ومضى الوقت سريعا جدا، وأفاقت سوسن على صوت دادة فاطمة تقول: «ياللا نروح يا سوسن.» وسمعت أمها تقول لفاطمة: «خلي بالك منها كويس في السكة يا فاطمة، واوعي العربيات.»
وحملقت سوسن في وجه أمها لتفهم السبب الذي من أجله توافق أمها على كلام فاطمة، ولماذا لا تبقيها معها في البيت هنا دائما، وقالت الطفلة والدموع في عينيها: «لا مش عاوزة أروح البيت اللي هناك، أنا عاوزة ماما!»
لجأت إلى الصراخ والبكاء، وتشبثت بملابس أمها، ولكنها في النهاية لم تجد بدا من الاستسلام، وأخذت الشيكولاتة الكبيرة في يدها، التي أعطتها لها أمها لتكف عن البكاء، وخرجت إلى الطريق مع دادة فاطمة، وهي تشعر بالحزن العميق، حتى إنها سارت إلى جوار دادة فاطمة صامتة واجمة.
ووصلا البيت، وأسرعت سوسن إلى سريرها، ووضعت الشيكولاتة تحت الوسادة، ثم أخذت تدور في حجرات البيت الواسعة الباردة، لتجد شيئا يسليها، لكنها لم تجد شيئا، الكل لا يحس بها، والكل مشغول عنها، وأخيرا ذهبت إلى سريرها، وألقت على قطعة الشيكولاتة نظرة يائسة حزينة، ووضعت رأسها على الوسادة ونامت.
وفي الصباح ما إن فتحت عينيها حتى تذكرت أمها، فوضعت يدها تحت الوسادة وتحسست قطعة الشيكولاتة، وأمسكتها في يدها وهي تفكر في سر ذلك الرجل الغريب، الذي تعيش معه أمها في ذلك البيت البعيد.
وفجأة سمعت صوت عربة، فقفزت من السرير وجرت إلى الشرفة، وشبت على أطراف أصابعها، ودلت رأسها في الهواء لتنظر إلى الشارع، ولم تر عربة أمها الزرقاء، وإنما عربة أخرى وقفت أمام باب الجيران. وزاغت نظراتها الحزينة في طول الشارع، تفتش عن عربة أمها، وتعلقت عيناها بنهاية الشارع، التي تبتلع العربة في كل مرة، وانهمرت الدموع من عينيها في ثنية الشارع. وأخذت تنادي بصوت عال باك: ماما! وهي تنادي على أمها: ماما ... ماما! فقد خيل إليها أنها مختبئة، لعلها تسمعها وتخرج من مخبئها، ولكن صوتها الرفيع كان يرن في أنحاء الشارع، ثم يعود إليها كما هو، وأرهفت أذنيها لتنصت إلى الصدى، وقد خيل إليها أن أمها ترد عليها، ولكنها ما لبثت أن عرفت أن ما تسمعه، ليس إلا صوتها نفسه يقول: ماما ...
وأسندت سوسن ذقنها الصغير على حافة الشرفة، وراحت تراقب الطريق، وهي شاردة يائسة.
وأفاقت بعد قليل على عربة تدخل فجأة من ثنية الطريق، وخفق قلبها، عربة زرقاء صغيرة، عربة أمها نفسها! وصرخت من الفرح، وقفزت إلى أطراف قدميها لتطل برأسها من الشرفة.
لم تكن إلا لحظة من الزمن خاطفة، برقت كنصل السيف، ثم سقطت في الماضي، كأي لحظة من لحظات العمر، لكنها كانت لحظة تساوي الزمن، ضاعت فيها حياة بأكملها.
وملأ البيت الصراخ والبكاء، ومن عيون غرقة في بحر من الدموع، انطلقت نظرات ساخطة هي نظرات دادة فاطمة تصوبها إلى الأم التي جلست كالتمثال لا تبدي حراكا، وكأنما قبضت روحها وهي جالسة، وكان إلى جوارها الرجل الطويل نفسه، جالسا ينظر إليها ويحاول من حين إلى حين أن يغتصب كلمة أو كلمتين يخفف بهما عنها.
Bilinmeyen sayfa