Hakikat
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Türler
على أن معاني هذه الأعضاء الأثرية ظاهرة بنسبة التكوين المتسلسل كما يظهر لمن يدقق النظر في طبائع الحيوان والنبات، أو ينظر فقط إلى كلياتها نظرا عاما دقيقا، فلا يسعه والحالة هذه أن ينكر ما بين الأنواع والتباينات من النسبة الشديدة والقرابة والتسلسل، وسائر ما هو مقرر في مذهب دارون، إلا أن يكون سابق اقتناعه حاجبا بينه وبين ما يرى.
وقولك: «وهي بجملتها أمور عرضية» غير سديد؛ لأنه يلزمك أن تعلم أن الأشياء العارضة في الجسم من المعيشة والإقليم، والحاصلة عن أسباب أخرى أكثر اختلاطا تنتقل بالوراثة والانتخاب الطبيعي، وتصير جوهرية كما في الألوان وتشقق الجلد، وازدياد عدد الأصابع، والأمراض والأميال العقلية، وغير ذلك مما لا يسعك إنكاره.
وأغرب ما في ذلك قولك: «لأنه يوجد في الطبيعة قوة مهذبة مربية، وفي بعض الأحوال مولدة بادعة.» فأنت تعترف هنا بأن الطبيعة فيها قوة التوليد والإبداع، إلا أنك تجعل هذه القوة مودعة فيها من بادع الوجود، فيا للعجب كيف جاز لك هذا القول؟! أما رأيت ما فيه من التناقض؛ فإنك زعمت أولا أن المادة البسيطة يجب أن يكون فيها من الإدراك الكلي ما في الإنسان من الإدراك الجزئي، وبعبارة أخرى: إن الحجر يجب أن يكون فيه قوة تدرك كالإنسان، وإن لم يظهر لنا ذلك فيه، ولا يجب الاعتماد على المحسوس؛ فإنه قد يضل.
ولما بينا لك أن البسائط لا يلزم أن تكون متضمنة نفس الخصائص والقوى التي في المركبات، وإن كانت قابلة للظهور فيها عند بلوغها مبلغها، قلت: فإذن القوى الفاعلة في البسائط ليست القوى الفاعلة في المركبات. ولا يخفى ما في هذا القول من الاضطراب، ثم جئت لنا بتعليل آخر - أي الوجود المعنوي والوجود المادي - وقلت لنا: إنه المذهب الذي تذهب إليه هذه المرة، وقد رأيت ما له من القيمة، ثم ما لبثت أن هدمت كل ما بنيته بقولك: «إن في الطبيعة قوة مولدة مهذبة.» فكأنك قد أثبت لها ما يثبته لها الماديون؛ أي أثبت لها التوليد الذاتي، والفرق بينك وبينهم أن هذه القوة عندك ليست أصلية فيها، بل مودعة فيها من بادع الوجود. وهذه العبارة الأخيرة لم أقدر أن أفهمها؛ لأنه كما لا يخفى عليك بعد إثباتك قوة التوليد للطبيعة لم تذكر ما دليلك على أنها مودعة، ولعل ذلك من المسائل التي تعلو فوق طور العقل، والتي لم يعط حلها إلا للراسخين في العلم بطريق الإلهام والوحي، فأنا معذور إذا كنت لا أفهمها، فإنه لم يعط لي حل الرموز والاقتناع بالألفاظ المجوفة والكلام المقعر.
ومن العجب العجاب أنك لم تشترط حينئذ على طبيعتك ما اشترطته على طبيعة الماديين من ضرورة وجود صفات المركبات في بسائطها كما هي فيها، مع أنه لا فرق بينهما إلا من حيث الحركة الأولى أو بادع الوجود، وأما بعد ذلك فكل واحدة منها تعمل أعمالا من نفسها على نظام معلوم، وسنن واحدة، فيا للغرابة! كيف يقع كل هذا التناقض في كلامك وأنت به مرتض قانع.
على أن الذكاء وحدة الذهن لا يقتضيان أن يكون صاحبهما في مأمن من ضلال الأفكار، بل العقل يتصرف في المعاني بحسب قوته - سواء كانت المبادئ المؤسس عليها صحيحة أو فاسدة - فالمبادئ لا تؤثر في قوة العقل، بل في مجرى أفكاره، ولا في قوة استنباطه الأدلة العقلية، بل في صحة أحكامه وعدمها؛ ففي كل عصر وفي كل مذهب نبغ رجال معدودون من أفراد الزمان لما لهم من الذكاء وحدة الذهن وسعة الصدر، ولا يصح أن يكون جميعهم على هدى لتباينهم في الآراء والمذاهب، فالعقل يسير في الطريق التي يألفها، وينمو على المبادئ التي ينشأ فيها - صحيحة كانت أو فاسدة - وينبغ فيها بحسب ما له من الذكاء؛ فلا غرو إذا كان ضلال الأفكار في العالم نشأ عن أناس متوقدي الذهن، كثيري التفنن في أساليب الكلام، شديدي قوة التصرف في المعاني، وإن كانوا كثيري الخطأ في الأحكام يسحرون العقول التي لا تقوى على مناضلتهم بما يظهر لها من ساحر بيانهم، ويفتنون الألباب التي لا قبل لها بمجادلتهم بما تراه من فاتن برهانهم، ولا يغير مجرى الأفكار إلا تغير المبادئ، وأقرب المبادئ إلى الحقيقة ما وافق الاختيار.
قال أحد الحكماء: لا ينبغي قبول آراء آبائنا كما يفعل الأولاد بحجة أن آباءنا قبلوها، ونقول: إن جهل الإنسان لحوادث الكون كان سببا لانخداع عقله، واستحكام الخطأ من أفكاره، واستفحال الأوهام فيه، فإن من كان قليل الخبرة في شيء كان شديد التوهم فيه، كالطفل الذي يحاول أن يتناول بيديه ما يراه بعينه، فيمد يده إلى القمر كما يمدها إلى فيه، ولا يعلم أن القمر بعيد المنال، ولا يتيسر له معرفة الأبعاد إلا بتكرار التجربة، فهذه المعرفة في العقل ليست أصلية، بل مكتسبة بالاختبار، وقس عليها سائر معارف الإنسان الصادرة عن سائر الحواس.
وإذا علمت أن جميع معارف الإنسان مكتسبة حكمت معنا بأن أفكاره مكتسبة أيضا، وعقله مكتسب كذلك، وإذا كان العقل مكتسبا كان عرضة للانخداع؛ لعدم تبينه الأشياء كما هي في كل الأحوال، ولأول وهلة؛ فلا قيمة إذن للحجة التي يستند إليها النظريون بقولهم: إن ذلك مطابق للعقل أو غير مطابق له، إلا إذا اتفقت هذه الحجة مع سواها من البراهين الحسية، قلنا: وإذا تكرر هذا الانخداع على العقل شب عليه ونما، حتى يغدو فيه من الغرائز، فيصير عنده كل أمر مخالف لما تربى عليه خطأ وإن كان صحيحا، وكل خطأ استحكم أمره صعب استئصاله؛ لأنه لا يقتصر على نفسه، ولا يقف عند حده، بل يتناول كل شيء دونه، فيتطلب في استئصاله استئصال كل ما نتج عنه، وربما اقتضى نقض بنيان الهيئة الاجتماعية نقضا تاما، ولا يخفى ما دون ذلك من الموانع.
على أن كل عصر لا يعدم أناسا متقدين ذكاء تطاول هممهم الأفلاك وإن بعدت، ويسبرون بثاقب عقلهم الأسرار وإن خفيت. ولو أردنا تعداد مثل هؤلاء الرجال الذين قاموا في كل عصر، وكان لهم في تاريخ الإنسانية يد بيضاء؛ لضاق بنا المقام، فنقتصر على أسماهم عقلا، وأوسعهم فضلا، وأعلاهم همة، الذين قلبوا بتعاليمهم وجه الهيئة الاجتماعية؛ إذ زجروا الإنسان من سماء الخيال، وردوه إلى أرض الحقيقة غير محترمين تقليدا، ولا راهبين وعيدا، لا ملاذ لهم إلا العلم، ولا دين لهم إلا الحق، ولا غاية لهم إلا تخفيف مصائب الإنسان، وتقليل ويلاته بإنهاضهم إياه من حضيض الجهل إلى سماء العلم.
الفصل الرابع
Bilinmeyen sayfa