ومعنى نرى نعلم ومعنى { لنولينك قبلة ترضاها } ، لنجعلنك تلى قبلة مرضية لك، وهى الكعبة، والقسم مفرع بالفاء السببية على { قد نرى تقلب وجهك فى السماء } ، مع المحذوف المقدر، أى قد نرى تقلب وجهك فى السماء لأجل طلب قبلة غير التى أنت عليها الآن، أو قد نرى تقلب وجهك فى السماء طالبا غير القبلة التى أنت عليها، أو قد نرى تقلب وجهك فى السماء وطلبك القبلة الأخرى، فوالله لنولينك قبلة ترضاها.
فيجوز أن تكون قد للتوقع بناء على إثبات التوقع من معانى قد بمعنى نعلم إخبار الله تعالى رسوله بأنه قد توقع رسوله أن يعلم الله ذلك، وليس هذا على ظاهره لأنه، صلى الله عليه وسلم، جازم بأن الله عالم بذلك، ولكن أراد ملزوم العلم وهو الإجابة، وجملة ترضاها نعت قبلة، أى تحبها والمضارع للحال لأنه يحب الكعبة فى حاله لأغراض صحيحة أرادها الله، وافقت مشيئة الله تعالى وقضاءه، ومعنى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } اجعل وجهك يلى شطر المسجد الحرام، واصرفه عن جهة بيت المقدس إلى جهة المسجد الحرام، والآية تدل على أن الواجب استقبال الجهة قصد الموافقة سمت الكعبة لا عين الكعبة، إذ لا طاقة لكل أحد على ذلك، ولأن الصف الطويل يخرج عن الكعبة، وقيل الواجب استقبال عين القبلة بالقصد، ولو لم يوافقها باستقباله وهو الصحيح وذلك فى البعيد، ولذلك قال { شطر المسجد } فذكر انشطر والمسجد ولم يذكر بدلها الكعبة، وأما من يراها فالواجب عليه قبلة عينها جزما، وكذا ذكر الشطر فى قوله { فولوا وجوهكم شطره } والظاهر أن قبلتنا هذه بلاد بنى مزاب وبعض الأندلس ومصر وبعض الشام، وما على سمة ذلك هى المزاب والشطر الجهة وتلقاء، وقد قرأ أبى تلقاء المسجد الحرام، وقيل الشطر فى الأصل ما انفصل، يقال دار شطور أى منفصلة عن الدور، ثم استعمل لبعض الشئ وإن لم ينفصل ذلك البعض، ونصب الشطر على الظرفية، والحرام الممنوع عن القتال فيه أو عن الظلمة أن يتعرضوه أو المقصود كل ذلك. قال البخارى ومسلم عن البراء أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأن أول صلاة صلاها إلى الكعبة بعد بيت المقدس صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل، وكانت اليهود قد أعجبهم أنه كان يصلى، صلى الله عليه وسلم، قبل بيت المقدس، وهى قبلة أهل الكتاب، فلما ولى جهه قبل البيت أنكروا ذلك، قال البراء فى حديثه هذا ومات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى
وما كان الله ليضيع إيمانكم
وروى البخارى ومسلم عن ابن عباس أنه قال
" لما دخل النبى صلى الله عليه وسلم البيت، ودعى فى نوحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، ولما خرج ركع ركعتين قبل الكعبة، وقال هذه القبلة "
يعنى أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت، فلا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إلى الكعبة أبدا فهى قبلتكم، ولعل هذا فى حجة الوداع أو عام الفتح بناء على أنه لم يصل فيها عام الفتح، والمشهور أنه صلى فيها، وروى البخارى ومسلم أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه إلى الكعبة فى رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلى بأصحابه فى مسجد بنى سلمة ركعتين من الظهر، فتحول فى الصلاة واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسمى المسجد مسجد القبلتين، ولا ينافى هذا حديث البراء المذكور، ولأن مراد البراء أن أول صلاة صلاها كلها إلى الكعبة العصر، وأما الظهر قبلة فصلة بعضه لبيت المقدس وبعضه للكعبة. وعن ابن عمر بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح، إذ جاءهم آت، أى من بنى سلمة، فقال إن النبى، صلى الله عليه وسلم، قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، وذكروا عن محمد بن عبدالله بن جحش أنه قال صليت إلى القبلتين مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، ونحن فى صلاة الظهر، وقد صلينا ركعتين من الظهر، فاستدرنا وإنا لفى الصلاة، وذكروا عن مجاهد أنه قال نزلت هذه الآية وهم فى الصلاة، فجعل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، والجمهور على أن تحويل القبلة إلى الكعبة فى يوم الاثنين بعد الزوال، للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وبه قال البراء ومعقل بن يسار، وقيل يوم الثلاثاء لثمانية عشر شهرا وقيل لثلاثة عشر شهرا، وعن قتادة يوم الثلاثاء نصف شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل حولت فى جمادى الآخرة. { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم } الصلاة. { شطره } حيث شرطية والفعل بعدها فى محل جزم على الشرط، وما صلة لتأكيد العموم، وولوا فى محل جزم على الجواب، والخطاب فى ذلك لأمه محمد، صلى الله عليه وسلم، خصه صلى الله عليه وسلم، بالخطاب فى قوله تبارك وتعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } ، تعظيما له وإثباتا لرغبته وتمنيه، وإجابة لدعائه، ثم عم الأمة بقوله { وحيثما كنتم.. } إلخ تحضيضا لها على متابعة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فى أمر القبلة، وتأكيدا لأمر القبلة، وتصريحا بعموم الحكم للأمة بعد علمه من قوله { فول وجهك } ، لأن حكمه صلى الله عليه وسلم حكم لنا حتى يقوم دليل الخصوص.
وروى أبو هريرة عن النبى، صلى الله عليه وسلم
" ما بين المشرق والمغرب قبلة "
رواه الترمذى، وقال حديث حسن صحيح، فقيل هذا لأهل المدينة خاصة، وقيل عام، والقولان فى مذهبنا قال بالثانى بعض أصحابنا العمانيين، قيل أراد بالمشرق موضع طلوع الشمس فى الشتاء فى أقصر يوم منه، وهو منتهى هبوطها إلى جهة الجنوب، وأراد بالمغرب موضع غروب الشمس فى الصيف فى أطول يوم منه، وهو منتهى دخول الشمس إلى ما يلى جهة الشمال، أو أراد بالمشرق موضع طلوعها فى أطول يوم من الصيف، وبالمغرب موضع غروبها فى أقصر يوم من الشتاء، فمن جعل من أهل الشرق موضع طلوعها فى أطول يوم من الصيف عن يمينه، وموضع غربها فى أقصر يوم من الشتاء عن يساره، فقد استقبل، وكذا من جعل أهل الغرب موضع طلوعها فى أطول يوم من الصيف عن يساره، وموضع غروبها فى أقصر يوم من الشتاء عن يمنيه، فقد استقبل، وذلك أن نقطة طلوع الشمس فيما يلى الجنوب متباعدة عن خط الاستواء بمقدار الليل، ونقطة غروبها ما يلى الشمال متباعدة عن خط الاستواء، وما بينها قوس مكة، وهذا أوسع ما قيل فى القبلة، ولست أقول بذلك، والعامل به قد يخطئ القبلة، بل أقول المراد مما بين المشرق والمغرب فى الحديث ما رد مطلعها فى أطول يوم فى الصيف إلى مطلعها فى أقصر يوم فى الشتاء، وفيه وسع، ومن احتاط فى هذه البلاد ونحوها مما على سمتها قابل ما بين مطلع الشمس فى الاعتدال، وبين منتهى هبوطها فى الشتاء، وإن جاوز إلى ما يقرب من سبيل فلا بأس، وقد بسطت ذلك فى الفقه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كان يقول لقوله تعالى
ولله المشرق والمغرب
Bilinmeyen sayfa