فصاروا يطلقون الرصاص لأية مناسبة، فيصم آذنهم عن ضحك شرذمة من الشذاذ جاءتهم غازية واغتصبت بعض دورهم، ووقفت متسلحة يقظة توسع تخوم مغتصباتها شيئا فشيئا، وقد وجدت تلك الشرذمة في «طعبروس» أعظم حليف، إذ شغل القوم عن الدفاع عن دورهم بالإعجاب بنفوسهم، ونفخ ذاتيتهم المتضخمة.
وأصبح طعبروس كلما كثرت انتصاراته اشتد دأبه، فبنى حول تلك البلاد سورا عاليا، وأقنع الناس أن ليس وراء السور من بلدان، بل هو شيد حول كل قرية وشارع وضاحية سورا، وقال للسكان: «هذه هي الدنيا» فضيق الآفاق على الناس، وقصر طموحهم، ولم يعف عن معبد أو مدرسة، فزين للتلامذة ترك دروسهم والمشاغبة في الأسواق أملا بالتزعم، وصرف من كان شأنه تعهد المعبد عن الأغاني الروحية، إلى الصخب السياسي رجاء التسود.
وذات يوم طاف طعبروس مملكته، وقد استحس أنه أمسى فيها ملكا مطلقا، فوجد فيها شخصا واحدا قانعا يعنى بتربية النحل، ولا يأبه لشيء غيرها، وعبثا حاول طعبروس أن يقنع مربي النحل أنه شاعر، أو أنه خليق بأن يرشح نفسه للنيابة، وأخيرا جاءه طعبروس وهمس بأذنه: إني أريد أن أسر إليك اكتشافا ... فقد قرأت في «الحواشة السخفولية» أن نابليون هو جدك الأعلى، وأن الملكة اليصابات هي ابنة خالتك لجد جدك، فما بالك تربي النحل وأنت يليق بك أن تتربع دست الوزارة؟
فباع المسكين منحلته، وراح يشاغب على الوزراء رجاء أن يستبدل بواحد منهم.
وأصدر طعبروس طبعة جديدة - ملايين النسخ - من «الحواشة السخفولية» وفيها تواريخ عائلات البشر، وإشادة بذكر جدود الناس أجمعين، فمن عدم شيئا يتبجح به في نفسه، وجد في تاريخ أجداده موضوعا للتباهي يصرفه عن الجهود المفيدة.
هكذا نعم طعبروس في ملكه فكثرت الألقاب، والأوسمة، والحفلات، والمآدب، ونفخت الأبواق، وقرعت الطبول، وكان من الطبيعي، متى ازدحمت الأقدام وضخمت الذاتيات، أن ينشأ العداء، وكان الخصام على أشده في «شارع النيابة»، حيث تقاطر الناس بأجمعهم يريدون أن يجتازوه طريقا إلى «القبة»، حيث علق أكبر بوق وأضخم طبل، في قاعة حيطانها مرايا مقعرة.
واختفى الحب، وضاقت الأخلاق، وانمحى التسامح والحلم، وتكالب الناس على الظهور بمظاهر التفوق، ولم تعد الأسلحة تطلق في الهواء فحسب، بل صارت تطلق في الصدور أحيانا، ونقم الناس على الناس، وكفروا بما كانوا يؤمنون؛ إذ إنهم قبل طعبروس كانوا يؤمنون بأمور منها سخيفة أو ساذجة، ومنها كريمة شريفة، ولكنها كانت في مجموعها إيمانا يملأ النفس ثقة وإقداما، ويغسلها من أدرانها، «ويقولز» عناصرها، أما حينما ضخمت ذاتيتهم فقد فر الإيمان من صدورهم فماعت شخصياتهم، ألا ويل لقوم نفوسهم كهوف خالية هجرها الإيمان.
أما الآلهة فقد ساءهم إعراض الناس عنهم، فما يرتاد مفوضياتهم وسفاراتهم الزائرون، وضعف شأنهم فما يسمعون صلاة ولا ضراعة، فعادوا إلى العريف يشكون أمر طعبروس، ويخبرونه أن البشر انصرفوا إليه يعبدونه، في حين أنه ليست له صفة رسمية، وأن الأمر إذا استمر هكذا، فقد يضطر العريف إلى سحب ممثليه من الكرة الأرضية وشطبها من خارطة مستعمراته.
والحنق أنواع، أشده تلك الحمم التي تقذفها النفس إذ تغضب على نفس كانت لها مرءوسة؛ ولذلك نادى عريف الآلهة على مدير البوليس، وأمره أن يرمي كل كتب القانون في النار، وأن يختار من رجاله أشدهم بأسا وأوسعهم حيلة، وأن يهبط إلى الكرة الأرضية فيرجع منها بطعبروس أو بجثة طعبروس.
وانتصب مدير البوليس بعد لمحة أمام العريف فسأله هذا: ما بالك لم تذهب بعد؟ - سيدي ... إني رجعت ولم أجد من آثار طعبروس إلا برميله الفارغ! أما هو فقد عشش في رءوس الناس؛ لذلك لم أوفق بالعودة به حيا؛ إذ إنه مختف، وإني خشيت إن أنا قتلته أن أقضي على الناس أجمعين فهو في كل رأس، وطي كل قلب، وعلى كل لسان.
Bilinmeyen sayfa