أى كما اشترى المسلم، وهو جبلة ملك غسان، الكفر بالإسلام حين تنصر، والجمة، بضم الجيم، مجتمع شعر الرأس والداء للبدن، والأزعر الأصلع، والدردر بضم الدالين المهملين منبت الأسنان بعد سقوطها، وقال الجوهرى مغارز أسنان الصبى، والعمر بدل من الطويل أو بيانه، والحيدر القصير ثم اتسع فاستعمل للرغبة عن الشىء طمعا فى غيره، وكقول الله عز وجل فيما يعيب به بنى إسرائيل تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، والضلالة الميل عن القصد وفقد الاهتداء، وتخصيصه شرعا بالميل عن دين الله حقيقة شرعية ومجازا استعاريا لغويا، وقوله عز وجل { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } إلى قوله { بالكافرين } لحيرة العدو وضلاله والتباسه أمره عليه إلى أن يؤول ذلك إلى دماره، تكتب فى خرقة من قميصه الذى عرق فيه، وتكتب فيه اسمه واسم أمه سبع مرات، ثم يدفن ذلك فى عتبة داره فى كوز فخار جديد، وإن فعل ذلك لمن لا يحل أن يفعل له شرعا رجع الضر عليه. { فما ربحت تجارتهم } ذكر الربح والتجارة ترشيح الاستعارة المذكورة فى اشتروا، لأنهما ملائمان للمشبه به، فإن الربح إنما ينفى عما من شأنه أن يقع فيه، ولم يقع وهو الشراء الحقيقى، والتجارة طلب الربح بالبيع والشراء قاله القاضى، وأولى منه أن يقال هو الصرف بالبيع والشراء للربح، والربح الفضل على رأس المال، وكل ذلك ملائم للمشبه به، ولكون الربح الفضل على رأس المال، سمى بالشف يقال لهذا على هذا شف أى فضل، وأشفه فضله، ويستعمل أيضا فى النقص، ونفى ربح تجارتهم تمثيل لخسارتهم وتصوير لحقيقتها.
فيجوز عندى أن يكون ذلك استعارة تمثيلية لا يمنع ذلك كونه ترشيحا للاستعارة السابقة عن هذه. وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد إلى الظرف المجازى، فهو مجاز عقلى ويسمى تجوزا فى الإسناد، وتجوزا فى الحكم، وحقيقة الكلام عما ربحوا فى تجارتهم بإسناد الربح لأرباب التجارة، أو من الإسناد إلى السبب أو الملزوم، فان التجارة سبب للربح وملزوم له ملزوما بيانيا، أو من الإسناد للمخالط المجاور، فإن التجارة تخالطت التاجر أو شبه التجارة بعبدهم أو خادمهم أو من يقيمونه على التصرف فى أموالهم للربح على طريق الاستعارة المكنية، ورمز إليها بالربح فكما أن العبد أو الخادم أو نحوهما جالب الربح، أو خسران كذلك التجارة، وقرأ ابن أبى عبلة تجاراتهم بالجمع بألف وتاء. { وما كانوا مهتدين } إلى الحق أو إلى طريق التجارة، والمقصود بها وهو الربح، فإنهم لم يعرفوا كيف يتجرون فى أمر الدين فلم يحصل لهم الربح، فإن رأس المال هو الهدى ولم يبق لهم مع الضلاة هدى، ومن لم يتحصل عليه لم يتصف بالربح فإنه بعد رأس المال، ولو عرفوا كيف يتجرون لباعوا الكفر بالهدى، فيرعون الهدى، ومما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة فيكونون كمن باع ما لا قيمة له لخسته لما لا غاية لقيمته، وأيضا لك أن تقول كما مر رأس المال ما فطر الله - جل وعلا - الناس عليه من الإسلام، وما منحهم من التمكن منه، ولما اعتقدوا الضلالة بطل استعدادهم من الفطرة، واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال وخير الدنيا والآخرة، فقدوا الأصل والربح، وكما أن جملة { ربحت تجارتهم } ترشيح للاشتراء، كذلك جملة { وما كانوا مهتدين } ترشيح للضلالة، كأنه قيل بقوا على الضلالة التى ضلوها فإن عدم الاهتداء بقاء عليها، فإن من ضل عن بلدة فى الصحراء أو عن شىء قد يهتدى إليه، وهؤلاء لما مالوا عن الحق لم يهتدوا إليه. ولك أن تقول ترشيح لقوله تعالى { فما ربحت تجارتهم } فهو ترشيح للترشيح لأن { فما ربحت تجارتهم } ترشيح للاشتراء وهذا يصح. ولو حملنا { فما ربحت تجارتهم } على غير الاستعارة من أنواع المجاز المذكورة، لأن الترشيخ كما يجوز فى الاستعارة يجوز فى المجازالعقلى والمجاز المرسل نحو اليد الطولى، فإن استعمال اليد بمعنى القدرة مجاز مرسل، لأن اليد الجارحة آلة للقدرة وسبب لها، والطول مما يناسب اليد، وكنى به عن الكمال ومحط جعل هذه الجملة ترشيحا للترشيح أن تجعل المعنى ما كانوا مهتدين لطريق التجارة أو للربح، وما كان ترشيحا لترشيح الشىء فهو ترشيح للشىء، والعرب ترغب فى الترشيح ترشيح المعنى المجازى بملائمات الحقيقة، وكلما ازداد الترشيح أو ابتنى ترشيح على آخر ازداد الكلام حسنا، ألا ترى أن معنى قوله
ولما رأيت النسر عز بن داية وعشش فى وكريه جاش به صدرى
ومعنى قولك ولما رأيت الشيب غلب السواء فى اللحية والرأس وتمكن فيهما تحرك له صدرى معنى واحد، والبيت أدخل فى القلب وأعلق به وأثبت، لما فيه من المجاز المشتمل على تشبيه الشيب بالنسر، والسواد بابن داية، وهو الغراب، وترشيح ذلك بالتعشيش والوكرين، فإنهما مناسبان للغرابة لا للشيب، فإن للغاب وكر شتاء ووكر صيف والتعشيش أخذ العش وهو مهاد يأخذه للتفريخ من رقاق العيدان والأشياء اللينة فى الشجر، وما فى الجدار والجبل، يسمى وكرا ويسمى أيضا عشا.
[2.17]
{ مثلهم } أى فى صفتهم فى النفاق، والمثل فى الأصل بمعنى الشبيه، ويقال أيضا مثل، بكسر فإسكان، ومثيل ككريم، ثم استعمل بمعنى الكلام الذى شبه مضربه بمورده، وهو استعمال عربى، وإنما سمى هذا الكلام المشبه مضربه بمورده مثلا لأنه أخذ من المعنى الأصلى المذكور وهو التشبيه، إذ جعل مضربه وهو ما يضرب فيه شبيها بمورده، وهو ما ورد فيه أولا قبل ضربه مثلا، وضرب المثل نوع من الاستعارة التمثيلية فهى أعم منه، وعمومها مطلق وهو أخص، وخصوصه خصوص مطلق، وبيان خصوصه أنه تعتبر فيه الشهرة، فإنه لا يضرب إلا بما فيه غرابة من بعض الوجوه، ولا يغير لأنه استعارة كما مر وهى تصر يحية، ولفظها لفظ المشبه به كما هو شأن الاستعارة التصريحية، فلو غير لم يكن لفظه لفظ المشبه به، ولم يكن مثلا، بل مأخوذ منه ومشير إليه، فقولك الصيف ضيعت اللبن، بكسر التاء، مثل إذ لم يغير عن اللفظ المقول أولا، وبفتحها أو ضمها مأخوذ من المثل ومشير إليه. وقال الزمخشرى والقاضى حوفظ عليه من التغير لما فيه من الغرابة، وما ذكرته أولى وهو قول السكاكى. وقد كثر ضرب المثل فى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء والحكماء، لأنه أوقع فى قلب المخاطب ويراه المتخيل تحققا. والمعقول محسوسا، والغائب مشاهدا وأقمع للمعاند الشديد الخصومة، ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، ثم استعير لفظ المثل لكل ذى شأن وغرابة من حال أو قصة أو صفة، وهو استعمال ثالث متفرع على الثانى الذى هو الكلام المشبه، مضروب بمفرده المتفرع على الأول الذى هو الشبيه، وحمل القرآن إلى الثانى أولى، لأن أكثر أحكام القرآن معقولة غير محسوسة، من حيث الاعتقادات والوهم، وإنما يدرك المحسوس فهو ينازع العقل فى إدراك المعقولة حتى يحجبها عنه، وإذا ضرب المثل بالمحسوس أدركه الوهم فوافق العقل فزالت خصومة الخصم، إلا أن يخاصم مكابرة لعقله، ووجه الحمل على الأمثال فيما إذا صرح بأداة التشبيه أن يقال إن مدخول الأداة والمضروب له يشملهما كلام واحد مشار إليه غير مدرك مذكور فى القرآن نصا بلفظه، ففى الآية يقال إن هؤلاء المنافقين والذى استوقد نارا على الكيفية المذكورة، مثلهما الذى يضرب لهما واحد وهو الدخول فى أمر مرغوب فيه وقطعه، بحيث يكون القطع أضر من ترك الدخول من أول مرة، ألا ترى أن المنافق أسفل فى النار من المشرك المحض؟ وأن الحاصل فى ظلمة أعقبت نورا أهم من الحاصل فيها من أول؟ فالمنافق دخل بلسانه وربما شابته موافقة من قلبه غير خالصة، وقطع دخوله بنفاقه أعنى أبطله به، وأما ما لم يصرح فيه بالأداة فكونه مثلا مضروبا ظاهرا، ولو صرح فيه بلفظ الضرب كقوله عز وجل
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط...
إلخ السورة، ويجوز حمل القرآن على الاستعمال الأول وهو معنى الشبيه، لأن ما صدقه راجع إلى الثانى، لأنه سيق للبيان والإيضاح، ويجوز حمله على الثالث وهو ذو الشأن والغرابة من حال أو صفة أو قصة، فكأنه قبل صفة هؤلاء المنافقين الغريبة العجيبة الشأن. { كمثل الذى استوقد نارا } أى كصفته الغريبة العجيبة الشأن، حيث استوقد نارا فى ظلمة ثم زالت وبقى متحيرا كما قال مولانا جل وعلا { فلمآ آضآءت } أى النار { ما حوله } ما يقرب منه ويدور به من المواضع، فأبصر بعد أن كان لا يبصر شدة الظلمة، واستدفأ بعد أن كان مقرورا وآمن ما يخافه. { ذهب الله بنورهم } أى أذهبه. { وتركهم فى ظلمات لا يبصرون } ما حولهم فهم متحيرون عن الطريق خائفون، فكذلك هؤلاء المنافقون آمنوا ما يخافونه من القتل والأسر والغنيمة والسبى وغير ذلك، وزوال نعم حين أظهروا كلمة الشهادة وإذا ما يزال عنهم ذلك الأمن كما قال ابن عباس فى القبر وما بعده، وجاءهم الخوف والعذاب لأنهم أضمروا الشرك، ومن كان منافقا بالفسق من أهل التوحيد، فكذلك لأنهم آمنوا فى الدنيا مما ذكر، وتوصلوا إلى مناكحة المسلمين وموارثتهم وغير ذلك، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب، وزال ما معهم من النور الضعيف القليل الذى حصلوه من التوحيد، لأنهم لم يحققوه بعمل، فيجوز أن يكون ذلك مثلا مضروبا لهؤلاء المنافقين بطريقة آخر هو أنه شبه حالهم حين أتاهم الله ضربا من الهدى وهو التوحيد اللسانى فأضاعوه ولم يدخلوه قلوبهم، ففاتهم نعيم الأبد بمن أعطى فى ظلمة عظيمة مخوفة نورا، فلم يتسمك به ولم يحافظ عليه حتى زال، فكلاهما متحير مضر. وهذه الآية مقررة وموضحة لقوله تعالى
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
وبطريق آخر هو أنه شبه إيمانهم من حيث إنه سلمت به دماؤهم وأولادهم وأموالهم، وشاركوا المسلمين فى المغانم والأحكام، ثم فضحهم الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأظهر نفاقهم فكان لهم اسم المنافق لا اسم المؤمن بنار أوقدت فانتفع بها قليلا فى الظلمة ثم زالت، وهكذا حال الموحد المنافق بالنظر إلى انكشافه فى الآخرة وقد ينكشف أيضا فى الدنيا، فتزول عنه الولاية وتوابعها، وبطريق آخر وهو أن نرجع ضمير الهاء للكفار المحض والكفار المنافقين بأن يشبهوا فى إعراضهم عن فطرة الإسلام أى فطروا عليها، ونمكن عقولهم من نور الهدى بمن لم يحافظ على النور الذى حصل فى ظلمة فضاع عنه، وبطريق آخر هو أن نرجع الضمير للكفار المحض الباقين على الكفر، والمرتدين إليه بعد الإسلام والكفار المنافقين، فإن كلا قد زال عنه نور الإسلام كزوال نور النار فى ظلمة، وفى معنى ذلك كل من زال عن درجة فى الإسلام إلى ما دونها، ولو لم يكن يحكم بهلاكه ولا بإطلاق أصم وأبكم وأعمى عليه، اللهم إلا بقيد النسبة إلى الدرجة التى نزل عنها، وقال قوم منهم قتادة إن المعنى أن نطقهم بلا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها، والمراد بالذى الجنس، ولذلك عاد عليه ضمير الجمع فى قوله بنورهم، أو لكونه نعتا لمحذوف مفرد فى اللفظ جمع فى المعنى، كالفريق والفوج والقوم ونحو ذلك، مما هو مفرد لفظا جمع فى المعنى، أو لأن المراد مثل كل واحد منهم، كمثل الذى استوقد نارا، ووجه الشبه بين الإسلام والنور أن كلا يزيل الحيرة والهلاك، وضرب المثل بالنار لأن المستضىء بها مستضىء بنور غيره، وإذا ذهب بقى فى ظلمة فلما أقروا بدون اعتقاد كان إيمانهم كالمستعار، ولأن النار تحتاج لمادة الحطب لتدوم، والإيمان يحتاج لمادة الاعتقاد ليدوم، واستعمل الذى بمعنى الذين تخفيفا بإسقاط النون فهى فى الحقيقة لفظ الذين، أو استعمالا كالموصولات المشتركة مثل من، وعلى كل وجه روعى لفظه فى استوقد وحوله ومعناه فى نورهم وما بعده إلا على تأويل مثل كل واحد منهم كمثل الذى فإنه مفرد لفظ ومعنى، وإن قلت جاز مراعاة لفظه فى وجه التخفيف من الذين قلت لأن حقيقة تخفيفه منه إسقاط نونه وجعلها نسيا منسيا، كما حذفت لام يد وهن ونحوهما وأعر بن على العين، وإنما جاز تخفيفه المذكور واستعماله مشتركا كمن، ولم يحز وضع القائم موضع القائمين إلا بإرادة الجنس، لأنه غير مقصود بالوصف به ذاتا، بل المقصود الوصف بصلته، وإنما هو وصله إلى نعت المعرفة بها، ولأنه ليس اسما تاما بل كجزء فحقه أن يستعمل مشتركا كمن، ولا تلحقه الزوائد، وليس الذين جمعا له بل اسم جمع، زيدت فيه زيادة لزيادة المعنى، ولذلك يقول الذين بالياء جرا ونصبا ورفعا على اللغة الفصحى، فليس جمع مذكر سالما، ولغة من يقول رفعا الذون ليست نعتا فى إعرابه، وكونه جمع سلامة له الاحتمال بقائه على البناء والواو أمارة على محله، كما يقال منان ومنون فى الاستفهام ولكونه مستطالا بصلة استحق التخفيف، فقيل الذى بإسقاط النون وتناسيها وإذا أسقطت بلا تناس وجب مراعاة المعنى بخلاف القائم فإن القصد الوصف به وهو اسم تام، والقائمون جمعه وكذا ما أشبهه من اسم الفاعل والمفعول سواء، قلنا أل فى ذلك اموصولة أو حرف تعريف، وإن قلت فلعل أل بقية الذى والذين.
Bilinmeyen sayfa