إني أذكر تلك الأيام بلا ريب .. ولكن كم كنت أجهل ما تخفي من التعاسة والبؤس.
واحترمت فترة الصمت التي تلت ذلك ثم سألتها: كيف عدت إليه بعد ذلك؟
فهزت رأسها باشمئزاز وقالت: في تلك الليلة انتهت حياتي الزوجية في الواقع، ولكني كنت بلا مأوى وبلا معين، فماذا أصنع؟ .. عرض علي اتفاقية فقبلتها، وهي أن أعطيه من مالي على أن يعطيني حريتي. وقد كان .. وغدوت حرة أقيم حيث أشاء وأفعل ما أشاء لا أسأل عما أفعل.
وهالني الأمر فقلت: وهل عشت سعيدة؟
فتنهدت وقالت: ليت ذلك كان ممكنا .. ما تمنيت على الله من شيء مثلما تمنيت أن يسلبني حريتي هذه في لقاء أن أحظى بالسعادة التي أحلم بها والعطف الذي أتحرق إليه؛ وأنا مستعدة دائما أن أتنازل عن حريتي بائنة لمن يهبني قلبه وإخلاصه .. كم تعبت وكم بحثت .. وكم ضقت بحريتي!
الآن علمت كل شيء .. لقد صرفت هذه المرأة التعسة عشرة أعوام في البحث عن العبودية السعيدة، فهل يا ترى وفقت إلى ما تريد؟ .. كلا، هي لم توفق ولا ريب، ولو أنها وفقت إلى الحبيب الصادق ما ارتمت بين أحضاني أنا بهذه السهولة. لقد انصرمت السنوات العشر في خيبة مريرة وخدع أليمة. وما من شك في أن الكثيرين تلقفوها بشراهة وجشع كما أفعل الآن، ثم ردوها قهرا بعد شبع إلى حريتها البغيضة. وهكذا فالحرية نفسها تهون وترخص أحيانا، وتعيى في طلب المستبد الغاصب.
ولما انتهت من سرد قصتها نظرت إلي بطمأنينة واستسلام، ثم ألصقت جبهتها بجبهتي، وسمعتها تهمس في أذني قائلة: وأخيرا ...
وفهمت مدلول تلك الكلمة، وعلمت أني ألعب في روايتها البائسة دور الأمل الأخير؛ فإما أن أقوم به كما تتمنى أحلامها وإما أن أشفي بها على اليأس القاتل.
وأحسست بثقل تبعني، وران علي صدري هم عظيم، وتساءلت حيران: ترى ما هي أحلامها؟ .. أن تدوم هذه العشرة؟ .. وكيف لي بدوامها وأنا على قاب قوسين أو أدنى من الزواج؟ .. ومضى تأثري الشديد لتعاستها يهدأ نوعا، وأخذت أفكر في نفسي وأنظر إلى علاقتي بها بعين متشائمة، وأتساءل في قسوة وأسف عن طريقة للخلاص .. وكانت تأتي علي أوقات أعجب فيها من أنانيتي، وأتساءل في اشمئزاز: إذن كيف كان شأن من لم يشعر نحوها بغير الشهوة والطمع؟ الحق أن عالمنا الإنساني عالم شديد القسوة، وما أضيع الفلسفة التي تعب أصحابها في الدعوة إلى القسوة وتحقيق تنازع البقاء؛ فهي في الحق تحصيل حاصل وجهد ما كان أحرى باذليه بالضن به.
على أن الذي أزعجني هو أن زينب فطنت لمشاعري الخفية من غير أن أصارحها بها، وبدا لي ذلك في وجومها وبرودها وقنوطها. ولم أدهش؛ فإني من الذين لا يدرون كيف يخفون ما بنفوسهم، وتفضحهم أعينهم وإيماءاتهم. ولم أكن بيت قط نية مصارحتها بعاطفة مما يعتلج في صدري أو بفكر مما يحترق في رأسي، وقد كنت أفكر في حالتها بعطف ومودة، ولكن العطف شيء والحب شيء.
Bilinmeyen sayfa