وعيناها العسليتان تبعثان ألقا ناطقا بالوفاء والجزع والأشواق الصادقة. وفي غمار العناق الذائب في الأنفاس المحترقة قالت متنهدة: ينقصنا شيء ..
فقال ببلادة وأنانية: حبنا الكامل لا ينقصه شيء!
فرفعت منكبيها محتجة ولكن بحذر من يرغب عن إحراجه ويستعين عليه بالصبر والإصرار، ووجد أنه يعاني كبتا مرعبا سيرمي به مرة تحت رحمة المجهول. ذلك أذعن لإغراء زميل دعاه إلى زيارة لدرب البغاء الرسمي. وكابن من أبناء حارة الحسيني لم تعوزه الجرأة الكافية، انطلق في الدرب الذي يضيئه مصباحان غازيان متباعدان يغلفهما الغبار الراسخ فيغرق جنباته في شبه ظلام مثير للشهوات. وقلب عينيه القلقتين حتى استقر على صيد. ويعقب ذلك عادة إكباب على طلب الغفران، وعكوف طويل على الصلاة والعبادة. وهو ما يفعله عادة كلما واجه نواياه العميقة الخفية من ناحية سيدة. فإلى جانب عناء العمل المتواصل وجد عناء أشد من عذابات ضميره. وكان يختم لياليه الطويلة المرهقة في إعياء نفسي شديد، كالإغماء، وأحيانا تبتل جفونه وهو لا يكاد يدري.
وكان سعفان بسيوني رئيس المحفوظات يتابع نشاطه الرسمي بإعجاب وحذر. أعجب بجلده وحسن تصرفه وخلقه، ولم يرتح من بادئ الأمر إلى البكالوريا التي تميز بها وحده في المحفوظات ولا إلى طموحه إلى المزيد من التعلم الذي سيرفعه درجات جديدة من الامتياز عليه هو بشهادته اليتيمة «الابتدائية». وفطن عثمان إلى ذلك في حينه ولكنه طمع في طيبته الفطرية وضاعف من تودده إليه وإذعانه لتوجيهاته حتى اطمأن الرجل إليه تماما وفتح له قلبه في صفاء نادر. وفي أوقات الفراغ قربه إليه، وأفضى إليه بخواطره، حتى السياسة صرحه فيها برأيه وأهوائه. ولشدة حماس الرجل جفل عثمان من الإعراض عن اهتماماته أو معالنته بحياده البارد إزاءها، وقال بغموض وحذر: الحق أننا من مشرب واحد، ولا عجب في ذلك ..
فسر الكهل بقوله سرورا عظيما ذهل له عثمان. عجيب استغراق الرجل في هذه الشئون. وأعجب منه استغراق زملائه التعساء فيها. ماذا يشدهم إليها؟ أليس لديهم هموم صميمية تشغلهم عنها؟ ولكنه قال لنفسه بازدراء غير قليل: إنهم أناس لا يعرفون لأنفسهم هدفا محددا، وإيمانهم الديني إيمان سطحي، ولم يفكروا بما فيه الكفاية في معنى الحياة، ولا فيما خلقهم الله من أجله، وهكذا تتبدد أفكارهم وأعمارهم في لهو وسفسطة، وتهدر قواهم الحقيقية بلا عمل. تستغفلهم الأوهام، ويمضي الزمن وهم لا يعلمون ..
7
وقال له سعفان بسيوني بعد أن تلقى منه بريد الوارد: إني أدعوك إلى سهرة ممتعة في بيتي ..
دهش وانزعج ولكنه لم يفكر في التملص. قال الرجل: يوجد حفل زفاف في بيت الجيران، سنتعشى معا لحمة رأس، ونجلس في الشرفة نستمع للغناء ..
كان الرجل يقيم في شقة بالدور الثالث ببيت بعطفة البحر بباب الشعرية. وتبين له أنه كان المدعو الوحيد. طاب نفسا بالمكانة التي يؤثره بها رئيسه، وتناول معه عشاء لذيذا مكونا من المخ والجبهة واللسان والجوهرة وممبار وفتة بالتقلية غير الفجل والمخلل، وحلوى من الشمام، أكلة ممتازة ووفيرة وقد أكل حتى امتلأ. وجلسا في شرفة تطل على فناء البيت الذي قام فيه الفرح. تبدى الفناء غارقا في الأنوار تصب عليه من كلوبات كثيرة. وصفت به الأرائك والكراسي التي اكتظت بالمدعوين، واكتظت المماشي بالغلمان والأطفال، وأحدق عشرات وعشرات منهم بسور الفناء من الخارج. وشعت الأنوار في البيت من الداخل أيضا وتراءت النساء وهن يذهبن ويجئن. وهدر المكان بالأصوات من جميع الدرجات والأنواع، وارتفع الضحك والسعال والزغاريد. خفق قلب عثمان وهو يرنو إلى جو الفرح وانتقلت إلى فؤاده حرارته الفواحة بعطر الجنس والحب؛ لذلك تلقى دغدغات التخت الأولى بتأثر أشد مما توقع ومما ألف. فهو لا يعشق الغناء ولكن إذا جاءه بلا كلفة فلا بأس به ولو إلى حين قليل. حسن، الموسيقى لا بأس بها أحيانا، شيء طيب ومريح. الزواج علاقة باهرة وفرح ودين. وخالجه شعور شامل بالأسى. - لعلك في حاجة إلى الترفيه، هذا ما أقوله لنفسي كثيرا ..
قال سعفان ذلك وهو ينظر ناحيته بوجه تضيء أنوار الفرح أجزاء منه وتتواري أجزاء في الظلال. وقال أيضا: عمرك يجري في العمل والدراسة ولكن الحياة تطالبنا بأشياء كثيرة ..
Bilinmeyen sayfa