فقال الغلام بهدوء: قتل.
فابتسم الشاب بالرغم من انزعاجه وقال: ولكن ليس هذا بالسبب التافه. - قتل بغيا.
ولم يستطع الغلام أن يتم حديثه؛ لأنه قطعه عليه دخول جماعة من العمال ونداء المعلم له، فحيا الشاب وانصرف إلى عمله.
لقد وقعت أحداث غريبة منذ زيارته الأولى لهذه القهوة.
دمرت مدينة، وتشتت أهلها، وشنق رجل كانت حنجرته تنفث سحرا وبهجة؛ فما أتعس مجيئه هذه الليلة! جاء يطلب لهوا ومسرة فوجد خرابا وموتا.
ولبث كئيبا، وراح يفكر في زيارته الأولى تلك الليلة القمراء السعيدة.
كان في مساء تلك الليلة جالسا في سانت جيمس يشارب جماعة من صحبه كما هي عادته كل مساء، وقد تركوا الحانة في الساعة العاشرة، ورأى بعضهم أن يمضوا الليل في صالة رقص أو غناء أو نساء، ولكنه لم يجد من حواسه ميلا إلى تلك المتع.
كان ضيق الصدر من طول ما فعل به الملل والفراغ، وكان يعاني شبعا ثقيلا صرف هواه عن الدنيا جميعا، فأمسى الرقص والغناء والنساء ألفاظا لا معنى لها، وانقلب جسد الأهواء الفاتن في عينيه جثة هامدة، فودع صحبه وتركهم يذهبون.
وتلفت يمنة ويسرة في حيرة .. إلى أين يذهب؟ ولم ينقذه من حيرته إغراء .. فترك لملله ووحدته وسكره.
ثم استقل سيارته الصغيرة وانطلق بها على غير هدى، وساقه التخبط إلى العباسية، ودفعته العباسية إلى صحرائها الشرقية، ولفتت ناظريه - في الطريق الصحراوي الملتوي - أنوار خافتة تنبعث من القهوة المنعزلة، فهدأ من سرعة السيارة، ونظر صوبها فسره منظر الجالسين يتسامرون ويلعبون النرد والورق، وحمل الهواء إلى أنفه رائحة «التمباك المعسل»، فتسربت إلى مخه وأطربت أعصاب رأسه، فانقشع عنه كابوس السقم، وأدار السيارة إلى أمام مدينة الصفائح ووقف، وحسب أن جلسة في هذه القهوة ونفسا من هذه «الجوزة» يساويان نعيم الدنيا الذي أنهك قواه وأضنى قلبه.
Bilinmeyen sayfa