تمر بكم الحوادث الناطقة وتعظكم، وأنتم لا تفهمون قولها؛ لأنكم جثث محنطة تدور الأفلاك دورتها، وتمر بكم الساعات والأيام والسنون، وأنتم في سكون أهل الكهف لا توقظكم دقات الساعات، ولا أجراس الأيام، ولا طبول السنين، حتى صرتم إذا هز أحدكم كتفه أو نفض ثيابه نزل عنها غبار القرون الذي تراكم عليكم، والعنكبوت التي بنت عشها في أجسامكم، وإنه ليصدق فيكم قول «أبي العلاء المعري» في الإنسان:
حق وإن كان أخا صورة
في الإنس أن يلجم أو يرسنا
وأن تسمى رجله حافرا
في واجب التشبيه أو فرسنا
وعلى ذكر غبار القرون أقول: إنهم اختلفوا فيه، فبعضهم قال: إنه مثل دقيق الحنطة، وبعضهم قال: إنه أسود مثل الكحل، ولكن هؤلاء مخطئون؛ فإن الذي جعل غبار القرون أسود قذارة نفوس من يتراكم عليهم من الناس، وهذا الغبار تزعمون أن له فعلا عجيبا، يحسب أحدكم أنه إذا أخذ قليلا منه، وصره في خرقة وعلقه على جسمه كالتميمة صار في مأمن من الحوادث وعدواتها؛ لأن فيه سرا من أسرار الحياة.
وإني أخشى لطول ما عبد القدماء الحيوانات - من عجول وكلاب - أن يكون قد صار في نسلهم شيء من صفات هذه الحيوانات. وإني أرى كثيرا من الناس فأحسب أنهم لو عاشوا في زمن القدماء لعبدهم القدماء؛ لأنهم يشابهون معبوداتهم.
فلما وصل «إبليس» في سخره إلى هذا، قلت: لو كان في السخر من دواعي الحياة ما يستفز النفوس الغافلة لاتخذت منه بوقا أستفز به نفوسنا التي لا يكاد يوقظها من نومتها نفخ إسرافيل في الصور، ومن أجل ذلك أرى أننا سنبعث يوم القيامة بعد بعث الناس كلهم؛ لأن موتنا أعمق من موتهم، ونومة القبر عندنا أعمق من نومة القبر عندهم، وليس من العجب أن نقوم يوم القيامة نحك أعيننا وأنوفنا بأيدينا، ونحن متخلفون متأخرون، فنجد أن الحساب يوم الحساب قد انتهى، وذهب أهل الجنة، وذهب أهل النار إلى النار، وبقينا ليس لنا مأوى.
ولكن السخر لا يستفز النفوس الراكدة إلا كما يستفز الميت تقطيع جثته، ولقد جاء في قصص اليونان أن هناك طائرا يدعى الفينيق إذا كبر وشاخ وحرق خرج من رماده طائر جديد. ويا ليت أن نفوسنا من صنف ذلك الطائر، فنشعل تحتها من السخر نارا تحترق فيها، ثم تخرج من رماد تلك الأنفس نفوسا جديدة، ولكن النفوس التي ملؤها البلادة والغباء لا يحرقها ولا يصقلها السخر، حتى ولو أشعلت تحتها القناطير منه، واستأجرت كل ما في الجحيم من الزبانية والأبالسة، وجعلتهم يسخرون دفعة واحدة، واشتريت كل ما في جهنم من الفحم، وأشعلته تحت هذه النفوس البليدة، فإنك لن تشعل فيها نار الذكاء.
ولقد سألت «إبليس» مرة أن يصف لي صوت الجحيم، فقال: إن أصوات الجحيم مثل صراخ إله مجنون جريح من أمثال آلهة القدماء، وسألته: ما مقدار الفحم الذي يكفي لحرق الفرد من أفراد المجرمين؟ فقال: إن المرأة الحسناء البادنة يطفئ شحمها النار. ومن أجل ذلك نشعل تحتها من الفحم أكثر مما نشعله تحت غيرها. وقد جعلنا مرة نشعل القناطير من الفحم تحت امرأة بادنة حتى نفد ما في الجحيم من الفحم، ولم ينفد شحمها. فأرسلت أحد الزبانية كي يستعير مقدارا من أخشاب أشجار الجنة وحطبها. وأحسبك لا تعلم أن الزبانية يسلخون الحسان من الفتيات والغلمان المجرمين، ويصنعون من جلودهم لباس اليد، ثم يبيعونه لأهل الترف، ويصنعون من شعر حسان المجرمين ضفائر يبيعونها لمن أصابهم القرع من المقربين إلي.
Bilinmeyen sayfa