وبينما حسن وسمية سابحان في ملكوت المناجاة، يتشاكيان ما مر بكل منهما من أحداث الفراق سمعا طنين سهم مرسل في الفضاء، ثم سمعا صوت ارتطامه بعمود الخباء من الخارج. وكانت أمة الله مشغولة ببعض الشئون في طرف الخباء بالقرب من موقع السهم فلما سمعت صوت وقوعه أطلت من الخباء فلم تر غير الفرسان. ثم رأت السهم يستقر في العمود، فخفت إلى مكانه وانتزعته فإذا في موضع الريش منه رق مطوي، فعادت به مسرعة إلى حسن ففتحته فإذا هو كتاب من عبد الله خادمه يقول فيه: «اطلع عرفجة على مقركما فوشى بكما وأرسل الفرسان للقبض عليكما فتجلدا والله مع الصابرين.»
فاضطرب حسن وأيقن بوقوعهما في الخطر، ولم ير بدا من تهيئة كل أسباب الاطمئنان لسمية. وكانت قد قرأت الكتاب معه فامتقع لونه لما تملكها الجزع فابتدرها قائلا: «لا بد لي من الذهاب إلى الحجاج بنفسي، فإني لا أظنه أرسل في طلبي إلا معتقدا أني فررت من محبسي بالأمس.»
فقطعت كلامه قائلة: «أتذهب إلى الحجاج وأنت تدري ما يكون منه؟! أعوذ بالله من شر هذا الرجل. إنه لا يعرف غير القتل وسفك الدماء. ولا شك في أن نقمته عليك قد اشتدت بعد أن علم بأنك عندي هنا. يا ليتني مت قبل هذا. دعني أذهب بدلا عنك فداء لك. فإني مقتولة على أي حال.»
فوضع يده على كتفها وقال: «لا أرى الأمر يقتضي كل ذلك، ولئن قتلت فما كنت أنت سبب قتلي، وعسى ألا أقتل، وقد كنت أستطيع الفرار بنفسي من بين أيدي هؤلاء الفرسان، ولكني لا أريد النجاة وحدي، وأخاف إذا خرجت معي أن تقعي بين أيدي أحدهم فتلحقك إهانة، وهي عندي شر من القتل. أما ذهابي إلى الحجاج بنفسي فإنه أحفظ لشرفي وشرفك، وما يأتي به القدر لا مناص منه. هذا ابن الزبير كان إلى صباح هذا اليوم يسمونه أمير المؤمنين فقتلوه وصلبوه وحملوا رأسه إلى المدينة، وقد استقبل الموت باسما وأمه تشجعه على استقباله، فلا توهني عزيمتي، ولا تخوفيني لقاء الحجاج. ولكن إذا قدر لي الموت فاذكري أنني ذهبت شهيدا في سبيل هواك.» قال ذلك واختنق صوته، فتساقطت دموعها على خديها تأثرا، وكانت مطرقة فرفعت وجهها ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافة السم وقالت: «ليطمئن قلبك فقد أعددت ما يلحقني بك إذا أصابك سوء. وهب أنك نجوت وأراد هذا الظالم أن يتخذني زوجة له بالفعل، فإن هذا السم كفيل بإنقاذي من ذلك.»
فأعجب حسن بإخلاصها له وأنفتها وقال: «الحق أن مثل عواطفك النبيلة هذه لا تكافأ بأقل من الروح، ولكن عسى الله أن يأتي بالفرج.»
ثم رفع يده عن كتفها وقال: «أستودعك الله يا سمية وموعدنا غدا إن شاء الله.» قال ذلك وخرج ولم ينتظر جوابها لئلا تحاول أن تثنيه عن عزمه بدموعها. فلما صار خارج الخباء صاح بأعلى صوته: «أين عريف هذه الكوكبة؟»
فتقدم إليه فارس منهم وقال: «وماذا تريد منه؟»
قال: «أريد أن يهديني إلى فسطاط الأمير لأذهب إليه.»
فقال: «لم يأذن لنا الأمير في الرجوع إليه، وإنما أمرنا أن نحرس هذا الخباء حتى يأتي هو، ولعله آت الساعة.»
فأدرك حسن أن ذلك تدبير عرفجة، وأنه أراد أن يرى الحجاج حسنا وسمية معا ليثير غيرته، فاعتزم أن يحبط محاولته فقال: «ولكنني في حاجة إلى رؤية الأمير الساعة.»
Bilinmeyen sayfa