نظر المريض إلى وجوه العود
أما والله لولا الصبر والحياء والحلم واللطف والرقة والأدب والظرف؛ لطغت الحمير، وأبت إلا أن تنال نصيبها من السعادة، فقام الأسد وزمجر قليلا، ثم قال: لا مراء في أن فلسفة الحيوان وآراءه تختلف مناحيها باختلاف جهازه العصبي، فإن جهاز الأرنب جعله يرغب في تحريم اللحوم، كما أن جهاز الحمار الحليم الظريف جعله يطلب الإنصاف في الأجر والعمل، وجهاز الديك فغر فاه بالصياح، وطلب الإخاء والمساواة وتحريم السطو والحرب. وكل واحد منهم مظهر خاص من مظاهر المادة، ولا ريب أن جهازي العصبي هو الذي يغريني باتخاذ اللحوم عقيدة، فأرى في أكل اللحوم صلاح الدنيا، وعمرانها، ورقيها.
فانظر كم نوعا من أنواع الحيوان قد فني؟ هل كان يرى فناءه عدلا؟ وهل ترى في حياة الناس والحيوانات والطيور والأسماك والحشرات والنباتات والجماد شيئا يستقيم بغير السطو والاعتداء؟ فأين الحقيقة؟ وأين المصيب؟ هذا الإنسان ينكر على أخيه الحمار حقه ومطلبه، وهذا الحمار ينكر على الإنسان اعتداءه وتسخيره إياه، وهذه الظباء تنكر على آكل لحومها، وهذه الأسماك يأكل بعضها بعضا فأين الحقيقة؟ وأي المذاهب الفلسفية مصيب؟ إنما الفلسفة حاجة من حاجات المزاج، وكلما كان المزاج أبعد عن المألوف المعتاد كان أحوج إلى الفلسفة. والحياة الصحيحة لا يحتاج المرء في أن يعيشها إلى فلسفة، أو شك، أو يقين، أو إنكار.
وحقيقة الحقائق هي حقيقة المعدة الصحيحة، والجسم الصحيح، وما عدا ذلك مظهر من مظاهر الاضمحلال والانحطاط. فالشك والتساؤل من مظاهر الانحطاط، وكذلك الإنكار الذي يكاد يغري المرء بإنكار نفسه، وحياته، وإنكار كل شيء. وكذلك الإحساس الشديد والاعتقاد بما وراء الطبيعة من الأسرار التي يتوهمها، والخروج عن المألوف من العادات والآراء، والسعي في إصلاح الوجود، وكثرة القول في ذلك، وإعداد الأنظمة التي تهيئ هذا الإصلاح، والإكثار من استخدام الرموز، وتقديس حياة الفرد، والرغبة في أن تنشد النفس غايتها، والرغبة في حمل متاعب الفقراء، والتألم لهم، ومذاهب الاشتراكية التي تخفض الناس إلى مستوى واحد، والإفراط في حب الجمال، والسعي وراء الأحلام والخيالات، من أمثال الخيال الكاذب الذي يدعي المثل الأعظم، والتغلغل في كشف حجب الحياة عن أدناسها وأمها وجرائمها ومقابحها، وحب الشهرة، ورغبة المرء في أن يشرك الناس في عواطفه والتعلق بتقريظهم، فقد لاحظ الأطبة أن هذه الصفات تكثر في المرضى والبله والمجانين، وعدد أفاضلهم ما لاحظوه من أمثال ذلك، راجع «موريل»، و«فير»، و«لجرين»، و«منيان»، و«لمبروزو»، و«برجر»، و«ماكس نوردو»، وغيرهم.
فقام الإنسان وقال: إن كل ما قلته لا يخفض من قيمة المذاهب الفلسفية ومناحي التفكير، فليست قيمتها قيمة ذاتية، بل قيمتها قيمة تصحيحية، فليست الحقيقة في مذهب منها، بل كل منها به شيء من الحقيقة. قال الأسد: هذه مغالطة غير وجيهة؛ فإن الحق كالجوهر كلما قسمته قلت قيمته. قال الإنسان: بل كالشجرة تأخذ من غصونها، وتغرس ما أخذته فتخرج من الشجرة بستانا. وكما أن للأشجار تلقيحا، كذلك للآراء والمذاهب تلقيح، وكما تخرج نوعا جديدا من الثمار من أنواعها القديمة، كذلك تلقيح المذاهب يخرج مذاهب جديدة من المذاهب القديمة، قال الأسد: هذا عمل البله والمجانين الذين اختل عقلهم، حتى لم يعد لهم شغل في الحياة سوى التفكير. ولما انتهى الأسد من قوله، أحس جوعا شديدا فأعمل أنيابه في حيوان من النواب المحترمين، ففر النواب، وانفض المجلس على غير اتفاق.
آية المسخ
حدثني «إبليس» قال: غضب الله على الناس يوما، فرأى أن يمسخهم، فقال: أيها الناس إذا ألحت لكم بالخير وأغريتكم به، وأودعته فيكم صنعتم الشر تتقربون به إلي فتعذبون من تظنون فيه الشر، وتقسون على كل من تحسبونه غير راغب فيما ظننتموه خيرا. وإذا ألحت لكم بالشر كي تتجنبوه، وغرسته فيكم كي تعرفوه، وتذوقوه، وتكرهوه، ملتم إلى الشر، ثم تكفرون، وتلومون، وتعتذرون لأنفسكم، وتقولون: إني أودعت فيكم الشر، وخلقت في نفوسكم كل ضعف وفساد. وإذا جعلت الخير والشر في نفوسكم متكافئين ظللتم ضعفاء الرأي والهمة والعزم، كاللعبة التي يتنازعها طفلان، كل يجذبها إلى ناحيته حتى تتمزق. وأنتم لا تصنعون الخير حتى تقادوا إليه من آذانكم الطويلة. أنتم تتشدقون بالمثل الأعظم، والعقائد والوحي والفضيلة، ولكن أعمالكم أعمال الشياطين.
ثم أخذ شيئا من رماد الجحيم، وذره في وجوههم فمسخهم قرودا، فلما رأى القرود شكلهم أنكروهم، وذهبوا إلى فيلسوف منهم، وسألوه عن أمرهم، فقال: هذا من مظاهر سنة النشوء والرقي في البشر، فإن نوع القرود ونوع الإنسان من أصل واحد، ولكنهما فرعان مختلفان. ولا ريب أن من ترونهم كان أصلهم من البشر، فعلمهم الدهر فيما علمهم اتخاذهم الشعر لباسا بعد أن كانوا ينتفون شعرهم، وعلمهم السير على أربع بعد أن كانوا لا يقوون على ذلك لنقص في خلقتهم.
فذهبت القردة وقالت لكاهنهم ما قاله فيلسوفهم، فغضب الكاهن وقال: كفر - والله - فيلسوفكم. وصار خليقا بالعذاب الأليم. أيجعل القرود الذين أتم الله نعمته لهم، وجعلهم خير عنصر أخرج في العالم، وعلمهم اعتلاء نواصي الأشجار وأغصانها، مثل هؤلاء الناس الذين لا يحسنون المحاكاة والتقليد، ولا يجيدون تسلق الأشجار، فذهبت القردة ونتفت لحية الفيلسوف، وأرادت أن تمثل به، ولكنه اعتذر، وقال: حاشا لمثلي أن يخفض من منزلة القرود بعزو هؤلاء الناس إليهم، ولم أقل إنهم بلغوا حد الكمال من المرتبة القردية، ولن يبلغوا تلك المنزلة، فهم لا يصلحون لها، وقد قدر بقاء الصالح للحياة وفناء غير الصالح لها، ونحن الصالحون.
أما هؤلاء الذين يحاولون بلوغ المنزلة القردية فقد كتب عليهم الفناء في معترك الحياة. قال الكاهن: ينبغي أن تنتهي عن سنة النشوء الكاذبة التي تحاول أن تفسر بها كل شيء، فليس الرأي كما ترى، وإنما هؤلاء قوم أحسنوا عملا، فرفعهم الله من حضيض عالمهم إلى سماء عالمنا، فأنكر بعض القرود أن يكون الأمر كما قال الكاهن. وزعموا أن قرود الناس يعجزون عن أن يحسنوا عملا، وإنما قرود القرود هم الذين يحسنون عملا.
Bilinmeyen sayfa