سأله جروسباك: «هل ستغادر من مطار مياونج يو؟» «كلا، لقد طلبت أن تقلني طائرة إلى جنوب المدينة.» شأن أي شخص آخر كان سيرتب الأمر، لم يكن جونزاليس ينوي السفر من مطار باجان الرسمي؛ حيث أقدمت جماعات المقاتلين على إسقاط الطائرات في أكثر من مناسبة. بالتأكيد كان جروسباك يعلم ذلك.
سأله جروسباك: «ماذا ستذكر في تقريرك؟»
أجاب جونزاليس مدهوشا: «أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أخبرك شيئا عن هذا الأمر.» بل إن ذكر الموضوع نفسه كان مصدر إحراج؛ فضلا عن كونه انتهاكا لبرتوكول الشركة يستدعي الإبلاغ عنه. كان هذا الرجل إما غبيا أو يائسا.
قال جروسباك: «لم تعثر على شيء.»
ما خطب هذا الشخص؟! قال جونزاليس: «لدي بيانات تحتاج عاما لفحصها قبل أن أتمكن من إصدار أي تقييم.»
قال جروسباك وقد اكتسى وجهه بتعبير بارد: «وأنت لن تخبرني بما سيبدو عليه تقريرك المبدئي.» «كلا.» هكذا أجاب جونزاليس، ثم وقف وقال: «علي الانتهاء من حزم الأمتعة.» كان يريد وقتها الخروج قبل أن يفعل جروسباك شيئا لا رجعة فيه، كأن يهدده أو يعرض عليه رشوة. قال جونزاليس: «وداعا.» ولم ينبس الرجل الآخر ببنت شفة، بينما كان جونزاليس يغادر القاعة. •••
عاد جونزاليس إلى فندق تريبيتسايا، وهو عبارة عن مجموعة من الأكواخ الخفيضة المنفصلة المبنية من البامبو والخرسانة المسلحة، وكانت تطل على نهر إيراوادي. كانت الغرف مزينة على نحو بائس بنسخة ميانمارية بالية من الديكور السياحي الآسيوي؛ بامبو مدهون بالورنيش على الجدران، إلى جانب مجسمات هولوجرامية لتنانين قافزة، ومزينة وطاولات ومقاعد وفراش كلها مصنوعة من خشب الساج الأسود، ومروحة سقف ضلت طريقها إلى هنا من القرن العشرين، وفكر جونزاليس أن الهدف من كل هذا هو منح المواطن العادي شعور الإثارة المرتبط بالشرق الساحر. ومع ذلك فقد أعيد بناء الفندق منذ أقل من عقد مضى؛ ومن ثم فقد كان جونزاليس، وفق المعايير المحلية، يتمتع بوسائل ترف؛ مكيف هواء وميكروويف وثلاجة.
بطبيعة الحال لم يكن مكيف الهواء يعمل في ليال كثيرة، وكان جونزاليس يستلقي في حالة أقرب إلى فقدان الوعي، والعرق يغمره طوال ليال حارة رطبة ثم تحييه بعد الفجر بقليل السحالي التي تحرك طياتها الجلدية العنقية كالمروحة وترفع أجسادها وتخفضها وكأنها تمارس تمارين الضغط.
في أيام عديدة كهذه كان يستيقظ ثم يسير عبر مسارات العربات التي كانت تخترق السهول المحيطة بباجان، مارا بالمعابد وهياكل باجودا البوذية المقدسة بينما كانت الشمس تشرق وتحول شبورة الصباح إلى غلالة ضخمة من اللون الوردي الساطع، تبرز خلالها الأبراج وكأنها قلاع خرافية. كانت المعابد منتشرة في كل مكان في باجان؛ إذ كان يوجد آلاف منها، وكانت حديثة ومزدهرة وقت أن كان ويليام الفاتح ملكا. أما الآن فقد ملأت المباني السكنية السريعة التجهيز التي تضم هيئات حكومية المساحات الواقعة بين معابد الباجودا التي يبلغ عمرها ألف عام، والتي لا يزال بعضها في حالة شبه مثالية، مثل معبد تاتبيينو، بينما لم يتبق من كثير غيرها سوى أطلال وأسماء منسية. كان المرء يكسب المكانة عن طريق بناء معبد باجودا، وليس عبر الاعتناء بالمعابد التي بناها شخص آخر مات منذ زمن بعيد.
كانت ميانمار، شأن غيرها من دول جنوب شرق آسيا، لا تزال تحاول التعافي من الأوضاع السياسية التي سادت في أواخر القرن العشرين، وفي حالة ميانمار تمثل هذا في العقود الطويلة التي حكمت فيها الديكتاتوريات العسكرية بصورة دورية والفوضى التي كانت تعقب حكمها. وكما هو الحال دائما في الدول غير المستقرة سياسيا، ظلت الدولة تقيد الدخول إلى الشبكة العالمية، على مدار مختلف أنواع الحكومات؛ إذ وجد قادتها أن فكرة التدفق الحر للمعلومات غير مقبولة. كانت هوائيات كا-باند باهظة الثمن، وكانت لا تستخدم إلا بترخيص يكاد يستحيل الحصول عليه. ونتيجة لذلك كان جونزاليس وجهاز «الميميكس» أشبه باثنين من آكلي اللحوم تقطعت بهما السبل في بلد من النباتيين؛ إذ عجزا عن الحصول على ما يسد رمقهما.
Bilinmeyen sayfa