وكان كلاهما يتمتع بصحة جيدة وطبع بهيج وجهل مطبق وعقل مغلق. وإن أي درجة سوى الدرجة المرموقة لا يمكن أن تبرر التضحيات الجسيمة التي بذلها من عمره وسعادته وراحة باله. ولعله لم يشعر في أي وقت مضى بما يشعر به الآن من حاجته إلى زوجة قوية رافعة، قبل أن تنقضي مدة خدمته أو يفاجئه مرض أو يدهمه الموت؛ لذلك طلب من أم حسني أن تخاطب أم زينب بشأنه من جديد بعد أن رفعه الله إلى الدرجة الثالثة كوكيل للإدارة. وفي تلك الأيام ضاعف من حذره وهو ذاهب إلى قدرية بالدرب. تراءى له أن يتنكر في ملابس بلدية حتى لا تعرفه عين، ومضى إليها بجلباب فضفاض وعباءة ولاسة فلم تعرفه حتى سمعت صوته. ولما عرفته ضحكت كما لم تضحك من قبل وسألته: رفتوك من الحكومة؟
وكان العمر ينحدر بها رويدا رويدا، فتمادت في الضخامة والانطباع بطابع الفحش والشهوانية، ولكن العلاقة بينهما توثقت وداخلتها ألفة إنسانية. وقد مر معها بجميع الأطوار من الرغبة إلى الملل ثم إلى العادة التي لا يسهل الاستغناء عنها. وباتت هي والحجرة العارية والنبيذ الجهنمي عناصر متكاملة وحميمة وأليفة، تهبه الراحة والتأمل والأسى، وتدفعه إلى مواجهة الحياة في بدائيتها القاسية، غير مبال بسلوك صاحبته الحيادي وتصرفاتها المهينة، مما لم يحرمه - وهو معها - من وحدته المقدسة. وكان يقول لنفسه: عجيب أنني لم أمارس الحب مع امرأة عادية إلا مرة واحدة رغم هذا التقدم في العمر!
وتذكر أصيلة، فتذكر بالتالي أنها كانت جريمة وليست ممارسة للحب. وقال أيضا: توجد معاشرة صحية إنسانية.
ثم وهو يتنهد: كما يوجد المجد.
ثم وهو يتنهد بعمق أكثر: وكما يوجد الله وهو أصل كل شيء ..
ثم وهو يتنهد بعمق أكثر وأكثر: ونحن نتذكره بالخير ونتذكره أيضا بالشر!
30
ظهرت أمارات العجز على أم حسني رغم صمودها للزمن فضعف بصرها حتى الحضيض، وأصابها عرج، فلا تمشي إلا متوكئة على عصا هي يد مكنسة قديمة. ويئس هو تماما من أم زينب حتى قال لنفسه حانقا: إن الذين يثرثرون حول صراع الطبقات لهم عذرهم!
ولم تعد أم حسني تصلح لعملها الجليل؛ أصابها ما يشبه الخرف، وعرضت عليه يوما عروسا ناسية أنها انتقلت إلى رحمة الله منذ أعوام. ومرة - عقب صلاة الجمعة - وكان يجلس في الكلوب المصري رأى أصيلة وهي تسير بصحبة سيدة أخرى. عرفها من أول نظرة، رغم أنها تغيرت لدرجة أزعجته. تهدلت ككرة مثقوبة، وجف ينبوع الأنوثة من وجهها، وحل محله خيال غامض لا هو أنثى ولا هو ذكر. مضت بخطوات فظة مثالا للتعاسة والتدهور. وشيء قال له إن الموت يطاردها، وإنه يقترب من زمانه ومكانه، وأن زمانه الذي تقدس بالخلود يوما مضت تنقشع عنه الأوهام العذبة، وتتجلى له الحقيقة الأبدية المتعالية بجلال قسوتها. ألا زالت تذكره أصيلة؟ لا يمكن أن تنساه، لقد نفذ إلى أعماقها بثقله وغدره وأنانيته مخلفا وراءه الكراهية واللعنة . أما أقران صباه فهم يحترفون الحقارة ويتكاثرون بالذرية، ويملئون الجو بقهقهاتهم. وضاعت تماما عواطف الطفولة البريئة وخيالاتها الجامحة، طمرت تحت طبقات كثيفة من التراب، مثل حارة الحسيني، التي تغير جلدها، ربوع كثيرة تهدمت وقامت مكانها عمائر صغيرة، وشيدت زاوية مكان موقف الحمير، وكثيرون من أهل الحي هاجروا إلى المذبح، كل شيء يتغير، النور والمياه دخلت البيوت، والراديو يصخب ليل نهار، والملاءة اللف تتوارى، حتى الخير والشر يتجددان ويتنوعان. كل ذلك يحدث وهو ما زال في الدرجة الثالثة، مع عمره المتقدم، أهذا جزاء الجهد الخارق والتفاني الجليل؟ ألم يعلموا بأنه إنسان تلخص في خبرة مؤيدة بالعلم والعمل؟ وأن مذكراته الرسمية وبياناته الخاصة بالميزانية وفتاواه الرائدة في الإدارة والمخازن والمشتريات لو جمعت في كتاب لكانت دائرة معارف في الشئون الحكومية؟ خبرة نيرة منزوية في وظيفة وكيل ثان للإدارة كأنها مصباح كهربائي قوة خمسمائة شمعة ثبتت في جدار مرحاض زاوية بقرية! وقال لنفسه أيضا إن الموظف مضمون غامض لم يفهم على وجهه الصحيح بعد. الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محاربا أو سياسيا أو تاجرا أو رجل صناعة أو بحارا فهو في مصر الموظف. وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ. وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفا معينا من قبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية. ووادينا وادي فلاحين طيبين يحنون الهامات نحو أرض طيبة ولكن رءوسهم ترتفع لدى انتظامهم في سلك الوظائف، حينذاك يتطلعون إلى فوق، إلى سلم الدرجات المتصاعد حتى أعتاب الآلهة في السماء. الوظيفة خدمة الناس وحق للكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء للذات البشرية وعبادة لله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء.
ومضى ذات يوم للتفتيش في المحفوظات. وهناك رأى أنسية وقد انتقلت إلى طور النضج الأنثوي والوظيفي أيضا فأصبحت مراجعة في الوظيفة التي خلت بانتقال زوجها إلى وزارة المعارف. ولم يتمالك أن قال لها وهو يصافحها: أيام ..
Bilinmeyen sayfa