وما كاد جسدها النحيل يختفي في الكتلة البشرية المتزاحمة قرب الباب حتى أفاق جاري من نشوته في الحال، وما لبث أن ارتفع صوته، وراح يضرب كفا بكف، وينظر إلى بقية الركاب، وكأنما يستنجد بهم ويشهدهم ويقول في غضب حقيقي: «أما كلام فارغ صحيح وقلة أدب! البلد خلاص باظت! انفلت عيارهم! إيه ده؟! لازم يوقفوا في كل أوتوبيس عسكري من بوليس الآداب! لازم يقاوموهم زي ما بيقاوموا النشالين، دي مسخرة دي! دانا شايفه بعيني بيمد إيده عليها، مش كده يا أستاذ؟! والله، لولانا كان مد إيده عليها وهي ساكتة، دا إجرام ده! ما فيش بوظان بعد كده! دانا سامعه بودني بيديها نمرة تليفونه، بودني! كده واللا لأ يا محترم؟! كده واللا لأ؟! وكل ده في محطة واحدة، دا لازم القيامة ح تقوم! والله، يمكن قامت فعلا! لازم القيامة قامت!»
شيخوخة بدون جنون
في صباح كهذا مات عم محمد.
والذي ضايقني أن كل الناس كانوا يأخذون خبر موته على أنه مسألة مفروغ منها، مسألة لا تحتمل بكاء ولا تأثرا، أو حتى مصمصة شفاه.
يومها بدأت العمل بالتصديق على شهادات الميلاد، وكل يوم كنت أبدأ عملي بالتوقيع على هذه الشهادات حتى يصبح المولود من هؤلاء مواطنا رسميا معترفا به من الدولة، والواقع أن عملي كمفتش صحة طالما ذكرني بسيدنا رضوان، فإذا كان عمله هو حراسة الآخرة، فلا أحد يدخل فيها إلا بإذنه ولا أحد يغادرها إلا بتصريح منه، فأنا الآخر أحرس الدنيا، لا يدخل فيها أحد ولا يقيد وارد ومولود إلا بإمضائي، ولا يعتبر الواحد قد خرج من الدنيا ومات إلا إذا وافقت أنا على هذا.
كنت أبدأ باعتماد الشهادات، ثم يقف سرب طويل من الأمهات أمامي لأكشف على أذرع أطفالهن وأرى إن كان التطعيم قد نجح أم لا، نفس الأطفال الذين كانوا من فترة لا تتجاوز سنهم الأربعين يوما مجرد شهادات ميلاد، الآن أصبح لهم عمر، وبدأت لهم مشاكل.
والحق أني كنت، رغم مضايقات العمل الكثيرة، أحس بنشوة وأنا أزاول عملية «المناظرة» تلك، الأطفال كلهم صغار وفي عمر واحد كأنهم باقة من أزهار الفل الصغيرة السن أشمها كل صباح، كلهم صغار، وكلهم حلوين، وصراخهم مهما علا فهو رقيق لا يؤذي السمع، وأيديهم بضة صغيرة، وأظافرهم دقيقة تحب أن تقبلها، ورفساتهم فيها كل نزق الحياة وروعتها، والأمهات، أمهاتهم، كلهن أيضا حديثات الزواج وصغيرات، وكلهن فرحات بأطفالهن، مبالغات في الحرص عليهم، ولفهم في سبع لفائف، قادمات - لا بد - من الصباح الباكر إلى مكتب الصحة وقد تجمعن وارتدين أحسن ما لديهن، وخططن حواجبهن وتكحلن، ووجوههن صابحة تلمع بالنظافة، وكلامهن صاف لا ضغائن ولا نقار ولا خناق، ولكنه أنثوي عذب، فيه كل دلع المصريات المؤدب الذي لا يزيد عن الحد، وفيه كل خجلهن.
يقف الطابور أمامي، وعلى ذراع كل أم صغيرة طفل صغير، ولا يستقيم الطابور أبدا، فكل واحدة تنخلع منه لتختلس النظر إلى ملابس الأخرى، أو لتقارن بين ابنها - اسم الله عليه - وحجمه وسمنته، وابن التي أمامها أو خلفها، مقارنة لا تحمل سوى حب الاستطلاع، ووالله، ليس فيها حسد، ومع هذا فكل واحدة تحاول إخفاء ابنها عن الأخرى مخافة العين، فتزيد من عدد اللفائف، وتحيط عنقه الأبيض بالأحجبة وأسنان الذئاب ، ولا بد أنها حين تعود إلى البيت ترقيه وتبخره، وحين تصل الواحدة أمامي ترتبك وهي تحاول أن تستخرج اليد الدقيقة من الكم الدقيق، وكم هو جميل ذلك الكم! ويبدو أن كل شيء صغير جميل، ترتبك وهي تستخرج الذراع، ذراع طولها طول الإصبع، ولكنها مشاكسة، وقبضتها مضمومة في إصرار، وكأنما تتوعد الدنيا وتتحداها، ويرتفع الصراخ، صراخ هذه المرة غاضب أحمق، وحمقه حبيب، وكم كان يؤلمني الجرح الحديث من التطعيم! الجرح البشع السخيف الذي يشوه البشرة الناعمة البضة.
وينتهي الطابور، وتنتهي المناظرة، ويخف ازدحام المكتب، وتختفي أصوات النساء بكل ألوانها ولهجاتها ونبراتها لتبدأ ضجة أخرى تعلو وتعلو، ضجة ليس فيها أنوثة النساء ولا رجولة الرجال، ضجة الفتيان الصغار والفتيات، الذين كانوا من سنين قليلة مجرد أطفال على أذرع أمهاتهم في طابور المناظرة، ولكنهم قادمون على أرجلهم هذه المرة وبأنفسهم؛ إذ هم التلامذة الذين يريدون شهادات من المكتب لتقبلهم المدارس، والعمال الصغار والعاملات الذين جاءوا لإقرار أن سنهم تزيد عن الاثني عشر عاما لينطبق عليهم قانون تشغيل الأحداث، وبهذا يمكنهم أن يبدءوا معركة أكل العيش بعرق الجبين، وطابور هؤلاء لا ضجة فيه ولا صخب، فهم يقفون صامتين، مستغربين، عيونهم تحدق في الناس والأشياء بدهشة وذهول، وفي صدورهم خشوع الداخل إلى عالم ثان مجهول.
وقبل أن ينتهي طابورهم تكون ثمة ضجة أخرى قد بدأت تتجمع في الخارج، ضجة فيها زعيق وعصبية، وأيمانات مغلظة، وكلمات مكتومة تتناثر عن الظلم والعدل والإنسانية والحكومة والوقت الضائع، ضجة الرجال، ضجة لا تهدأ حتى بعد أن يوقفهم التومرجي طابورا، وتنكمش قبضته الواسعة على النفحات الضئيلة التي يجود بها البعض، ويهز رأسه مئات المرات وهو يؤكد لهم أن كله بالدور، وأنهم حتما سيأخذون الإجازات التي يريدونها وسينجحون بإذن الله في الكشف الطبي، وأن الدكتور خالد طيب وابن حلال، ومزاجه اليوم عال العال، وعلى العين والرأس أعمارهم ستقدر وحاجاتهم ستنقضي، بس شوية صبر، والصبر يا إخواننا من الإيمان.
Bilinmeyen sayfa