وساد صمت ثقيل، ثم قال - وكان ذا قدرة على مواجهة أحرج المواقف: اسمه صبري المقلد، موظف بشركة الكيماويات.
فتمتمت زينة بريبة: شركة! - أفضل من الحكومة ... الدنيا تتغير.
ثم وهو يهز رأسه الكبير: سمعت أنه سكير، وهو نفسه اعترف بذلك، ولكنه أكد لي أنه تاب وأنه يؤهل نفسه للزواج بجدية ... ما رأيك؟
قالت باستسلام: الرأي رأيك. - هذا الكلام لا ينفع اليوم ... سوف ترينه بنفسك.
وجاء صبري المقلد فاستقبله لبيب في حجرة الاستقبال القديمة. وتزينت زينة وارتدت أحسن ما عندها من ملابس، ودخلت للقاء حظها. لم تستطع أن تتفرس في وجهه، ولكن لمحة كفت لإعطاء صورة عنه. كان نحيلا بدرجة ملحوظة هائل الأنف كبير الشدقين طويل الوجه. ولما ذهب قال لبيب: لا يعيب الرجل قبحه ... مرتبه محترم ... أسرته طيبة ... والرأي الأخير لك.
تبين لها أنها تريد زوجا بأي ثمن: لا صبر لها على تلك الحياة الكئيبة، وليكن الله مع بهيجة. وزفت إليه في بيت تملكه أمه ب «بين الجناين» ... وبدت سعيدة بزواجها تماما، وأنجبت له خليل وأميرة. وماتت أميرة طفلة مخلفة جرحا غائرا في قلب الأم الشابة. وكان صبري يكبرها بعشرين عاما، ولكنها نعمت في كنفه بحياة طيبة، فرفلت في أجمل الثياب وتناولت أشهى الأطعمة حتى تمادت في السمانة وشابهت عوالم الزمان الأول. وقد صدمها زواج ابنها خليل من أرملة في مثل سنها، ولكنها عبرت محنتها بسرعة ودون أزمة حقيقية. ولم يكدر صفوها إلا الزمن الذي قطع ما بينها وبين أهلها جميعا حتى تخايلت لعينيها القبيلة القديمة المتداخلة باللقاءات المتواصلة مثل حلم لا ظل له عن الواقع. وقد جاء الزمن بالراديو والتلفزيون، وراحت القاهرة تتضخم وتنهمر عليها الأحداث والحروب والعلل. وكأن بين الجناين أصبحت مثل غيرها من الأحياء مملكة مستقلة لا تعبر حدودها إلا في الملمات.
حرف السين
سرور عزيز يزيد المصري
ولد ونشأ في بيت الغورية على مرأى من بوابة المتولي، مع شقيقه الأكبر عمرو وأختهما الكبرى رشوانة. وترامى مراح طفولتهم ما بين البوابة وسبيل بين القصرين حيث يجلس الأب عزيز على عرشه المائي. وكان سرور يشبه أخاه في طوله ووضوح ملامحه، ولكن وجهه أنبأ عن تناسق ألطف كما مال جسمه إلى البدانة. وكانت جدته نعمة المراكيبي تخصه بحب لا يحظى بمثله عمرو أو رشوانة، وتدلله رغم احتجاج عزيز وتحذيراته. ونشأ طبعا مؤمنا ولكن بلا قيود بخلاف أسرته جميعا، فلم يؤد الصلاة، ولا الصيام حتى بلغ الخمسين من عمره، وستنطبع أسرته الخاصة بطابعه فيما بعد، وبدا كسولا كارها للتعلم فتعثرت خطواته ... أما في معابثة البنات ومطاوعة الغريزة فقد أنذر سلوكه بالمتاعب، وحاول جر أخيه عمرو معه ولكنه لم يجد منه استجابة تذكر، ووجد على العكس صدا وملامة. وقد تبادلا حبا أخويا متينا وصمد في النهاية أمام ما شاب علاقتهما مع الزمن من خلافات. ومضى في مدرسته الابتدائية بصعوبة، ولم يكن حظ عمرو أوفر منه؛ ولذلك ما كاد يحصل على الابتدائية حتى ألقى سلاحه، وسعد بوظيفة في السكك الحديدية. كانت الابتدائية شهادة ذات شأن فارتاح بال عزيز وحمد الله. أجل تمنى المزيد لابنيه متأثرا بمثال أخيه داود باشا وابنه عبد العظيم، ولكنه قال لنفسه «القناعة كنز». بل راح يفكر في الخطوة التالية المهمة وهي الزواج ... ولما حادثه أبوه في الأمر وجد منه فتورا، فصارحه بأنه لا يبارك سلوكه، وأنه يرى في الزواج خير علاج له ... وانضم عمرو إلى رأي والده بحماس، وسرعان ما أذعن سرور احتراما لهما وتطلعا لسحر الزواج أيضا ... ودلتهم الخاطبة على بيت زينب ، وذهبت قافلة من نعمة ورشوانة وراضية لخطبة زينب. وزفت إليه في البيت المجاور لبيت أخيه بميدان بيت القاضي، وبهر سرور بجمال زوجته وطبعها الهادئ وخلقها الدمث، ووجد بين يديها الحب والشفاء، وأنجبت له في حياة موفقة لبيب وجميلة وبهيجة وزينة وأمير وحازم، كان لسرور من وظيفته الرسمية وزوجته الممتازة وذريته الجميلة ما يؤهله لطمأنينة النفس، ولكنه كان دائما يحوم حول ما يفتقده فخسر كثيرا من الأحلام، وأحد الحسد قلبه ولسانه. جمع بينه وبين زينب حال واحدة، توارت عند زوجه وراء طبعها الدمث، وتجلت مع فحولته غير المبالية. عرف - كان لا بد أن يعرف - ماذا كان جده عطا المراكيبي، وماذا صار، وكيف ابتسم له الحظ، كما عرف الأصل الذي صدرت عنه باشوية عمه داود، واحتج على ثراء جده وفقر أمه، واتهم جده بالدناءة والقسوة، ولسعته الغيرة من أخيه المحبوب عمرو، لإغداق الجميع عليه بالحب والهدايا وتجاهله هو كأنه ليس بشقيق عمرو، متغافلا عن حدة لسانه التي نفرت القلوب منه. وضاعف من تأزمه أن عمرو تخطى ابنتيه وزوج ابنيه من آل داود وآل المراكيبي. أجل لم تطف عواطف السخط إلى السطح فيما بين الشقيقين أو الأسرتين، وغلب الحب دائما، ولكن الباطن ماج كثيرا بالانفعالات المتضاربة. حتى ما بين راضية وزينب، فقد غطاه السلام دائما وحسن المعاشرة، وشد ما بكى سرور يوم وفاة عمرو كما احتضرت زينب تحت مظلة حانية من تلاوة راضية ودموعها. وكما كان سرور دون أخيه في تقواه كان كذلك في وطنيته، ولكن ثورة 1919. أودعت قلبه المتمرد قدرا من الدفء لم يتلاش حتى النفس الأخير. وظل يفاخر باشتراكه في إضراب الموظفين كما لو كان المضرب الوحيد، وظلت ذكريات مظاهراتها عالقة بخياله كأفتن الطيبات التي عشقها في حياته. تلك الموجة العاتية الهادرة بأناشيد المجد التي جرفت الآباء والأبناء واقتحمت قلوب النساء وراء المشربيات؛ ولذلك وجد في ارتداد آل المراكيبي وآل داود عن زعامتها المقدسة مجالا يضرب فيه لسانه بغير تحفظ يقول لأخيه: لنا خال لا يعبد في الدنيا إلا مصالحه .
أو يقول: وبيت عمنا الجليل المنضم لعدلي توهما أنه حقا من العائلات!
Bilinmeyen sayfa