إني أشتعل يا ربي.
النار ترعى روحه من جذورها حتى هامتها المحلقة في الأحلام. وقد تراءت له الدنيا من خلال نظرة ملهمة واحدة، كموجة من نور باهر، فاحتواها بقلبه وشد عليها بجنون. كان دائما يحلم ويرغب ويريد ولكنه في هذه المرة اشتعل، وعلى ضوء النار المقدسة لمح معنى الحياة. أما على الأرض فقد تقرر إلحاقه بالمحفوظات. لم يهمه كيف يبدأ؛ فالحياة بدأت من خلية واحدة بل من دون ذلك. وهبط إلى مقره الجديد وجناحاه يرفرفان، يشق طريقه إلى بدروم الوزارة. طالعته قتامة، ورائحة أوراق قديمة، ورأى سطح الأرض في الخارج عند مستوى رأسه من خلال نافذة مصفحة. وامتد البهو أمامه، تتلاصق على جانبيه دواليب شنن، وصف طويل منها يشقه شقا طوليا. على حين استقرت مكاتب الموظفين في ثغرات بين الدواليب. ومضى وراء موظف إلى مكتب يستعرض تجويفا كالمحراب في الصدر جلس إليه رئيس المحفوظات. لم يكن أفاق من نفثة السحر المقدسة، حتى الغوص في البدروم لم يوقظه. سار وراء الموظف بتشتته وذهوله وانفعالاته وهو يقول لنفسه: اللانهاية هي ما ينشد الإنسان.
وقدمه الموظف إلى الرئيس: عثمان أفندي بيومي الموظف الجديد.
ثم قدم الرئيس إليه قائلا: رئيسنا سعفان أفندي بسيوني ..
رأى في الوجه قرابة طبيعية كأنما كان في الأصل من مواليد حارته. وأحب عظام وجهه البارزة وجلده الغامق المشدود وشعر رأسه الأبيض المشعث، وأحب أكثر نظرة عينيه الأليفة الطيبة النزاعة لعكس معنى الرياسة بلا جدوى. ابتسم الرجل كاشفا عن أقبح ما فيه، أسنان سود مثرمة، وقال: أهلا بموظفنا الجديد، اجلس ..
وراح يقلب في صور أوراق تعيينه ثم قال: أهلا .. أهلا .. الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين؛ استقبال ثم توديع ..
وقال عثمان في نفسه ولكنها رغم ذلك لانهائية. وهفت عليه ريح خفية مجهولة مليئة بجميع الاحتمالات، فقال إنها لانهائية ولكنها في حاجة إلى إرادة لانهائية كذلك. وأشار الرئيس إلى مكتب خال متآكل الجلدة منجرد اللون ملطخ ببقع حبر باهت وقال: مكتبك، تفحص الكرسي بعناية؛ فإن أحقر مسمار قد يهتك بدلة جديدة ..
فقال عثمان: بدلتي قديمة جدا والحمد لله ..
فواصل الرجل تحذيره: واقرأ الصمدية عندما تفتح دولابا من دواليب شنن؛ فقبيل العيد الماضي طلع علينا من أحد الدواليب ثعبان لا يقل طوله عن متر ..
وضحك حتى سعل ثم استدرك: ولكنه لم يكن من نوع سام ..
Bilinmeyen sayfa