لما نصب من الأدلة فى أنفسهم وغيرهم، وإنما الرسل والكتب لتفصيل الأحكام والشريعة، هذا تحقيق المقام، ولو اشتهر فى المذهب أن حجة الله الكتب والرسل، وإنها الكتب والرسل حجة فى تفصيل الشريعة والأحكام، وزيادة فى الحجة على التوحيد. وأما التوحيد فقامت الحجة فيه بالعقل، بدليل قطع عذر صاحب الجزيرة المشرك، ولو لم يصله كتاب ولا نبى ولا أمرهما. ويجوز كون ما تأكيدا ليأتى من أوله، كما أن النون تأكيد له من آخره، كالمضارع المقرون بلام جواب القسم من أوله، وبالنون من آخره. فإن اللام تأكيد له من أوله والنون من آخره. والهدى الكتب والرسل، فالرسل إلى آدم. الملائكة، وإلى نبيه أنبياء وإلى الأنبياء الملائكة، فالحاصل أنه إلى الأنبياء الملائكة، وإلى ذرية آدم الرسل منهم، وإن شئت فقل الهدى الرسل لأنهم يأتون بالوحى والكتب عن الله. وإن شئت فقل الهدى هو الكتب والوحى بواسطة الرسل، وإن شئت فقل الهدى بيان الشريعة وهو بالوحى والكتب والرسل، وإن قلت فقل هو الوحى فإن الوحى يشتمل السنن والكتب، وتفسيره بالكتب والرسل أنسب لقوله تعالى
يا بنى آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى
{ فمن تبع } من هذه شرطية، وهى وشرطها وجوابها جواب إن، ويجوز كونها موصولة قرن خبرها بالفاء تأكيدا لربطه لشبهها بالشرطية، والجملة جواب إن.
ويرجح الشرطية الفاء بعدها، لأن أصلها أن تكون بعدها لا بعد الموصولة، وكونها بعد الموصولة فرع وخلاف الأصل، وما هو إلا لشبهها بالشرطية. وأما التعبير فى مقابل هذا الكلام بالموصول، إذ قال
والذين كفروا وكذبو بآياتنا...
إلخ. فإنه ولو كان فيه تقوية للموصول لكن أصالة الفاء فى الجواب لا يقاومها التعبير بالموصول فى نظير تلك الجملة، فأنت خبير بها فى ترجيح أبى حيان فى البحر الموصولية بالتعبير بذلك الموصول فى الجملة الأخرى. { هداى } وقرئ هدى بقلب ألف هداى ياء وإدغام الياء فى الياء، وهو لغة هذيل فى المقصور المضاف للياء، وأعاد ذكر لفظ الهدى ظاهرا لا ضميرا ليضيفه للياء فتفيد إضافته إليه تعالى تقوية، كونه هدى وتشريفه وللتأكيد والتعظيم، فإن من نكت إماقة الظاهر مقام المضمر التأكيد والتعظيم، هكذا ظهر لى، ثم رأيت زكريا ذكر بعضه وقال القاضى أعاد لفظ { هداى } لأنه أراد بالثانى أعم من الأول، وهو ما أتى به الرسل، واقتضاه العقل، أى فمن تبع ما أتاه مراعيا ما يشهد به العقل. { فلا خوف عليهم } فى الدنيا من أن يحل بهم مكروه من الله، كنار وصيحة ومسخ وإغراق، كما يحل بمن شاء الله ممن لم يتبع الهدى. { ولا هم يحزنون } فيها، عن فوات شىء منها لحقارتها فى عيونهم لاتباعهم هداى، أو لا خوف عليهم فى الآخرة من النار وسخط الله وغضبه، ولا هم يحزنون فيها عن فوات محبوب، لأن كل ما يحبونه فيها لا يفوتهم، ولا يفوتهم ثواب أعمالهم، ولا ما يريده الله من الخير، فإن الخوف على المتوقع، والحزن على الواقع، لا يتوقعون مكروها، ولا يحزنون على واقع، لعدم وقوع ما يحزنهم، وقد يطلق الحزن فى الخوف، وقيل لا خوف عليهم فى الدنيا بما يستقبل من الآخرة، ولا هم يحزنون فى الآخرة عما فاتهم من الدنيا. واقتصر الطبرى ومختصره على الاحتمال الثانى. ورجحه بعض، وبه قال ابن أبى زيد، قالوا وليس شىء أعظم في صدر من يموت مما بعد الموت، فآمنهم الله سبحانه وتعالى وسلاهم عن الدنيا، وقرأ الجحدرى فلا خوف عليهم بفتح الفاء.
[2.39]
{ والذين كفروا } بنا. { وكذبوا بأياتنآ } آيات الكتب التى تنزل من القرآن وغيره، أو كل ما نصبه الله دليلا على وجوده، وكمال قدرته من جميع المخلوقات، كالقرآن وجميع كتب الله، والسماء والأرض، وغير ذلك، ويجوز أن يكون المعنى كفروا بالآيات فى قلوبهم، وكذبوا بها فى ألسنتهم، فيتنازع على هذا الوجه قوله { كفروا } وقوله { كذبوا } فى قوله { بأياتنآ }. والآية فى الأصل العلامة الظاهرة، فكل مخلوق آية، لأنه علامة على وجود الخالق - سبحانه وتعالى - وعلمه وقدرته، وكذا كل طائفة من القرآن من حيث إنها مخلوقة، ومن حيث معانيها، وأفصحيتها وأبلغيتها، ودلالتها على الغيب. قال ابن هشام إن كانت الواو أو الياء، متلوة بحرف يستحق القلب ألفا، صححت الأولى وأعلت الثانية، نحو الحياء والهواء. والحوى مصدر محوى إذا اسود، وربما عكسوا فأعملوا الأولى وصححوا الثانية. نحو آية فى أسهل الأقوال. قال الشيخ خالد يعنى الستة. أحدها أن أصلها أيية، بفتح الياء الأولى كقصبة، فالقياس فى إعلالها إياه، فتصح العين وتعل اللام، لكن عكسوا شذوذا، فأعلوا الياء الأولى لتحركها وانفتاح ما قبلها دون الثانية. هذا قول الخليل. الثانى أن أصلها أيية بسكون العين كحية فأعلت بقلب الياء الأولى ألفا، اكتفاء بشطر العلة، وهو فتح ما قبلها فقط، دون تحريكها، قاله الفراء، وعزى لسيبوية. واختاره ابن مالك، وقال فى التسهيل إنه أسهل الوجوه، لكنه ليس فيه إلا الاجتزاء بشطر العلة، وإذا كانوا قد عولوا عليه فيما لم يجتمع فيه ياءان، نحو طائى. وسمع اللهم تقبل تابتى وصامتى ففيما اجتمع فيه ياءان أولى لأنه أثقل. الثالث أن أصلها أبيه كضارية، حذفت العين استقلالا لتوالى ياءين أولهما مكسورة. ولذلك أولى كانت بالحذف من الثانية ونظير فى الحذف يالة، الأصل، يا آية، قاله الكسائى، ورد بأنه كان يلزم قلب الياء همزة، لوقوعها بعد ألف زائدة فى قولهم أياى. أى بوزن أفعال جميع آية على هذا القول. فالهمزة الأولى همزة أفعال، والألف بعدها همزة آية فاء الكلمة، والياء بعدها عين الكلمة، وهى ياء يا آية والألف بعد ألف أفعال بعد العين والياء لام الكلمة آخرا هى التى تقلب همزة لتطرفها بعد ألف زائدة. ولو كان عينها واوا ولامها، لقيل أواو، لأن الجميع يرد للأصل. الرابع أن أصلها أيية بضم الياء الأولى كسمرة فقلبت العين ألفا، ورد بأنه كان يلزم قلب الضمة كسرة. انتهى. ولا نسلم أنه يلزم قلبها كسرة. الخامس أن أصلها أيية بكسر الياء الأولى كنبقة، فقلبت الياء الأولى ألفا، ورد بأن ما كان كذلك يجوز فيه الفك والإدغام كحيى وحى. السادس أن أصله أيية، كقصبة كالأول، إلا أنه أعلت الثانية على القياس، فصار أياة كحياة ونواة، ثم قدمت اللام إلى موطن العين فوزنها فعلة.
قال ابن هشام فإن قلت قد ادعيت أن القول الأول أسهل الأقوال، ولنا أسهل منه، وهو قول بعضهم إنها فعلة كنبقة فإن الإعلال فى الأول بقلبها ألفا، وهو حينئذ على القياس، لأنها محركة، وقبلها مفتوح، وإعلال الثانية ممتنع، لعدم انفتاح ما قبلها، وأما إذا قيل إن أصلها أيية بفتح الياء الأولى أو أيية بسكونها أو آيية على وزن فاعلة، فإنه يلزم على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة محذورا ما على القول بأن أصلها أيية بفتح الياء الأولى، فإنه يلزم إعلال الحرف الأول دون الثانى، وهو شاذ كما يقدم. وأما على القول بأن أصلها أيية بسكون الياء الأولى فإنه يلزم إعلال الحرف الساكن وهى الياء الأولى بقلبها ألفا والقاعدة أن علة القلب مركبة من شيئين تحركها وانتفاح ما قبلها، ولم يوجد إلا أحدهما، وأما على القول بأن أصلها آيية على وزن فاعلة، فإنه يلزم حذف العين وهى الياء الأولى لغير موجب لحذفها. والقول الأول وهو أن أصلها أيية كنبقة سالم من ذلك. قلت يلزم على هذا القول الأول شىء آخر وهو تقديم الإعلال، وهو قلب الياء الأولى ألفا على الإدغام، وهو إدغام الياء فى الياء، وذلك أنه لما اجتمع فيه موجب الإعلال، وهو تحرك الياء الأولى وانفتاح ما قبلها، وموجب الإدغام وهو اجتماع المثلين الساكن أولهما، قدم فيه الإعلال على الإدغام، والمعروف العكس وهو تقديم الإدغام على الإعلال، بدليل إبدال همزة أيمة ياء فتأمله. انتهى. يبحث بأن الأول مكسور لإسكان إلا أن يقال ينبغى أن يكون ساكنا ليدغم، وهو بعيد وجه الدلالة، من ذلك أن إبدال الهمزة ياء إنما هو لأجل الإدغام، لأنه لما نقل لأجله حركت الميم الأولى للساكن قبلها، أعنى الهمزة الثانية قلبت ياء، مراعاة لحفظ حركة الحرف المدغم، وإنما قلبت ياء لأنها من جنس الكسرة. فلو بدئ بالإعلال لأبدلت الهمزة الثانية ألفا لوجود شرطه، فلما أبدلوها ياء بعد النقل ولم يبدلوها ألفا قبل ذلك، علم أن عنايتهم بموجب الإدغام أهل من عنايتهم بموجب الإعلال، لأنهم إذا كانوا يقدمون ما هو من متعلقات الإدغام على الإعلال، فلأن يقدموا الإدغام على الإعلال من باب أولى، وفى شرح الشافية للجار بردى وإنما لم يجىء الإدغام فى باب قوى من أن أصله قوو لأن الإعلال مقدم على الإدغام. وإنما قلنا الإعلال مقدم، لأن سبب الإعلال موجب للإعلال، وسبب الإدغام مجوز للإدغام، ويدل عليه امتناع التصحيح فى رضى وجواز الفك فى حيى.. انتهى كلام شرح الشافية، وفصل بعضهم فقالإذا اجتمع موجب الإعلال والإدغام فلا يخلو إما أن يكون فى العين أو فى اللام، فإن كان فى العين قدم موجب الإدغام، وإن كان فى اللام قدم موجب الإعلال.
والعلة فى ذلك أن الطرف محل التغيير فلم يغتفر فى ذلك كما اغتفر فى العين.. انتهى كلام ابن هشام والشيخ خالد. وأقول يقوى إعلال الثانية أن الطرف محل التغيير ويقوى إعلال الأولى سبقها، فموجب الإعلال موجود فيها قبل الثانية، فماذا يبطله حتى ينطق بالثانية؟ وهذا عند متعين مع تعين أن أصله فعله بفتح الفاء والعين، عند دليل تحرك العين قبلها، ودليل كون حركتها فتحة الخفة، فان الضمة والكسرة ثقيلتان على الياء، فلا تصح دعواهما إلا بدليل. وما ذكره ابن مالك فى التسهيل من أن الثانى أسهل الأوجه، لكونه ليس فيه إلا الاجتزاء بشطر العلة لا يتم له إلا ببقية الأقوال، كذلك لا يلزم عيها إلا أمر واحد مخاف للقاعدة، وإن قلت فى القول الثالث مخالفتان عدم قلب الياء همزة وعدم ذكرها، قلت بل مخالفة واحدة وهى الحذف، مع أن وجهه التخفيف فإنه قاعدة. والقلب همزة قاعدة فعمل بالأولى، وما ذكره من وجه الدلالة بأيمة ذكر مثله اللقانى، وعبارته أن الأصل كما مر أيمة بهمزة متحركة فساكنة، فدار الأمر بين إبدال الساكنة ألفا، من جنس حركة ما قبلها وهو الإعلال، وبين إدغام الميم الأولى فى الثانية، بعد نقل كسرتها إلى الهمزة الثانية قبلها، المستلزم لقلبها ياء، فقدم الإدغام المؤدى إلى ما ذكر على الإعلال. فإن قيل يتأتى مع الإعلال بالقلب ألف الإدغام، فيقال أيمة قلت المراد الإدغام مع بقاء حركة المدغم، وذلك لا يتأتى مع حركة الإعلال، انتهى مع عبارته وهى أظهر من العبارة السابقة عن الشيخ خالد لجعل اللقانى التقديم بين الإعلال والإدغام نفسه، لا بين الإعلال وما هو من متعلقات الإدغام، لكن يبحث فى قوله يأتى الإعلال بالقلب ألفا بأن الهمزة الثانية متحركة بالكسر، والهمزة المكسورة تقلب بعد الهمزة المتحركة ياء مطلقا، غير أن ابن الحاجب جوز فيها التسهيل والتحقيق وقال ابن صاحب الألفية لم يجب إعلال أيمة لعروض الحركة للهمزة الثانية من الميم الأولى، نقلت منها لتدغم. وقال بعضهم أظنه ابن خالويه، إنما لم يعل ذلك لأنه لو أعل فقيل أيمة آمة التشبيه بآمة الرأس. انتهى. واشتقاق آية من أى بالتشديد نسبة إلى أى التفسيرية، الساكن الياء، لأنها تبين بعضها من بعض، أو مأخوذة من أوى إليه. وقيل أصله أوية بفتح الهمزة وسكون الواو، أبدلت ألفا تخفيفا، اكتفاء بشطر العلة أيضا. وقيل أوية بفتح الواو فقلبت ألفا لوجود شطر العلة جميعا، وهو تحرك حرف العلة وانفتاح ما قبله، ولو كان عينها واوا كما فى القولين لقيل فى الجمع أواء. { أولئك أصحاب النار } هذه الجملة خبر الذين، والمجموع معطوف على قوله
Bilinmeyen sayfa