فاصفرت الوجوه، وسأله سائل بلسان ملعثم: أمن المحتمل أن يستغني عنا حقا؟
فقال رام وهو يهز كتفيه استهانة: وماذا نفعل حتى نستحق البقاء؟
وكأنه بقوله هذا رفع صماما عن مرجل يغلي ففاض كل بما في قلبه، فقال واحد منهم: هذه حال لا يمكن السكوت عليها.
وقال آخر وهو يهز قبضة يده: لقد أفسد الشيخ الخرف المقاطعة.
وقال ثالث: إنه يحطم القوى الإنسانية العالية بهذه الدعوة الفاسدة التي تعوق التقدم وتقتل الهمم.
وسرت النجوي من لسان إلى لسان، وأبان كل عما بنفسه إلا القاضي فإنه لزم الصمت، وسها إلى الأفق البعيد كأنه لا يسمع مما يدور حوله شيئا، وكاد مظهره يجلب اليأس إلى قلوب الكثيرين من أعوانه، إلا أن رام همس لهم خارجا: لا تخشوا القاضي؛ فقلبه معنا، ولكن لسانه الذي مرن على الكلام عن العدالة لا يطاوعه على ما نحن بسبيله.
واتفقت كلمتهم.
وأشرقت الشمس ذات صباح فإذا بالرجل الغريب قد اختفى، وبحث عنه مريدوه في كل مكان، وفتشوا عنه في كل بقعة من الإقليم فلم يعثروا له على أثر.
وأحدث اختفاؤه دهشة وانزعاجا، وأثار أقاويل متباينة؛ فمن قائل إنه هجر المقاطعة إلى غيرها بعد أن اطمأن إلى ثبات عقيدته، ومن قائل إنه صعد إلى السماء بعد أن أدى رسالته. وشمل الحزن المقاطعة كلها ووجفت القلوب جميعا.
وتنفس السادة الصعداء، وانتظروا على أمل سعيد وكلهم يحلم بالمجد الآفل والنعيم الذاهب، ويمني نفسه ويستنظرها.
Bilinmeyen sayfa