والممتنع لتعلق العلم فى وسع المكلفين ظاهرا. واختاره ابن السبكى فى شرح المختصر، وصرح فى شرح المنهاج بأن مختار ابن السبكى مختص بالممتنع، لتعلق العلم بعدم وقوعه، وبأن المحال عادة كالمحال لذاته فى أنه جائز غير واقع. وصرح الغزالى بأن إيمان نحو أبى جهل لا يتصف بالاستحالة، بل ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرجه العلم بعد وقوعه عن كونه ممكنا فى حد ذاته، وهو ظاهر. والله أعلم.
[2.7]
{ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } هذه الجملة الفعلية ومتعلقاها اللذان هما على قلوبهم وعلى سمعهم، والجملة الاسمية بعد ذلك تعليل لاستواء الإنذار وعدمه عندهم ولعدم إيمانهم، فذلك من التعليل الجملى المستأنف كقولك لجائع كل إنك جائع، ويجوز كون ذلك مستأنفا لبيان ما يتولد عى استواء الإنذار وعدمه، وعلى عدم الإيمان من ختم الله عز وجل على قلوبهم وسمعهم. والختم على الشىء الإغلاق عليه وكتمه ويسمى الاستيثاق إذا كان بضرب الخاتم على الشىء ختما، لأنه كتم له. ويسمى أيضا بلوغ آخر الشىء ختما لأنه آخر ما يفعل فى إحراز ذلك الشىء وإن قلت إذا كان الله هو الذى ختم على قلوبهم، فكيف يعذبهم على كفرهم؟. قلت التحقيق أنه ليس ذلك الختم على طريق الجبر على الكفر بل أتوا الكفر باختيارهم، فعذبهم على كفرهم باختيارهم وإعراضهم عن الآيات، ولكن لما كان كفرهم مخلوقا لله - جل وعلا - سما ما يتولد منه من زيادة كفر ختما منه تعالى، وإن شئت فقل لما كان ما يتولد على غيهم وتقليدهم وإعراضهم عن الآيات من زيادة كفر واستحبابه، واستقباح الإيمان ومتعلقاته، ومن ملازمة ذلك والجرأة عليه مخلوقا لله تعالى، سماه ختما من الله - عز وجل - وإن شئت فقل لما كان حدوث ذلك خلقا من الله سماه ختما منه تعالى وفى التعبير بختم استعارة تصريحية تحقيقية تبيعة شبه خلق عدم نفود الحق فى القلوب وتحقق كلال الأسماع وامتناعها عن سماعه سماعا موصلا إلى القلوب، بالإغلاق على الشىء، والمنع من الوصول إليه، بجامع انتفاء التوصل من خارج إلى داخل، وعدم الانتفاع بداخل. فكما لا ينتفع بسمن مختوم عليه فى خابية ما دام مختوما عليه، كذلك لا ينتفع بقلب فى داخل الجسد فاسد، ولا يسمع داخل الأذن لا يوصل مسموعه إلى القلب أيضا لا نافعا، فكان خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال من جنس الإغلاق على شىء، فسمى باسم الإغلاق على شىء واسمه الختم، فاشتق من الختم بمعنى الخلق لعدم النفوذ وتحقق الكلال ختم بمعنى خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال. فاستعاره فى ختم تابعة لها فى الختم وليس المشبه مخيلا فكانت تحقيقية، وقد صرح بلفظ المشبه وهو ختم فكانت تصريحية، وإن شئت فقل فى قوله { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } استعارة تمثيلية، بأن تقول شبه القلوب وعدم نفوذ الحق فيها وخلق ذلك العدم والإسماع وكلالهما، وخلق ذلك الكلال بإناء وشىء فيه والإغلاق على ذلك الشىء بجامع مطلق وجود وعاء وشىء فيه، وعدم الوصول للشىء الذى فيه. بل حفظت عن بعض كتب عصام الدين فى الاستعارات وغيره أنه لا يعدل عن الاستعارة التمثيلية إلى المفردة ما وجدت التمثيلية، وهى المركبة.
ومثل الختم الطبع والأغفال والأقسار حيث ذكرنا ولا جبر فى شىء من ذلك بيل أسند إلى الله - جل وعلا - من حيث إنه خلقهن ووقعن بقدرته وأسنده إليهم لأنهم اكتسبوها باختيارهم، ووصفت بالقبح وذموا عليها لاختيارهم، فلا قبح فيها من حيث إنه تعالى خلقها، بل من حيث إنهم اكتسبوها، فلا إشكال فى إسنادها إلى الله - جل وعلا - من حيث خلقها. والمعتزلة لما منعوا إسناد القبيح إلى الله تعالى من أى وجه، أجابوا عن ذلك بأوجه ذكرها القاضى الأول أنه لما أعرض الكفار عن الحق وتمكن ذلك فى قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقى المجبول عليه. الثانى أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التى خلقها الله تعالى خالية من الفطن. وقد مر فى كلامى تخريج ذلك على الاستعارة المفردة والمركبة. الثالث أن ذلك فى الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، ولكن لما كان صدوره عنه بإقدار الله تعالى إياه، أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب. الرابع أن أعراقهم لما رسخت فى الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى القهر والجبر، ثم لم يقرهم ولم يجبرهم إبقاء على عرض التكليف، عبر عن ترك التحصيل بالختم فإنه سد لإيمانهم وفيه إشعار عن وقع أمرهم بالكلية فى الغى. ووصول انهماكهم غاية الضلال والبغى. الخامس أن يكون حكاية لما كانوا يقولونه مثل
قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب
تهكما واستهزاء بهم، كما تهكم بهم إذ قال
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين
الآية كانوا يقولون لا ننفك عن ديننا حتى يأتى الرسول الموعود به فى التوراة والإنجيل، فتهكم بذكر ما قالوا، لأنهم لما جاء كفروا به، ولو كان غير تهكم لتحقق الانفكاك عند مجيئه لاستحالة تخلف أخباره. السادس أن ذلك فى الآخرة وإنما أخبر عنهم بالماضى لتحققه وتيقن وقوعه، ويشهد له قوله جل وعلا
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما
والسابع أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسيما تعرفهم بها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم. والكلام على التعبير بحصول الغشاوة على أبصارهم، كالكلام على ما قبله فى المجاز والاستعارة، وفى نفى الجبر على ذلك، وكيفية التوصل إليه بالأوجه المذكورة وكرر على مع سمعهم ليكون أدل على شدة الختم فى القلب والسمع، وعلى استقلال كل منهما بالختم. وعطف قوله على سمعهم على قوله على قلوبهم، لأن القلب والبصر لما اشتركا بالإدراك من جميع الجوانب الست، جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما، الختم الذى يمنع من جميع الجهات، فإن الأذن تسمع الصوت من أى جهة كان من الجهات كما يدرك القلب الشىء فى أى جهة كان، ولذلك قلنا إنه معطوف على قلوب، ولم نقل إنه خبر لغشاوة، فتعطف عليه على أبصارهم، وأيضا يدل على أنه معطوف على قولهعلى قلوبهم لا خبر لغشاوة قوله تعالى
Bilinmeyen sayfa