وعلى الرغم من غرابة المشكلة وضخامتها فإني لأعجب لنفسي كيف كنت أحيانا أنساها؟! كنت إذا فكرت فيها فكرت فيها، وإذا نسيتها نسيتها، وإذا فكرت فيها آليت على نفسي ألا أفكر في غيرها ما حييت، وإذا نسيتها ذهبت عن بالي تماما وكأني لم أعرفها قط.
وأول الأمر كانت حين تخطر لي ولا أجد لها جوابا شافيا كنت أختنق بالضيق وأحس أني أريد أن أقتل نفسي، ففي تلك السن لا نحتمل أبدا أن يبقى السؤال إذا عن لنا بلا جواب، ولكن الضيق إذا زاد عن حده ينقلب إلى ضده، وكان ضيقي قد زاد عن حده، حتى بدأت أنا الآخر أفضل طريقة أهل بلدنا، وأكاد آخذ السلطان حامد كالقضية المسلم بها، ولا أهتم بها أو بقضيته إلا كما يهتم أهل بلدنا بها، ولا يكاد يخطر لي إلا إذا مررت على الجبانة مثلا، ولمحت مقامه رماديا وحيدا بعيدا، أو إذا وقع في يدي قرش مكتوب عليه: «ضرب في عهد السلطان حسين»، أو كان أحيانا يخطر لي فجأة وبلا سبب، وكأن عقولنا تجتر أحيانا ما تختزنه فتعيده إلى وعينا في ساعات لنكمل فحصه وطحنه.
ولكن ذات يوم عثرت على شيء مذهل غريب زاد المشكلة تعقيدا، فقد كان لنا نحن تلامذة بلدنا فريق محترم لكرة القدم، فريق أول وفريق ثان، ولم أكن في كليهما، كنت شغوفا باللعبة، ولكني كنت أفضل التفرج ومراقبة اللاعبين، ولهذا كنت أرافق فريقنا إذا ذهب ليباري فريق بلدة أخرى، وكانت مباريات رسمية حقيقية، نرسل «باصه» مكتوبة وموقعا عليها من رئيس الفريق ومدربه، ويأتي الرد مكتوبا أيضا وفيه تحديد اليوم والساعة والمكان، وفي اليوم المحدد (غالبا صباح الجمعة) يخطط الملعب ويشترى اليوسفاندي والبرتقال للهافتيم، وترسل الأحذية القديمة منذ الصباح الباكر إلى الجزمجي ليصلحها، وتنفخ الكرة عند العجلاتي بقرش وتطلى بحبة طماطم لكي تبدو جديدة، ونستعد للمباراة.
وفي يوم الجمعة ذاك كنا قد ذهبنا لنلاعب بلدة بينها وبين بلدنا مشوار، وكالعادة كان المكان الذي اختاره فريقها للعب قريبا من الجبانة، فنادرا ما تجد في قرانا مكانا فسيحا مستويا يصلح للعب إلا ذلك المكان الذي يقع على حافة الجبانة والذي يستعمل كجرن في أيام الدراس.
وشات أحد لعيبتهم الكرة شوتة «بوز» أرسلتها عالية بعيدة تخطت نطاق الملعب والجبانة، واستقرت فوق بناية حجرية صغيرة كانت قريبة من المزارع، وفوجئت بأحد أفراد فريقهم يشتم اللعيب الذي شات وهو يقول: «دلوقتي مين ح يجيبها من فوق السلطان حامد؟!»
وتركت تتبعي للمباراة نهائيا، وما كاد يأتي الهافتيم حتى ذهبت أسأل أفراد الفريق الذي كنا نلاعبه، ومن كلماتهم المقتضبة اللاهثة عرفت أن بلدهم فيها سلطان حامد آخر، له مقام يشبه إلى حد كبير مقام السلطان حامد في بلدنا، وله أيضا نافذة يسيل منها شمع أبيض متجمد ويصنع أنهارا وبحورا في الأرض، وهو الآخر تنذر له النذور، ويستعان بيده وتخفض من أجله الأسعار، وسرعان ما اكتشفت خلال مباريات أخرى وأسئلة واستقصاءات بلا مباريات أن هناك سلاطين آخرين، يكاد يكون لكل قرية في إقليمنا سلطانها الخاص.
وكان هذا أكثر من أن أستطيع أن أفكر فيه أنا وكل بلدنا مجتمعة.
وما قابلت إنسانا سواء كان من بلدنا أو من غيرها إلا وسألته، والشيء الذي كان يفقدني عقلي أنهم جميعا كانوا يأخذون الأمر بهدوء وبساطة ويستطيعون النوم بعد أسئلتي، بل ويتناولون الطعام ويضحكون، وكأن من الطبيعي أن يوجد لكل قرية سلطان، له اسم واحد هو حامد، سلطان خاص بمقام خاص، سلطان لا يعرف أحد كيف دفن، ولا من بنى له المقام، سلطان شيطاني استيقظوا ذات صباح فوجدوا مقامه منتصبا عند حافة جبانتهم، ووجدوا مكانته سامقة في أذهانهم.
كل ما ظفرت به كان إجابات غامضة تزيد من ثورتي وعجزي وهياجي، فمن قائل: إن هذا حدث من قديم الزمان ولا أحد يعرف سره، ومن قائل: إنه سلطان يمت بصلة القربى إلى أبي زيد الهلالي سلامة، ومن قائل: إنه سلطان واحد حقيقي، ولكنه كتب في وصيته أن تصنع له مدافن في بلاد عدة يدفن في واحد منها فلا يستطيع أعداؤه أن يعثروا أبدا على جثته.
ومن قائل: إن السبب في هذه اللخبطة كلها هي الحكومة وهي وحدها المسئولة.
Bilinmeyen sayfa