Haqiqat al-Ta’wil - Part of 'Athar al-Mu’allimi'
حقيقة التأويل - ضمن «آثار المعلمي»
Araştırmacı
عدنان بن صفا خان البخاري
Yayıncı
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٤ هـ
Türler
الرسالة الأولى
حقيقة التأويل
6 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، ويسّر الدّين لعباده ولم يجعل في معرفته ضيقًا ولا حرجًا، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، شهادة من تحقّق بها فقد نجا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السّالك بمتبعيه سراطًا قيِّمًا وسبيلًا منهجًا، فأقامهم على أوضح المسالك، وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلَّا هالك، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله، ورضي الله عن صحابته المتقدمين بقاله وحاله.
أمّا بعد:
فهذه رسالةٌ في حقيقة التأويل، وتمييز حقه من باطله، وتحقيق أنّ الحقَّ منه لا يلزم من القول به نسبة الشريعة إلى ما نزَّهها الله ﷿ عنه من الإيهام والتورية، والإلغاز والتّعمية، ومن الله ﷿ أستمدُّ المعونة والتوفيق.
6 / 5
الباب الأول: في معنى التأويل
التأويل في اللغة: مصدر أوّل يُؤوِّل، وأوّل فعَّل ــ بتشديد أوسطه ــ ثلاثيُّه آل يَؤوْلُ أوْلًا.
قال أهل اللغة: الأوْلُ الرجوع. وهذا تفسيرٌ تقريبي.
وأغلب ما تستعمل في الرجوع، الذي فيه معنى الصَّيرورة.
ومن أمثلة اللغويين: "طُبِخَ الشَّراب فآل إلى قَدْر كذا وكذا". ولذلك عدَّ بعض النُّحاة "آل" في الأفعال التي تجيء بمعنى "صار"، وتعمل عملها.
و"آل" قريبٌ من معنى "حال"، أي: تَحَوَّل من حالٍ إلى حال، وأكثر ما يقال: اسْتَحَال. وفي الحديث: "فاسْتَحالَت غَرْبًا" (^١)، إلَّا أنَّ "حال" و"اسْتَحَال" يختص بما تحوَّل إلى حالٍ غير ناشئةٍ عن حالهِ الأولى؛ و"آل" تكون حاله الثانية ناشئة عن الأولى، كقولك: "ربما تَؤُول البدعة إلى الكفر". أو ناشئة عما جُعل "آل" غاية له، كقولهم: "طُبِخَ الشَّراب حتى آل إلى قَدْر كذا وكذا".
وفرقٌ ثان، وهو أنّ "حال" و"اسْتَحَال" قد يكون بسرعة، كما في الحديث: "فاسْتَحَالَت غَرْبًا". و"آل" يقتضي أنَّه بعد مُدَّةٍ، كما في "طُبِخَ الشَّراب"، أو ما هو كالمُدَّة، وذلك أن يكون في رجوع الشيء إلى الشيء بغموضٍ وخفاء، كقولك: إنّ إخراج النصوص الشرعية عن ظواهرها بمجرّد الرأي والهوى يؤول إلى الكفر؛ تريد أنّه كفر، إلَّا أنّ كونه كفرًا إنّما يُعْلَم بعد
_________
(^١) أخرجه البخاري (٣٦٨٢) من حديث ابن عمر ﵄، وبرقم (٧٤٧٥) ومسلم (٢٣٩٢) من حديث أبي هريرة ﵁.
6 / 6
تروٍّ وتدبُّرٍ؛ ولذلك لا يكفر كلُّ من فعل ذلك؛ لأنّه قد يكون معذورًا.
والتّأويل مأخوذٌ من هذا، فهو أن يجعل الكلام يؤول إلى معنى لم يكن ظاهرًا منه، فآل الكلامُ إلى أنْ حُمِلَ على ذلك المعنى بعد أن كان غير ظاهرٍ فيه.
والتّأويل قد يكون للرُّؤيا، وقد يكون للفعل، وقد يكون للَّفظ.
فأمّا تأويل الرُّؤيا: فالأصلُ فيه أنّه مصدر أَوَّلَ العابرُ الرُّؤيا تأويلًا، أي: ذكر أنَّها تؤول إلى كذا، ويذكر ما يزعم أنّه رمز بها إليه.
وكثيرًا ما يُطلق على المعنى الذي تؤول به، ومنه ــ والله أعلم ــ قول الله ﷿ حكاية عن جلساء ملك مصر: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف: ٤٤]، ومواضع أخرى في سورة يوسف.
ويطلق على نفس الواقعة التي كانت الرؤيا رمزًا إليها، ومنه ــ والله أعلم ــ قول الله ﷿ حكاية عن يوسف ﵇: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾ [يوسف: ١٠٠]؛ فجعل نفس سجود أبويه وإخوته له هو تأويل رؤياه التي ذكرها بقوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤].
وأمّا تأويل الفعل: فهو توجيهه بذكر الباعث عليه والمقصود منه؛ فيتبين بذلك أنه على وفق الحكمة بعد أن كان متوهما فيه أنّه مخالفٌ لها، ومنه ما حكاه الله ﷿ عن الخضر: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨].
وقد يطلق على العاقبة التي يؤول إليها الفعل؛ وبه فسّر قتادة وغيره قول الله ﷿: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩].
6 / 7
وأمّا تأويل اللفظ: فالأصل فيه أن يحمل على معنى لم يكن ظاهرًا منه، فالكلام الذي لا يظهر معناه لكثيرٍ من سامعيه يكون بيان أنّ معناه كذا تأويلًا، والكلام الذي يظهر منه معنىً يكون بيان أنّ معناه غير ذلك الظاهر تأويلًا.
ويُطلَق على نفس المعنى الذي حُمِل عليه.
ويُطلَق على نفس الحقيقة التي عُبّر عنها باللفظ؛ فإذا قال المفسِّر في قوله تعالى: ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ [القلم: ٢٥]، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: ١٥]، ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩]، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: ٦٨]، ﴿سَأُرْهِقُهُ (^١) صَعُودًا﴾ [المدثر: ١٧]. "الحَرْدُ": المنعُ، "ويلٌ وغيٌّ وأثام": أوديةٌ في جهنم. و"صَعُودٌ": جبلٌ فيها. فحَمْلُه إيّاها على هذه المعاني هو التّأويل بالإطلاق الأوّل.
ونفسُ تلك المعاني هي التأويل بالإطلاق الثاني.
يُقال: ما تأويل الحَرْد؟ فيُقال: المنع، وما تأويل صَعُود؟ فيُقال: تأويله أنّه جبل في جهنم.
ونفس المنع، وتلك الأودية، وذلك الجبل: هي التأويل بالإطلاق الثالث.
ويحتمل الأوّل والثّاني دعاءُ النبي ﵌ لابن عباس: "اللهم فقِّهْهُ في الدّين وعلّمه التّأويل" (^٢).
_________
(^١) في الأصل: "سنرهقه".
(^٢) أخرجه البخاري (١٤٣) ومسلم (٢٤٧٧) من حديث ابن عباس، دون قوله: "وعلمه التأويل". وأخرجه بهذا التمام أحمد (١/ ٢٦٦) وابن حبان في "صحيحه" (٧٠٥٥) والحاكم في "المستدرك" (٣/ ٦١٥) وصحَّح إسناده، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (٧/ ٢٨٥): "بسند صحيح".
6 / 8
وفي رواية: "اللَّهم علِّمه الحكمة وتأويل الكتاب" (^١).
وقد ذكر الحافظ طرق الحديث في "الفتح"، في كتاب العلم، في شرح باب قول النبي ﵌: "اللَّهم علّمه الكتاب" (^٢).
ويحتمل أن يكون المراد: "عَلِّمه كيف يؤول"؛ فيكون من الإطلاق الأول، ويحتمل أن يكون المراد: "علِّمه المعاني التي تؤول إليها ألفاظ الكتاب"، فيكون من الإطلاق الثاني، والله أعلم.
ومن الثالث: قول الله ﵎: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ٥٢ ــ ٥٣]، وقوله ﷿: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى .... بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس: ٣٧ ــ ٣٩].
_________
(^١) أخرجها البخاري (٣٧٥٦) من حديث ابن عباس، دون قوله: "وتأويل الكتاب". وأخرجها بهذا التمام ابن ماجه (١٦٦) من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذَّاء عن عكرمة عن ابن عباس ﵄. قال الحافظ في "الفتح" (١/ ١٧٠): "هذه الزيادة مستغربة من هذا الوجه، فقد رواه الترمذي والإسماعيلي وغيرهما من طريق عبد الوهاب بدونها، وقد وجدتها عند ابن سعد من وجهٍ آخر عن طاوس عن ابن عباس ... ".
(^٢) الفتح (١/ ١٧٠).
6 / 9
الباب الثاني: مقدمة في الصدق والكذب
اعلمْ أنَّ من أعظم نِعَم الله ﷿ على عباده تيسيره لهم الكلام، الذي يتفاهمون به، ولولاه لكانوا كالأنعام أو أضل سبيلًا. أَلَا ترى أنَّ الإنسان إذا نَشَأ مُنْفَرِدًا عن أبناء جِنْسه لا يُدرِك إلَّا ما وقعت عليه حواسُّه، والحواسُّ لا تهتدي إلى حقائق الأشياء، فإذا رأى مثلًا شجرةً لم يهْتَدِ إلى معرفة نفعها من ضرّها إلَّا بتجربةٍ، والتجربة قد تُودِي بحياته، ثمَّ لا يهتدي إلى صفة استنباتها، والقيام عليها وإصلاحها إلَّا بتجربةٍ، قد يفوز فيها، وقد لا يفوز. ولعلَّه يقضي عمره كلَّه في بضع تجارب، ولا يتفرَّغ مع ذلك للنظر في غير قوته، فلا يمكنه تحصيل علمٍ، ولا إتقان صناعةٍ، ولا معرفة ما لم يقع عليه بصرُه من الأرض. فأمّا الدِّين فلا وَصْلَة بينه وبينه إلَّا بعض أمورٍ كليةٍ، إذا قُضِيَ له أن يتفرّغ لها، ورُزِقَ عقلًا صحيحًا، وذكاءً مرهفًا.
ثُمّ إذا اجتمع هذا بأمثاله، ولم يكن هناك كلامٌ يتفاهمون به، فقد يتعاونون على تحصيل القُوت ونحوه تعاون النمل والنحل، ولكنَّه لا يستطيع أحدهم أنْ يُطْلِعَ الآخر على ما اطَّلَعَ عليه، إلَّا بأن يذهب به إلى ذلك الشيء حتى يَقِفَه عليه، فإذا كان الذي اطَّلَعَ عليه الأول معنىً من المعاني تعذَّر إطْلَاعُه الآخر عليه.
نعم هنالك الإشارة، ولكنَّها ضئيلة الفائدة عسرة الفهم، وأنت ترى الأخرس وما يُعانيه من مشقَّة الحياة، وترى الغريب إذا دخل بلد قومٍ لا يعرفها، ولا يعرف لغتهم، ولا يعرفون لغته ما تكون حاله! فيسَّر الله ﷿ للنَّاس بالكلام أنْ يَطَّلِعَ أحدهم على جميع ما اطَّلَعَ عليه ألوفٌ منهم بأيسر وقتٍ.
6 / 10
فالقضية التي لا يُمكن أن يفهمها بالإشارة، أو يمكن أن يفهمها بعد صرف ساعةٍ أو ساعتين يفهمها بكلمةٍ واحدةٍ، وبذلك بَلَغَ الإنسانُ إلى ما تراه من العِلْم والمدنيَّة.
إذن فلولا الكلام لكان الناس كالأنعام. فنعمةٌ هذا شأنها وخطرها ما عسى أن يكون حالُ من استعملها في نقيض مقصودها؟!
أَلَا ترى لو أنَّ امرأةً سافرت برضيعها، فنَزَلَت في بيتٍ من مدينة، ثم تَرَكَت طفلها وخَرَجَت، ولمَّا أرادت الرجوع إلى البيت لإرضاع طفلها لم تهتد إلى الطريق، فسألت شخصًا، وذكرت له اسم المحلَّة، فأرشدها إلى الطريق، فرَجَعَت إلى طفلها، فوجدته يكاد يموت، وعَلِمَت أنها لو تأخَّرَت ساعةً مات؛ فأرضعته. ثم تدبَّرَت نعمة الكلام، أليست تعلمُ أنَّها لو كانت بكماء لمات ابنها.
فافرض أنّ الذي سَأَلَتْه كذب عليها، فأراها طريقًا تؤدي إلى محلَّة أخرى فذهبت فيها، فمَشَت ساعةً أو أكثر، ثمَّ تبيَّن لها الأمر فسألت آخر فأرشدها، فلم تبلغ البيت إلَّا وقد مات طفلها، أليست تتمنَّى أنَّ الذي كذب عليها لم يُخْلَق، أو أنّه كان أصمَّ لا يسمع سؤالها، أو نحو ذلك؟ بلى، وكلُّ إنسان يتمنَّى معها ذلك.
ثم افرض أنَّ الذي أخبرها أوَّلًا وَرَّى في خبره، كأن قال لها: هذا القطار يذهب إلى تلك المحلَّة، وأومأ إلى قطار ذاهب إلى جهةٍ أخرى، وعَنَى أنَّه عند رجوعه يذهب إلى تلك المحلَّة أَلَا تكون النتيجة واحدة، والمفسدة واحدة؟ سواء أَوَرَّى أم لم يُوَرِّ.
6 / 11
تشديد الشارع في الكذب
أمّا الكذب على الله ﷿؛ بأن تُخبر عن الله بما لا علم لك به، ومنه الكذب على رسوله في أمور الدين، فقد نصَّ القرآن على أنَّه من أشد الكفر، وقد أوضحنا هذا في رسالة "العبادة"، بما لا مزيد عليه.
وأمّا الكذب في غير ذلك؛ ففي "الصحيحين" (^١) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﵌: "آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِن خان".
زاد مسلم (^٢) ــ بعد قوله: "ثلاثٌ" ــ: "وإنْ صام وصلَّى وزَعَم أنَّه مسلم".
وفيهما (^٣): عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﵌: "أربعٌ من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كَذَب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر".
ورُوِيَ من حديث أبي أمامة، وسعد بن أبي وقاص، عن النبي ﵌ قال: "يُطْبَع المؤمن على الخِلال كلِّها، إلّا الخيانة والكذب" (^٤).
_________
(^١) البخاري (٣٣)، ومسلم (٥٩).
(^٢) حديث (٥٩).
(^٣) البخاري (٣٤) ومسلم (٥٨)، وهذا لفظ البخاري.
(^٤) أما حديث أبي أمامة فأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (١٣/ ١٥٢) وأحمد في "المسند" (٥/ ٢٥٢) من طريق الأعمش قال: حُدِّثتُ عن أبي أمامة ﵁ بنحوه. ورجاله ثقات غير أنه منقطع.
وأمَّا حديث سعد فأخرجه أبو يعلى (٧١١) والبزَّار (٣/ ٣٤٠) والبيهقي (١٠/ ١٩٧) والضياء في "المختارة" (٣/ ٢٥٨) وغيرهم، من طريق علي بن هاشم بن البريد عن الأعمش عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن أبيه ﵁ به مرفوعًا. قال البزَّار: "رُوِيَ عن سعد من غير وجهٍ موقوفًا، ولا نعلم أسنده إلّا علي بن هاشم بهذا الإسناد". وأشار الدارقطني في "العلل" (٤/ ٣٣٠) إلى مخالفة ابن البريد بذكره أبا إسحاق في إسناده، ثم رجَّح وقفه على سعد، وكذا رجَّحه أبو زرعة الرازي كما في "العلل" لابن أبي حاتم (٢/ ٣٢٨).
ورُوِيَ من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة العبسي ــ وهو متروك ــ عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك به.
ورُوِيَ أيضًا من حديث ابن عمر وابن أبي أوفى وأبي بكر وابن مسعود وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا ولا يصحُّ في المرفوع شيءٌ.
وينظر في تخريج الحديث والكلام على طرقه: "السلسلة الضعيفة" للألباني (٣٢١٥)، وتخريج الشيخ شعيب الأرناؤوط لـ"مسند أحمد" (٣٦/ ٥٠٤ ــ ٥٠٥).
6 / 12
وإذا تدبَّرتَ وجدتَ الأمور المذكورة كلَّها تدور (^١) على الكذب، فمن كان إذا وَعَدَ أخْلَفَ فإنَّه يكذب في وعده، فيقول: سأفعل، وهو يريد أن لا يفعل!
والخائن موطِّنٌ نفسه على الكذب، يقال له: عندك كذا، أو فعلت كذا؟ فيقول: لا.
ومن كان إذا عاهَدَ غَدَر فهو كالوعد، بل لو كانت نيَّتُه عند المعاهدة أن يَفِي ثم غدر لكان كاذبًا، لأنَّ قضية المعاهدة أنَّه سَيَفِي حتمًا، بخلاف الوعد،
_________
(^١) في الأصل: "يدور".
6 / 13
فإنَّ العادة كالمقاضية (^١) بأنّ مراده أنّه سيفعل إذا لم يعرض له ما يغيّر رأيه.
وأمَّا الفجور في الخصومة فمعناه: أنّه يفتري على خصمه ويَبْهَتُه بما ليس فيه، وذلك هو الكذب.
وحسبُك أنّ الإنسان المعروف بالكذب قد سَلَخَ نفسه من الإنسانية، فإنَّ من يعرفُه لم يَعُد يَثِقُ بخبره، فلا يستفيد النَّاس منه شيئًا، ومَن لم يعرفه يَقَعُ بظنِّه صدْقَهُ في المفاسد والمضارّ، فأنت ترى أنَّ موت هذا الرجل خيرٌ للنّاس من حياته، وهَبْهُ يتحرّى من الكذب ما لا يضرُّ فإنَّه لا يستطيع ذلك، ولو اسْطَاعَهُ لكان إضراره بنفسه إذ أفقدها ثقة الناس به. على أنَّ الكذبة الواحدة كافيةٌ لتُزَلْزِلَ ثقةَ الناس به.
التَّرخيص في بعض ما يسمَّى كذبًا
في "الصحيحين" (^٢) من حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النّبي ﵌ أنّه قال: "ليس الكذَّابُ الذي يُصِلحُ بين الناس، ويقول خيرًا أو ينمي خيرًا".
قال الحافظ في "الفتح" (^٣): "قال العلماء: المراد هنا أنّه يخبر بما عَلِمَه من الخير، ويسكت عمَّا علِمَه من الشرّ، ولا يكون ذلك كذبًا".
وزاد مسلمٌ (^٤) في رواية: "قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخَّص في شيء ممَّا يقول النّاس كذبٌ، إلَّا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس،
_________
(^١) كذا في الأصل.
(^٢) البخاري (٢٦٩٢) ومسلم (٢٦٠٥).
(^٣) (٥/ ٢٩٩).
(^٤) حديث (٢٦٠٥).
6 / 14
وحديث
الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها".
ثم ذكر أنَّ بعض الرُّواة أدرج هذا الكلام، فجعله من قول أم كلثوم بلفظ: "وقالت: ولم أسمعه يرخِّص ... ".
وبيَّن الحافظ في "الفتح" أنَّ الذي أدْرَجَه في الحديث وَهِم، والصواب أنَّه من قول الزُّهري، ونقل الحُكْمَ بالإدراج عن النسائي وموسى بن هارون وغيرهما، ثم قال: "قال الطَّبري: ذهبت طائفةٌ إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا: إنّ الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنّما هو فيما (^١) فيه مضرَّة، أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيءٍ مطلقًا، وحملوا الكذب المراد هنا على التَّورية والتَّعريض، كَمَن يقول للظالم: دَعَوْتُ لك أمس، وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين ... ".
ثم قال الحافظ: " ... واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالمٌ قتل رجل ــ وهو مختفٍ عنده ــ فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك، ولا يأثم، والله أعلم".
أقول: مهما خلا الكذب عن المفسدة، فلا يكاد يخلو عن إفقاد صاحبِهِ ثقةَ الناسِ بكلامه، وحرمانِهِم الاستفادة من خَبَرِه بقيَّة عُمره، فهو يستفيد من أخبارهم، ولا يثقون به فيستفيدوا من خبره.
ولعل سقوط ثقتهم بخَبَرِه يوقعُهُم في مضارَّ، ويصرف عنهم مصالح ممَّا يُخبرهم به صادقًا فلا يصدِّقونه.
ولو أبيح الكذب في الإصلاح، فكَذَبَ المصلحُ لأَوْشَكَ أن يُعْرَف كذبه فتسقط الثقة به.
_________
(^١) في الأصل: "ما". والتصويب من "الفتح" (٥/ ٣٠٠).
6 / 15
وافرض أنَّه عُلِم عُذْرُه، فإنَّها على ذلك تسقط الثِّقة به في الإصلاح، فإذا قال خيرًا أو نَمَى خيرًا بعد ذلك لم يُصَدَّق، وإن كان صادقًا؛ لأنّه قد عُرِف استحلاله الكذب في ذلك، ومع هذا فإنها تَتَزَلْزَل (^١) الثقة بخبره في غير الإصلاح أيضًا، إذ يقول الناس: لعلَّه يَرَى في خبره هذا إصلاحًا، فيستحلّ الكذب فيه!
وقريبٌ مِنْ هذا: حالُ الكذب في الحرب، وكذبُ كلٍّ من الزوجين على الآخر.
وأنا نفسي كانت إذا سألتني زوجتي ما لا أريد أقول لها: أفعل إن شاء الله! قاصدًا التَّعليق، فلمَّا قلتُ ذلك ثلاث مرَّاتٍ أو أزْيَدَ فَطِنَت للقضَّية! فصارَت لا تثق بوعدي إذا قلتُ: سأفعل إن شاء الله، فوقعتُ في مشكلةٍ؛ لأنّني أحتاج إلى أن أقول: "إن شاء الله" في كل وعدٍ وإن أردت الوفاء به؛ للأمر الشرعي بذلك (^٢).
وقولك لظالمٍ: "دعوتُ لك أمس" فيه مفاسد؛ لأنَّه إن كان يُحْسِن الظَّن بك، وحَمَل قولَك على ظاهره جَرَّأَه ذلك على الظُّلم، قائلًا: إنّ دعاء هذا الصَّالح لي يدلُّ على أنَّه يراني من أهل الخير، وأنَّ ما يخطر لي من التأويل في هذه الأمور التي يزعم الناس أنَّها ظلمٌ هو تأويلٌ صحيحٌ! وما من ظالمٍ إلَّا والشيطان يوسوسُ له بتأويلٍ ما يبرِّر به صنيعه.
_________
(^١) كذا في الأصل، والضمير للقصة.
(^٢) يعني لأمر الشارع في قوله: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
6 / 16
وإن استبعد دعاءك له اعتقد كَذِبَك ومداهَنَتَك له، وطَمِعَ منك في غيرها، وزالت من قلبه هيبَتُه لك في الله، وأوشك أن تنالك منه مضرَّةٌ؛ لسقوطك من عينه، ويجترئ مع ذلك على المظالم، قائلًا: الناس سواسية، هذا الذي يُقَال صالحٌ يكذب ويُدَاهِن الظَّلَمَة! فلو استطاع الظُّلمَ لَظَلَم!
وإذا تَنَبَّه لاحتمال كلامك التَّورية لَمْ تأمن أنْ يَحْمِل قولَك: "دعوتُ لك" على "دعوتُ عليك"، يقول: كأنَّه أراد "دعوت لأجلك" أي: دعوت الله تعالى أن يريح الناس من شَرِّكَ، أو نحو ذلك.
والحاصل أن الكذب لا يخلو عن المفاسد، ولكن إذا تعيَّن طريقًا لدفع مفسدةٍ عظيمةٍ ــ كالقتل ظلمًا ــ جاز، على قاعدة تعارض المفسدتين.
والمنقول من هذا إنَّما هو في التَّورية، كقول إبراهيم لزوجته: هي أختي؛ لعِلْمِه أنه لو قال: زوجتي لقتلوه.
وقوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩]؛ لأنَّه أراد أن يتوصَّل إلى تكسير أصنامهم، وفي ذلك دفع مفسدة عظيمة.
وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣]؛ لأنّه أراد أن يتوصَّل بذلك إلى إنقاذهم من الشرك، والشرك أعظم المفاسد، مع أنَّهم إذا خَلَصُوا من الشرك خَلَصَ هو من القتل، وظنِّي أنَّ هذه كلَّها كانت قبل أن يُنَبَّأَ إبراهيمُ ﵇، كما قرَّرْتُه في "رسالة العبادة".
وكلٌّ من هذه الثلاث فيها تورية قريبة، والحال التي كان عليها شِبْه قرينة تشكِّك في حَمْل كلامه على ظاهره، فيصير بها الكلام كالمُجْمَل.
6 / 17
وإيضاح هذا: أنَّه قد علم أنَّه لو تبيَّن للظَّلَمة أنَّها امرأته لقتلوه، وإذا عرف ذلك فيبعُدُ أن يعترف بأنَّها امرأته. ومثل هذه الحال تُوْقِعُ عادةً في الكذب المَحْض؛ ولهذا لا يثق الناس بخبر مَنْ وَقَعَ في مثلها، فإذا عَرَفَوا منه التحفُّظ من الكذب قالوا: لعلَّه ورَّى، فهذا شِبْهُ قرينة.
أَوَلَا ترى الناس لا يرتابون في قول الغنيِّ لبعض المال الذي تحت يده: هذا مال امرأتي؟ ويرتابون في مثل هذا القول إذا وَقَعَ من مفلسٍ أو مُصَادَرٍ.
ومع هذا كلّه؛ فقد سمَّى الشارع هذه الثلاث الكلمات كذبات، فقال النّبي ﵌: "لم يكذب إبراهيمُ إلَّا ثلاث كذباتٍ، كُلُّهنَّ في ذات الله ... " والحديث في "الصحيحين" (^١).
وجاء في الشرع ما يدلُّ أنَّ مثل هذا من الكذب لا يخلو من مخالفة، ففي "الصحيحين" (^٢) في حديث الشفاعة: "فيأتون آدم فيقولون: ... اشفع لنا عند ربّك ...، فيقول: لست هُناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، أكلُهُ من الشَّجرة وقد نُهِيَ عنها ... فيأتون نوحًا، فيقول: لست هناك، ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم ... فيأتون إبراهيم، فيقول: إنِّي لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهنَّ ... ".
وهناك ثلاثة أنواع دون ما ذُكِر:
أوَّلُها: الإيهام: كأَنْ يريد غزوةً جهة الشَّرق، فيسأل عن الطَّريق التي في جهة الغرب، حتى إذا كان جاسوسٌ يرى الاستعداد للغزو، يسمع ذلك
_________
(^١) البخاري (٣٣٥٨) ومسلم (٢٣٧١)، من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٢) البخاري (٤٤٧٦) ومسلم (١٩٣)، من حديث أنس ﵁ بنحوه.
6 / 18
السؤال، فيَتَوَهَّمُ أنَّ القصد جهة الغرب، فإذا رجع إلى العدو الشرقيِّ أخبرهم بذلك، فيكفوا عن الاستعداد.
وبهذا أو نحوه فُسِّر ما جاء في "الصَّحيح" (^١) أنّ النبي ﵌ كان إذا أراد غزوةً وَرَّى بغيرها. وليس ذلك بكذبٍ. على أنَّ مِن شأن مَن يريد غزوةً أن يكتم قصْدَه، ويحرص على إيهام العدوِّ أنَّه لا يقصدهم، وهذا شِبْهُ قرينةٍ تُشكِّك في الإيهام المذكور.
ثانيها: الكلامُ الموجَّهُ، وهو الذي يحتمل معنيين فأكثر على السواء، وليس هذا أيضًا من الكذب في شيءٍ ألبتة.
ثالثها: أن يكون الكلام ظاهرًا في المعنى المراد، ولكنَّه صِيغَ مَصَاغًا يستخفُّ المُخَاطَب، فإذا استعجل فَهِمَ خلاف المقصود.
وقد نُقِل شيءٌ من هذا عن النبي ﵌، كان ربّما تعمّده تأديبًا للمُخَاطَبِين، وتعليمًا لهم أن لا يستعجلوا في فهم الكلام قبل التروِّي فيه.
فمن ذلك: ما رُوِيَ أنَّ رجلًا سأله أن يحمِلَه على بعيرٍ، فقال ﵌: "لأحملنَّك على ولد ناقةٍ"، فاستعجل الرجل وقال: وما أصنع بولد ناقةٍ؟ ! فقال: "وهل تَلِدُ الإبلَ إلَّا النُّوقُ؟ " (^٢).
_________
(^١) البخاري (٢٩٤٧) ومسلم (٢٧٦٩)، من حديث كعب بن مالك ﵁.
(^٢) أخرجه أحمد (٣/ ٢٦٧) وأبو داود (٤٩٩٨) والترمذي (١٩٩١) وغيرهم، من طرقٍ عن خالد الطحَّان عن حميد الطويل عن أنسٍ ﵁ به.
وقد صحَّحه الترمذي عقبه، والألباني على شرط الشيخين في "مختصر الشمائل" للترمذي (٢٠٣) و"صحيح الأدب المفرد" (٢٠٢).
6 / 19
العرفُ قد صيَّر الظَّاهر من قولنا: "ولد ناقةٍ"، أو "ولد بقرةٍ"، أو نحو ذلك هو الصَّغير، ولكنّ قوله: "لأَحْمِلَنَّك" قرينةٌ واضحةٌ أنَّه لم يُرِد الصَّغيرة؛ لأنَّ الصَّغير لا يُحْمَل عليه.
ومثله ما يُروَى: أنَّ امرأةً مَرَّت تسأل عن زوجها، وقد كان خرج من عندها قبل قليل؟ فقال لها ﵌: "هو ذاك في عينيه بياض" (^١).
فالعُرْفُ قد جعل الظَّاهر من قولنا: "في عَيْنَي فلان بياضٌ" هو البَيَاض العارِض، ولكنَّ العادة قاضيةٌ بأنَّ البَيَاض العارض لا يَحْدُث في ساعةٍ.
ومنه ما يُروَى أنَّه قال لامرأةٍ من المسلمات قد قرأت القرآن وفهمته: "لا تدخل الجَنَّة عجوزٌ"! فلمَّا فَزِعَت قال لها: "أَمَا تقرئين القرآن: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا﴾ [الواقعة: ٣٥، ٣٦]؟ " (^٢).
_________
(^١) أخرجه الزبير بن بكار في "الفكاهة والمزاح" من حديث زيد بن أسلم مرسلًا، وابن أبي الدنيا من حديث عبدة بن سهم الفِهري، مع اختلاف؛ كما في "تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي (٣/ ١٥٧٤)، وقد أورده ابن الأثير في "جامع الأصول" (١١/ ٥٥) وجعله من زوائد رزين بن معاوية في "التجريد".
وينظر في الكلام على زوائد رزين في "التجريد": "سير أعلام النبلاء" (٢٠/ ٢٠٥)، و"تاريخ الإسلام" (٣٦/ ٣٧٦)، كلاهما للذهبي.
(^٢) أخرجه عبد بن حميد كما في "تفسير ابن كثير" (٧/ ٥٣٢) ومن طريقه الترمذي في "الشمائل" (٢٤٠) ومن طريقه البغوي في "تفسيره" (٤/ ٢٨٣) والبيهقي في "البعث والنشور" (٣٤٦) وغيرهم، من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري مرسلًا.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (٥/ ٣٥٧) من طريق مسعدة بن اليسع عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة بنحوه مرفوعًا. وفي إسناده "مسعدة"، وهو متروك.
وأخرجه البيهقي في "البعث" (٣٤٣) وأبو الشيخ في "أخلاق النبي ﷺ" (١٨٦) من طريق الليث عن مجاهد عن عائشة بنحوه مرفوعًا. وفيه "ليث" وهو ابن أبي سليم، ضعيف في الرواية.
وقد صحَّحه الألباني في "الصحيحة" (٢٩٨٧) بعد أن كان يحسِّنه في "غاية المرام" (٣٧٥) و"مختصر الشمائل" (٢٠٥).
6 / 20
فقد علمتَ فيما تقدَّم حقيقة الكذب وقبحه، وأنّه غير محمود حتى في حال الضرورة، كما في قول إبراهيم ﵇: "هي أختي"، وتعلم أنّ الله ﷿ سمّى نفسه الحقّ، وبعث الرسول بالحقّ، وأنزل الكتاب بالحق، وأنزل الكتاب هدىً للناس، وبعث الرسول هدى للنّاس، وهو ﷾ الغني عن العالمين، فكيف يجوز عليه ﵎ أن يكذب، أو يأمر رسوله بالكذب، أو يقرّه على الكذب؟! وكيف يجوز على رسوله الكذب؟!
وقد جعل الله تعالى الكذب عليه من أشد الكفر، فقال: ﴿فَمَنْ (^١) أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾ [الزمر: ٣٢]، وقال لرسوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦].
فأنّى يُجَوِّزُ مسلمٌ أنْ يكذِبَ ربُّ العالمين، أو أنْ يكذِبَ رسوله الصّادق الأمين؟!
_________
(^١) في الأصل: "ومن".
6 / 21
الباب الثالث: في حكم التأويل
قد تقرّر في الأصول أنّه لا تكليف إلّا بفعل، والفعل إنَّما يتأتَّى في التَّأويل بالإطلاق الأوّل، فأقول:
اللّفظ الذي يُرَاد تأويله لا يخلو عن ثلاثة أحوال:
الأوّل: أن يكون في العقائد.
الثاني: أن يكون إخبارًا عمّا قد وقع، كخلق السماوات والأرض، أو عن أمرٍ كوني، فإنّه واقعٌ، كأحوال الشمس والقمر، أو أنّه سيقع، كخروج يأجوج ومأجوج.
الثالث: أن يكون فيما عدا ذلك، من الأحكام ونحوها.
* * * *
6 / 22
فصلٌ في تأويل النصوص الواردة في العقائد
النُّصوص في العقائد على ضربين:
الأوّل: ما ورد في عقيدةٍ كُلِّف النَّاس باعتقادها.
والثاني: بخلافه.
فالأوّل هو: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والقدر. والنصوص على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة شهيرة.
والمقصود من هذا الإيمان هو تحقيق ما أُنشِئَ الإنسان هذه النشأة الدُّنيا لأجله، وهو الابتلاء؛ ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢].
والهلاكُ هو العصيان، والحياة هي الطاعة، ويتفاوت الهلاك والحياة بتفاوت العصيان والطاعة.
ولا يُتصوَّر عصيانٌ وطاعة إلَّا ممَّن عَلِم الأمر والنَّهي، ولا يُتصوَّر العِلم بأمر الله ونهيه إلّا بعد الإيمان بأنّه موجودٌ حيٌّ، كما هو واضح، وبأنّه قادر؛ إذ لا يُعْلَم استحقاقُه الطاعة إلَّا بذلك، وبأنّه عالمٌ، إذ لا تنبعث النَّفس على الطاعة وتنزجر عن المعصية إلَّا بذلك، وبأنّه حكيم، إذ لا يُعْلَم صِحَّة النُّبوة ويُوثَق بالجزاء إلّا بذلك.
وبأنّ الملائكة حقٌّ؛ لأنّهم الوسائط بين الله وأنبيائه، والمُبلِّغون لكتبه، فلا يُعْلَم صحَّة الأمر والنهي وأنّه من عند الله إلَّا بعد الإيمان بهم.
6 / 23