وكان من أثر الرعب الذي استولى على مشاعر «هملت» من مرأى الطيف أن كاد يجن لهول ما رأى وكادت تختل موازين عقله؛ وذلك لأنه كان من قبل ضعيفا منهوك القوى مشتت البال. وخشي أن يبقى هذا الأثر في نفسه فيلفت إليه الأنظار، ويأخذ عمه منه حذره إذا ظن أنه يدبر له شرا، أو أنه يعرف عن موت أبيه أكثر مما يتظاهر به، فاتخذ في تلك الساعة ذلك القرار العجيب، وهو أن يتصنع الجنون لاعتقاده أن عمه إذا رآه على هذه الحال أيقن بأنه عاجز كل العجز عن أن يفكر في أي أمر جدي، فضلا عن أن هذا الجنون المتصنع هو خير ما يخفي به اضطرابه الحقيقي.
وبدا «هملت» من ذلك الحين غريبا في زيه وحديثه وتصرفه، وأتقن تصنع الجنون إتقانا خدع به الملك والملكة، وكانا يظنان أن حزنه على أبيه لا يكفي لاضطراب عقله - لأنهما لا يعرفان ظهور الطيف - فلم يشكا في أن الحب هو منشؤه، وخالا أنهما قد عرفا الفتاة التى تعلق بها قلبه.
وذلك أن «هملت» كان قبل أن يستكين للحزن الذي سلف ذكره قد أحب فتاة حسناء تدعى «أوفيليا» (Ophelia)
ابنة «بولونيوس» (Polonius)
كبير مستشاري الملك في شؤون الدولة، وكان قد أرسل إليها رسائل وخواتم وأظهر لها مرارا تعلقه بها، وطلب إليها بإلحاح وبوسائل طاهرة شريفة أن تعطف عليه وتحبه. وصدقت هي توسله وأيمانه، ولكن الكآبة التي استولت عليه أخيرا قد صرفته عنها . ولما اعتزم أن يتصنع الجنون تكلف أيضا بعض القسوة والخشونة في معاملتها، ولكن هذه الفتاة الطيبة لم تتهمه بالغدر وعدم الوفاء، بل أقنعت نفسها بأن الذي صرفه عنها وجعله أقل اكتراثا بها هو اضطراب عقله لا قسوة عليها متأصلة في قلبه. وشبهت ما كان له من مواهب شريفة وذكاء مفرط أفسدهما ما طغى عليهما من حزن شديد، شبهت هذه المواهب وهذا الذكاء بالأجراس الموسيقية التى ترسل أعذب النغمات وأشجاها، ولكنها إذا عبثت بها الأيدي أو دقت بغير يد صناع أحدثت نشازا وأصواتا منكرة تؤذي السمع.
ولم يكن العمل الصعب الذي هو مقدم عليه، وهو القصاص من قاتل أبيه، مما يتفق مع الغزل وما فيه من عبث، أو مما يسمح له بأن تجيش في صدره عاطفة الحب التي بدت له الآن غاية في السخف، ولكن هذا العمل نفسه لم يكن ليمحو من عقله كل تفكيره في «أوفيليا»، بل ظلت ذكراها تعاوده الفينة بعد الفينة، وفي ساعة من هذه الساعات ظن أنه قد قسا على هذه الفتاة الحسناء لغير سبب معقول، فكتب إليها رسالة وصف فيها عواطف الحب التى كانت تجيش في صدره بعبارات شاذة غريبة تتفق مع ما يدعيه من جنون، ولكنها مع ذلك كان يمتزج بها شيء من العواطف الحقة، تبينت منها هذه الفتاة النبيلة أنه لا يزال يكن لها في أعماق قلبه حبا خالصا قويا. وقد أمرها في هذه الرسالة أن تشك في أن النجوم من نار، وأن الشمس تجري في فلكها، وأن تشك في الصدق نفسه وترميه بالكذب، ولكن عليها ألا تشك قط في أنه يحبها، إلى غير ذلك من العبارات الشاذة الغريبة.
ورأت «أوفيليا» أن من حق أبيها عليها أن تطلعه على هذا الخطاب، ورأى الشيخ أن من واجبه أن يطلع عليه الملك والملكة، وظن الاثنان من ذلك الحين أن الحب هو الذي سلب عقله، وتمنت الملكة أن يكون جمال «أوفيليا» البارع هو الذى يدفعه إلى هذه الأطوار الغريبة؛ لأن هذا يقوي أملها في أن جمالها وفضائلها قد يرجعان به إلى سابق عهده، فتعود له ولها كرامتهما الأولى.
ولكنها قدرت فأخطأت التقدير، فلقد كان مرض «هملت» أعمق مما تظن، وأشد من أن يشفيه هذا العلاج. لقد ظل طيف أبيه الذي شاهده من قبل ينتاب خياله، ولم يكن ليطمئن له بال حتى ينفذ ما أمره به من الانتقام لوالده القتيل. وكان يرى أن كل ساعة تمر به إثم لا يغتفر له وعصيان لأمر والده، ولكن قتل الملك ومن حوله حراسه وجنده لم يكن بالأمر الهين، ووجود أمه مع الملك في معظم الأوقات عقبة في سبيله لا يستطيع التغلب عليها. وفوق هذا وذاك فإن هذا المغتصب هو زوج أمه، وهذا في حد ذاته يقلق باله بعض القلق ويوهن من عزيمته، وفضلا على هذا كله فإن اعتداء الإنسان على حياة أخيه الإنسان جرم شنيع بغيض لا يطيقه شخص أوتي من رقة الطباع ودماثة الخلق ما أوتي «هملت». وقد مر عليه زمن طويل وهو حزين مكتئب منقبض الصدر، فأوهن ذلك عزمه ومنعه من أن يحزم أمره ويسير في قصده إلى غايته، وكان لا يزال يخامره بعض الشك في أن هذا الطيف الذي رآه هو روح أبيه حقا، وليس هو الشيطان الذي قيل له: إن في استطاعته أن يتخذ لنفسه أية صورة يريدها، فاتخذ صورة أبيه ليستفيد من ضعفه وحزنه عليه، ويدفعه إلى التورط في هذا العمل الجريء العنيف؛ وهو الفتك بعمه. ولهذا كله اعتزم أن يتريث في الأمر حتى تتجمع لديه أسباب أقوى من حديث الطيف الذي ربما كان الوهم هو الذي صوره له.
وبينا هو في هذه الحال من التردد إذ وفد إلى بلاط الملك جماعة من الممثلين كان «هملت» فيما مضى يسر بتمثيلهم، وكان يعجبه بنوع خاص أن يسمع أحدهم يلقي خطابا محزنا يصف فيه موت الشيخ «بريام» (Priam)
ملك «طروادة» وحزن الملكة «هكيبا» (Hecuba) . واختفى «هملت» بالممثلين أصدقائه الأقدمين، وتذكر أن هذا الخطاب كان يطربه من قبل فطلب إلى ملقيه أن يعيده على مسامعه، فألقاه هذا الممثل إلقاء بارعا أظهر فيه ما ارتكب من القسوة في قتل الملك الشيخ الضعيف، وما حل بشعبه وبلده من كوارث حين التهمت النار المدينة، وما أصاب الملكة العجوز من حزن ذهب بعقلها، فأخذت تعدو في القصر حافية القدمين، وفي مكان التاج من رأسها خرقة بالية، وعليها بدل الملابس الملكية قطعة من لحاف حول وسطها اختطفتها على عجل. وقد أجاد الممثل تمثيل هذا الدور وأتقنه إتقانا أثر في جميع الحاضرين، فبكوا أسى وحسرة، حتى إن الممثل نفسه قد أثر فيه الموقف فألقى خطابه بصوت أجش ودمع منهمر.
Bilinmeyen sayfa