فضحك الدكتور بيير وقال متهكما: ولماذا تعلل ذلك بالمصادفات فتجحد العلم القديم؟ .. ألا يجوز أن الفراعنة يورثون أحفادهم أسرارهم الخفية كما يورثونهم سحنتهم وكثيرا من تقاليدهم؟
ومضينا نتفكه بأمثال هذا الحديث، وطرقنا غيره أحاديث كثيرة، ومضى الوقت لذيذا ممتعا، وعند الأصيل استأذن الضيوف في الانصراف، وأما أنا فأعلنت عن رغبتي في مشاهدة عملية الحفر التي يجريها الشيخ جاد الله، وغادرنا جميعا الصالون إلى الحديقة، وسرنا إلى الباب الخارجي لتوديع الأصدقاء. ولم نكد نقطع خطوات حتى وصلت إلى مسامعنا ضجة عظيمة، واعترضت طريقنا جماعة من الخدم رأيناهم يمسكون بتلابيب صعيدي ويوسعونه ضربا ولكما، ثم ساقوه بشدة إلى سعادة الباشا، وقال له أحدهم: يا صاحب السعادة ضبطنا هذا اللص وهو يسرق طعام بيميش.
وكنت أعرف بيميش حق المعرفة؛ فهو كلب الباشا العزيز، وآثر مخلوقات الله بقلبه بعد زوجه وأولاده، وهو يعيش في قصر الباشا منعما مكرما، يقوم على خدمته خدم وحشم، ويكشف عليه طبيب بيطري مرة كل شهر، ويقدم له كل يوم لحم وعظام ولبن وثريد. ولم تكن هذه أول مرة يسطو فيها الصعايدة على غذاء بيميش .. وكان السارق صعيديا قحا، يتميز بالسحنة المصرية العتيقة، ويبدو على هيئته البؤس والفقر. وقد حدجه الباشا بنظرة قاسية وقال له بعنف: كيف سولت لك نفسك انتهاك حرمة بيتي؟
فقال الرجل بتوسل وهو يلهث من أثر الجهد الذي بذله في مقاومة الخدم: كنت جائعا يا صاحب السعادة، ورأيت اللحم المسلوق مبعثرا على الحشائش فخانتني قوتي، ولم أكن ذقت اللحم منذ عيد الأضحى!
فالتفت الباشا إلي وقال هازئا: أرأيت الفرق بين بائسنا وبائسكم؟ .. إن بائسكم دفعه الجوع إلى سرقة رغيف، أما بائسنا فالرغيف ليس عسيرا عليه، ولكنه لا يرضى إلا باللحم المسلوق!
ثم التفت مرة أخرى إلى السارق، ورفع عصاه، وضربه على كتفه بشدة، وشده وصاح بالخدم: خذوه إلى الخفير.
وضحك الدكتور بيير وهو يسلم وقال للباشا: ماذا تفعل غدا إذا شم الصعايدة رائحة الذهب المكدس في كنز الشيخ جاد الله؟
فقال الباشا فورا: سأحيطه بسياج من الخفراء كخط ماجينو.
وعدنا - أنا والباشا - وتبعته صامتا إلى حيث يشتغل الشيخ جاد الله الذي يوشك أن يصير أثريا عظيما. وكان الرجل منهمكا في عمله هو ومعاوناه؛ يضربون الأرض بفئوسهم ويرفعون الأتربة في المقاطف ويلقونها جانبا، وكان الشيخ جاد الله تلمع عيناه ببريق حاد يدل على العزم والأمل، وتنبعث في ساعديه النحيلتين قوة غير طبيعية. كان يدنو حقا من هدفه الذي هداه إلى سبيله عمله الإلهي، فتمثل لي في شخصه العجيب الإنسان بنشاطه، وإيمانه وأوهامه، والحق أننا نخلق لأنفسنا آلهة وأوهاما ولكنا نؤمن بها إيمانا عجيبا، فيخلق لنا إيماننا عوالم غاية في البداعة والجمال، ألم يخلق أجداد الشيخ جاد الله - الذي يذكرني وجهه بتمثال الكاتب المعروف - الحضارة الأولى للإنسان؟ .. ألم يبدعوا الجمال على سطح الأرض وفي بطنها على السواء؟ .. أولم يستوحوا في عملهم وتفكيرهم أوزوريس وآمون؟ وما أوزوريس وآمون؟ لا شيء في الغالب .. أما حضارتهم فكانت شيئا أي شيء .. بل هي حضارتنا الراهنة.
وقفنا نشاهد الشيخ المؤمن، أما الباشا فيبتسم ابتسامة ساخرة، وأما أنا فأستغرق في أحلامي، وكلانا لا يدري بما يخبئه له القدر تحت آكام ذلك التراب. وكان العمل يبدو عقيما، فتململ الباشا واقترح علي أن نجلس في الفراندا فاتبعته صامتا، ولكنا لم نكد نصعد السلالم الأولى حتى لحق بنا الشيخ جاد الله عدوا وصاح بفمه المثرم: مولاي .. مولاي .. تعال انظر.
Bilinmeyen sayfa