وكان كلما شيع جنازة شاب من أبنائها فتقدم المشيعين بشيخوخته الطاعنة شعر بحرج وما يشبه الذنب، وتضايق من النظرات المحدقة به في إجلال صامت . وما لبث علي طلعت أن انتقل إلى رحمة الله مصابا بأنفلونزا حادة فوجدت فهيمة نفسها وحيدة في ملكوت أرواحها، وقد عمرت طويلا بعد وفاة والديها وأقاربها من ذلك الجيل العريق المقدس للتقاليد ووشائج القربى، فباتت نسيا منسيا فيما عدا كلمة تتبادلها في التليفون مع شقيقتها عفت.
حرف القاف
قاسم عمرو وعزيز
آخر عنقود ذرية عمرو وراضية، ولد ونشأ في بيت ميدان بيت القاضي، وهو الوحيد من الأبناء الذي لم يبارحه. وبدا من مطلعه نحيلا متحركا، ولم يكن به شبه واضح لوالديه، ولكنه إذا ضحك استحضر صورة أبيه الضاحكة، وإذا انفعل ذكر الملاحظ براضية. وكان السطح ملعبه والميدان بأشجاره الفارعة، وعاش بكل وجدانه في أمطار الشتاء ورياح الخماسين. ولم يتح له أن يتخذ من أحد من إخوته أو أخواته رفيقا فما كاد يشب حتى كانوا قد تفرقوا في بيوت الزوجية، ولكنه وجد العوض في أبناء عمه سرور وأبناء الجيران، كما وجد مراحه في بيوت المتزوجين وعند آل عطا وآل داود. وكان أخلص المستمعين لأمه وأصدق التابعين لها في أحلامها وجولاتها الروحية بين الجوامع والأضرحة. وكلما جمح به الخيال وجد عندها الأذن الصاغية والقلب المصدق، ففي إحدى ليالي رمضان أخبرها أنه رأى ليلة القدر كطاقة من نور مشع انداحت لحظات في السماء، وأنه اطلع في ليلة أخرى من وراء خصاص المشربية على زفة من العفاريت. ومنذ صباه وهو يتطلع إلى بنات الأسرة بحب استطلاع موسوم بشهوة مستوفزة قبل أوانها، وحام بصفة خاصة حول دنانير وجميلة وبهيجة، وإلى بنات الجيران وفتياتهم، ولم يعتق سيداتهم من رغباته الغامضة الآثمة، مع تدين مبكر وصلاة وصيام. ودخل الكتاب على رغمه وتلقى فيه المبادئ بقلب نفور وعقل متمرد، ولم يستطع أبدا أن يفرق بين المدرسة وسجن قسم الجمالية الذي رأى الوجوه التعيسة تلوح وراء قضبان نافذته. ويسأله عمرو في مجلس الليل بعد العشاء: ألا تريد أن تكون كأخويك؟
فيقول بصراحة: كلا.
فيقطب الرجل ويقول منذرا: لا تضطرني إلى تغيير معاملتي لك.
اهتزت صورة أبيه في عينيه من عجز عن دفع الموت عن ابن أخته أحمد، حين ترك لدموعه غير المجدية. يريد الآن أن ينعم بحضن جميلة رغم ما يعقبه من ألم يقبض على قلبه عندما يقبل على صلاته. دائما تعذب بين الحب والعبادة، وأعين الرقباء أيضا مثل بهيجة وأمه، بين الدجاج والأرانب والقطط فوق السطح؛ ضبطتهما راضية مرة، لدى ظهورها انفك الاشتباك فطارت جميلة كالحمامة والدم ينبثق من وجنتيها من شدة الحياء، وقطبت راضية، ثم أشارت بيدها المعروقة إلى السماء الحانية فوق السطح وقالت: من هناك يرى الله كل شيء.
وتوارت جميلة عندما جاء ابن الحلال، وألحق قاسم جرح الحب بجرح الموت، وراح يراقب رءوس الأرانب المطلة من فوهة البلاص المقلوب. وسرعان ما وجد نفسه حيال أوهامه وجها لوجه، ودروس المدرسة الثقيلة، وابتسامة لا ترى بالعين المجردة آتية من عيني بهيجة الجميلتين. وظن الأخت مثل أختها ولكنه وجد قلبا عذبا وإرادة صلبة. أي فائدة ترجى من ذلك الحوار الصامت؟! حتى ست زينب أمها قالت لها: إنكما متماثلان في السن فهو غير مناسب.
وقالت له راضية: المهم أن تشد حيلك في المدرسة.
وبسط عمرو راحتيه داعيا: اللهم اجبر بخاطري في هذا الولد.
Bilinmeyen sayfa