وهو لا يعني ما يقول. وغادر البنوار، ولحق به صاحبه، وكان يدرك ما يقوم بنفسه من الدهشة والانزعاج، فقال له وهو يشد على يده مودعا: أنا آسف جدا على ما أحدثته دعوتي لك من الارتباك والإزعاج، وحقيقة المسألة أنك تشبه شبها عجيبا ابنا شابا كان فقدته الأسرة منذ عامين، ولعل هذا يفسر لك كل شيء أيها الصديق.
وهبط السلم في خطى بطيئة جدا، وكان يتوقف كل درجتين ويتأمل فيما أمامه بعينين لا تريان شيئا، وعلت شفتيه الشاحبتين ابتسامة هازئة مريرة، وقد بدا له كل شيء كريها كئيبا تعافه النفس.
الثمن
أخذت زينتها وسارت على غير هدى، كيفما ساقتها قدماها وغيرها من النساء لا يتصدين للمرأة حتى يفرغن من المهام والواجبات، وغيرها من البشر لا يسير على غير هدى عادة إلا إذا ركن إلى اللهو والعبث واستقبل الراحة والفراغ.
هي بخلاف هؤلاء وأولئك، إذا توثبت للعمل وانبرت للواجب أخذت زينتها وسارت على غير هدى .. وقريبا من الطوار الذي تسير عليه رأت بمؤخر عينها سيارة تدنو ثم تقف على بعد أذرع إلى الأمام؛ سيارة كبيرة بحجم الحجرة التي تنام فيها إذا رقدت بمفردها، وقد غادرها سائق زنجي مارد وفتح الباب ووقف جانبا كالتمثال، فبرزت حسناء هي الجمال وهي الجلال، فما يمنع من الاندفاع نحوها إلا أن نورها يغشى العيون، كلسان من لهب بهي المفاتن ساحر الألوان، ولكن هيهات أن يجرؤ إنسان على لمسه، فخطفت بصرها، وسرعان ما دبت اليقظة في عينيها الساهمتين ولاحت فيهما نظرة تفحص واهتمام، وفي لمح البصر أقرت لها قهرا بالتفوق المطلق وغلبها الإعجاب على أمرها، ثم تحفزت للنقد بغل فما عتمت أن باءت بمرارة الخيبة والسخط. وتهادت الحسناء إلى المحل الذي وقفت تجاهه السيارة فخطر لها أن تتبعها ، ولم تر في ذلك من بأس؛ فسيان أن تمضي إلى الأمام أو أن تعرج إلى اليسار، فوجدت نفسها في محل رائع أنيق تطالعها من جوانبه وأركانه زجاجات الروائح العطرية مختلفة ألوانها وأشكالها، فسارت على مهل في جراءة وثبات، فمنذ أمد بعيد تناست أن في الدنيا شيئا يخاف غير الشرطي، وتظاهرت بأنها تتفحص المعروضات النفيسة في أقسام المحل، وتبعت في الحقيقة الفاتنة الحسناء. سارت رأسا إلى صدارة المتجر الأنيق، وأقبل نحوها البائع بترحيب، فطلبت إليه حاجتها، وساعدها البضة تشير إلى الرف البلوري رصت عليه الزجاجات الفاخرة، فأدركتها ووقفت إلى جانبها ومضت تقلب عينيها في الرفوف اللألاءة، وأتى البائع بزجاجة زرقاء بديعة الصورة فتناولتها الحسناء ورنت إليه بعينين متسائلتين، فقال الرجل بأدب وإجلال: «عشرون جنيها يا هانم.» فأومأت برأسها دلالة على الارتياح والموافقة، فاسترد الرجل الزجاجة، وكتب لها قائمة بثمنها وقدمها لها، فأخذتها ومضت بها إلى صندوق الدفع، وخفق قلب الأخرى بعنف لسماع الرقم، فكانت كمن يسمع اسما قديما رهيبا يثير في النفس كوامن الشجن ويستدعي ذكرى قائمة موجعة الصدى .. رباه .. أي دور لعبه في حياتها هذا الرقم المشئوم الذي لا تعرف الحسناء عنه إلا أنه ثمن زجاجة رائحة عطرية فريدة .. لو وجد يوما في يدها لكان الحال غير الحال والحياة غير الحياة، ولكفاها شرا فظيعا، وهو ليس بالطلب العزيز يشترى بالمهج، ألم تر كيف يبذل عن طيب خاطر ثمنا لرائحة زكية يتبخر معها من ثنايا المناديل ومفارق الشعور؟! .. ومع ذلك فآه لو وجدته قبل عشرة أعوام .. ولكنه لم يوجد وخاب مسعاها وردت راحتها الممدودة، سدت في وجهها السبل وضيق عليها الخناق، فتجرعت غصص القنوط ثم هوت وقذف بها إلى دنيا أخرى منكرة. وهكذا الدنيا قاسية لا قلب لها، والناس لا يرحمون، والحياة أشد وحشية من البحر الهائج والنار المضرمة؛ فقد لا يعدم الإنسان إذا أشرف على الغرق أن يسبح وراءه السابحون، أو إذا اشتعلت النار في أطرافه أن يهرع إليه ذوو النجدة، أما في معترك الحياة فالضحايا لا عداد لهم، تعركهم الرحى وإخوانهم سكارى بأطماعهم ومشاغلهم؛ فلكم استصرخت بغير طائل، بل كانت ملهاة للنظارة، ثم بعد ذلك متعة للمتمتعين، والدنيا تضيق بمن ينشدون صيدهم بين الضحايا البائسة شردها الجوع والحرمان والأمراض، فوجدت نفسها في دنيا الشذوذ والعناد حيث تقتتل الضحايا من كل نوع، ضحايا الطموح الكاذب والشهوات البهيمية والفقر المذل للأعناق، عالم البؤس حيث لا عودة لمن مضى إليه ولا إفاقة لمن نهل من سمه، قذارته لا تمحى فليس على القذر إلا المزيد من القذارة والتمرغ في التراب. وكيف صارت بعد ذلك؟! .. وا رحمتا .. فؤادا قاسيا وقلبا كافرا ولسانا دنسا ونفسا تنضح بالخبث واللؤم والكراهية، على وجهها الطلاء، وفي جسمها المرض، وملء روحها الشر، ومن مراتعها السجون.
مرت صور الذكريات بمخيلتها مرا سريعا مضطربا، لم يستغرق زمنا يذكر، فاختلط في وعيها أشتاتا من ذكريات متناثرة ومشاعر مهوشة أسبغت على خيالها لونا أسود، فشعرت بامتعاض وانكسار. وكانت عيناها لا تزالان عالقتين بالحسناء فاتجهت نحوها في خطي متثاقلة غير ملقية بالا إلى البائع، وقد وقف قبالتها ينتظر أوامرها .. اندفعت نحوها برغبة قوية وجعلت تحدث نفسها كالهاذية: «عشرون جنيها!» .. كم كان مقدارا جسيما، وكم علمت فيما بعد أنه شيء زهيد في متناول يدي، وها أنا ذا أراه ولا قيمة له. أما هي فامرأة حسناء .. ولكن لا يجوز أن توردها نفسها المهالك .. كما أوردتني نفسي أنا وقطيع البائسات .. هذا جائز .. ولكن ما هو سم لأناس قد يكون غذاء لآخرين، وما يوجب علينا الشقاء قد يتيح ألوانا من اللذات والسعادة .. وأوشكت أن تلاصقها، وتحولت الحسناء إلى شباك التسليم فتأثرتها، وأعطاها الرجل الزجاجة ملفوفة، ورأت الأخرى اللفة فثارت ثائرتها وخطر لها أن ترمي بها إلى الأرض مهشمة.
جاءها الخاطر مباغتا بغير إصرار سابق ولا نية مبيتة؛ فسرعان ما تملكها بقوة شيطانية واستولى على عقلها وإرادتها، فكأنها ما تبعت المرأة إلا لتحققه مهما كلفها ذلك من ثمن، ولم تدر لذلك سببا واضحا ولا هدفت إلى غاية ظاهرة، ولكنها كانت كثيرا ما تأتي بأفعال صبيانية وأحيانا جنونية بغير مقاومة ولا فطنة لبواعثها. وكان الاستهتار من سجاياها الراسخة التي اكتسبتها في أعوامها العشرة الأخيرة؛ فلم يكن شيء يوقفها عند حد أو يعطف بها عن شهوة، فاندفعت إلى جانب السيدة المتجهة نحو الباب كأنما تريد أن تسبقها إليه، واحتكت بها وهي تلوح بذراعها فصدمت يد الأخرى، فأفلتت اللفة الثمينة وسقطت على الأرض. ولم تلتفت الحسناء إليها، ولكنها انحنت على عجل نحو الزجاجة، والأخرى تنظر إليها متسائلة: هل نالت المرام؟! .. وجاءها الجواب سريعا، أو جاء أنفها على الأصح، قبل أن تلمس أنامل الحسناء حملها النفيس، فتصاعد شذا طيب، جماله لا يوصف، عطر الجو، ونفذ إلى الحواس والروح، فانتشت ثملة كأنه بث فيها غراما ووفاء وسحر هوى. واعتدلت السيدة وقد تضرج وجهها بالاحمرار، وصوبت نحو الأخرى نظرة ثاقبة، ولبثت هذه في مكانها جامدة الملامح ولكنها راضية النفس مستسلمة كأنها تقول بأفصح لسان: «افعلوا بي ما شئتم.» وانتظرت السيدة أن ترتبك الأخرى أو تعتذر، ولكنها ثابرت على جمودها وصمتها، ورنت إليها بعينين هادئتين مستسلمتين، ومرت لحظة دقيقة فتساءلت: ترى هل تساق إلى القسم؟ .. هل تشتبك في شجار مع السيدة أو سائق سيارتها أو باعة المتجر؟! .. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث؛ فقد تغير وجه الحسناء، فانبسطت أساريرها، ثم أغرقت في الضحك .. إن أفدح المواقف أدعاها للضحك، فقد أضحكها أن تخسر الزجاجة النفيسة في غمضة عين، وأن ترى تلك المرأة البلهاء وقد أذهلتها جريمتها ورباطة جأشها، وكان صاحب المتجر يهرول نحوها يلوح في وجهه الاهتمام، فهزت منكبيها استهانة وتحولت عن البلهاء وعادت القهقرى إلى صدارة المحل دون أن تنبس بكلمة، واندفعت المرأة نحو الباب كأنما تفر من المكان، ولما بلغت الطريق نظرت وراءها فرأت الأخرى بمكانها الذي أدركتها فيه حين تبعتها أول مرة، فتساءلت ذاهلة: «رباه هل تبتاع زجاجة أخرى؟!» ولكنها لم تقف، بل أسلمت قيادها لقدميها، وكانت فريسة انفعال طاغ تولاها بغتة، فمضت مقطبة الجبين زائغة البصر، إلا أنها لم تدم على ذلك طويلا؛ فما لبثت أن عادت إلى رشدها، خافت أن تبدو في هيئة قبيحة تنفر الأعين، فطاردت همومها الطارئة، وألقت نظرة على ما حولها، ثم أخذت تسير الهوينى متثنية الأعطاف وقد ابتسمت أساريرها.
نكث الأمومة
عندما دخل قطار الصعيد يهدئ من سرعته كان نور الفجر الأزرق الحالم قد اكتسى بحلة فضية من ضوء الصباح المنير، وقد فتحت السيدة روحية هانم عينيها مع بزوغ أول شعاع من أشعة الشمس، ولبثت لحظة مستسلمة لتراخي النوم، ثم اعتدلت في جلستها في الصالون وأدارت عينيها الزرقاوين الفاتنتين في أنحاء الصالون حتى استقرتا على وجه الأستاذ عاصم الذي كان يغط في نوم عميق، فلاحت فيهما نظرة حب وحنان، وكان من الضروري إيقاظه لدنو القطار من محطة مصر إلا أنها لم توقظه قبل أن تقوم إلى المرآة الصغيرة الموضوعة بين صورة الكرنك وأجا ممنون، فتسوي شعر رأسها وتمسح خديها وجيدها بالبودرة المعطرة. وتنبه النائم على لمس أناملها ذات الأظافر الأهرامية الحمراء .. وكان أول ما مس إحساسه في عالم اليقظة رائحة أنفاسها الذكية وهي تطبع على شفتيه قبلة شهية .. وفتحت النافذة وأطلت منها برأسها الذهبي كأنها شمس تشرق من الأرض، فرأت بناء المحطة يدنو من بعد فالتفتت إلى الأستاذ وقالت وهي تتنهد: وا أسفاه انتهت سفرتنا.
فقال لها وهو يتمطي: هذه نهاية كل رحلة، أما الحب فلا نهاية له.
Bilinmeyen sayfa