هي الابنة الوحيدة لرشوانة - الشقيقة الكبرى لعمرو وسرور - وصادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش. ولدت في بين القصرين ببيت يملكه أبوها، ونشأت في أحضان نعمة لا بأس بها وتبشر بالمزيد، ولم تنجب رشوانة غير وحيدتها لعيب فيها. ولكن لحسن حظ الأسرة أن صادق بركات كان سبق له الزواج مرتين دون إنجاب، فعد العيب مشتركا. وترعرعت دنانير بين أم متدينة لحد المشيخة وأب ينتمي لأسرة تعتبر رائدة في تعليم البنات. وكانت على قدر من الجمال لا بأس به واستعداد للبدانة، وكانت تعد من المزايا، وإلى ذلك فقد أبدت نشاطا يبشر في المدرسة بكل خير. ونالت الشهادة الابتدائية فألحقت بالثانوية، الأمر الذي لفت انتباه خال رشوانة محمود بك عطا المراكيبي فسأل عمرو: أأنت راض عن ذلك؟
فقال عمرو: أبوها راض.
وزار الرجل بين القصرين واجتمع بالأسرة، وقال: إني لم أسمح لشكيرة بتجاوز الابتدائية.
فقال صادق بركات: الزمن تقدم يا محمود بك والبكالوريا مناسبة لهذا الزمن.
وقالت رشوانة: إني واثقة من أخلاق ابنتي.
وكان محمود بك لا يخلو من دعابة ولو بأسلوبه الفظ فقال: ربما قالت أم ريا وسكينة، عنهما يوما، ما تقولين.
وغادرهما ساخطا. وفرحت دنانير بقرار أبيها، ستصير بالبكالوريا قريبة من مستوى فهيمة وعفت ابنتي عبد العظيم داود. وسترتفع درجات على جميع بنات خاليها عمرو وسرور، ولها أن تحلم بعد ذلك بعريس لائق. وكانت رشوانة تستصحبها لزيارة الأصول والفروع فترى الشجرة مثقلة بالثمار، عامر وحامد ولبيب وحسن وغسان وحليم، وهي في نظر نفسها على الأقل لا تقل جمالا عن أجمل بنات الأسرة. ولما قاربت الختام حدث شيء كالمصادفة أقنعها بأن المصادفة مأساة المآسي في حياة البشر. سقط أبوها في الدكان مشلولا وحمل إلى البيت ليرقد على فراشه بلا حول حتى النهاية. صفيت التجارة بإشراف عمرو وسرور ومحمود بك، وقبض الرجل خمسمائة جنيه هي كل ما بقي له للعلاج وحياة الأسرة. ورأت دنانير أنه لم يعد أمامها إلا مواصلة التعليم والتطلع إلى العمل. لم يكن متاحا لها إلا مدرسة المعلمات وكان على المعلمات وقتذاك أن يمضين حياتهن بلا زواج ما أردن الاحتفاظ بالوظيفة. وتوكدت هذه الخطة عقب وفاة صادق بركات. أجل رأى محمود بك رأيا آخر، قال: لتتزوج دنانير ... وأنا أتكفل بك يا رشوانة.
ومالت رشوانة للموافقة، ولكن دنانير - وبدافع من كبريائها - أبت ذلك وأصرت على اختيار مصيرها. لم تكن سعيدة باختيارها، زهدت فجأة في حلم الزواج الذي صاحبها منذ الصبا، كانت أتعس أهل الأرض ولكنها اختارت تعاستها بنفسها. وقالت لها رشوانة: إنك تضحين بنفسك من أجلي.
فقالت بثبات: بل اخترت ما يسعدني.
وأصبحت معلمة وعانسا إلى الأبد. تعزت عن خيبتها بإتقان العمل والإفراط في الطعام. وتمضي في الحياة متسائلة أين كان يختبئ لي هذا الحظ الأسود؟! ما أكثر الأعين التي ترمقها بنهم، من شباب الأسرة والأغراب، كأنهم يتساءلون! هذه الفتاة الممنوعة من الزواج ألا تحلم بالحب؟! جميع قريباتها مستقرات في بيوت الزوجية، حتى الدميمة المذكرة، وهي لا تعبرها النظرات دون أثر يبقى ويستفحل. وما تأوي إلى فراشها بعد يوم مليء بالسخرة إلا وتتأبط معها خيالا ليؤنس وحدتها. إنها دائبة على تعويض لهفاتها وحسراتها بالأخيلة المحمومة الفاجرة والسقوط الوهمي، والصداقات الحميمية العقيمة مع الزميلات المحرومات في مجال عملها الرهباني. مكاتب حياة سرية في عالم الحلم تتناقض تماما مع حياتها الظاهرة القائمة على عمل جاد استوجب الثناء، والتزام بالفرائض الدينية استحق الاحترام، وسلوك رصين أيأس منها الطامعين وحاز تقديرهم. وفي تلك الفترة الصاعدة من شبابها ونشاطها عرض لها ابن خالها لبيب بشبابه وجماله ووظيفته القضائية اللامعة، وكان سبيل الغزو له ممهدا لولا أنانيته القبيحة. دعاها إلى حديقة الأسماك الهادئة ليعرض عليها علاقة سرية تناسب في تصوره حالهما. قال: أنت ممنوعة من الزواج وأنا مضرب عنه.
Bilinmeyen sayfa