان أكثر تأثرا بابن عربي وبفكرة وحدة الوجود، ويبدو هذا التأثر واضحا في الجزء الأول من ديوانه الكبير المسمى «ديوان الدواوين».
1
وهذا الديوان يشمل أصلا - إلى جانب هذا الجزء الأول في الشعر الصوفي - أجزاء ثلاثة أخرى تضم أشعارا كثيرة في مدح الرسول ومدائح ومراسلات أخرى، وأشعارا في الغزل، غير أن هذه الأجزاء الثلاثة لا تزال مخطوطة لم تطبع بعد.
وهذا الديوان يمثل المجموعة الثانية من مؤلفات النابلسي، وهي دواوين الشعر، ويبدو شغفه بالشعر واضحا كذلك في الشرح الذي وضعه لشعر ابن هانئ الأندلسي ولشعر ابن الفارض.
ولهذا اشتهر النابلسي في حياته وبعد مماته كشاعر، وتحدث عنه مؤرخو الأدب العربي عند حديثهم عن الشعراء.
أما رحلاته فقد أشرنا إلى خصائصها فيما سبق، وأهمها:
رحلة طرابلس.
الذهب الإبريز، في الرحلة إلى بعلبك وبقاع العزيز.
الحقيقة والمجاز، في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز.
الحضرة الأنسية، في الرحلة القدسية.
وللنابلسي مؤلفات أخرى كثيرة، تقع في مجلدات عدة، في علوم مختلفة؛ كالتفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، بل لقد ألف النابلسي في علوم وفنون أخرى غير العلوم الدينية والصوفية؛ فقد ألف كتابا في علم الفلاحة، وثانيا في تفسير الأحلام، وثالثا في تحليل شرب الدخان، وغير ذلك مما يدل على أنه كان موسوعي الثقافة والإنتاج.
المراجع
(1) مراجع الفصلين الأول والثاني (أ) مراجع عربية (1)
أمين (أحمد): زعماء الإصلاح في العصر الحديث، القاهرة، 1948م. (2)
الجبرتي (عبد الرحمن): عجائب الآثار في التراجم والأخبار، 4 أجزاء، بولاق، 1297ه، والقاهرة، 1322ه. (3)
أبو حديد (محمد فريد): سيرة عمر مكرم، القاهرة، 1937م. (4)
الرافعي (عبد الرحمن):
تاريخ الحركة القومية، الجزءان الأول والثاني، القاهرة، 1929م.
عصر محمد علي، القاهرة، 1930م. (5)
زيدان (جورجي): تاريخ آداب اللغة العربية، 4 أجزاء، القاهرة، 1937م. (6)
السبكي (تاج الدين عبد الوهاب): طبقات الشافعية، 6 أجزاء، القاهرة، 1324ه. (7)
سركيس (يوسف إليان): معجم المطبوعات العربية، القاهرة، 1928م. (8)
الشيال (جمال الدين):
تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية، القاهرة، 1951م.
تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي، القاهرة، 1952م.
رفاعة الطهطاوي (مجموعة أعلام الإسلام) القاهرة، 1946م.
الدكتور برون والشيخان محمد عياد الطنطاوي ومحمد عمر التونسي (مقال بمجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، العدد الثاني، 1944م).
الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث الجزء الأول، 1957م (مطبوعات معهد الدراسات العربية العالية). (9)
شيخو (لويس): الآداب العربية في القرن التاسع عشر، جزءان، بيروت، 1908م، 1910م. (10)
الصعيدي (عبد المتعال): المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجري، القاهرة (بدون تاريخ). (11)
الطويل (توفيق):
تاريخ التصوف في مصر إبان العصر العثماني، القاهرة، 1946م.
الشعراني، (مجموعة أعلام الإسلام) القاهرة، 1945م. (12)
عبد الكريم (أحمد عزت):
تاريخ التعليم في عصر محمد علي، القاهرة، 1938م.
تاريخ التعليم في عصور عباس وسعيد وإسماعيل، 4 أجزاء، القاهرة، 1945م. (13)
كلوت بك (الدكتور): لمحة عامة إلى مصر، الترجمة العربية بقلم محمد مسعود، جزءان، القاهرة (بدون تاريخ). (14)
لين (إدوارد وليم): المصريون المحدثون، شمائلهم وعاداتهم، الترجمة العربية بقلم عدلي طاهر نور، القاهرة، 1950م. (15)
مبارك (علي): الخطط التوفيقية الجديدة، 20 جزءا، بولاق، 1306ه. (16)
المحبي (محمد أمين بن فضل الله): خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، 4 أجزاء، القاهرة 1284ه. (17)
المرادي (أبو الفضل محمد خليل بن علي الدمشقي النقشبندي): سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، القاهرة، 1291ه. (18)
مؤنس (حسين): الشرق الإسلامي في العصر الحديث، الطبعة الثانية، القاهرة 1938م. (ب) مراجع غير عربية (1)
Carra de Vaux: Les Penseurs de l’Islam. 5 vols, Paris, 1926. (2)
Clot (Bey): Apercu Generale sur l’Egypte. 2 vols, Paris 1840. (3)
Combe (Etienne): L’Egypte Ottomane. de la Conquête par Sélim (1517) à l’Arrivée de Bonaparte (1798). Précis de l’Histoire d’Egypte. t. 3. 1 er partie. Le Caire, 1933. (4)
Daniêls (C. E.): La version Orientale, arabe et turque de Deux
1912. p.p. 295-312). (5)
Dunne (H): Introduction to the History of Education in modern Egypt. London 1939. (6)
Gibb (H. A. R.) & Bowen (Harold): Islamic Society and the West, vol. 1, parts I & II. London, 1951, 1957. (7)
Ghorbal (Shafik): The Beginnings of the Egyption Cuestion and the Rise of Mehemed Ali. London, 1928. (8)
Hanotaux (G): Histoire de la Nation Egyptienne. t V. l’Egypte Turque, Pashas et Mameluks du XVIe au XVIIIe siecle, l’Expediton du Général Bonaprte. Par Henri Deherain.
(9)
Lane (E, W): An account of the Manners and Customs of Modern Egyptions, London, 1836. (10)
Lane-Poole (St): Social Life in Egypt. London (no date). (11)
Lewis (Bernard): The Arabs in History, London, 1950. (12)
Rouyer: Notice sur les Médicamens Usuels des Egyptiens. In (Description de l’Egypte. I, 1217-32). (13)
Savary (C. de): Lettres sur l’Egypte. 3 vols. Paris, 1785-6 (English trans: Letters on Egypt. 2 vols. London, 1787). (14)
Trimingham: Islam in the Sudan. London, 1949. (15)
Volney: Voyage en Egypte et en Syrie, 1783-5. 2 vols, paris, an VII. (2) مراجع الفصل الثالث: السيد محمد مرتضى الزبيدي (أ) مؤلفاته (1) الابتهاج بختم صحيح مسلم بن الحجاج. (2) إتحاف الأصفياء بسلاسل الأولياء. (3) إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، 10 أجزاء، القاهرة، 1311ه. (4) إتحاف سيد الحي بسلاسل بني طي. (5) اختصار مشيخة أبي عبد الله البياني. (6) أربعون حديثا في الرحمة. (7) أرجوزة في الفقه (نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسني المقدسي). (8) الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة (وقد اختصره الأمير صديق حسن، وطبع المختصر في الهند). (9) إعلام الأعلام بمناسك حج بيت الله الحرام. (10) الإشغاف بالحديث المسلسل بالأشراف. (11) إكليل الجواهر الغالية في رواية الأحاديث العالية. (12، 13) ألفية السند ومناقب أصحاب الحديث (وهي في ألف وخمسمائة بيت، وشرحها في عشر كراريس). (14) الأمالي الحنفية (في مجلد). (15) الأمالي الشيخونية (في مجلدين، وذكر الكتاني أنها بلغت أربعمائة مجلس إلى تاريخ إجازته لأبي الأمداد محمد بن إسماعيل الربعي اليمني، وذلك عام 1195ه). (16) الانتصار لوالدي النبي المختار. (17) إنجاز وعد السائل في شرح حديث أم زرع من الشمائل (في ثمانية كراريس). (18) إيضاح المدارك عن نسب العواتك (رسالة صغيرة). (19) بذل المجهود في تخريج حديث: «شيبتني هود». (20) بلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب، القاهرة، 1326ه. (21) تاج العروس من شرح جواهر القاموس، 10 أجزاء، القاهرة، 1306ه. (22) التحبير في الحديث المسلسل بالتفكير. (23) تخريج أحاديث الأربعين النووية. (24) تحفة الودود في ختم سنن أبي داود. (25) ترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب. (26) التعليقة الجليلة على مسلسلات ابن عقيلة. (27) التغريد في الحديث المسلسل بيوم العيد. (28) تفسير على سورة يونس. (29) تكملة على شرح حزب البكري للفاكهي. (30) تنبيه العارف البصير على أسرار الحزب الكبير (شرح حزب البر لأبي الحسن الشاذلي)، القاهرة، 1323ه. (31) جزء: طرق: اسمح يسمح لك. (32) جزء في حديث: «نعم الإدام الخل». (33) الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة (قال عنه الكتاني: وهو كتاب حافل، رتبه ترتيب كتب الحديث؛ من تقديم ما روي عنه في الاعتقادات، ثم العمليات؛ على ترتيب كتب الفقه). (34) حديقة الصفا في والدي المصطفى، «وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغي». (35) حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق، «نشره عبد السلام هارون ضمن مجموعة نوادر المخطوطات، ج5، القاهرة، 1954م». (36) حلاوة الفانيد في إرسال حلاوة الأسانيد. (37) رسالة في تحقيق قول أبي الحسن الشاذلي: «وليس من الكرم ...» إلخ. (38) رسالة في تحقيق لفظ الإجازة. (39) رسالة في طبقات الحفاظ. (40) رسالة في المناشي والصفين. (41) رفع الكلل عن العلل، «أربعون حديثا انتقاها من الدارقطني». (42) رفع الشكوى لعالم السر والنجوى. (43) رشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق. (44) رشفة المدام المختوم البكري من صفوة زلال صيغ القطب البكري. (45) رفع نقاب الخفا عمن انتمى إلى وفا وأبي الوفا. (46) الروض المؤتلف في تخريج حديث: يحمل هذا العلم من كل خلف. (47) زهر الأكمام، المنشق عن جيوب الإلهام، بشرح صيغة سيدي عبد السلام. (48) شرح الصدر في أسماء أهل بدر (في أربعين كراسا ألفها لعلي أفندي درويش). (49) شرح على خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني على تفسير سورة يونس. (50) العروس المجلية في طرق حديث الأولية. (51) عقد الجمان في أحاديث الجان. (52) عقد الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة. جزءان، الإسكندرية 1292ه. (53) عقد الجوهر الثمين في الحديث المسلسل بالمحمدين. (54) العقد المكلل بالجوهر الثمين في طرق الإلباس والذكر والتلقين. (55) العقد الثمين في حديث: اطلبوا العلم ولو بالصين. (56) عقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحزاب (صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني). (57) الفجر البابلي في ترجمة البابلي. (58) قلنسوة التاج في بعض أحاديث صاحب الإسراء والمعراج. (59) قلنسوة التاج (رسالة بنفس العنوان ألفها باسم الشيخ محمد بدير المقدسي، وذلك لما أكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس، فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر، وذلك في سنة 83؛ ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الأجهوري ويكتب عليها تقريظا، ففعل ذلك، وكتب يستجيزه، فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة، وسماها قلنسوة التاج). (60) القول الصحيح في مراتب التعديل والتجريح. (61) القول المثبوت في تحقيق لفظ التابوت. (62) كشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام. (63) لقط اللآلي من الجوهر الغالي (وهي في أسانيد الأستاذ الحفني، وكتب له إجازته عليها في سنة 67، وذلك سنة قدومه إلى مصر). (64) المربى الكابلي فيمن روى عن الشمس البابلي. (65) المرقات العلية في شرح الحديث المسلسل بالأولية. (66) المعجم الأكبر، «قال الكتاني: إنه وقف على نسخة منه بالمدينة المنورة في مكتبة شيخ الإسلام، واستنسخه لنفسه، وإنه يشتمل على نحو ستمائة ترجمة من مشايخه والآخذين عنه.» (67) المعجم الصغير. (68) معجم شيوخ السجادة الوفائية. (69) معجم شيوخ العلامة عبد الرحمن الأجهوري شيخ القراء بمصر. (70) مقامة سماها إسعاف الأشراف. (71) مناقب أصحاب الحديث، «منظومة في مائتين وخمسين بيتا». (72) منح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الإلهية. (73) المواهب الحلبية فيما يتعلق بحديث الأولية. (74) نشق الغوالي من تخريج العوالي (عوالي شيخه علي بن صالح الشاوري). (75) نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح، ليدن 1303ه. (76) النفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية (جمع فيه أسانيد العيدروس، وهي في نحو عشر كراريس). (77) النوافح الملكية على الفوائح الكشكية. (78) هدية الإخوان في شجيرة الدخان. (79) الهدية المرتضية في المسلسل بالأولية. (ب) مراجع عربية: عن الزبيدي (1)
الجبرتي (عبد الرحمن): عجائب الآثار في التراجم والأخبار، 4 أجزاء، القاهرة، 1323ه. (2)
الزركلي (خير الدين): الأعلام، 3 أجزاء، القاهرة، 1928م. (3)
زيدان (جورجي): تاريخ آداب اللغة العربية، القاهرة، 1937م. (4)
سركيس (يوسف إليان): معجم المطبوعات العربية، القاهرة، 1928م. (5)
الشبلنجي (مؤمن بن حسن): نور الأبصار في مناقب آل البيت المختار، مطبعة عبد الحميد حنفي بالقاهرة (بدون تاريخ). (6)
شيبوب (خليل): عبد الرحمن الجبرتي، مجموعة اقرأ. (7)
شيخو (لويس): الآداب العربية في القرن التاسع عشر، جزءان، بيروت، 1908-1910م. (8)
العيدروس (عبد الرحمن): تنميق الأسفار، القاهرة، 1304ه. (9)
الكتاني (عبد الحي): فهرس الفهارس والأثبات، ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، جزءان، المطبعة الجديدة بفاس، 1346-1347ه. (10)
مبارك (علي): الخطط التوفيقية الجديدة، 20 جزءا، بولاق، 1306ه. (11)
المرادي (أبو الفضل محمد خليل بن علي): سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، القاهرة، 1291ه. (ج) مراجع غير عربية عن الزبيدي (1)
Brockelmann (Carl): Geschichte der Arabichen Litteratur.
Leiden, 1898-1939. (2)
Gibb (H, A, R): Mohammedanism, London 1950. (3)
Enc. Isl. Art, al-Murtada. (3) مراجع الفصل الرابع: الشيخ عبد الغني النابلسي (أ) مؤلفاته (1)
الأحكام الملخصة. (2)
إزالة الخفا عن حلية المصطفى. (3)
الأنس الوافر فيمن قال أنا مؤمن فهو كافر. (4)
انطلاق القيود في شرح مرآة الوجود. (5)
أنوار السلوك في أسرار الملوك. (6)
أوراد سيدي عبد الغني النابلسي، دمشق (بدون تاريخ)، يقال: إنه أول كتاب طبع في دمشق. (7)
إيضاح الدلالات في جواز سماع الآلات، المطبعة الحنفية، دمشق، 1302ه (وطبع طبعة أخرى مع كتاب المقامات لأبي حيان التوحيدي). (8)
إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود (نشره الأب أ. عبده خليفة اليسوعي في مجلة المشرق 1953م، العدد 3، ص304-317). (9)
بديعيتان: إحداهما لم يلتزم فيها اسم النوع، والثانية التزم فيها (شرحها القلعي مع البديعيات العشر). (10)
بذل الإحسان في تحقيق معنى الإنسان. (11)
برهان الثبوت في تربة هاروت وماروت. (12)
بقية الله خير بعد الفناء في السير. (13)
بواطن القرآن ومواطن العرفان (منظوم كله على قافية التاء المثناة، وصل فيه إلى سورة براءة، فبلغ نحو الخمسة آلاف بيت). (14)
التحرير الحاوي بشرح تفسير البيضاوي (بدأ فيه من أول سورة البقرة إلى قوله تعالى:
من كان عدوا لله ، ثلاثة مجلدات، وشرع في الرابع). (15)
تحريك سلسلة الوداد في مسألة خلق أفعال العباد. (16)
تحريك الإقليد في فتح باب التوحيد. (17)
تحقيق الانتصار في اتفاق الأشعري والماتريدي على الاختيار. (18)
تحقيق الذوق والرشف في معنى المخالفة بين أهل الكشف. (19)
تعطير الأنام في تعبير المنام (فرغ من تأليفه سنة 1096ه)، طبع بالقاهرة، 1275ه، وبهامشه: منتخب الكلام في تفسير الأحلام لابن سيرين، والإشارات في علم العبادات لابن شاهين، وطبع في جزأين، بولاق، 1294ه، والمطبعة الأزهرية، 1302ه، ومطبعة عبد الرازق، 1304ه، ومصر، 1306ه، و1316ه. (20)
تحفة ذوي العرفان في مولد سيد ولد عدنان، مطبعة الفيحاء، دمشق 1332ه. (21)
تحفة المسألة بشرح التحفة المرسلة (والأصل المشروح للشيخ محمد فضل الله الهندي). (22)
توفيق الرتبة في تحقيق الخطبة. (23)
الجواب التام عن حقيقة الكلام. (24)
الجواب المعتمد على سؤالات أهل صفد. (25)
جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص (بهامشه: شرح منلا عبد الرحمن الجامي على فصوص الحكم لابن عربي، ج1، مطبعة الزمان، 1304ه، ج2، المطبعة الشرفية، 1323ه). (26)
الحامل في الملك، والمحمول في الفلك، في أخلاق النبوة والرسالة والخلافة في الملك. (27)
الحديقة الندية في شرح الطريقة المحمدية (وهو شرح على الطريقة المحمدية للبيركلي، جزءان، مصر، 1862م). (28)
الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية (وصف فيها رحلته من دمشق إلى القدس سنة 1101ه، وفرغ من تصنيفها في 9 ذي الحجة من نفس السنة)، مطبعة الإخلاص، 1902م. (29)
الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز. (30)
حلية الذهب الإبريز في الرحلة إلى بعلبك وبقاع العزيز. (31)
خلاصة التحقيق (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (32)
خمرة بابل وعناء البلابل (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (33)
خمرة الحان ورنة الألحان، شرح رسالة الشيخ أرسلان. (34)
دفع الاختلاف من كلام القاضي والكشاف. (35)
ديوان الحقائق ومجموع الرقائق في صريح المواجيد الإلهية والتجليات الربانية والفتوحات الأقدسية (وهو الباب الأول من ديوان الدواوين وريحان الرياحين في تجليات الحق المبين)، بولاق، 1270ه، مطبعة شرف، 1306ه، مصر، 1330ه. (36)
ديوان الدواوين وريحان الرياحين في تجليات الحق المبين (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (37)
ديوان المراسلات (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (38)
ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث. (39)
ذيل نفحة الريحانة للمحجي الدمشقي (في الرجال). (40)
رائحة الجنة في شرح إضاءة الدجنة. (41)
ربع الإفادات في ربع العبادات (قال الجبرتي: وهو مؤلف جليل في مجلد ضخم في فقه الحنفية، نادر الوجود). (42)
الرحلة الحجازية والرياض الأنسية في الحوادث والمسائل الفقهية، مصر (بدون تاريخ). (43)
رحلة طرابلس. (44)
رد المفتري على الطعن في الششتري (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (45)
رسالة في قوله عليه السلام: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا». (46)
رشحات الأقلام في شرح كفاية الغلام (انظر: كتاب كفاية الغلام). (47)
روض الأنام في بيان الإجازة في المنام. (48)
زبد الفائدة في الجواب عن الأبيات الواردة. (49)
زهر الحديقة في ترجمة رجال الطريقة. (50)
السر المختبي في ضريح ابن العربي. (51)
صرف العنان إلى قراءة حفص بن سليمان. (52)
صفوة الأصفياء في بيان الفضيلة في الأنبياء. (53)
الصلح بين الإخوان في حكم بإباحة الدخان (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (54)
الطلعة البدرية في شرح القصيدة المضرية (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (55)
طلوع الصباح على خطبة المصباح. (56)
الظل الممدود في معنى وحدة الوجود. (57)
العبير في التعبير (مخطوط بمكتبة بلدية إسكندرية). (58)
علم الملاحة في علم الفلاحة، دمشق 1291ه. (59)
العقود اللؤلؤية في طريق السادة المولية، مطبعة المقتبس، دمشق، 1329ه. (60)
الفتح الرباني والفيض الرحماني. (61)
الفتح المدني في النفس اليمني. (62)
الفتح المكي واللمح الملكي. (63)
فتح المعين المبدي شرح منظومة سعدي أفندي. (64)
الفتوحات المدنية في الحضرات المحمدية. (65)
الفيض الرباني والفيض الرحماني. (66)
قطرة السماء ونظرة العلماء. (67)
قلائد المرجان في عقائد أهل الإيمان. (68)
القول الأبين في شرح قصيدة أبي مدين. (69)
القول العاصم في قراءة حفص عن عاصم. (70)
كتاب الجواب عن الأسئلة المائة والإحدى والستين. (71)
كشف السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض. (72)
كشف النور عن أصحاب القبور. (73)
كنز الحق المبين في أحاديث سيد المرسلين . (74)
كفاية الغلام في حملة أركان الإسلام (على مذهب أبي حنيفة) مطبعة شرف بالقاهرة، 1308ه، الإسكندرية، 1281ه، دمشق، 1283ه. (75)
الكوكب الساري في حقيقة الجزء الاختياري. (76)
كوكب الصبح في إزالة القبح. (77)
كوكب المباني وموكب المعاني (مخطوطة بمكتبة بلدية إسكندرية). (78)
لمعان الأنوار في المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار. (79)
لمعان البرق النجدي شرح تجليات محمود أفندي. (80)
لمعة النور المضية شرح الأبيات السبعة الزائدة من الخمرية الفارضية. (81)
المجالس الشامية في مواعظ أهل البلاد الرومية. (82)
المعارف الغيبية في شرح العينية الجيلية. (83)
مجموعات كثيرة لرسائله (في مختلف المكتبات). (84)
مفتاح المعية في الطريقة النقشبندية. (85)
المقام الأسمى في امتزاج الأسما. (86)
المقصود في وحدة الوجود. (87)
منظومة في أسماء الله الحسنى. (88)
نخبة المسألة في شرح التحفة المرسلة. (89)
النظر المشرفي في معنى قول الشيخ عمر بن الفارض: «عرفت أم لم تعرف». (90)
نفحات الأزهار على نسمات الأسحار (في مدح النبي)، بولاق، 1299ه، دمشق، 1299ه. (91)
النفحات المنتشرة في الجواب عن الأسئلة العشرة. (92)
نهاية السول في حلية الرسول. (93)
الوجود الحق والخطاب الصدق. (ب) مراجع عربية: عن النابلسي (1)
البستاني (فؤاد أفرام): ما قبيل النهضة، الشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ أحمد الحر، مجلة المشرق، 1951م، العدد الأول، ص71-80. (2)
البكري (مصطفى): الفتح الثري في الشيخ عبد الغني (مخطوط). (3)
الجبرتي (عبد الرحمن): عجائب الآثار في التراجم والأخبار، 4 أجزاء، القاهرة، 1323ه. (4)
الخالدي (أحمد سامح): رحلة إلى ديار الشام، يافا، 1946م. (5)
حيدر (الأمير): لبنان، نشر رستم، ج. أ. (6)
شبلي (الأب أنطونيوس اللبناني): الفتح الرباني والفيض الرحماني، للشيخ عبد الغني النابلسي (تعريف بالكتاب في مجلة المشرق، 1947م، العدد 4، ص586-611). (7)
عبود (مارون): رواد النهضة الحديثة، بيروت، 1952م. (8)
ابن عربي: فصوص الحكم؛ نشر الدكتور أبو العلا عفيفي، القاهرة، 1946م. (9)
الكتاني (عبد الحي): فهرس الفهارس والأثبات، ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، جزءان، المطبعة الجديدة بفاس، 1346-1347ه. (10)
المرادي (محمد خليل بن علي): سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، القاهرة، 1291ه. (ج) مراجع غير عربية عن النابلسي (1)
Gibb (H, A, R,): Mohammedanism, London 1950. (2)
Gibb (H, A, R,) & Bowen (Harold): Islamic Society and the west, vol l, paris I, II, London, 1950-1957. (3)
Khalidi (W, A, S,): Abd al-Ghani B, Ismil al-Nabulsi (art, Enc, Isl, new Edition). (4)
Massignon: La passion de al-Hallaj. (5)
Nicholson: Studies in Islamic Mysticism. Cambridge 1921.
Bilinmeyen sayfa