فإنهم قد استخلصوا مثلا للغضب دواء من الفلسفة، وهو أن لا يتكلم الغضبان عند الغضب، وبهذه الوسيلة يذهب غضبه، كأنه لم يكن. انظر إلى ذكاء هذا الفيلسوف، ولا يخدعنك هراء بعض الناقدين، فإن بعض الجهلاء يقول: إنك إذا اشتريت دواء الغضب، أي: السكوت، ووضعته في وعاء لوقت الحاجة، وأردت أن تستعمله عند الغضب لم تجده. وهذا نقد فاسد غير رجيح؛ لأسباب بديهية لا لزوم لذكرها.
أما دواء الحب، فهو أن تتوهم أن حبيبك قبيح الوجه، وأنك لا تحبه، فإن هذا التوهم فعله عجيب. يا رعى الله من اخترع دواء التوهم، فإن فيه برءا من الآلام والأمراض. ألا تذكر أيها القارئ يوم آلمك ضرسك، ولجأت إلى الطبيب فعالجك، وكلما عالجك زادت ضرسك إيلاما. فلم تجد بدا من الفلسفة فتوهمت أن ضرسك لا يؤلمك، فوجدت أن هذا التوهم فيه الشفاء.
على أنه قد لا يفيد من كان ضرسه عنيدا، ولكن جزاء صاحب الضرس العنيد أن لا يفيده التوهم. ويقال: إن أحسن دواء للشقاء أن يرى الإنسان آثار الشقاء في غيره، فإنه إذا رأى حمارا في بعض أسواق المدينة قد لحقه الهزال، ونال منه الشقاء، وبدت عليه آثار الخصاصة والحاجة؛ رفه منظر هذا الحمار التعس عن نفسه؛ لأنه يجد منه شريكا له في النحس والتعاسة، فيقول لنفسه: أيتها النفس تأساء وتعزية، ألست ترين هذا الحمار التعس شريكك في الحياة والجد والسعي والعمل، شريكك أيضا في الشقاء؟
أما الفلسفة
1
التي تسكن آلام الضمير وتوبيخه، فإنها خير الفلسفة، ودواؤها خير دواء. فإنه لم يفلح رجل في ميدان الحياة، ولم تفلح أمة في مجال الاستعلاء إلا بقتل الضمير. فإن صوت الضمير عند أهل الشر بغيض، مثل نهيق الحمار في أذن «بيتهوفن»، أو مثل نعيق البوم شؤم، أو مثل نعيق الغراب عند العاشقين.
وفي حياة الضمير موت الجد والسعي، والنشاط والهمة. والسعيد من جعل ضميره آلة من آلات النصب. فالمرء في الحياة مضطر رغم أنفه إلى كثير من الشر، فكيف تستقيم له السعادة إذا لم يكن ضميره من الضمائر الخرس؟ ولما انتهى إبليس من سخره ضحك ضحك زنوج نيام من اللذة التي يجدونها في لحوم البشر.
رقص الضمائر
جعلت أماشي «إبليس» يوما في أسواق القاهرة، فرأينا حمارا عليه حمل من البرسيم، قد عالج الهزال حتى كأنه خيال يسعى، وهو يحاول أن يأكل من البرسيم الذي يحمله، ولكن لا يستطيع ذلك، فنظر إلينا نظرة الذل والمسكنة، وكأنه يقول في نظرته: أليس من الشقاء أني أكاد أنوء بحمل من البرسيم، ثم أحاول أن أعالج سغبي بشيء منه فلا أستطيع، وقد مرت علي ثلاثة أيام لم أذق فيها حلاوة الطعام، وبي من الجوع والهزال ما يبدو لعينيكما؟ فمال إلي «إبليس» وقال ساخرا: إن هذا الحمار يشبه الإنسان، وحمل البرسيم الذي على ظهره مثل الفلسفة التي تثقل ذهن المرء، ثم يريد أن ينتفع بها فلا يستطيع. كما أن الحمار يريد أن يأكل من البرسيم، فلا يجد إلى الأكل منه سبيلا.
وبعد ذلك جعلنا نمشي حتى وصلنا إلى أرض خلاء، فرأينا بها رقصا، قال «إبليس»: ذاك رقص الضمائر، كل ضمير من ضمائر الناس يرقص على النغمة التي تشابه طبعه، ورأينا الضمائر آتية زرافات ووحدانا، ثم بدأت الأركستر تعزف والضمائر ترقص، فوالله ما رأيت رقصا أغرب من ذلك الرقص.
Bilinmeyen sayfa