Hakikat
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Türler
في المادة والقوة
إن العالم الطبيعي والحاسب الرياضي والعامل الميكانيكي أقصر كلاما، وأفصح بيانا، وأبسط أسلوبا، وأثبت حجة، وأصدق كذلك من الأديب اللغوي، والعالم اللاهوتي، والفيلسوف المنطقي، وسائر علماء الجدل الكلاميين؛ لأنه ألف البرهان الطبيعي الرياضي الذي لا يقبل المغالطة والتمويه.
أما أنت أيها الفيلسوف الداخل ميدان النزال من أبوابه، الطالب الجدال بأسبابه، فأهلا وسهلا بك ومرحبا؛ لقد سقطت على من يجل قدرك، ولا يبخسك فضلك، ولكن ما لي أراك لا تثبت على حال، ولا يقر لك قرار، شأن من يزعم أن المعقول يقوم بدون المحسوس. وافقتنا على مبدأ لم تلبث أن نقضته بما بنيت عليه من النتائج، جعلت المادة قديمة ثم خلقتها، ولما تبين لك فساد ذلك عدلت عنه، وحاولت التستر بقولك: إن موافقتك لنا افتراضية لا حقيقية، وإن مذهبك هو غير ما ذكرت، فصرح لنا على أي مبدأ تعتمد، ألعلك لا تعلم أن التردد في المبادئ يوجب الاضطراب في القياس، والفساد في الأحكام، فإنك لا تقر هنيهة على المحسوس حتى تطير على جناح الأفكار في سماء الخيال، ولا تلبث لحظة على الفلسفة العملية حتى تتيه في مضايق الفلسفة النظرية، فتستنتج على غير مبدأ، وتحكم على غير قياس، إلا ما صورته لك حدة الذهن وقوة الخيال.
ولا يخفى أن البحث على هذه الصورة خبط عشواء في ليل بهيم، ولا يمكني متابعتك في هذا التيه الذي لا يمكن السلوك فيه إلا بطريق الهداية، وهي نعمة وإن خص بها البعض، لكنها لا تعم، وإنما يمكنني متابعتك إذا سلكت معي سبيل العلم، إلا ما رجعت معي من سماء غيبك إلى أرض المحسوس، ومن فضاء فلسفتك النظرية إلى دائرة الفلسفة العملية. ولا يخدعنك عقلك المجرد، وإرادتك الحرة، وأفكارك الغريزية، فدقق النظر طويلا، وتساهل قليلا؛ تر أن ما تظنه كذلك خاضع لأحوال المادة، ومكتسب كسائر الأعضاء والوظائف، فبحثك في الطبيعة بدون الاستناد إلى المحسوس اعتقادا منك أن العقل وحده قادر أن يتوصل إلى حل هذه المسائل حلا يقرب من الصحة وهم وأي وهم.
لقد جئتنا هذه المرة بمذهب غير مذهبك الأول، وقلت لنا: إن الوجود في عرفك نوعان، معنوي سابق ومادي مسبوق، وبعبارة أخرى: معنوي خالق، ومادي مخلوق، وضربت لذلك مثل المعاني والألفاظ الموضوعة لها. وقبل أن نتعرض لنفي هذا القياس، وتبيين وجه فساده، لا بد لنا - وقد عدلت الآن عن قدم المادة - من بسط شيء عما يعلم عن المادة والقوة نجعله تمهيدا للكلام على الوجود المعنوي والوجود المادي كما تقول:
1
لا حاجة بنا إلى أن نعرفك أن العلم قد توصل في الأمور الطبيعية إلى هذه النتيجة الكبرى، وهي أن القوة والمادة لا تنفصلان البتة، ولا أظنك تستطيع أن تعرفنا بمادة مجردة عن كل قوة أو حركة، أو تطمع أن تبين لنا قوة أو حركة مجردة عن كل مادة؛ فالقوة لا تعرف إلا بالمادة، والمادة لا تعرف إلا بالقوة، فلا تدرك الواحدة بدون الأخرى.
لنتصور أدق الدقائق المركب الجسم منها خالية من كل قوة؛ أي من رباط قوتي الجذب والدفع الذي يتكفل بحفظها، ويؤلف صور الأجسام، ولنفترض أن قوى الألفة قد زالت، فماذا ينبغي أن تكون النتيجة، ألا يلزم أن تدخل المادة في عدم لا صورة له ولا يدرك، على أنا لا نعرف في عالم الطبيعة جوهرا فردا بلا قوة، فهو إنما يظهر بفعل القوة فيه تارة على صورة، وطورا على صورة أخرى، وآونة مركبا من أجزاء متشابهة، وأخرى من أجزاء متباينة. ولا يستطيع العقل أن يتصور المادة بلا قوة، فإنا إذا تصورنا مادة أولية مهما كانت، فلا بد أن تكون دقائقها تحت فعل الجذب والدفع، وإلا فإنها تتلاشى من ذهننا.
كذلك القول بقوة بلا مادة فارغ ولا أساس له، وإذا كان من المقرر أن القوة لا تقدر أن تظهر إلا بالمادة، فلا تكون القوة إذن سوى الصفة المتصلة بالمادة، وكل صفات المادة كائنة فيها جوهريا، إلا أنها قد لا تظهر فتكون هاجعة فيها؛ أي في حالة السكون، فالقوة في المادة تنبه تنبيها، لا أنها تحل فيها حلولا جديدا، فالمغناطيسية مثلا لا تنتقل من جسم إلى آخر كما ربما يتوهم، وإنما تهيج فتظهر بتغيير حالة دقائق الجسم المتهيجة فيه، فهي متصلة بأجزاء الحديد، وهي في قضيب ممغنط مثلا متجمعة، خاصة في المكان الذي لا تظهر فيه، أو تظهر فيه قليلا.
لنتصور إذا أمكن كهربائية أو مغناطيسية بلا الحديد ولا الأجسام التي رأينا ظواهرهما فيها، ولنفرض أيضا الأجزاء التي نسبها المتبادلة وأوضاعها الجوهرية هي بالحقيقة أسباب الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، فلا يبقى والحالة هذه سوى تجرد لا صورة له، وعلم لا معنى له بحد نفسه، وإنما نتذكر به جملة ظواهر خصوصية معلومة؛ لأنه لو لم تكن أجزاء قابلة لأن تتكهرب لم يكن كهربائية، ولما استطعنا بواسطة التجرد وحده أن نعلم عنها شيئا أو أن نتصورها، ولم يكن لها وجود لولا هذه الأجزاء، فكل الأجسام المسماة عديمة الوزن كالحرارة والكهربائية والنور والمغناطيسية وغيرها، ليست شيئا آخر سوى تغيرات مادية؛ أي تغيرات في وضع الدقائق المؤلفة المادة منها.
Bilinmeyen sayfa