Böyle Yaratıldı: Uzun Bir Hikaye
هكذا خلقت: قصة طويلة
Türler
كانت تدور أحاديث من هذا القبيل بين الرجلين، وكان الجدال بينهما يبلغ الحدة، ثم لا يغير ذلك من ثقة والدي بالشيخ، واطمئنانه لحسن إيمانه، فإذا نودي للصلاة من مئذنة المسجد القريب من دارنا، وقام الشيخ للصلاة، ائتم به والدي وقضى فرضه وراءه.
كنت أسمع وأرى ما يحدث من مثل ذلك فلا أقف طويلا عنده، ومن كان في مثل سني يومذاك لا يقف طويلا عند شيء، بل تمر أمامه الأحداث والآراء، فيلم بها إلمامات سريعة تبقيها في ذاكرته لتنضم على الأيام لأشباهها، ثم تكون موضع تفكير وعبرة من بعد، حين نصبح قادرين على أن نبدي حكما ذاتيا على ما نرى ونسمع، وكذلك بقيت ذاكرتي تختزن ما استطاعت اختزانه، حتى إذا آن الأوان تفاعل ذلك كله في نفسي، وكون وجودي الذاتي وكياني المعنوي.
تعاقبت الأيام والأسابيع والشهور، وانقضت السنة الدراسية، واحتملنا قيظ العاصمة أسابيع من أوائل الصيف، ثم ذهبنا إلى العزبة، وبدأ أقاربنا يزوروننا، وأقبلت عمتي وعلى رأسها طرحة بيضاء على خلاف ما ألفت من لباس رأسها في الأعوام الماضية، إذ كانت طرحتها سوداء؛ ذلك لأنها سافرت إلى الحجاز وأدت فريضة الحج، واستبقت الطرحة البيضاء من لباس إحرامها، ولم يكن حديثها ذلك الصيف عن ماضي الحياة في قريتنا العزيزة، بل كان كله عن الحج والحجاز والكعبة، ومسجد المدينة، والمقصورة النبوية، وكانت تقص ذلك في تفصيل يشهد بطمأنينة نفسها إليه، واستراحة قلبها له، وكنت أشعر في بعض ما تقصه بأنه أدنى إلى الأساطير، لكنها كانت ترويه في حرارة إيمان تنقل صداه إلى قلب والدتي، فلا تفتأ تكرر: يا بخت من زار النبي.
ولو أنني استطعت يومئذ أن أنقل كل ما روته عمتي عن حجها لتألف منه كتاب شائق، فقد كان حديثها عن هذا الحج يتصل يوما بعد يوم، وكأنها شهرزاد في ألف ليلة وليلة، لكنني كنت في شغل بقراءة مجلاتي وقصصي الإنجليزية، وبمراجعة عيسى بن هشام وتحرير المرأة والتربية؛ لأن أستاذي الشيخ أخبرني قبيل سفرنا أنه سيزورنا بالعزبة بعد شهر من مقامنا، ويسألني عما قرأته.
وجاء الشيخ إلى العزبة في الشهر الأخير من أشهر الصيف، وكنت في فترة هذه الإجازة المدرسية قد أسرعت في النمو وبدأ تكويني النسوي برغم نحافتي، وشعرت في نظراتي بجاذبية قوية كنت أغتبط بها حين أقف أمام المرآة أصلح من هندامي، ترى أكان هذا هو السبب في أن والدي لم يكن يذرني وحدي مع الشيخ ساعة تدريسه لي؟! فقد لاحظت أنه كان يحضر دروسي جميعا على غير عادته من قبل، وما أحسبه خالجته شبهة في خلوتي مع الشيخ ساعة الدرس، أو خالطت نفسه ريبة من أمره، فقد كانت ثقته بورعه فوق كل شبهة، وإنما أحسبه خشي قالة الناس، وقالة النساء أكثر من قالة الرجال؛ فقد علمتني السنون من بعد أن الناس في مصر، من أهل المدن كانوا أو من أهل الريف، يسرعون إلى الريبة في غير موضع الريبة، ويتناقلون من الأحاديث الكاذبة في أمر غيرهم ما يسرعون إلى تصديقه. هذا في اعتقادي هو ما دعا والدي لمصاحبة الشيخ ساعات تدريسه لي، وبخاصة بعد أن رأى منذ كنا بالقاهرة عنايتي بهذه الدروس واستفادتي منها.
وجاءت موليات الصيف، وآن لنا أن نعود إلى العاصمة، وإننا لنأخذ أهبتنا للعودة، إذ شعرت والدتي بمرض ألزمها فراشها، وتولت عمتي الحاجة العناية بها، فكانت تلازمها ليلها ونهارها، وكانت تتلو وهي في مجلسها إلى جانبها كل ما عرفت من رقى وتعاويذ، وكانت تدير البخور على رأسها تطرد به حسد الحاسد، لكن المرض كان يشتد يوما بعد يوم، واستدعى والدي الطبيب من أقرب مدينة، فلما فحص والدتي أشار بضرورة إسراعنا إلى القاهرة أو بإدخالها مستشفى المدينة القريب منا، وآثر والدي أن نعود إلى القاهرة فعدنا إليها مسرعين.
وجاء الطبيب الذي اعتادت والدتي أن تعرض نفسها عليه كلما مرضت، ففحص وأطال الفحص ودقق فيه، ثم كتب تذكرة دوائه، ووعد أن يعود المريضة بعد ثلاثة أيام، وخرج والدي معه من غرفة المريضة، ووقفا هنيهة يتهامسان، وبعد أن ودعه عاد يؤكد لوالدتي أن الأمر بسيط، ولن يمضي أسبوع حتى تكون قد استردت عافيتها، ورأيت على وجه والدتي سيما الألم ، وإن ردت إليها هذه الكلمات من الطمأنينة ما خفف بعض وقعه.
وفي المساء جاء والدي بعد أن خلع ملابسه، وتمطى على «كنبة» تواجه السرير الذي رقدت والدتي فيه، بعد أن دعا الخادم وأمرها ففرشت عليها ملاءة، ووضعت على طرفها الملاصق للحائط مخدة نوم، وعجبت لما رأيت من ذلك، فلم أر والدي من قبل ينام على هذه «الكنبة» قط، وألحت عليه والدتي أن ينام على السرير في الغرفة المجاورة لغرفتها فأبى قائلا: لقد نمت أنت على هذه «الكنبة» غير مرة حين مرضي، فلا أقل من أن أؤدي بعض ما علي من دين لك، وإن كنت موقنا أنني لن أؤدي إلا القليل، مقابل ما غمرتني به دائما من رقة وود خالص.
وغادرت الغرفة وقد زادني ما رأيت وسمعت إعجابا بأبي، وبهذا الحب المتبادل، وتمنيت أن أسعد في الحياة بمثله.
وانقضت الأيام الثلاثة التي تحدث عنها الطبيب وشكوى والدتي من عنائها لا تنقص، بل تزيد، وجاء الطبيب في موعده وأعاد الفحص وخرج بعده مع والدي، وفي صباح الغد علمت أنه سيحضر ومعه طبيبان آخران من كبار الأطباء لإجراء «كونسلتو» يشخصون بعده المرض، ويصفون علاجه. وجاء الأطباء الثلاثة بعد الظهر من ذلك اليوم، وفحصوا المريضة وما عولجت به من دواء، ثم تبادلوا الرأي، وكتبوا تذكرة جديدة.
Bilinmeyen sayfa