إهداء الكتاب
العبرة
الشرطة أو البوليس
النيابة
المحامي الأهلي
المحكمة الأهلية
لجنة المراقبة
محكمة الاستئناف
الوقف
أبناء الكبراء
كبراء العصر الماضي
المحامي الشرعي
الدفترخانة الشرعية
المحكمة الشرعية
قصر حفيد الباشا
الطب والأطباء
الطاعون
الوباء
العزلة في العلم والأدب
الأعيان والتجار
أرباب الوظائف
العرس
العمدة في الحديقة
العمدة في المجمع
العمدة في المطعم
العمدة في الحان
العمدة في المرقص
العمدة في الرهن
العمدة في الأهرام
قصر الجيزة والمتحف
العمدة في الملهى
المدنية الغربية
باريس
المعرض
القصر الكبير
الأشجار والأزهار
المرائي والمشاهد
الافتراء على الوطن
خبز المدنية
المعجزة الثامنة
من الغرب إلى الشرق
خاتمة
إهداء الكتاب
العبرة
الشرطة أو البوليس
النيابة
المحامي الأهلي
المحكمة الأهلية
لجنة المراقبة
محكمة الاستئناف
الوقف
أبناء الكبراء
كبراء العصر الماضي
المحامي الشرعي
الدفترخانة الشرعية
المحكمة الشرعية
قصر حفيد الباشا
الطب والأطباء
الطاعون
الوباء
العزلة في العلم والأدب
الأعيان والتجار
أرباب الوظائف
العرس
العمدة في الحديقة
العمدة في المجمع
العمدة في المطعم
العمدة في الحان
العمدة في المرقص
العمدة في الرهن
العمدة في الأهرام
قصر الجيزة والمتحف
العمدة في الملهى
المدنية الغربية
باريس
المعرض
القصر الكبير
الأشجار والأزهار
المرائي والمشاهد
الافتراء على الوطن
خبز المدنية
المعجزة الثامنة
من الغرب إلى الشرق
خاتمة
حديث عيسى بن هشام
حديث عيسى بن هشام
أو فترة من الزمن
تأليف
محمد المويلحي
إهداء الكتاب
ألف المؤلفون والكتاب أن يبدأوا كتبهم عند نشرها بإهدائها إلى بعض ذوي الشأن والفضل، والضعيف العاجز يهدي هذا الكتاب إلى كل من يقرؤه: من أديب يجد فيه طرفا من الأدب، وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة، وعالم يبصر فيه شذرة من العلم، ولغوي يصادف فيه أثرا من الفصاحة، وشاعر يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال.
وأهديه إلى أرواح المرحومين: الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي الشنقيطي، والشاعر البارودي، أولئك الذين أنعم الله عليهم، وأولئك الذين تأدبت بأدبهم وأخذت بهديهم. •••
وأهدي هذه الرسالة التي اختصني بها المرحوم الأستاذ جمال الدين الأفغاني بخطه الكريم منذ خمس عشرة سنة إلى جماعة أهل الفضل والأدب؛ لما تضمنته من الحث على طلب العلم وأدب النفس، ولحسن أسلوبها في كتب المودات، وهي لا تزال عندي إماما يهديني ونورا أستضيء به فأردت أن أشاركهم في هذه الذخيرة التي يحق الضن بها والحرص عليها، ونقلتها هنا بصورة خطه الشريف تخليدا لأثر تلك اليد الكريمة، وإذا قدرنا أن الشرقيين يتنافسون تنافس الغربيين في اقتناء الرسائل التي تكون قد صدرت عن بعض عظماء الرجال بخطوطهم، ويتسابقون إلى الحصول على بعض أدوات كتابتهم، ويبذلون في سبيل ذلك من الأموال والمساعي ما لا يقدر، فإني أكون قد أهديت إلى أهل الفضل هدية يعتدون بها ويتقبلونها بالقبول الحسن إن شاء الله.
صورة من خطاب جمال الدين الأفغاني بخط يده.
حبيبي الفاضل
تقلبك في شؤون الكمال يشرح الصدور الحرجة من حسرتها، وخوضك في فنون الآداب يريح قلوبا علقت بك آمالها، وليس بعد الإرهاص إلا الإعجاز
1
ولك يومئذ التحدي، ولقد تمثلت اللطيفة الموسوية في مصر كرة أخرى، وهذا توفيق من الله تعالى، فاشدد أزرها وأبرم بما أوتيت من الكياسة والحذق أمرها، حتى تكون كلمة الحق هي العليا، ولا تكن كالذين غرتهم أنفسهم بباطل أهوائها، وساقتهم الظنون إلى مهواة شقائها، وحسبوا أنهم يحسنون صنعا، ويصلحون أمرا، وكن عونا للحق ولو على نفسك، ولا تقف في سيرك إلى الفضائل عند عجبك، لا نهاية للفضيلة، ولا حد للكمال، ولا موقف للعرفان، وأنت بغريزتك السامية أولى بها من غيرك والسلام.
جمال الدين الحسيني الأفغاني
مقدمة الطبعة الرابعة
بقلم محمد المويلحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي القرشي الأبطحي التهامي المكي المدني وآله الطيبين الطاهرين، وبعد فهذا الحديث - حديث عيسى بن هشام - وإن كان في نفسه موضوعا على نسق التخييل والتصوير فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال، لا أنه خيال مسبوك في قالب حقيقة، حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم، وأن نصف ما عليه الناس في مختلف طبقاتهم من النقائص التي يتعين اجتنابها ، والفضائل التي يجب التزامها، وهذه الطبعة الرابعة بعد نفاد الطبعة الثالثة تعهدناها أيضا بما تقتضيه معاودة النظر من إصلاح مواضع النقص والإهمال، ومداركة ما لا يخلو منه كل عمل من شائبة السهو والإغفال، ومن الله التوفيق لكل حال، والتسديد في كل مقال وفعال.
العبرة
حدثنا عيسى بن هشام، قال: رأيت في المنام كأني في صحراء «الإمام» أمشي بين القبور والرجام،
1
في ليلة زهراء قمراء يستر بياضها نجوم الخضراء،
2
فيكاد في سنا نورها ينظم الدر ثاقبه ويرقب الذر راقبه، وكنت أحدث نفسي بين تلك القبور، وفوق هاتيك الصخور، بغرور الإنسان وكبره، وشموخه بمجده وفخره، وإغراقه في دعواه، وإسرافه في هواه، واستعظامه لنفسه، ونسيانه لرمسه، فقد شمخ المغرور بأنفه حتى رام أن يثقب به الفلك، استكبارا لما جمع واستعلاء بما ملك، فأرغمه الموت فسد بذلك الأنف شقا في لحده، بعد أن وارى تحت صفائحه صحائف عزه ومجده،
3
وما زلت أسير وأتفكر، وأجول وأتدبر، حتى تذكرت في خطاي فوق رمال الصحراء، قول الشاعر الحكيم أبي العلاء:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه
د هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
فقرعت سن الندم، وخففت وطء القدم، وإن في دهماء أولئك الأموات، وغمار تلك الرمم والرفات، لمباسم طالما حول العاشق قبلته لقبلتها، وباع عذوبة الكوثر بعذوبتها، قد امتزجت بغبار الغبراء، واختلطت ثناياها بالحصى والحصباء.
4
وتذكرت أن تلك الخدود التي كان يغار منها الورد فيبكي بدموع الندى، ويشتعل الفؤاد منها بنار الجوى، ويقف الخال منها موقف الخليل من النيران، أو ابن ماء السماء في شقائق النعمان،
5
ويترقرق فيها ماء الحياء وماء الشباب، قد طوى الدهر حسنها طي الكتاب، وصارت بحكم القضاء، أديما لوجه الفضاء.
وأن تلك العيون التي صادت بأهدابها الملوك الصيد،
6
فكانوا رعاة الأمم رعايا الغيد، وسحرت ببابل هاروت وماروت، ووقفت موقف الاستكانة رب الجلال والجبروت، يلتمس - والتاج في يمينه، وعرق الحياء فوق جبينه - من خلال لحظاتها قبولا، كسائل يمد لالتماس الإحسان كشكولا، قد أمست ترابا تحت الرمس،
7
كأن لم تفتن بالأمس.
وأن ذلك الفاحم الأثيث من الشعر،
8
الخاطف ببريقه سواد القلب والبصر، قد حصدته من منابته يد الزمن، فنسج الأجل منه ثوب الكفن.
وأن تلك النهود التي كأنها حقاق من لجين تزينت بحب من المرجان،
9
أو كرات من جليد بثق فيها زهر من الرمان، قد أصبحت كالمخلاة على الصدر، تحمل الزاد لدود القبر.
كم صائن عن قبلة خده
سلطت الأرض على خده
وحامل ثقل الثرى جيده
وكان يشكو الضعف من عقده
وأن تلك الرفات والعظام، من بقايا الملوك العظام، الذين كانوا يستصغرون الأرض دارا، ويحاولون عند النجوم جوارا، وتلك الضلوع التي انحنت على البطش والحلم، والشفاه التي طالما لفظت أمر الحرب والسلم، وتلك الأنامل التي كانت تبري القلم للكتاب، وتبري بالسيوف الرقاب، وتلك الوجوه والرءوس التي استعبدت الأبدان والنفوس، ووصفت تارة بالبدور وتارة بالشموس، قد تساوى الرئيس فيها بالمرؤوس، فلا تفريق اليوم ولا تمييز، بين الذليل منها والعزيز.
هو الموت مثر عنده مثل مقتر
وقاصد نهج مثل آخر ناكب
ودرع الفتى في حكمه درع غادة
وأبيات كسرى من بيوت العناكب
فرجل في غبراء والخطب فارس
10
وما زال في الأهلين أشرف راكب
وما النعش إلا كالسفينة راميا
بغرقاه في بحر الردى المتراكب
وبينا أنا في هذه المواعظ والعبر، وتلك الخواطر والفكر، أتأمل في عجائب الحدثان، وأعجب من تقلب الأزمان، مستغرقا في بدائع المقدور، مستهديا للبحث في أسرار البعث والنشور، إذا برجة عنيفة من خلفي، كادت تقضي بحتفي، فالتفت التفاتة الخائف المذعور، فرأيت قبرا انشق من تلك القبور، وقد خرج منه رجل طويل القامة، عظيم الهامة، عليه بهاء المهابة والجلالة، ورواء الشرف والنبالة،
11
فصعقت من هول الوهل والوجل،
12
صعقة موسى يوم دك الجبل، ولما أفقت من غشيتي، وانتبهت من دهشتي، أخذت أسرع في مشيتي، فسمعته يناديني، وأبصرته يدانيني، فوقفت امتثالا لأمره، واتقاء لشره، ثم دار الحديث بيننا وجرى، على نحو ما تسمع وترى، بالتركية تارة والعربية أخرى:
الدفين :
ما اسمك أيها الرجل، وما عملك، وما الذي جاء بك؟ (فقلت في نفسي: حقا إن الرجل لقريب العهد بسؤال الملكين، فهو يسأل على أسلوبهما، فاللهم أنقذني من الضيق، وأوسع لي في الطريق لأخلص من مناقشة الحساب، وأكتفي شر هذا العذاب، ثم التفت إليه فأجبته):
عيسى بن هشام :
اسمي عيسى بن هشام، وعملي صناعة الأقلام، وجئت هنا لأعتبر بزيارة المقابر، فهي عندي أوعظ من خطب المنابر.
الدفين :
وأين دواتك يا معلم عيسى ودفترك؟
عيسى بن هشام :
أنا لست من كتاب الحساب والديوان، ولكني من كتاب الإنشاء والبيان.
الدفين :
لا بأس بك، فاذهب أيها الكاتب المنشئ فاطلب لي ثيابي وليأتوني بفرسي «دحمان».
عيسى بن هشام :
وأين يا سيدي بيتكم فإني لا أعرفه؟
الدفين (مشمئزا) :
قل لي بالله من أي الأقطار أنت، فإنه يظهر لي أنك لست من أهل مصر؛ إذ ليس في القطر كله من أحد يجهل بيت أحمد باشا المنيكلي ناظر الجهادية المصرية.
عيسى بن هشام :
اعلم أيها الباشا أنني رجل من صميم أهل مصر، ولم أجهل بيتك إلا لأن البيوت في مصر أصبحت لا تعرف بأسماء أصحابها، بل بأسماء شوارعها وأزقتها وأرقامها، فإذا تفضلت وأوضحت لي شارع بيتكم وزقاقه ورقمه انطلقت إليه وأتيتك بما تطلبه.
الباشا (مغضبا) :
ما أراك أيها الكاتب إلا أن بعقلك دخلا، فمتى كان للبيوت أرقام تعرف بها! وهل هي «إفادات أحكام» أو «عساكر نظام»؟ والأولى أن تناولني رداءك أستتر به وتصاحبني حتى أصل إلى بيتي.
قال عيسى بن هشام: فنزلت له عن ردائي
13
وقد كان المعهود أن سلب المارة لا يكون إلا من قطاع الطريق فإذا هو أيضا من سكان القبور، ثم ارتداه مستنكفا مترددا وهو يقول:
الباشا :
للضرورة أحكام، وقد لبسنا أدنى من هذا الرداء في مصاحبتنا لأفندينا المرحوم إبراهيم باشا على طريقة التنكر و«التبديل» في الليالي التي كان يقضيها في البلد؛ ليستطلع بنفسه أحوال الرعية، ولكن كيف العمل وكيف يتسنى الدخول؟
عيسى بن هشام :
ماذا تريد؟
الباشا :
أنسيت أننا في الثلث الأخير من الليل، وليس من يعرفني بهذا الرداء على أبواب مصر، ولم يكن معي كلمة «سر الليل» فكيف تفتح لنا الأبواب؟
عيسى بن هشام :
كما أنك يا سيدي لم تعرف أرقام البيوت، ولم تسمع بها في حياتك فأنا لا أعرف «سر الليل» ولم أسمع به.
الباشا (مستهزئا ضاحكا) :
ألم أقل لك: إنك غريب الديار، ألم تعلم أن «سر الليل» كلمة تصدر من القلعة في كل ليلة إلى «الضابطة» وإلى جميع «القره قولات» والأبواب فلا يجيزون لأحد مشي الليل إلا إذا كان حافظا لهذه الكلمة يلقيها في أذن البواب فيفتح له، وهي تعطى لمن يطلبها من الحكومة سرا لقضاء أشغاله بالليل، وتتغير في كل ليلة، فليلة تكون كلمة «عدس» وليلة تكون «خضار» وليلة تكون «حمام» وليلة تكون «فراخ» وهلم جرا.
عيسى بن هشام :
يظهر لي من كلامك هذا أنك لست أنت من أبناء مصر؛ فما علمنا أن هذه الألفاظ تطلق فيها على غير الأطعمة، ولم نسمع أنها تدل على الإجازة للناس بالسير في ليلهم، على أن الفجر قد دنا، ولم يبق بنا من حاجة لهذه الكلمات ولا لغيرها.
الباشا :
الأمر في ذلك موكول إليك.
قال عيسى بن هشام: فسرنا في طريقنا وأخذ الباشا يزيدني تعريفا بنفسه، ويقص علي من أنباء الحروب وأخبار الوقائع التي شاهدها بعينه وسمعها بأذنه، ويذكر لي ما شاء من مآثر «محمد علي» وشجاعة «إبراهيم».
وما زلنا على تلك الحال حتى وصلنا في ضوء النهار إلى ساحة القلعة، فوقف وقفة المستكن الخاشع يقرأ سورة الفاتحة لضريح محمد علي، ويخاطب القلعة بقوله في بلاغة تركيته:
إيه لك يا مصدر النعم ومصرع الجبابرة من عتاة المماليك، ويا بيت الملك وحصن المملكة ومنبع العز ومهبط القوة ومرتفع المجد وموئل المستغيث وحمى المحتمي وكنز الرغائب ومنتهى المطالب ومثوى البطل الشهم ومقبر الملك الهمام، أيها الحصن كم فككت بالكرم عانيا. وقيدت بالإحسان عافيا، وكم أرغمت أنوفا، وسللت سيوفا، وجمعت بين البأس والندى، وداورت بين الحياة والردى.
قال عيسى بن هشام: ثم التفت الباشا إلي وقال : أسرع بنا نحو البيت لألبس ثيابي وأتقلد حسامي وأركب جوادي، ثم أعود إلى القلعة فألثم أذيال ولي النعم الداوري الأعظم.
الشرطة أو البوليس
ولما غادرنا ساحة القلعة انحدرنا في الطريق، وبينا نحن نسير؛ إذ تعرض لنا مكار يسوق حماره وقد راضه الخبيث على التعرض وسد الطريق على المارة، فكلما سرنا وجدنا الحمار في وجهتنا والمكاري ينبح بصوت قد بح حتى أمسك بذيل صاحبي يقول له:
المكاري (للباشا) :
اركب يا أفندي فقد عطلتني وأنا أسير وراءك منذ ساعتين.
الباشا (للمكاري) :
كيف تدعوني أيها الشقي إلى ركوب الحمار وما رغبت فيه قط، وما دعوتك في طريقي! وكيف لمثلي أن يركب الحمار الناهق، مكان الجواد السابق!
المكاري :
وكيف تنكر إشارة يدك التي دعوتني بها، وأنت تتكلم مع صاحبك في طريق «الإمام»، وقد دعيت مرارا من السائرين فلم أقبل منهم، ولم ألتفت إليهم لارتباطي معك بتلك الإشارة، فاركب معي أو أعطني أجرتي.
الباشا (وهو يدفع المكاري بيده) :
اذهب عنا أيها السفيه فلو كان سلاحي معي لقتلتك.
المكاري (متسافها في القول) :
كيف تجسر على هذا الكلام! فإما أن تعطيني أجرتي وإما أن تذهب معي إلى «القسم» وسترى هناك ما يعاقبونك على تهديدك إياي بالقتل.
الباشا (لعيسى بن هشام) :
إني لأعجب من صبرك على هذا الفلاح السفيه الذي استرسل معنا في سفاهته ووقاحته، فهلم فاضربه بالنيابة عني حتى تريحه من عيشته وتريحنا منه. (عيسى بن هشام) :
كيف يكون ذلك وأين القانون وأين الحكام؟
الباشا :
ما لي أراك قد شق الخوف قلبك وقطع الهلع أنفاسك، أيعتريك الخوف وأنت معي، إن هذا لعجيب منك!
المكاري (مستهينا) :
العفو! العفو! من أنت ومن غيرك، ونحن في زمن الحرية لا فرق بين الصغير والكبير، ولا تفاوت بين المكاري وبين الأمير.
الباشا (لعيسى بن هشام) :
ويحك هلم فاضربه أو دعني أقتله.
عيسى بن هشام :
أنا لا أضرب أحدا وأنت لا تقتل أحدا ما دمت معي، واعلم أنه لا تصدر منا «مخالفة» أو «جنحة» أو «جناية» إلا والعقاب من ورائها، فلا تعجب من طول صبري واحتمالي، وأقول لك ما قاله الخضر لموسى عليه السلام:
إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ، والطريقة للتخلص من سفاهة هذا السفيه أن أعطيه شيئا من الدراهم فيتحول عنا إلى سوانا، وأنا أسأل الله أن يبلغنا بيتك بالسلامة.
الباشا :
لا تعط هذا الكلب النابح درهما واحدا، وقد أمرتك أن تضربه، فإن لم تفعل فأنا أتنزل إلى ضربه وتأديبه، والفلاح لا يصلح جلده إلا بجلده.
قال عيسى بن هشام: ثم أمسك الباشا بعنق المكاري وأوسعه ضربا، وأخذ المكاري يستغيث وينادي: يا «بوليس» يا «بوليس»، وأنا أجتهد في إنقاذه من مخالبه وأستعيذ بالله من شر هذا اليوم، وأقول للباشا: ليس هذا مما يحمد عقباه، فاتق الله أيها الأمير في عباد الله، فما أتممت هذا القول حتى رأيته اشتد به الغضب وتغلبت عليه الحدة فتغير وجهه، وانقلبت حماليقه، وتقلصت شفته واتسع منخره وضاقت جبهته، فخفت أن يحمله جنون الغضب على البطش بي مع المكاري فتداركت أمري وقلت له: مثلك - أدام الله عزك - لا يتنزل لمثل هذا الفعل، فأنت أرفع قدرا من أن تمس بيدك الشريفة مثل هذه الجيفة، فسكنت بذلك من حدته، وعمدت إلى المكاري فوضعت في يده دريهمات على غير علم من الباشا وطلبت إليه أن ينصرف عنا، فما ازداد اللئيم بذلك إلا استغاثة بالشرطة واستنجادا بالبوليس.
الباشا (لعيسى بن هشام) :
ألم أقل لك إن الفلاح لا يصلحه إلا الضرب! ألم تعلم أن غاية ما ينتهي إليه أمره في رفع الألم عنه أن يعلو صياحه استغاثة بالمشايخ والأولياء! ولكن قل لي بالله، هل «بوليس» هذا الذي يناديه ويستغيث به ولي جديد؟
عيسى بن هشام :
نعم إن هذا البوليس هو ولي الأمر احتلت فيه القوة الحاكمة.
الباشا :
لست أفقه هذا المعنى، فأوضح لي حقيقة هذا البوليس.
عيسى بن هشام :
هو «القواس» الذي تعرفه.
الباشا :
وأين هذا «القواس» الذي لا يسمع النداء، فإني أرغب في حضوره ليتلقى أمري في هذا الشقي.
المكاري :
يا بوليس! يا بوليس !
الباشا (لعيسى بن هشام) : «هلم إلى مساعدته في نداء القواس.»
قال عيسى بن هشام: فقلت في نفسي: كيف أنادي البوليس وأنا أحمد الله على سكوته وسكونه، وهو بمقربة منا لا يكترث بنداء المستغيث، ثم التفت إلى الباشا وقلت له: إن البوليس هو الذي تراه أمامنا وليس يفيد فيه الآن صياح أو نداء فإنه مشتغل ببائع الفاكهة كما ترى، ولما لمح المكاري البوليس أمامه أسرع إليه وتبعه من تجمع حولنا من النظارة، فوجدوه واقفا، وفي يده منديل أحمر قد امتلأ بأصناف متنوعة مما جمعه في صباحه من باعة الأسواق في محافظته على «النظام»، وهو لاه بصاحب الدكان يأمره أن يضع في داخلها ما عرضه في خارجها من «عيدان القصب»، وفي يده عود منها يهدده به ويهزه في وجهه هزة الرمح، ثم هو يضاحك من جهة أخرى طفلا على كتف امرأة ويناغيه، حتى إذا أقبلنا نحوه أقبل علينا والمنديل في يد «وعود القصب في الأخرى».
البوليس (للجمع) :
ما هذا الصياح في الصباح، وما هذا النداء وما هذا العناء، كأن كل واحد من الأهالي يجب أن يكون له واحد من البوليس خاص بخدمته!
المكاري :
أغثني «يا سعادة الجاويش» فإن هذا الرجل ضربني ولم يعطني أجرتي، وأنت تعرفني في هذا «الموقف» وتعرف أنني لست ممن يتشاجر أو يتخاصم.
الباشا :
خذ أيها القواس هذا السفيه وضعه في السجن حتى يأتيك أمري فيه.
البوليس للمكاري :
من أين ركب معك هذا الرجل «يا مرسي»؟
المكاري :
ركب معي من جهة «الإمام».
الباشا للبوليس :
ما هذا الإبطاء في تنفيذ أمري! أسرع به إلى السجن.
البوليس (ضاحكا هازئا) :
أظنك أيها الرجل من «مجاذيب الحضرة» في «الإمام» هلم معي إلى القسم، فإن هيئتك تنبئ عن إفلاسك وعجزك عن دفع الأجرة.
قال عيسى بن هشام: وجذب الشرطي صاحبي من ذراعه، فكاد يغمى عليه من الدهشة فلم يدر ما يصنع، وأودع البوليس ما كان في يديه من الفاكهة وغيرها عند الرجل الذي أودع المكاري حماره عنده، وسار صاحبي مسحوبا بذراع الشرطي، والمكاري خلفهما ، والجمع على أثرهم إلى «القسم»، فلما وصلوا إليه وصعدوا السلم بدأ المكاري يصرخ ويصيح، فقابله أحد عساكر «المراسلة» فضربه ليسكته؛ لأن «حضرة المعاون» غريق في نومه، فدخلنا جميعا في حجرة «الصول» لضبط الواقعة فوجدناه يأكل والقلم في أذنه وقد نزع «طربوشه» وخلع نعليه وحل أزرار ثيابه. وبجانبه اثنان من الفلاحين، أظنهما من أقربائه، يشاهدان ما يتمتع به من لذة الأمر والنهي وسعة سلطانه على الكبير والصغير في عاصمة القطر وقاعدة الملك، وما في قدرته من حبس أي شخص كائنا من كان وشهادته عليه بما يجري في هواه، فطردنا جميعا من الحجرة حتى ينتهي من طعامه، فخرجنا ننتظر، وأراد الباشا أن يستند على الجدار من شدة ما ألم به من الحزن فخانته يده فسقط فوق جندي كان يكنس الأرض هناك، فأخذ الجندي في السب والشتم ودخل إلى حجرة «الصول» هاجما فقال له: إن المتهم الذي يشتكي منه المكاري تعدى علي «في أثناء تأدية وظيفتي» فضربني بكل جسمه، فأمر «الصول» بإحضاره ونادى كاتبه العسكري، فطلب منه أن يحرر «محضرين» محضر مخالفة ومحضر جنحة، وأملى عليه كلاما مصطلحا عليه لم أفهم منه حرفا، وبعد أن شهد «البوليس» الذي جئنا معه في محضر المخالفة بما ينفع المكاري في تأييد دعواه، وشهد «الصول» نفسه في محضر الجنحة بأنه شاهد المتهم يتعدى على أحد عساكر القسم في أثناء تأدية وظيفته، ختم المحضرين وأمر بالمتهم أن يؤخذ إلى «خشبة المقاس» وتحرير «ورقة التشبيه»، فجاء العسكري صاحب الدعوى وأخذ بيمين صاحبي وأجرى ذلك عليه بنفسه وأذاقه أنواعا من الأذى في مقاسه، كل هذا والباشا كالمغشي عليه من الدهشة والذهول، حتى إذا أفاق من غشيته التفت إلي يقول:
الباشا :
أنا لا أتصور في هذه الحالة التي أنا عليها إلا أن يكون اليوم يوم حشر، أو أن أكون حالما في المنام، أو أن يكون الداوري الأعظم غضب علي غضبا شديدا فأمر بإهانتي على هذه الصورة الشنيعة.
عيسى بن هشام :
لا بد لك من التسليم والاحتمال على كل حال حتى نخلص من هذه النازلة بسلام.
قال عيسى بن هشام: ولما وقفنا أمام الكاتب لتحرير «ورقة التشبيه» سأل الباشا هل له من ضامن يضمنه، فقدمت نفسي لضمانته فلم يقبلوا مني إلا بتصديق «شيخ الحارة» فحرت في أمري، ومن أين أجد «شيخ الحارة» في الحال؟ فألقى بعض العساكر في أذني أن اخرج فإنك تجد «شيخ الحارة» بالباب فأعطه عشرة قروش للتصديق على الضمانة، فخرجت ولحقني ذلك العسكري فدلني على شيخ الحارة وتوسط بيننا في مناولة أجرة التصديق، ثم اشتغل عني بمشاركة العساكر في ضرب أرباب القضايا الذين علا صياحهم وعويلهم ليخرسوهم خشية أن يوقظوا المعاون من رقاده، ثم ما لبثوا أن رأيتهم قد امتنعوا عن الضرب في أقل من لمح البصر وتفرقوا مهرولين كأن نازلا نزل عليهم من السماء، ووجدت من كان من بينهم أشد إيذاء لعباد الله وأعظم حرصا على راحة المعاون في منامه قد هجم على باب الحجرة، فدفعه بكل قواه ففتحه وأخذ يهز السرير هزا عنيفا، فاستيقظ المعاون فزعا، وعلم أن «المفتش» قد شوهد داخلا من باب القسم، فأسرع إلى ثيابه فلبسها في لحظة وهرول إلى استقباله، فلما رآه وقف «وقفة النظام»، ولكن كان من نكد طالعه أنه ذهل عند لبس «الطربوش» فلم يجعل زره جهة اليمين بل تركه فوق الجبهة، وكان الشعر قد تجدد في عارضيه؛ لأنه لم يتمكن من حلقه في يومه، فأخذ المفتش عليه ذلك ودخل إلى الحجرة مغضبا فاشتغل بكتابة تقرير لمحاكمة المعاون على مخالفته في الزي «للأوامر المستديمة».
ولما رأى الباشا سكون الضرب والصياح مرة واحدة، وما تولى العساكر من الخوف والاضطراب، وما شاهده من حركات المعاون، سألني عن شأن هذا الداخل الذي أورث ذلك الانقلاب، فأعلمته بأنه «المفتش» جاء إلى «القسم» للتفتيش والتنقيب في «الأحوال» والنظر في شكوى الشاكين، وتطبيق أعمال العمال على ما يقضي به القانون والنظام، فقال: إذا فلندخل إليه لنعرض عليه ما أصابنا من الإهانة، فدخلنا فوقفنا أمامه فوجدناه يكتب في تقريره، فالتفت إلينا وسألنا عن أمرنا، ولما بدأنا بذكر القصة أمر أحد العساكر بإخراجنا من حضرته، ثم رأيناه قد وضع التقرير في جيبه بعد كتابته ونزل مسرعا لم يلتفت في التفتيش والتنقيب لغير زي المعاون، ولما انصرف عاد الضرب والصياح والضجيج في أنحاء القسم إلى أشد ما كان عليه قبل حضوره، وصاح أحد المضروبين في شدة ألمه بأنه لا بد أن يشتكي عمال القسم إلى «النيابة»، فدخل أحد العساكر إلى المعاون ليخبره بما يقول الرجل فوضعت أذني عند الباب فسمعت المعاون يحادث نفسه بقوله: «ما هذه الخدمة وما هذا الذل؟ ولعنة الله على ضرورة الحاجة في المعاش، ومع ذلك فالحمد لله؛ إذ كان هذا المفتش من الأجانب ولم يكن من «أولاد العرب» فهو خير منهم؛ لأن عجزه في فهم اللغة وجهله بالعمل جعله يقتصر في التفتيش على طربوشي ولحيتي، ولو كان من «أولاد العرب» لاطلع على الاختلال الواقع في القضايا وما يرتكبه عمال القسم من مخالفة «الأصول»، ثم التفت إلى العسكري وسمع منه ما ينقله إليه من قول ذلك الرجل الذي عزم على الشكاية إلى «النيابة» فازداد همه واشتد غضبه، فأمر بحبس المتهمين جميعا أربعا وعشرين ساعة، والباشا داخل فيهم فذهبت إلى المعاون وكلمته فيه ليطلقه بعد ضمانتي له فأبى ذلك، وقال لي بوجه عبوس: الأولى أن يبقى في القسم إلى الغد حتى يكشف على «السوابق» ثم يرسل من هنا إلى النيابة. فدخل الباشا الحبس مع الداخلين.
النيابة
قال عيسى بن هشام: ولما تركت صاحبي في حبسه وذهبت إلى داري بت طول ليلتي في هم وأرق، وقضيت رقادي في اضطراب وقلق، لما أصاب الرجل من ضربات الدهر المتتالية وهو غريق في دهشته وحيرته لا يدرك مضي الزمن ولا يدري ما الحال، ولا يعلم بتغيير الأمور وما أحدثه الدهر بعد عهده وزوال دولته من تبدل الأحكام وانقلاب الدول، وكنت هممت أن أكاشفه بشرح الأحوال وتفصيل الأمور عند أول مصاحبتي له لولا ما دهمنا به القضاء المحتوم فأوقعنا فيما ألم بنا، ثم فكرت بعد ذلك فكان من حسن التدبير وسداد الرأي عندي أن يبقى الرجل جاهلا بالأمر حتى ينتهي من خطبه ويكون جهله بتغيير الأحوال قائما بعذره في التخلص من محاكمته، ثم عقدت العزيمة على أني لا أفارق صحبته بعد ذلك حتى أريه ما لم ير، وأسمعه ما لم يسمع، وأشرح له ما خفي عليه وغمض من تاريخ العصر الحاضر، لأطلع على ما يكون من رأيه فيه عند مقابلته بالعصر الماضي، ولأعلم أي العهدين أجل قدرا وأعظم نفعا وما الفضل الذي يكون لأحدهما على الآخر، فبكرت إلى القسم في اليوم الثاني وحملت معي ما يليق بصاحبي من الثياب ليرتديها عند خروجه من حبسه، فوجدت العسكري يستعد به للذهاب إلى قلم «السوابق» في دار المحافظة، فلما بصر بي ناداني بقوله:
الباشا :
ما هذه الخطوب والملمات، قد كنت أظن أن ما وقع لي أمس كان لسخط ولي نعمتنا الداوري الأعظم وغضبه على عبده بمكيدة كادها لي أعدائي أو فرية افتراها حسادي؛ فلذلك صبرت لحكم الضرورة، وامتثلت على تلك الصورة، حتى أتمكن من التشرب بالأعتاب، والمثول بين يدي مالك الرقاب، فأزيل الشبهة وأنفي الريبة مما رماني به الساعي والواشي، وأجلي له حقيقة عبودتي وإخلاصي، فيضاعف علي رضاه لحسن ما قمت به من الطاعة في احتمال هذا الهوان.
طال مني تحمل خلت أني
قابض من أذاته فوق جمر
ثم إني أعمد بعد ذلك إلى إفشاء العقاب، عقاب القتل والصلب في هؤلاء الأدنياء السفهاء والأشقياء الأغبياء جزاء ما اجترؤوا عليه في معاملتي واقترفوه من جهل منزلتي، ولكني سمعت في الحبس - ويا سوء ما سمعت - وعلمت - ويا شر ما علمت - أن الدول دالت والأحوال حالت، وأنكم أصبحتم في زمان غير ذلك الزمان، وفي حال من الفوضى يصح فيها قول ذلك المكاري: «إنه هو والباشا في المنزلة سواء» وتلك التي:
تصم السميع وتعمي البصير
ويسأل من مثلها العافيه
فاللهم عفوك وصفحك، هل قامت القيامة وحان الحشر فانطوت المراتب وانحلت الرياسات، وتساوى العزيز بالذليل والكبير بالصغير والعظيم بالحقير والعبد بالمولى، ولم يبق لقرشي على حبشي فضل ولا لأمير منا على مصري أمر، ذلك ما لا يكون ولا تحتمله الظنون، ثم اعلم أيها الرجل أن ذنب أولئك السفهاء فيما جنوه علي لا يعد في جانب ذنبك عندي إلا كالخردلة من الصخر، والقطرة من البحر، لكتمانك علي الأمر حتى دخلت بي بلدا هذا حاله وذاك شأنه، وأعوذ بالله منك ومن شياطين الجن.
عيسى بن هشام :
إنما أقول لك أيها الأمير أيضا ما قاله موسى للخضر عليهما السلام:
لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا
ولقد نزل بي من الخوف والذهول عند انتشارك من القبر ما أورثني التبلد والتحير، ومنعني عن تبصرتك بالواقع وتنبيهك إلى ما تغيرت به الحال من بعد عهدك، وما كدت أنتبه إلى تعريفك بها حتى دهينا بذلك المكاري ودهمنا بتلك الحادثة فلا ذنب لي فيما أتيت، والعذر مقبول لديك، فاصبر على ما تلاقيه، واحتمل ما أنت فيه، وتقبل القضاء بوجه الرضاء، ولا تأس على ما فات، لتكفر عنك السيئات.
العسكري (للباشا) :
هلم إلى «السوابق».
الباشا :
سبحان العزيز القادر، أترى قد زال عني بؤسي وانقشع نحسي ورجع إلي عزي فجاءوني بموكبي وخيلي.
عيسى بن هشام :
ليس المقصود «بالسوابق» تلك الجياد الصافنات، والعتاق الصاهلات، وإنما هو ديوان تقيد فيه سحنة المتهم وسيماه، ويكشف فيه عما جنته يداه.
العسكري (للباشا وهو يسحبه) :
لا تطل في الكلام وامش معي ساكتا ساكنا.
الباشا (وهو يمتنع) :
ما الحيلة في القضاء، وما العمل في المقدور، وكيف الخلاص وأين النجاة، ومن لي بالموت ثانية ليردني إلى راحة القبر؟
عيسى بن هشام (وهو يتضرع) :
أقسمت عليك بدفين القلعة، ووقع سيوفك في المعمعة، إلا ما قبلت نصيحتي وعملت بمشورتي؛ فلا تعارض ولا تعاند، فإن الامتناع لا يفيد ولا يزيدنا في ملتنا إلا شدة، والعقل يرشدنا أن نسلم للأقدار حيث لا عمل، وأن نلبس لكل حالة لبوسها. إما نعيمها وإما بوسها.
الباشا (ممتثلا) :
اللهم لا رأي مع القضاء.
قال عيسى بن هشام: وسرنا مع العسكري فوصلنا إلى «قلم السوابق وتحقيق الشخصية»، فرأى الباشا هناك من الشدة ما تنخلع له القلوب وتشيب منه النواصي، فجردوه من ثيابه وفحصوا بدنه عضوا عضوا وقاسوا وجهه وجسده، وحدقوا في عينيه، وصنعوا به ما صنعوا وهو يتنفس الصعداء، حتى انتهوا من عملهم، ثم سألوا عن ضمانته فلم يجدوا له ضمانة؛ لأن المعاون - قاتله الله - رد شيخ الحارة عن التصديق على ضمانتي ليجوز له الحبس، فأرسلونا مع العسكري إلى النيابة، ولما دخلنا على النائب وجدنا أمامه قضايا جمة وأصحابها مزدحمون ينتظرون نوبتهم، فانفردنا ناحية ننتظر نوبتنا أيضا، والتفت إلي صاحبي يسأل ويستفهم.
الباشا :
أين نحن الآن ومن هذا الغلام وما هذا الزحام؟
عيسى بن هشام :
نحن أمام النيابة، وهذا عضو النيابة، وهؤلاء أرباب الدعاوى.
الباشا :
وما النيابة؟
عيسى بن هشام :
النيابة في هذا النظام الجديد هي سلطة قضائية مكلفة بإقامة الدعاوى الجنائية على المجرمين بالنيابة عن الهيئة الاجتماعية، والغرض من إنشائها ألا تبقى جريمة بلا عقوبة، ووظيفتها أن تدافع عن الحق، فتظهر ذنب المذنب وتكشف عن براءة البريء.
الباشا :
وما «الهيئة الاجتماعية» التي تنوب عنها؟
عيسى بن هشام :
هي مجموع الأمة.
الباشا :
ومن هذا الأمير العظيم الذي اتفقت الأمة عليه لينوب عنها؟
عيسى بن هشام :
ليس هذا الذي تراه بأمير ولا بعظيم من عظماء الأمة، وإنما هو أحد أبناء الفلاحين أرسله أبوه إلى المدارس، فنال الشهادة فاستحق النيابة فتولى في الأمة ولاية الدماء والأعراض والأموال.
الباشا :
نعمت المنزلة عند الله منزلة الشهادة، وللشهيد في الجنة أعلى الدرجات، ولكن كيف تتصور عقولكم - وأظنكم فقدتموها - أن تجتمع الشهادة في سبيل الله والحياة في الدنيا لأحد من الناس، والذي يفوق ذلك عجبا ويزيد العقل خبالا أن يحكم الناس فلاح وينوب عن الأمة حراث، ويشهد الله أنني خرجت من شدة إلى شدة، وانتهيت من خطب إلى خطب فسلمت وصبرت، ولكن لا صبر لي على هذه الخارقة، فما أعظم الفاجعة وأشق النازلة، لقد فني مني الصبر، ومن لي بفناء القبر.
عيسى بن هشام :
اعلم أن هذه الشهادة ليست بشهادة الجهاد، بل هي ورقة يأخذها التلميذ في نهاية دروسه ليثبت بها أنه تلقى العلوم وبرع فيها، وقيمتها لمن يريد الحصول عليها ألف وخمسمائة فرنك في بعض الأحيان.
الباشا :
مه مه كأنك تريد الإجازة التي يجيزها علماء الأزهر لمن تلقى عليهم العلوم من الطلبة وفاق فيها، غير أننا ما سمعنا في دهرنا بهذه الأثمان، وما عهدنا أن الأزهر الشريف يعرف ما الفرنكات أو يفقه من العملة سوى الجرايات.
عيسى بن هشام :
ما هذه العلوم بعلوم الأزهر، ولكنها علوم إفرنجية يتلقونها في بلاد الإفرنج، والفرنك عملة تلك البلاد، ويقال لتلك القيمة عندهم: رسم الشهادة، وهي قيمة لا تذكر بالنسبة إلى كثرة فوائدها؛ لأن القاعدة في هذا النظام «أن الشهادة بلا علم خير من العلم بلا شهادة»، وصاحب الشهادة إذا قدمها للحكومة يكون له الحق في الاستيلاء على مرتب وظيفة يزيد على الدوام ويرقى.
الباشا :
الآن كدت أفهم، وأظن هذه الشهادة تعادل «أوراق الالتزام» و«سراكي الروزنامجه» في أيام حكومتنا.
قال عيسى بن هشام: وبينا نحن في هذا الحديث إذا بشابين رشيقين رقيقين قد أقبلا يخطران في مشيتهما والطيب ينتشر في الجو من أردانهما وهما يصعران خديهما كبرا واختيالا،
1
ولا يلتفتان إلى من حولهما تيها وإعجابا، أحدهما يشق الهواء بعصاه، والثاني تلعب «بالنظارة» يداه، فشخصت فيهما الأنظار، وتحولت نحوهما الأبصار، والحاجب من أمامهما يدفع الناس من طريقهما حتى وصلا إلى باب النائب، فقام لهما عن مجلسه وأمر بأرباب القضايا أن ينصرفوا من حضرته، واشتغل الحاجب بسحبهم وجرهم وطردهم ونهرهم، واشتغل النائب بطي المحاضر ورفع المحابر، حتى خلا لصاحبيه من كل شغل وعمل.
الباشا (لعيسى بن هشام) :
يظهر لي أن هذين الشابين من أكبر أولاد الأمراء أو أنهما مفتشان للنيابة كما رأينا المفتش للقسم.
عيسى بن هشام :
ما أظنهما إلا زائرين من قرناء النائب في المدرسة كما يظهر لي من شمائلهما.
الباشا :
وهذا أعجب وأعجب.
قال عيسى بن هشام: وأردت أن أخبر خبرهما وأكشف أمرهما، فانتهزت فرصة التزاحم بين الناس واشتغال الحاجب بهم فانزويت عقب الباب من وراء الستار بحيث أسمع وأرى، فسمعت هذه المحاورة بينهم:
الزائر الأول (بعد السلام والجلوس) :
لماذا تركتنا أمس أيها الخبيث من قبل أن ينتهي اللعب؟
النائب :
لأنه كان قد مضى من الليل أكثره، وعندي من القضايا ما يضطرني إلى التبكير.
الزائر الثاني :
وهل سمع أحد أن القضايا تعوق الإنسان عن مجالسة الإخوان، ومثل هذا العذر يعتذر به لغير الواقفين على أعمال النيابة وقضاياها، أولم تعلم أن فلانا وفلانا وسواهما من أقرانك لا تستغرق منه قضايا اليوم كله أكثر من ساعة واحدة، وأخص بالذكر منهم فلانا فإنه يكتفي بأن يمر عليها بلحظة منه، ويستغني عن مطالعتها ويرتكن على توقد ذهنه ونباهة قريحته وكثرة تمرنه للإحاطة بفهمها، وما دام الشقاق والنزاع قد انتهى أمره بين النيابة والبوليس فالأولى الاكتفاء بمحاضر البوليس أو إعادتها إليه لاستيفائها، ولا محل لتجديد التحقيق بعده وتضييع الوقت سدى فيما عساه أن يولد الشقاق أو يعيد النزاع مرة أخرى.
النائب :
ذلك ما أفعله ولكن لا بد من التمسك «بالظواهر والأصول» على قدر الإمكان.
الزائر الأول :
أفما عندك الكاتب يقوم في ذلك مقامك ويكفيكه.
النائب :
صدقت إن الكاتب ليكفي، والقول الصحيح أن السبب في مفارقتكم أمس وفي ترك اللعب هو أنني خسرت ما كان معي من مرتب الشهر، ونحن لا نزال في أوائله.
الزائر الأول :
تلك هي عادتك في ادعاء الخسارة دائما مهما ربحت ومهما كسبت، وما سمعت منك في عمري إلا أنك خسران، أفلم تربح مني في «اليد الأخيرة» التي كانت بيننا خمسة جنيهات؟
النائب :
وحق شرفي وذمتي ومستقبلي أني قمت من عندكم أمس بالخسارة.
الزائر الثاني :
ما علينا، ولكن قل لي هل أنت لا تزال على وعدك معنا في التوجه إلى صاحبنا لمشاهدة الرقص البلدي من فلانة المشهورة؟
النائب :
أسألك المسامحة فإنه لا يمكنني ذلك، أولا: لأن هذا الرقص الذي يعجب أولاد البلد والفلاحين لا يعجبني، وثانيا: لأني دعوت «مادموازيل فلانة» المشخصة في «الأوبرا» مع فلان وفلان المشخصين لتناول الغداء في الأزبكية عند «سانتي»، وسنذهب بعد ذلك إلى «خان الخليلي» و«قصبة رضوان» و«مقابر الخلفاء» وبعض الأماكن القديمة من البلد للتفكه والتسلي.
الزائر الأول :
دعواك الآن أنه لم يبق معك من مرتب الشهر شيء، فكيف لك بما يلزم لمثل هذا من النفقات.
النائب :
فاتني أن أذكر لكما أن معنا فلانا المحامي ومعه صاحبه العمدة.
الزائر الثاني :
وكيف يميل هذان الشخصان إلى مثل هذا المجلس الإفرنجي، أو يستريحان له وهما لا يعرفان شيئا من اللغات والاصطلاحات الأوروبية.
النائب :
ألم تعلم يا أخي أن أمنية المحامي أن يكون مصاحبا لأهل القضاء، وأمنية الفلاح أن يتحكك بنا، والرغبة عند أمثالهما عظيمة في حضور المجالس الإفرنجية وإن كلفهم ذلك ما كلفهم، وخرجوا منها على غير فائدة لهم؟
الزائر الأول (مقتضبا) :
من أين اشتريت هذا «الكرافات» «رباط الرقبة»؟
النائب :
ما اشتريته يا «مونشير» «عزيزي» وإنما جاءني مع ملابسي من عند الخياط في باريس وهو من آخر طرز.
الزائر الثاني :
هل بلغك زواج فلان بمعشوقته؟
الزائر الأول :
هل ركبت مع فلان في «الأوتوموبيل»؟
النائب :
قد وقفت لكما على سبب انتحار ابن فلان المتمول.
الزائر الأول :
أنا أعرفه فهو الغرام.
النائب :
لا.
الزائر :
المال؟
النائب :
لا.
الزائر :
المرض؟
النائب :
لا، وإنما هي سنة جديدة في شبان باريس اقتدى المسكين بها.
الزائر الأول :
وأنا وقفت لكما على سبب استعفاء فلان من وظيفته.
النائب :
سيرته؟
الزائر :
لا.
النائب :
وطنيته؟
الزائر :
لا.
النائب :
فرنسويته؟
الزائر :
لا، وإنما هي «إنكليزيته».
المحامي الأهلي
قال عيسى بن هشام: فسئمت من هذا الكلام الفارغ والحديث المقتضب وانتهزت دخول الحاجب، فخرجت من مكمني وعدت إلى الباشا صاحبي فوجدت بجانبه أحد سماسرة المحامين قد التصق به وهو يحاوره، فوقفت عن بعد أسمع ما يدور بينهما:
السمسار :
اعلم أن المحامي يدير القضاء في يده بما يريد فيعاقب من يشاء ويبرئ من يشاء، وما أعضاء النيابة وقضاة الجلسات إلا طوع إشارته ورهن كلمته وكالخاتم في إصبعه فلا حكم إلا بقوله ولا قضاء إلا بأمره، وأنت على ما أراك، رجل غريب حقيق بالرحمة والشفقة ولا يليق بالمروءة أن أدعك طعمة في أيدي بعض المحامين من أهل الطبقة السفلى الذين اعتادوا سلب أموال الناس بطرق الغش والاحتيال وكاذب الوعود والآمال، ولي صاحب معروف بين طائفة المحامين بالصدق والأمانة وله مقام سام بين القضاة والحكام، فهو صديق الناظر وجليس المستشار ونديم القاضي وخدين النائب ووكيل «البرنس»، ولو شاهدته يا سيدي مرة واحدة في اجتماعه معهم؛ في السهر والسمر ورفع الكلفة بينه وبينهم في ساعات الأنس وأوقات السرور يشار بهم، ويؤاكلهم ويمازحهم ويفاكههم ويناظرهم ويقامرهم لأيقنت في الحال أن كل طلب له يجاب، وليس لأمره من راد، فالمجرم بريء والبريء جان على حسب المراد، فقل لي حينئذ عن مقدار ما تستطيع دفعه من «مقدم الأتعاب» في تبرئتك من تهمتك والانتقام لك من عدوك.
الباشا :
أنا لا أعرف المقدم ولا المؤخر ولم يخبرني صاحبي عن هذا الحاكم القادر الذي تصفه لي فإذا استفهمت عنه ...
السمسار (مقاطعا) :
لا لزوم للاستفهام من أحد فها هو ذا حضرة المحامي قد أقبل لمقابلة «النائب العمومي»، فأنا أستوقفه لحظة للنظر في شأنك. (ويسرع السمسار إلى مكالمة المحامي بعد أن يوسع له في الطريق، ويسلم عليه بسلام الأمراء حتى يصل به إلى جانب الباشا.)
المحامي (بصوت عال) :
أنا لا أستطيع قبول التوكيل عن أحد في هذه الأيام لتراكم الأعمال وتزاحم القضايا، فلم يبق عندي وقت للطعام وللشراب؛ فكيف تكلفني أن أقبل التوكيل عن صاحبك في هذه القضية الصغيرة، وقد رفضت في صباحي هذا خمس قضايا لها شأن عظيم.
السمسار :
سألتك بحق الإنسانية وحرمة المروءة، وبما جبلت عليه من الحنو والشفقة على الضعفاء أن تأذن لأحد عمال مكتبك بمباشرة هذه القضية إن لم تتنازل لمباشرتها بنفسك؛ فإن المقصود هو تأثير اسمك وصيتك في المحكمة.
المحامي :
لا أرى في ذلك بأسا للعناية بك، والشفقة على صاحبك. (وينصرف المحامي بعد مصافحته للباشا.)
السمسار (للباشا) :
هلم فادفع عشرين جنيها.
الباشا :
ليس عندي الآن شيء من الدراهم.
السمسار :
أعطني تحويلا.
الباشا :
أنا لا أفهم لك كلاما فاذهب عني فقد ضقت بك ذرعا.
السمسار :
كيف أذهب عنك وقد تم لك الاتفاق مع حضرة المحامي أمامي؟
الباشا :
أنا لم أتفق مع أحد فاتركني وانصرف.
السمسار :
كيف تنكر اتفاقك مع المحامي بعد أن وضعت يدك في يده.
الباشا :
عفوك اللهم ولطفك! ومن يصبر على هذه الحال، أشرت بيدي في حديثي مع صاحبي فوقعت في حادثة المكاري، وصافحت المحامي فصرت مدينا بعشرين جنيها، ففي أي العوالم أنا وبين أي المخلوقات؟
قال عيسى بن هشام: ولما رأيت لوائح الغضب بدت على وجه الباشا خشيت أن يقع مع السمسار في حادثة أخرى، فأدركته ووبخت الرجل على احتياله وتوعدته بالشر ورفع الأمر إلى النائب العمومي إن لم ينته عنا، فخلفنا وانصرف، ونادى الحاجب أرباب القضايا فدخلنا فوجدنا النائب لا زال لاهيا في حديثه مع زائريه، وأشار لنا بالتقدم إلى الكاتب فتقدمت مع صاحبي وشرعت في بسط القضية، وبيان ما قاسيناه من سوء معاملة البوليس وقبح افترائه، فالتفت النائب إلى الكاتب وقال له: لا تقبل كلاما في البوليس ولا تسمع فيه طعنا بل خذ بأقواله واستمسك بتحقيقه، ثم نظر في الساعة فوجد الميعاد قد حل، فأخذ عصاه ولبس طربوشه وخرج يهرول مع صاحبيه، فقلت لصاحبي: الآن وجب أن أذهب للبحث عن أحد المحامين الصادقين من أصحابي للمدافعة عنك.
الباشا :
قل لي بالله ما هو المحامي عندكم؟
عيسى بن هشام :
هو وكيل الحكم والمخاصمة يتكلم مكانك بما تعجز عنه ويدافع عنك بما لم تعلمه ويشهد لك بما لم يخطر ببالك، وصناعته هذه صناعة شريفة يمارسها كثير من الفضلاء اليوم بيننا، ولكن قد دخل في الصناعة جماعة ليسوا من أهلها، فاتخذوا الخداع والاحتيال بضاعة للتكسب مثل هذا المحامي وسمساره، وهؤلاء بعينهم هم الذين يعنيهم علاء الدين الكندي بقوله:
ما وكلاء الحكم إن خاصموا
إلا شياطين أولو باس
قوم غدا شرهم فاضلا
عنهم فباعوه على الناس
المحكمة الأهلية
قال عيسى بن هشام: ولما حل يوم الجلسة رافقت الباشا إلى المحكمة فوجدنا في ساحتها أقواما ذوي وجوه مكفهرة، وألوان مصفرة، وأنفاس مقطوعة، وأكف مرفوعة، وشاهدنا باطلا يذكر، وحقا ينكر، وشاكيا يتوعد، وجانيا يتودد، وشاهدا يتردد، وجنديا يتهدد، وحاجبا يستبد، ومحاميا يستعد، وأما تنوح، وطفلا يصيح، وفتاة تتلهف، وشيخا يتأفف، وسمعنا ألفاظا متناقضة، وأقوالا متعارضة، ورأينا المحاميين، عن الخصمين، يشحذ كل منهما لسانه، ويقدح جنانه، استعدادا للنزال في ميادين المقال، وتأهبا للدفاع، في مواقف النزاع، ليخرج كلاهما بغنيمة البراءة في الحكم، ورفع التهمة والجرم، فانزويت بصاحبي، ومحامينا بجانبي، يذكر لنا «أصولا مرعية»، و«مسائل فرعية» وظروفا وأحوالا، وشروحا وأقوالا، ومواد وفقرات، في الجنح والمخالفات، ثم يتصفح محاضره، ويقلب دفاتره، ويقسم لنا بوكيد الأيمان، أن الباشا من تهمته في أمان، وأنا أجيب صاحبي عن كل سؤال، بما تقتضيه الحال، ولما سألني عن هذه الملحمة قلت له: هي المحكمة.
الباشا :
قد كان العهد بالمحكمة الشرعية وبيت القاضي على غير ما أرى فهل أصابها الدهر فيما أصاب بالتغيير والانقلاب؟
عيسى بن هشام :
هذه هي المحكمة الأهلية لا المحكمة الشرعية.
الباشا :
وهل للقضاء بين الناس غير المحكمة الشرعية؟
عيسى بن هشام :
للقضاء في هذه البلاد على ما تشتهي محاكم متعددة ومجالس متنوعة؛ فمنها المحاكم الشرعية والمحاكم الأهلية والمحاكم المختلطة والمجالس التأديبية والمجالس الإدارية والمجالس العسكرية والمحاكم القنصلية، دع المحكمة المخصوصة.
الباشا :
ما هذا الخلط، وما هذا الخبط، وسبحان الله هل أصبح المصريون فرقا وأحزابا وقبائل وأفخاذا، وأجناسا مختلفة، وفئات غير مؤتلفة، وطوائف متبددة، حتى جعلوا لكل واحدة محاكم على حدة، ما عهدناهم كذلك في الأعصر الأول، مع دولات الدول، وهل انطمست تلك الشريعة الغراء، واندرست بيوت الحكم والقضاء، اللهم لا كفران ولعن الله الشيطان.
عيسى بن هشام :
ليس الأمر على ما تتوهم وتتخيل؛ فلم يتفرق المصريون فرقا ولم يتوزعوا شعوبا، بل هم أمة واحدة ولهم حكومة واحدة يقضي نظام الأمور فيها بهذا النسق والترتيب في القضاء والحكم، وأنا أشرح لك جملة الحال شيئا قليلا.
أما المحاكم الشرعية فقد جردت من النظر والحكم في عامة المخاصمات، واقتصر العمل فيها على الأحوال الشخصية؛ أعني مسائل الزواج والطلاق وما يدخل في هذا الباب.
الباشا :
تالله لقد فسد الحال وانحل النظام، وكيف يعيش الناس ويستقر لهم حال بغير شرع الله وسنة نبيه، وهل أصبحتم في الزمن الذي يعنيه القائل بقوله:
قد نسخ الشرع في زمانهم
فليتهم مثل شرعهم نسخوا
عيسى بن هشام :
لم ينسخ الشرع ولم يرتفع حكمه، بل هو باق على الدهر ما بقي في العالم إنصاف وفي الأمم عدل، ولكنه كنز أهمله أهله، ودرة أغفلها تجارها، فلم يلتفتوا إلى وجوه تشييده وتمكينه وتمسكوا بالفروع دون الأصول، واستغنوا عن اللب بالقشور، واختلفوا في الأحكام وعكفوا على الاشتغال بسفساف الأمور، وتعلقوا من الدين بالأغراض الحقيرة والأقوال الضعيفة، وتركوا الحقيقة إلى الخيال وتعدوا الممكن إلى المحال، فكان من أكبرهم العالم العلامة فيهم والحبر الفهامة منهم أن يبدع في التفنن للإغماض في الحق الأبلج والتعقيد في الحنيفية السمحة، ولم ينتبهوا يوما إلى ما تجري به أحكام الزمن في دورته، ولم يفقهوا أن لكل زمن حكما يوجب عليهم تطبيق أحكام الشرع على ما تستقيم به المصلحة بين الناس، بل ظلوا واقفين عند الحد الأدنى لا يتزحزحون ولا يتحلحلون، معتقدين أن الدهر دار دورته ثم وقف، وأن الزمن تحرك حركته ثم سكن فلا أمل فيه ولا عمل، فكانوا سببا في تهمة الشرع الشريف بخلل الحكم ووهن العقد وقلة الغناء فيه؛ لإنصاف الناس في معايشهم ومرافقهم على حسب ما تتجدد به حالات الزمن، وتتخالف عليه أشكال العصور، ومن هنا تولدت الحاجة إلى إنشاء المحاكم الأهلية بجانب المحاكم الشرعية.
الباشا :
ما أظن إلا أن يكون لأهل الشرع وأصحاب التفقه في الدين عذر واضح في النزول إلى هذه الحال السيئة؛ من معارضة معارض ومنازعة منازع أو جور سلطان قاهر وعسف حاكم قاسر، فصدهم عن سواء السبيل، وأرعاهم هذا المرعى الوبيل.
عيسى بن هشام :
لم يكن من ذلك شيء على الإطلاق؛ فالإرادات مختارة، والأفكار مطلقة، والنفوس مطمئنة، والأرواح آمنة، وليس الفساد ناشئا عن طوارئ الزمان وطوارق الحدثان، ولكنه فساد في التربية عم أمره وانتشر، وانحطاط في الأخلاق عظم بلاؤه واشتهر، سكنت إليه نفوسهم وارتاحت به ضمائرهم، وقد تمكن منهم داء التحاسد والتباغض ودبت بينهم عقارب التشاحن والتضاغن، واستولى على قلوبهم الجبن والخور، وعلى عقولهم الضعف والخبل، وعلى نفوسهم الفتور والكسل؛ فوصلوا إلى الحال التي يرون بها السنة بدعة والبدعة سنة، والفضيلة نقيصة والنقيصة فضيلة، وأقاموا يتعسفون في الحكم ولا ينصفون، ويتفكهون في الدين ولا يتفقهون، وصرفهم حب المال، عن صالح الأعمال، وألهاهم ما يدخرونه من زخرف الحياة الدنيا، عما يدخر لهم في الدار الأخرى، فنحن الذين فعلنا كل هذا بأنفسنا، منا الإثم والوزر، وعلينا الذنب والإصر.
وأما المحاكم الأهلية فهي القضاء الذي يقضي على الرعية اليوم في جميع الخصومات طبقا لنص القانون.
الباشا :
القانون «الهمايوني»؟
عيسى بن هشام :
القانون «الإمبراطوري».
الباشا :
ما عهدت منك أن تعجم وتبهم.
عيسى بن هشام :
لا إعجام ولا إبهام، فهو قانون نابليون إمبراطور الفرنسيين.
الباشا :
وهل عاد الفرنسيس فأدخلوكم تحت حكمهم وسلطانهم مرة أخرى؟
عيسى بن هشام :
لا، وإنما نحن الذين أدخلنا أنفسنا في حكمهم فاخترنا قانونهم ليقوم عندنا مقام شرعنا.
الباشا :
وهل هذا القانون ينطبق حكمه على حكم الشرع الشريف والسنة المطهرة، وإلا فإنهم يحكمون فيكم بغير ما أنزل الله؟
عيسى بن هشام :
المسألة فيها خلاف، فالإجماع تام عند علماء الشريعة في السر والنجوى على أنه مخالف للشرع، وأن كل من يقضي به داخل تحت نص الآية الشريفة:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
ولكن يظهر أنه مطابق عندهم للشرع في حالة الجهر والعلن؛ بدليل ما أعلنه أحد كبرائهم عند نشر هذا القانون، وهو يومئذ مفتي نظارة الحقانية، فقد أقسم الأيمان المغلظة على فتواه التي أفتاها بأن هذا القانون الفرنسي غير مخالف للشرع الإسلامي، وإن كان لا عقاب في هذا القانون على الفسق واللواط مع رضا المفسوق به إن تجاوز عمره الثانية عشرة بيوم واحد، ولا عقاب فيه على من يزني بأمه إذا هي رضيت وكانت غير متزوجة، وهو الذي يعد الأخ مجرما جانيا إذا تعرض لحماية عرض أخته والمدافعة عنه، وكذلك بقية أهلها ما عدا زوجها، وهو الذي يقبل شهادة المرأة الواحدة على الرجل، وهو الذي لا يعاقب الزوج إذا سرق من امرأته، ولا المرأة من زوجها، ولا الولد من أبيه ولا الأب من ابنه.
وأما المحاكم المختلطة - وقضاتها من الأجانب - فهي تختص بالنظر فيما يقع من الخصومات بين الأهالي والأجانب وبين الأجانب وبعضهم في الحقوق المدنية؛ أعني في قضايا المال، ولما كان الأجانب هم أحق وأولى بالغنى لسعيهم وجدهم، وكان المصريون أخلق بالفقر وأجدر لإهمالهم وتوانيهم، كان معظم القضايا التي تحكم فيها هذه المحاكم لا بد أن تنتهي بسلخ المصري من ماله وعقاره.
وأما المجالس التأديبية فهي تختص بالنظر في عقاب الموظف الذي يخل بتأدية وظيفته - وهي تتألف في الغالب من نفس الرؤساء الذين يتهمونه - وحدها في العقاب الرفت والحرمان من المعاش، وما بقي من درجات العقاب فالنظر راجع فيه إلى المحاكم الأهلية.
وأما الجالس الإدارية فهي تختص بعقاب من يخالف اللوائح والأوامر والمنشورات، وشرح ذلك يطول.
وأما المحاكم العسكرية فهي تختص بالنظر في عقاب المتهمين من الضباط والجنود، وتحكم أيضا على الأهالي في مسائل القرعة وما شاكلها.
وأما المحاكم القنصلية فهي تختص بالنظر في الجنح التي تقع من الأجنبي على المصري ومن الأجنبي على الأجنبي من جنس واحد، فإذا وقعت جناية من أجنبي على مصري فليس لها في مصر من حكم أو عقاب، ولا تختص أي محكمة من كل هذه المحاكم التي عددتها لك بالنظر فيها، بل يرتد الجاني بالقضية إلى وطنه ومسقط رأسه وديار قومه، فينظر قضاته هناك في أمره، والغالب في مثل هذه الحال عندهم أن ينتهوا بتبرئة المجرم بعلل معلومة مثل: «عدم ثقتهم بتحقيق البوليس المصري، وضياع معالم القضية، وعدم توفر الشهود».
وأما المحكمة المخصوصة فهي تختص بمعاقبة الأهالي عند تعديهم على الجنود الأجنبية.
الباشا :
ما زلت تسمعني الغريب وتفهمني غير مفهوم، ومن أعجب ما سمعت أن المصري يتعدى على الجندي.
قال عيسى بن هشام: وبينا نحن في هذا الحديث إذ ارتج المكان وتماوج الزحام، وأقبل القاضي وهو في عنفوان شبابه وصبا أيامه؛ يتألق وجهه حسنا، ويشاكل في القد غصنا، وكأنه طائر في مشيته، من نشاطه وخفته، ولما دخل الجلسة ذهبت أسأل عن نوبة القضية ثم عدت إلى صاحبي، ومكثنا في الانتظار زمنا طويلا إلى أن جاء وقتنا ونودي الباشا فدخل مع المحامي في الجلسة، وقام النائب فطلب الحكم على المتهم بمقتضى مادتي 124 و126 عقوبات لتعديه بالضرب على أحد رجال «الضبطية القضائية» في أثناء تأدية وظيفته، وبالمادة 346 مخالفات لتعديه على المكاري بالإيذاء الخفيف.
القاضي (للمتهم) :
هل فعلت هذه التهمة؟
المتهم :
لم أفعل.
قال عيسى بن هشام: وجاؤوا بي شاهدا فسألني القاضي عما أعلمه في هذه الواقعة فأجبته:
عيسى بن هشام :
إن لهذه الحادثة قصة عجيبة وحكاية غريبة وهي أنه ...
القاضي (مقاطعا) :
لا لزوم لتفصيل القصة والحكاية، قل لي «معلوماتك» فيها.
عيسى بن هشام : «معلوماتي» هي أنني كنت أزور المقابر ذات ليلة وقت الفجر أبغي الموعظة وأنشد الاعتبار ...
القاضي (مستثقلا) :
لا لزوم لكثرة الكلام، أجبني عن النقطة التي سألتك عنها فقط.
عيسى بن هشام :
ذلك ما أفعله من حكاية الواقع وهو أني رأيت رجلا خرج من ...
القاضي (متململا) :
قلت لك: إني لا أقبل التطويل ولا الشرح في الواقعة، ولكن هل ضرب المتهم العسكري والحمار.
عيسى بن هشام :
ما ضرب المتهم الحمار وإنما دفعه عنه من شدة إلحاحه، وما ضرب العسكري وإنما سقط عليه مما غشيه بغير عمد ولا قصد وهو يجهل ...
القاضي :
يكفي، يكفي، هلم «النيابة».
النائب :
إن هذا الباشا متهم بتعديه بالضرب على أحد رجال البوليس في أثناء تأدية وظيفته بالقسم ومتهم بالتعدي بالإيذاء على مرسي الحمار، والتهمة ثابتة من شهادة الشهود التي في الأوراق، واطلاع المحكمة عليها كاف وبناء عليه النيابة تطلب الحكم على المتهم بالمادة 124 و126 عقوبات، وبالفقرة الثانية من المادة 346 مخالفات وتطلب من عدالة المحكمة التشديد في العقوبة؛ لأن حالة المتهم تستدعي ذلك، فإنه يتخيل أن رتبته تجعله خارجا عن سلطة القانون، وتخوله الحق في اعتباره بقية الناس أصغر منه شأنا فيؤدبهم بنفسه مع عدم مراعاة حقوقهم وحرمة القانون ، ولا شك أن تشديد العقوبة عليه واجب لاعتبار أمثاله به وللمساواة في العدالة، وأفوض الأمر إلى المحكمة.
القاضي (للمحامي) :
المحاماة، مع الاختصار.
المحامي (بعد أن يتنحنح ويقلب في أوراقه) :
إننا نتعجب من أن النيابة العمومية استحضرتنا اليوم بصفة متهمين، ونقول: إن أصل وقوع الجرائم يا حضرة القاضي في وضع الشرائع والقوانين في هذا العالم منذ البداوة وعصور الهمجية كان يقصد منه ...
القاضي (مشمئزا) :
اختصر يا حضرة المحامي وادخل في الموضوع.
المحامي : ... ومن المعلوم أن نظام الترتيب يا حضرة القاضي في طبقات الهيئة الاجتماعية يقضي ...
القاضي (متضجرا) :
اختصر يا بك.
المحامي :
الموضوع يقتضي ذلك.
القاضي (متأففا) :
لا لزوم له.
المحامي (متحيرا) :
قالت النيابة العمومية (ويسرد شيئا من أقوالها)
ونحن نقول: إننا لو سمحنا جدلا ...
القاضي (مغضبا) :
يكفي يا بك، الموضوع.
المحامي (متلعثما مضطربا) :
إن هذا المتهم يا حضرة المحكمة الواقف الآن بين يدي القضاء هو رجل عظيم وأمير خطير من أهل العصر القديم، وله حديث منشور في الجرائد - وهذه أعداد جريدة «مصباح الشرق» تطلعون عليها - وقد اعترضه في طريقه أحد المكارين، فدفعه عن نفسه والناس يعلمون إلحاح الحمارة وسوء أدبهم، ومثل هذه الطبقات التي ليس فيها تربية ...
القاضي (نافدا صبره) :
قلنا: اختصر يا بك.
المحامي (وهو يتصبب عرقا) : ... ولما توجه المتهم إلى القسم أغمي عليه فسقط بدون تعمد على عسكري كان يكنس أرض القسم بغير ملابسه الرسمية، وعدالة المحكمة تقضي بعدم الالتفات إلى دعوى البوليس ولا عقاب على المتهم البتة؛ لأنه كان في عصر غير عصرنا وفي نظام خلاف نظامنا، ولم تبلغه دعوة القانون فهو يجهل أحكامه وحضرة القاضي الفاضل أدرى بالأحوال، وإن ...
القاضي (منفعلا ضاربا بيده على المكتبة) :
المحكمة تنورت يا بك ولا لزوم للكلام مطلقا فهلم طلباتك.
المحامي (ساخطا في نفسه) :
طلباتنا هي «أننا نطلب من باب أصلي الحكم ببراءة المتهم، وإن رأت المحكمة غير ذلك فنرجو استعمال الرأفة بالمادة 532 عقوبات.
قال عيسى بن هشام: وبعد ذلك نطق القاضي بالحكم فحكم على الباشا بالحبس سنة ونصفا بمقتضى المادتين المذكورتين من قانون العقوبات، وبخمسة قروش والمصاريف بالمادة المذكورة أيضا من المخالفات، فضاقت الأرض بي وأظلمت الدنيا في عيني، وكدت أشترك مع صاحبي في الذهول والإغماء لولا أن المحامي أكد لي كل التأكيد أنه لا بد من البراءة في محكمة الاستئناف لعدالة رجالها، ولكن يجب مع ذلك أن نرفع عريضة شكوى إلى «لجنة المراقبة» لحسن التأثير في القضية عند نظرها في الاستئناف، ثم قال لي: اعلم أن السبب في كل ما صدر عن هذا القاضي من المقاطعة والمعاكسة والاستعجال هو؛ لأنه مدعو في وليمة بعض رفاقه عند الظهر تماما، وأمامه في جدول القضايا ثلاثون قضية يريد أن يأتي عليها كلها حكما قبل حلول الميعاد.
وأطعنا إشارة المحامي فقدمنا عريضة إلى «لجنة المراقبة»، ولما طلبنا منه أن يتوجه معنا للسؤال عما تم في أمرها تنحى عن استصحابنا، وقال: إنه كان يود مباشرة ذلك بنفسه، ولكنه يمنعه أن يعلم القاضي بسعيه في التظلم منه فيتعمد في المستقبل أذاه، وينصرف همه إلى نكايته بسبب شكايته، والمحامي في حاجة دائمة إلى اجتلاب رضاء القاضي واجتناب غضبه، فقبلت عذره، ودعوت الباشا إلى التوجه والسؤال، فأعرض ونأى بجانبه وخاطبني وهو يشتد في الإباء ويلج في الامتناع بقوله:
الباشا :
يكفيني ما قد وصلت إليه من الذل والهوان وما قاسيته من نزول القدر، وحلول الضيم بحكم القضاء من رافع السماء، وأنا أربأ بنفسي أن يجتمع عليها ذلان في سلك واحد؛ ذل المتحمل للظلم المستكن للجور، وذل المشتكي الضارع والمتظلم الخاضع، فإليك عني لا تكن عونا للخطوب، ومفتاحا للكروب، وصدق ابن يعقوب
رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، ويعلم الله لولا عذاب النار، لفرجت عن همي بالانتحار، وبودي لو يبدل حكم الحبس بالإعدام لأخلص من هذه الأوصاب والآلام، وقد عشت دهري ما علمت أن السجن يكون في عقاب الكبراء والأمراء، وإنما هو يجري عندنا في عقاب الغوغاء من الناس والسفلة من العامة، وللأمراء الامتياز على كل حال، فإن كان ثم لنا عقاب، فضرب الرقاب، وعندنا أن لقاء المنون، أليق بنا من ظلمة السجون.
عيسى بن هشام :
ما كنت أعهد من مثلك هذا الجزع والفزع، ولا أتوقع منك مثل هذا الخور والهلع، وأنت البطل الجريء والشجاع المقدم، وما الشجاعة إلا في التصبر على المكروه والتجلد للخطوب تتلقاها بوجه طلق وصدر رحب، وتترقب الفرج منها بعد الضيق.
ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال.
وأنت عندي الحازم الأرشد، والعاقل المسدد، وما العقل إلا نفاذ الرأي في كشف الملمة، وتسديد الحيلة في إزاحة الغمة، وأمامنا اليوم طرق مسنونة ووسائل مشروعة لا غضاضة علينا في ولوجها ولا مضاضة في سلوكها، واعلم أن تبدل الأزمان وتقلب الحدثان يغير من مباني الأمور ويكيف في اعتبار الأشياء فما كان يعتبر بالأمس فضيلة يعتبر في الغد رذيلة، وما كان يعده الناس في الزمن الماضي نقيصة يعدونه في الحاضر كمالا، وإن كان الشرف فيما مضى يستمد رونقه من السطوة والمنعة ويقوم ركنه على البأس والبطش، فإن الشرف اليوم كل الشرف في الاستكانة للأحكام والخضوع للقانون، فهلم نسلك سبيله ونأخذ طريقه عسانا أن ننتهي بالخلوص والنجاة، ومن القواعد المقبولة لدى العقلاء والحكماء أن يقبل الإنسان نظام الأحكام في البلد الذي اتخذه دارا واختاره مقاما.
الباشا :
لطعم الموت الزؤام
1
أهون من هذا الكلام، وللشرب من حميم آن،
2
آثر من احتمال هذا الهوان.
قال عيسى بن هشام: فاعتلت علي وجوه الآراء، في صرف صاحبي عن الامتناع والإباء، وكدت أيأس من بلوغ الغاية في باب النصيحة والهداية، لولا أن سمعنا مناديا من باعة الجرائد ينادي في طريقنا بصوت نكير، دونه صوت الحمير:
المؤيد والمقطم! الأهرام ومصر الأربعة بقرش!
الباشا :
ماذا أسمع من الأعاجيب! أأصبحت المساجد والجبال والآثار والبلاد تباع في الأسواق بالمزاد؟
قد اختل الأنام بغير شك
فجدوا في الزمان أو العبوه
عيسى بن هشام :
ما هي بالآثار ولا بالبلاد، ولكنها أسماء انتحلت أعلاما لهذه الجرائد اليومية.
الباشا :
لعلك تعني «جرائد الصيارفة ويومياتهم» أو «جرائد الالتزام» ولكن ما وجه هذه التعمية في التسمية؟
عيسى بن هشام :
ليس الأمر كما ذهبت إليه، ولكن الجرائد هي أوراق تطبع كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر تجمع وتسرد فيها الأخبار والروايات العامة؛ ليطلع الناس على أحوال الناس، وهي أثر من آثار المدنية الغربية انتقل إلينا منها فيما انتقل، والأصل في وضعها انتشار الحمد للفضيلة والذم للرذيلة، والنقد على ما قبح من الأعمال، والحث على ما حسن من الأفعال، والتنبيه على مواضع الخلل، والتحضيض على إصلاح الزلل، وتعريف الأمة بأعمال الحكومة النائبة عنها حتى لا تجري بها إلى غير المصلحة، وتعريف الحكومة بحاجات الأمة لتسعى في قضائها، وبالجملة فإن أصحابها هم في مقام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين أشارت الشريعة الإسلامية إليهم.
الباشا :
قد كنا نسمع في زماننا بشيء من هذا القبيل يقال له: «غازيته» وكانت تصدر عندنا واحدة منها بالتركية اسمها «روزنامه وقائع» وأخرى بالعربية اسمها «الوقائع المصرية» تدون فيهما المدائح والتهاني ويذكر فيهما انتقال الركاب العالي، ولكن إن كانت الجرائد قد ارتفعت اليوم إلى ما تزعم، فلا بد أن يكون قد اشتغل بها واهتم بأمرها كبراء العلماء الأعلام وعظماء المشايخ الكرام، ولنعمت الوسيلة وحسنت الطريقة في تبليغ الناس ما يصلحهم في معاشهم وينفعهم في معادهم، فعلي بواحدة منها.
عيسى بن هشام :
علماؤنا ومشايخنا، يغفر الله لهم، هم أبعد الناس عن اجتياز هذه الطريق وممارسة هذه الصناعة، وهم يرون الاشتغال بها بدعة من البدع ويعتبرونه فضولا تنهى عنه الشريعة وتداخلا فيما لا يعني، فلا يأبهون بها، وربما اختلفوا في كراهة الاطلاع عليها أو إباحته، وقد مارس هذه الصناعة قوم آخرون غيرهم فيهم الفاضل وغير الفاضل، واتخذها بعضهم حرفة للتعيش بها والتكفف على أية حالة كانت، فلا تجد بينهم وبين أهل الحرف وباعة الأسواق فرقا في الغش والخداع والكذب والنفاق والمكر والاحتيال للاستلاب والاغتيال.
عمروا موضع التصنع فيهم
ومكان الإخلاص منهم خراب
فذهب منها الغرض المقصود وسقط شأنها بين العامة بعد أن سفل قدرها عند الخاصة، وأصبح ما كان يرجى فيها من النفع دون ما تجلبه من الضرر، ومن العقلاء من لا يزال يرجو من الأيام أن تدور يوما بتهذيب هذه الحال ورفع هذه الصناعة إلى الدرجة اللائقة بها من الشرف وعلو القدر، والحكم كله للقارئين في الإقبال على ما ينفع والانصراف عما يضر
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، ثم ناديت البائع فاشتريت منه أربعا، وفتحت واحدة أقرأ على صاحبي نتفا من أخبارها فوقع نظري فيها على كلام طويل عن الحكم على أحمد سيف الدين، فأسمعته ما جاء فيه من وصف ما يقاسيه هذا الأمير من خشونة العيش في سجنه، واستدرار الدموع لما يلاقيه هذا الغلام من ضيق السجن وهو من سلالة الولاة والأمراء، ثم قلت له بعد أن انتهيت من أقوال الجريدة في استعطاف القلوب والتماس العفو.
انظر أيها الباشا كيف وصلت بنا الحال في المساواة وقد علمت ما أصاب «البرنس» أحمد سيف الدين من حكم المحاكم عليه، فكيف تترفع نفسك بعد ذلك، وتأبى الخضوع للقانون والامتثال لأحكامه والتوسل بطرقه للخلاص مما وقعت فيه.
الباشا :
ما «البرنس» ومن أحمد سيف الدين؟
عيسى بن هشام :
أما «البرنس» فهو لقب أجنبي قديم كان يتلقب به رؤساء الدولة الرومانية قبل أن يجترئوا على الأمة بانتحال لقب «إمبراطور»، ثم صار يطلق بعدهم في أوروبا على أعضاء بيت الملك وعلى رؤساء الحكومات الصغيرة، ويطلقه اليوم على أنفسهم أعضاء «العائلة الخديوية» ذكورا وإناثا، وإن كان لا ذكر له بين الألقاب الرسمية في الدولة العلية، وأما أحمد سيف الدين هذا فهو أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن محمد علي جد الأسرة الخديوية وعميدها، وقد ارتكب جناية فسحبوه إلى المحاكم، واستحق العقاب الذي يقضي به القانون فحكمت عليه المحكمة الابتدائية بالسجن سبع سنين، فاستأنف يلتمس الشفقة والرأفة من قضاة الاستئناف، فأنقصوا المدة إلى خمس، ثم استغاث بمحكمة النقض والإبرام فلم تغثه، وقد انصرفت المساعي لاتفاق أعضاء الأسرة الخديوية على التماس العفو عنه، وذهبت أمه يمينا وشمالا فلم تبق وسيلة من وسائل الاسترحام إلا سلكتها، ولكن لا وسيلة مع القانون؛ فإن سيفه ماض في كل الرقاب وسلطانه نافذ في كل الرءوس، فهل يليق بك حينئذ أن تتكبر وتترفع عن التوسل والتظلم وتأنف نفسك من السعي وراء «لجنة المراقبة» و«محكمة الاستئناف»، وقد علمت من تاريخ الأمراء وأولياء النعم ما علمت؟
الباشا :
نعم كيف لا تخر الجبال الشم، إذا استنزلوا منها الأرواي العصم،
3
وكيف لا تنشق القبور، وينفخ في الصور، وقد انحط المقام وسفل القدر، وحقت كلمة ربك على مصر: «فجعلنا عاليها سافلها»، وما دام حفيد محمد علي في السجن على ما تروي يخضع لحكم القانون، ويتوسل بتلك الوسائل وتتشفع أمه بتلك الشفاعات، فما علي من عار فيما تدعوني إليه، فاذهب بي إلى حيث تريد، وليتهم كانوا يقبلون مني أن أكون فداء لابن سادتي وأولياء نعمتي فتضاف عقوبته إلى عقوبتي.
لجنة المراقبة
قال عيسى بن هشام: فسرني من الباشا مطاوعته إياي وقبوله لنصيحتي ورضي بالتوجه إلى نظارة الحقانية، فسار معي وهو مختنق بدمعه متعثر بقدمه، ولما وصلنا إليها قصدنا مكان «لجنة المراقبة» وهممنا بالدخول في حجرة المفتشين فمنعنا الحاجب وطلب منا «الكارت».
الباشا (مستفهما) :
ما معنى هذا اللفظ الأعجمي؟
عيسى بن هشام : «الكارت» بطاقة صغيرة يطبع عليها الاسم والعمل أو الحرفة والصنعة يقدمها الزائر قبل الدخول؛ ليكون المزور بالخيار في قبول الزيارة أو التملص منها.
الباشا :
لقد كانت أبواب التظلم مفتوحة في أيامنا لكل من يطرقها، وكيف ينطبق هذا التضييق على ما تصفه لي من المساواة في الحقوق والإنصاف في الأحكام؟
عيسى بن هشام :
لا يسلم الحال من زيارة زائر بغير شغل أو من لجاجة صاحب حاجة، فوضعت هذه الطريقة ليتفرغ الحكام لأعمالهم.
الباشا :
ألم تكن هيبة الحكام وعزتهم بكافية لصد من ذكرت عن الدنو منهم والتجرؤ عليهم؟
قال عيسى بن هشام: وبادرت إلى القلم فكتبت وريقة باسم الباشا وسلمتها للحاجب، فجاءنا بعد الانتظار بالإذن فدخلنا فوجدنا أمامنا فتى من أجمل الفتيان، قد أرسل لحيته قبل الأوان، يتموج تحتها ماء الشباب، كما يتموج الضوء وراء السحاب، ولما اقتربنا منه بعض الاقتراب، رأيت في يده جريدة حساب، يجمع في أرقامها ويضرب في أعدادها، ثم يضع يده على جبهته، كمن يتذكر رقما سقط من حسبته، وعن يمينه كتاب أعجمي، وعن شماله كتاب عربي، فكتاب اليمين «لفولتير» الفرنسي الملحد، وكتاب الشمال لابن العربي المتصوف الموحد، ولما تقدمنا نحوه سألنا عن حاجتنا، فذكرت له العريضة التي قدمناها وقصصت عليه القصة وشرحت له ما عاملنا به القاضي من سوء المقاطعة في الشهادة والمرافعة، وهنا انبرى الباشا يخاطبه بقوله:
الباشا :
وأدهى ما في القضية وأمر ما في الأمر أن الذي تسمونه (النائب) اعتبر رتبتي سببا لإهانتي، وما كنت أتخيل في الأحلام أن الرتبة التي نلتها باقتحام الأخطار واحتمال المشاق تكون جريمة لا تغتفر وبرهانا قاطعا لديه في تشييد دعواه يطلب به تشديد العقوبة، فقولوا لي بالله متى كانت هذه الرتبة الشريفة تستوجب العقاب والانتقام، ومن أي صنف أنتم بين صنوف الأنام؟
قال عيسى بن هشام: ودخل أحد الزائرين في هذه الأثناء، فحمدت الله على انقطاع الكلام بسبب دخوله، وإلا فقد كان الباشا اندفع فيه، بما يتعذر تلافيه، وبعد أن سلم الزائر سأل عما حدث من الأخبار في وجه النهار، فناوله المفتش خطبة يتفكه بقراءتها، بعد أن بالغ له في بلاغتها، وما كاد يلتفت إلينا ثانية حتى وافاه أحد المفتشين من الأجانب فأطلعه على رسم في ورقة زعم أنه نقشه في أثناء مناقشة قانونية اشتد فيها الخصام واحتد الجدال، فنظر الشاب فيه نظرة وضحك له، ثم تخلص منه للاشتغال بأمرنا، فخاطب الباشا بكلام لطيف عذب ينبئ عن كرم نسبه وحسن أدبه وختم كلامه بقوله:
المفتش (للباشا) :
قد اطلعت على ظروف القضية كلها في «مصباح الشرق»، فأما القاضي فقد يكون له العذر في مقاطعة المحامي؛ لأن منهم من اعتاد أن يأتي في مرافعاته بتاريخ نشأة الخليفة وتكوين الجمعية البشرية، وما يجري هذا المجرى مما يطول شرحه ويمل سماعه، ولا يكون له أقل ارتباط بجوهر القضية، وهم يستعملون ذلك في أيسر القضايا وأدناها؛ ليقتنع صاحب القضية أن المحامي لم يدخر لديه كلاما يقال في الدفاع عنه بقطع النظر عن ربح القضية أو خسرانها، فترى أرباب القضايا يعتقدون أن المحامي لا يستحق أجره من المال، إلا بكثرة ما يقال، كالسلعة يكون تقدير ثمنها، على كمية وزنها، قد توقف بعضهم مرة عن دفع المتأخر من الجعالة المحامية بعد أن ربح له القضية بدعوى أنه لم يسمع منه كلاما مطولا في المرافعة يستحق عليه الأجر سواء أكان مفيدا أم مضرا بها، وليس يخفى أن وقت القاضي قصير ثمين فلا يسعه إلا المقاطعة على المحامي المكثر في كلامه، وكذلك تكون المقاطعة على الشاهد لتوجيهه إلى وقائع الحادثة؛ لئلا يفوتها بالخروج عنها، وحاصل الأمر أن القاضي لم يخالف القانون بشيء فيما أتاه معكم.
الباشا :
ليت شعري إذا اعتذرت عن القاضي في مقاطعته، فما العذر في وضعه لي في «قفص المتهمين» وتقييده لي بالقيام عند كل سؤال، وأنا رجل شيخ معمر، وقد قضيت عمري في المناصب العالية بالحكومة المصرية، وبذلت دمي في خدمة الأسرة الخديوية؟ فهلا كان وقرني لسني واحترمني لقدري، وأي قانون في الدنيا يمنعه من ذلك، وتوقير السن طبيعي واحترام المقامات أمر أصلي، والله تعالى يقول:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات .
المفتش :
ذلك ما يقضي به القانون أيضا؛ فإنه قائم على المساواة بين الناس، ولا فرق عنده في المقامات والأعمار، وهذا عين ما يأمر به الشرع الشريف وعين ما يجري على أعضاء الأسرة الخديوية، وخاصة الحكام إذا ارتكب أحدهم ما يؤاخذه القانون عليه، ولا معرة عليك ولا غضاضة في وقوفك أمام القاضي، فإنما تقف أمام النائب عن الحضرة الخديوية وهي أكبر الدرجات.
الباشا :
إن كان هذا حكمكم في القاضي، فما الحكم في عضو النيابة الذي عيرني بشرف رتبتي؟
المفتش :
أنا لم أطلع بعد على أوراق القضية وتفصيل المرافعة، ولكن ما انتشر في «مصباح الشرق» من كلام (النائب) لا يؤخذ منه معنى التعيير بالرتبة، بل كان غرضه أن يثبت أن الرتبة مهما عظم شأنها لا يكون من حقها هضم حقوق الضعفاء والامتياز بها على الناس أمام القانون ، فإنها قاصرة على صاحبها لا تجعل له سبيلا على محروم منها، ولا بأس عليكم من كلام النائب في هذا الباب، فإنه جرى بيننا مجرى العادة في هذا العصر.
الباشا :
إذا كان للقاضي العذر وللنائب الحق، فما فائدة تظلمي لكم وحضوري أمامكم؟ أفما كان من اللائق أن تزجروا القاضي وتؤنبوا النائب وتفحصوا القضية، وتتثبتوا من بطلان التهمة وتنقضوا ذلك الحكم أمامهما؟
المفتش :
ليس ذلك من اختصاصنا، وإذا وقع من أحد رجال المحاكم ما يخالف واجب وظيفته، فالنظر في أمره موكول إلى «مجلس التأديب» ولا سبيل لرئيس على مرءوس إلا بحكم من المحكمة، وأنا آسف غاية الأسف لعجزنا عن التصرف في قضيتك، والحكم فيها راجع إلى محكمة الاستئناف وحدها.
قال عيسى بن هشام: وكنت أشاهد في أثناء هذه المحاورة شابا آخر بجانبنا من المفتشين يسطع «طربوشه» احمرارا، ويقلب طرفه ازورارا، تلوح على وجهه مخايل الإمارة، ولا تنفك يده في رفع وخفض «للنظارة» وتشهد عليه سيماه بالتفنن في التدبير، وتدل على قوة الدهاء والتفكير، فلما وصلنا إلى حيث وقف بنا الكلام رأيناه ينادي الحاجب ويقول له:
المفتش الثاني :
علي «بدللوز» و«وجارو».
الباشا (لعيسى بن هشام) :
هل هذان الاسمان يطلقان على القاضي والنائب؟ وهل ترى هذا الشاب هب للانتصاف لي منهما؟
عيسى بن هشام :
هذان اسمان لكتابين في فقه القانون بدل «ابن عابدين» و«الهداية» في فقه الشرع.
وحضر خازن الكتب بالكتابين فرد المفتش له أحدهما وقال له: ما طلبت «بودري» بل طلبت «جارو»، ولما جاءه به أخذ يبحث في الكتابين طويلا ثم نظر للخازن نظرة اليائس وقال: ائتني «بفوستن هيلي» فأتاه بكتاب آخر فخرج منه بعد النظر الطويل إلى المناقشة مع زميله باللغة الفرنسية، وانتهى الأمر بينهما أن قالا للباشا معا: لعل لك عذرا في القانون يمكنك أن تدلي به إلى الاستئناف في قضيتك، وأما ما يختص بالقاضي والنائب فسنضع له «نوته» (مذكرة) ونقدمها إلى اللجنة عند انعقادها، فإذا تبين لها أقل خلل في تصرفهما أصدرت منشورا إلى جميع المحاكم بعدم اتباع ذلك في المستقبل.
ثم ودعانا بالاحترام والتعظيم وخرجنا والباشا يقول:
الباشا :
قد كتب علي أن لا أخرج من هم إلا إلى هم، ولا أنتهي من كدر إلا إلى كدر حتى كاد يصفو بالي ويخلو خاطري لكثرة ما تراكم علي من الهموم والأحزان:
فإني رأيت الحزن للحزن ماحيا
كما خط في القرطاس رسم على رسم
ومن البديع الغريب في أمر هذه الحكومة الحاضرة أنني ما وضعت قدمي في دائرة من دوائرها إلا رأيت أمامي غلمانا وفتيانا يتولون أمورها ويتصرفون في أعمالها، فهل خلق المصريون خلقا جديدا أم صاروا في الجنة استوت فيها الأعمار؟
عيسى بن هشام :
لا تعجب من تقلد الشبان لمناصب الحكومة؛ فإن نظام هذا العصر يقضي بذلك، وهم يزعمون أنه ليس في استطاعة الكهول والشيوخ أن يقوموا بأعباء المناصب لخلوهم عن علومها الجديدة، وجهلهم بفنونها الحديثة.
الباشا :
كيف يدعون أن العلم ينحصر في الشبان دون الشيب، وما عهدناه إلا في من أحنت السنون ظهورهم، وبيضت التجارب مفارقهم فابتسم فيها بياض الرأي والأدب.
عيسى بن هشام :
هم يقولون إن العلم والمعرفة لا يختصان بسن دون سن ولا عمر دون عمر، وربما كان الشاب أنفذ سهما في حلبة العلوم وأجمع لشتات الفنون لما يختص به من حدة الذهن وسرعة الإدراك، فإذا انصرف بهمته إلى الدرس كان نصيبه منها أبلغ من نصيب الكهول والشيوخ، وأغناه ذلك عن طول الممارسة وكثرة التجارب التي يمتاز بها ذوو الأسنان والأعمار.
ليس الحداثة عن علم بمانعة
قد يوجد العلم في الشبان والشيب
الباشا :
ولنرجع إلى شأننا فقد اتبعت آراءك وامتثلت نصائحك، وعرضنا أمرنا للجنة المراقبة فخرجنا منها بالخيبة كما ترى، فليس لنا بعد هذا التعب إلا الركون إلى راحة اليأس، ولم يبق لك بعد اليوم وجه في أي احتجاج وجيه توجهني به، وتسحبني معك للسعي والتظلم أمام الحكام.
عيسى بن هشام :
لا تيأس ولا تقنط فإن أمامنا محكمة الاستئناف ولي اعتماد عظيم على إنصافها في الأحكام، ولو خاب فيها الأمل، على الفرض والتقدير، فلا يزال عندنا باب العفو مفتوحا نلتمسه بوساطة ناظر الحقانية.
الباشا :
لا تذكر لي من الآن حاكما ولا ناظرا، فقد سئمت وقوفي أمام هؤلاء الغلمان والشبان مهما بالغت لي في الوصف واستشهدت فيهم بالشعر.
عيسى بن هشام :
ليس ناظر الحقانية الذي أذكره لك من صف هؤلاء الشبان وطرازهم، بل هو رجل كهل عاكف على العبادة منكب على الأوراد منصرف إلى الأذكار، يمسي ليله قائما، ويصبح نهاره صائما، فبين السبحة وأصابعه عهد وميثاق، وبين السجادة وجبهته ارتباط والتصاق.
وبالجملة فهو يذكرنا في هذا العهد الجديد بعهدكم القديم، وأبوه رجل من أكابر رجالكم اسمه حسن باشا المناسترلي.
الباشا :
حسن المناسترلي! ذاك خليلي وقريني، وصاحبي وخديني، ورفيقي في الخدمة وأخي في الحكومة، ولماذا لم تخبرني عن ابن أخي هذا من أول الأمر فتكون قد حقنت ماء وجهي، وأنقذتني من كل هذه الإهانة وذلك التحقير؟
عيسى بن هشام :
ما غاب عني أن أذكرك به؛ فإنه لم يكن له أقل نفع يدفع عنا ما تقلبنا فيه من المصائب، وإنما نفعه يكون في آخر الدرجات ولا عمل نرجوه منه في مساعدتنا إلا بعد صدور حكم الاستئناف والسعي في التماس العفو من ولي الأمر.
محكمة الاستئناف
وآن أوان الجلسة في الاستئناف، فسرنا في طلب العدل والإنصاف، وكل واحد منا مشغول بحاجته، لاه بنازلته، فالباشا يفكر في مصيبته، ويتألم من بليته، والمحامي يدبر في أمره، ويتطلع لأجره، وأنا أسأل الله لنا النجاة، من مكايد الحياة، ولما وصلنا إلى حي «الإسماعيلية» ورأى الباشا دورها ومبانيها، وشاهد قصورها ومغانيها، واستطاب رياضها وحدائقها، واستنشق رياحينها وشقائقها، استوقفنا سائلا مبهوتا، واستنطقنا بعد أن كنا سكوتا، فقال: ألا تخبراني عن موضع هذه الجنة الزاهرة، من مدينة القاهرة، فقلت له: هذه «الإسماعيلية» اختطها إسماعيل، فيما اختطه لزينة وادي النيل، يسكنها اليوم جماعة من العظماء، ذوي الغنى والإثراء، وقد كانت في أيامكم خرابا قفرا، لا تحمل بيتا ولا ترفع قصرا، ولا ترى فيها من النبات غير الطلح والضال،
1
ولا من الأزهار غير شوك القتاد أو شوك السيال،
2
ولا من الطير غير البوم والغربان، أو الرخم والعقبان، ولا تجد فيها من الإنس إلا لصا سالبا، أو مغتالا ناهبا، أو فاتكا متأهبا، أو كامنا مترقبا.
الباشا :
لله در المصريين لقد ابتسم لهم الدهر، فأبدلهم من الشوك الزهر، وأسكنهم هذه القصور العالية، بعد تلك الأطلال البالية.
المحامي :
أيها الأمير لا تغبط المصري على نعمته، وتعال فابك معنا من نقمته، فليس له في هذه الجنة من دار، يقر له فيها من قرار، وكل ما تراه من هذا الجانب، فهو ملك للأجانب.
الباشا :
لله أبوك كيف يختص الأجنبي دون الوطني بهذه الجنان الناضرة، ويستأثر دونه بهذه المساكن الفاخرة، ولعلك تلغز في قولك وتحاجي، وتعمي في تعبيرك وتداجي.
المحامي :
لا تحجية ولا تعمية، بل هكذا قدر المصري لنفسه، وتبدل سعده بنحسه، واقتنع من دهره بالدون وبالطفيف، ورضي بالقسم الخسيس الضعيف ... فبات محروما تحت ظل إهماله وخموله، وغدا بائسا في سباته وذهوله، وما زال الأجنبي يسعى ويكد، ويعمل ويجد، وينال ثم يطمع، ويسلب ثم يجمع، والمصري يبذر بجانبه ويسرف، ويبدد ويتلف، ويتحسر ثم يلهو، ويعجز ثم يزهو، ويفتقر ثم يفتخر، فتساوى السيد والمسود، وتشابه الحاسد والمحسود، وتعادل الرفيع والمنيع، بالحقير والوضيع، واشتركنا كلنا على السواء، في منازل الشدة والبلاء، وأصبح نصيب القوي المكين، مثل نصيب الضعيف المستكين، وكذلك تكون عاقبة من يلقي للأجنبي بيديه، ومن أعان ظالما سلط عليه.
ومن يجعل الضرغام بازا لصيده
تصيده الضرغام فيما تصيدا
قال عيسى بن هشام: وما كاد ينتهي رفيقاي من خطابهما، ويفرغان من سؤالهما وجوابهما، حتى مر بنا راكب دراجة تنساب به كالصلال
3
في بطون الرمال، ويتمايل بها تمايل النشوان مالت به نشوة الخمر، وينثني انثناء الأغصان، هزها نسيم الفجر، فامتلأ الباشا، تعجبا واندهاشا، وسألنا الشرح والبيان، عن أمر هذا «البهلوان»، فقلت: هذه عجلة حادثة يختارها بعض الناس، على المركبات والأفراس، ومما يرغبهم فيها أنها لا تأكل ولا تشرب، ولا تهزل ولا تتعب، وهذا الراكب رجل من أهل القضاء، يركبها لرياضة الأعضاء، فأتبعه الباشا نظره فوجده قد سقط فجأة من فوق دراجته، فانفرط عقد الهيئة على سطح الأرض إلى ثلاثة أقسام: الراكب والعجلة والطربوش، ثم رأيناه تماثل للقيام فلم شعثه، وحاول أن يعلو الدراجة ثانية فلم يقدر عليها فسحبها بيده يجرها ويماشيها، وأخذ الباشا يخاطبنا فيه وفيها.
الباشا :
يا حبذا لو عدنا من حيث أتينا، وكنا مطلقين لا لنا ولا علينا، وكيف يكون شأن القاضي أو الحاكم إذا كان هذا منظره وذاك مركبه أمام أعين العامة، وهل حكم الناس يوما بغير أبهة الحجاب وعظمة المناظر وفخامة المواكب، وقد كان الحاكم أو القاضي لا يركب في عصرنا إلا في موكب تحف به الحشم والأعوان، وتتقدمه الجنود والفرسان، فترتجف منه القلوب رعبا، وتخر له الأعناق رهبا، وقل من يجترئ من الناس على ارتكاب ما يقفه أمامه يوما موقف التهمة والارتياب.
عيسى بن هشام :
ذاك عصر مضى وحكم انقضى، ولقد تفنن أهل العصور الماضية في وصف ما تذكره من منظر الأبهة والجلال وهيئة العزة والوقار؛ حتى أدخلها الشعراء في مخالصهم البديعة، كقول أبي الطيب في ممدوحه مثلا:
جمح الزمان فما لذيذ خالص
مما يشوب ولا سرور كامل
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ
يته المنى وهي المقام الهائل
المحامي :
قد آن أن نفرغ من هذا الحديث فقد اقتربنا من المحكمة.
عيسى بن هشام :
ولعلنا نجدها بإذن الله في مكانها، فقد تعودت التنقل من مكان إلى مكان حتى أشبهت خيام العرب:
يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال
عذيب يوما ويوما بالخليصاء
ثم اقتربنا فوجدناها، وأقمنا في ساحتها ننتظر نوبتنا بين أرباب القضايا حتى نودي علينا، فتقدمنا للجلسة أمام ثلاثة من القضاة، فأخذ الأجنبي منهم يقرأ «ملخص القضية» بلهجة أعجمية، وحروف لم تستوف مخارجها فقال: «إن هذا الرجل متهم بالتعدي على فلان العسكري بالضرب في أثناء تأدية وظيفته في يوم كذا من شهر كذا والمتهم أنكر، وشهد المجني عليه ودل الكشف الطبي على وجود علامات فيه للضرب، والمحكمة الابتدائية حكمت عليه بالحبس سنة ونصفا بالتطبيق على مادتي 124 و126، عقوبات فاستأنف المحكوم عليه.»
ولما سألت المحامي عن هذا التلخيص الغريب قال لي: هكذا تجري العادة هنا، فيأخذ مثل هذا القاضي الأجنبي عبارة الديباجة المذكورة في الحكم الابتدائي، فيجعلها تلخيصا للقضية، ثم يكتبها بعربيتها بحروف أجنبية ليقرأها أمام الجلسة على نحو ما رأيت.
ثم التفت رئيس الجلسة إلى الباشا وسأله عن اسمه وسنه وصناعته ومحل إقامته، وأشار إلى النيابة بالكلام فشرع النائب في شرح القضية على ما يوافق هواه، ولم نسمع من الرئيس مقاطعة له في كلامه كما يكون في المحاكم الابتدائية «والسر في ذلك أن بعض القضاة الذين لم يكونوا اطلعوا على أوراق القضية في الاستئناف هم في حاجة إلى العلم بها من أقوال النائب فيتركوه وشأنه في التطويل والإسهاب»، ثم أذن الرئيس بالكلام للمحامي مع الإيجاز، فابتدأ المحامي بسرد أقواله في أوجه الدفاع عن المتهم، وكلما وصل إلى النقطة المهمة في دفاعه قال له الرئيس: «الموضوع» «طلباتك»، ولما تكرر منه وقوع ذلك رأيت أحد القضاة ينبه الرئيس إلى أن كلام المحامي في عين «الموضوع» «وللرئيس العذر؛ لأنه لم يطلع على تفصيل القضية ولم ينصت لأقوال النيابة»، ثم نطق الرئيس بعد ذلك بقوله: «سمعت القضية والحكم بعد المداولة»، فانتقلت الجلسة إلى حجرة المداولة، وخرجنا ننتظر، وسألت المحامي عن المدة التي تنقضي في المداولة فأجابني:
المحامي :
لا تزيد مدة المداولة في الغالب عن ساعة واحدة.
عيسى بن هشام :
وما هو متوسط عدد القضايا في الجلسة؟
المحامي :
متوسطها عشر قضايا.
عيسى بن هشام :
وهل تكفي هذه المدة للاطلاع على ما تحتويه القضايا الجنائية من كثرة الأوراق؟
المحامي :
نعم تكفي عندهم، وطالما اطلعنا على القضايا التي تعود من عند القاضي «الملخص» إلى قلم الكتاب لاطلاع المحامين، فنجد عليها رمزا بأحد هذه الأحرف: «ب» «ع» «ت»، فالباء إشارة إلى البراءة، والعين إشارة إلى العقوبة، والتاء إشارة إلى تأييد الحكم الابتدائي، وإنما يضع القاضي هذه الرموز حتى لا ينسى رأيه في القضية عند عرضه على زملائه في المداولة، فإذا عرضه عليهم لم يضع الوقت بينهم سدى في البحث والمناقشة ، ولكن لما كان القاضي الجنائي له الاستقلال المطلق في الحكم بما يرتاح إليه ضميره وتطمئن به نفسه كان من الواجب عليه أن يسلك غير هذا الطريق، ويفحص أدلة الثبوت وأدلة البراءة بنفسه، فيعرضها على ضميره وهو خال من كل اعتقاد خاص للبراءة وللتهمة، حتى إذا استقامت لديه الأدلة حكم بما يغلب عليه منها، لا أنه يجري في طريق التسليم لرأي غيره، ولا أن يكون الحكم مبتوتا في القضية بأحد هذه الأحرف الثلاثة التي عنت للقاضي الملخص وهو يمر عليها في انفراده ببيته مر السحاب.
قال عيسى بن هشام: وبينا نحن في هذا الكلام؛ إذ عادت الجلسة إلى انعقادها فدخلنا لسماع الحكم فنطق الرئيس ببراءة الباشا؛ لأن التهمة وإن كانت ثابتة عليه إلا أنه قد حالت دونه ودون دعوة القانون قوة قاهرة، فخرجنا مسرورين بهذه النعمة، وخرج الباشا وهو يقول:
الباشا :
لا أنكر اليوم أن العدل موجود ولكنه بطيء، لا يتحمل أعباء بطئه البريء، وكان الأولى في هذه المحاكمات أن تكون النهاية في البداية، فلا يلحق من كان مثلي هذا الهوان والصغار، ويقع به ما وقع من الحبس والعار، بعد أن يقف موقف التهمة والإجرام، ويحل به ما يحل من التعذيب والإيلام.
المحامي :
إني أهنئك بهذه البراءة وأسأل لك دوام العافية من مصائب الاتهام، ولا زلت تخرج من كل قضية خروج السهم من قوسه، والسيف من غمده، وقد مضى مني الدفاع وبقي عليك الدفع.
قال عيسى بن هشام: وما زال المحامي عاكفا علينا يطالبنا بالأجر، والباشا يعده لآخر الشهر، حتى يأتيه بعض خدمه وأتباعه، بمال من عقاره وضياعه، والمحامي يأبى التسويف والإمهال، وإلا الدفع في الحال.
المحامي (للباشا) :
أتظن أن هذه الوعود، تقوم لدينا مقام النقود، في بلد كثر فيه الإنفاق وزادت الضرورات، وقل فيه الربح كما قلت المروءات، وصار الدرهم أعز عند الأب من بنيه، وعند الابن من أبيه، ولقد تعبت في القضية تعبين باللسان وبالجنان، ولا أستريح منهما إلا بنقد الأصفر الرنان، وإنك لا تصرفني - وإن كنت محمود الخلق - بالوعد، ولكنك تصرفني - وأنا أحمد - بالنقد، وإني لا أريد أن أسكن في بيت المتنبي: أنا الغني وأموالي المواعيد.
فلا تجعل الخلاص من قضية بقضية، والفكاك من بلية ببلية، فذلك ما لا يأتيه العقلاء، ولا يرتضيه الأمراء.
قال عيسى بن هشام: ولما رأيت الباشا لم يقدر على التلفظ، من شدة الحنق والتغيظ، وقفت بينهما وقفة الأريب، وتوسطت توسط اللبيب، فنلت بلطف الالتماس والرجاء، رضاء المحامي بالمهلة والإرجاء، إلى أن ينتقل الباشا من العوز والعسر، إلى الغنى واليسر، وقلت له ما يقال له في باب المروءة والهمة، من وجوب الحنو على من يقع في مصيبة أو ملمة، وأن من تذكر الدهر وغيره، والزمان وعبره؛ لانت عريكته، وطاوعت شكيمته، وليس بين صعود المرء ونزوله، وإشراق سعده وأفوله، وبين غناه وفقره، وصفوه وكدره، إلا مسافة انقضاض القضاء، من رب السماء، فنظر إلي الباشا نظرة الاحتقار والازدراء، وخاطبني بالأنفة والكبرياء:
الباشا :
لبئس الخدين أنت والقرين، كيف تسمني بسمة الفقراء، وتستعطف علي قلوب الضعفاء، وأنا الأمير السري والغني المثري، وأين ما ادخرته في عمري، واكتنزته في عصري، من مال وعقار، وفضة ونضار، وقصور وضياع، وزخرف ومتاع، ولقد كان يضرب بغناي المثل، فإن كنت جاهلا بي فسل، اذهب فأتني بخبر ما خلفت وأبقيت، وأثر ما جمعت واقتنيت، وكيف يخفى عليك وعلى المحامي ما لي من الأموال والعقار، وما قضيت فيه العمر من الجمع والادخار؟ فإني يشهد الله ما تركت حيلة، ولا أغفلت وسيلة، في الحصول على الإثراء والغنى، حتى جمعت منه كثيرا مما تفرق على الورى، فجعلته عدة لشد أزري، وأمانا لي من مصائب دهري، وتركته ذخيرة لأبنائي وحفدتي، وميراثا لأعقابي وذريتي؛ ليكونوا من ذل الحاجة في جنة،
4
ومن نعيم العيش في جنة، وتركتهم على ذلك مطمئن القلب مستريح الفؤاد، رفيع الذكرى رفيع العماد.
المحامي :
إنا لنعلم، يا معشر الأمراء والحكام، أنكم قضيتم الأعمار في جمع الحطام واتخذتم الحكم والسلطان تجارة من التجارات وبضاعة من البضاعات؛ تربحون منها الغنى والثروة، ولم تكونوا تعلمون للحكم من مزية سوى اكتناز الأموال، واستلاب الحقوق، وابتزاز الدراهم من دماء الأرامل والأيامى، وانتزاع الأقوات من أفواه الأطفال واليتامى، وكنتم سواء عليكم أحزتم المال من حله أم غير حله لم تبالوا بالضعيف المسكين، ولم ترثوا للعاجز المستكين، بل ظلمتم البريء وبرأتم الظالم فجمعتم لديكم من أثر ذلك ما لا يقدر من الأموال، ورضيتم بالوزر وطوقتم أعناقكم بالإصر، ثم حرمتم بعد ذلك على أنفسكم التمتع بما جمعتموه وحرمتموها من كل ما حزتموه، ولم تكونوا من الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، ولم تؤدوا ما فرضه الله عليكم فيها من الحقوق، ولم تطهروها بزكاة، ولم تزكوها بإحسان، وأطربكم رنين الدرهم فوق الدرهم، وصمت الدينار مع الدينار، وأبدعتم ما شئتم في وسائل وطرائق يأباها الله لعباده ويمقتها، ويستبشعها الإنسان ويستفظعها، لسلب ما سلبتموه وكنز ما كنزتموه بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، واجترأتم على الله في أوامره ونواهيه، وكلفتم العلماء بتأويلها على أهوائكم فأولوها لكم لانحصار الأرزاق في أيديكم واحتياجهم إلى ما يقتاتون به من فضلات عيشكم، فالوزر عليكم وعليهم، ولكنه عليكم أعظم وفوقكم أثقل، حتى إذ انقضى العمر وحل الأجل تركتم ما خلفتموه لغلمة من أولادكم وصبايا من جواريكم نشأوا بينكم على الحرمان، ولم تثقفوهم بالتعليم، ولم تتركوهم للزمن يؤدبهم، وللأيام والليالي تهذبهم، فكنتم في أعينهم كالرصد الذي يكون على باب الكنز - كما يقال في الأقاصيص - يحتالون لنقله بقتله، فإذا استراحوا منكم بالموت أو القتل مزقوا أموالكم انتقاما منها ومنكم، وفرقوا شملها في أدنى من لمحة؛ جهلا منهم بوجوه التصرف وأبواب التمتع، فما هو إلا أن يتسابق الدود والورثة في أحشائكم المدفونة، وأحشائكم المخزونة، فيسبق الورثة الدود، في الصدور والورود، فتذهب البدرة وراء البدرة، والضيعة بعد الضيعة، والدار عقب الدار، حتى إذا لم يبق إلا بيت السكن أتوا على ما فيه من الأثاث بيعا وما في أعناق الجواري من الجواهر والقلائد رهنا، ولا يزالون يخلون من البيت حجرة إثر حجرة، والدائنون يدخلون فيه خطوة إثر خطوة، إلى أن يندك بناؤه ويعفو أثره ويزول اسم بانيه الذي ارتكب ما ارتكب من الذنوب لتشييده ودوام بقائه، وهو يشيع منهم باللعنتين في الحالتين حالة الخلاص منه بالتشييع إلى القبر، وحالة أسفهم على إهماله إياهم من تثقيف العلم بما كان ينفعهم في خشونة الفقر.
هذه أيها الأمراء عاقبة ما صارت إليه أموالكم ومقتنياتكم من بعدكم، ويا ليت أولادكم وأحفادكم خففوا عليكم من الإثم في جمعها من دماء المصريين بإنفاقها بينهم، وتبذيرها فيهم، فيكون ذلك منهم كرد بعض الحق إلى أهله، ولكن البلاء كل البلاء أنها ذهبت جميعا إلى أيدي الأجانب والغرباء، وكأن الدهر سلط المماليك على المصريين ينهبون أموالهم، ويسلبون أقواتهم ثم سلطكم الله عليهم لسلب ما جمعوه، ثم سلط عليكم أعقابكم، فسلموا مجامع ذلك للأجانب يتمتعون به على أعين المصريين، والمصريون أولى بالقليل منه، وما دفع بأعقابكم إلى هذا الليان والتسليم، إلا ما ورثوه عنكم من الاحترام لشأن الأجنبي والاحتقار لجانب المصري، وأنكم لم تكتفوا بأن تكونوا أربابا للمصريين حتى شاركتم معكم الأجنبي في تلك الربوبية، فغلبكم عليها وأشرككم مع المصريين في العبودية وتشابهت الموالي بالعبيد، وقد آن أن تعلم أيها الأمير بأن جميع أقرانك وإخوانك من ذوي الثروة واليسار في أيامكم قد أصبحت بيوتهم خاوية على عروشها، وأبصار أعقابهم شاخصة إليها، فإن أردت أن تبحث عن أموالك وضياعك اليوم فابحث عنها تحت ثفال تلك الرحى،
5
وقل معي ما يقوله الشاعر الحكيم:
يقول الفتى: ثمرت مالي وإنما
لوارثه ما ثمر المال كاسبه
يحاسب فيه نفسه في حياته
ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه
فيا عبث المدخر الجامع، ويا غبن المكتنز الطامع، ما كان أغناكم عن الجمع والادخار، وعن الحرمان في الدنيا والخلود في النار.
الباشا :
أراك قد تجاوزت أيها المرشد الواعظ حدك في اللوم والتعنيف، وخرجت عن طورك في العذل والتعزير، وكان بودي أن أعطيك أجرك مضاعفا، ولا أشاهد منك هذه الجرأة علينا بسوء التقريع والتوبيخ، وربما قلت حقا في بعض ما تقول، والرجاء في غفران الله عظيم وفي رحمته متسع، ولعل ما تخلل أعمالنا في أيامنا من الحسنات يشفع لنا فيما اقترفناه من السيئات، ولكن كيف التدبير الآن في اكتساب المعيشة، والاحتيال لالتماس الرزق، بعد أن ضاعت الأموال وذهبت من أيدينا الأحكام على نحو ما تروي وتحكي، وما أرى لضيقي من الفرج إلا أن أورد نفسي حتفها، وأعيد لها حمامها، فما أروح ما كنت فيه من ظلام الرمس،
6
وما أقبح ضياء هذه الشمس.
عيسى بن هشام :
ليس لمثل حالتكم غير الأسف منا والتوجع لكم؛ فقد تمكن الاعتقاد في رءوس الحكام أن ما يقع بالاتفاق لهم أحيانا من ولاية الأحكام هو قياس مطرد وصراط مستقيم لا ملجأ لكم سواه في وجوه المساعي وممارسة مطالب الحياة، وقامت الولاية عندكم مقام بقية الآلات والصناعات التي يجتني أهلها منها ثمر الارتزاق والتكسب، فإذا خلت أيديكم منها واعتزلتم الأحكام تقطعت بكم الأسباب وضاقت بكم السبل في وجوه المعايش كما تصاب يد الصانع بالشلل، فيتعطل عن العمل، ويصبح كلا على كاهل الجميع، يرجو الموت كما رجوت، ويتمنى راحة العدم كما تمنيت، وكأنكم أيها الحكام صنف فوق أصناف الخلقة، لكم نصيب من العيش دون سائر الخلق، فلا تكونون إلا فوق ذهب العرش أو فوق خشب النعش، وقد قال مسكين من رؤساء صناعتكم هذه، وهو في ضيق الحبس، وضيق النفس:
ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
ومعلوم لك ما في هذه الصناعة، صناعة الولاية والحكم، من قلة ما يرفعه الصدر، وكثرة ما يضمه القبر، وكان الأولى بكم أن تكونوا كالناس في معايشهم لكل إنسان آلة بينة من صناعة أو حرفة أو مهنة يحسن بها التعيش والارتزاق حتى إذا أنتم نزلتم عن تلك العروش دخلتم في بقية الأحياء من أفراد الجمعية تنفعون وتنتفعون.
الباشا :
تالله إن ما قاسيته من الآلام أمام البوليس والنيابة والمحكمتين واللجنة كان أقل هما، وأدنى شجنا من مرارة هذا النصح والوعظ، وما الرأي عندكما وقد فات وقت التحصيل والطلب، ولم يبق وقت للصناعة والعمل، والموعظة صالحة نافعة ولكنها لمن يجيء لا لمن يمضي.
قال عيسى بن هشام: فأحزنتني حالة الرجل وأشفقت عليه ، فأخذت أتدبر له وأتفكر في طريقة يتعيش بها، وكلما خطر لي في ذلك خاطر خاب رجائي فيه، حتى كدت أيأس من الحيلة، والباشا ينظر إلي وأنا في تفكري تارة ويطرق للتفكير في نفسه تارة أخرى، ثم رأيته قد انتفض من مكانه وأخذ بيدي يقول لي:
الباشا :
قد وجدت والحمد لله بابا لسد العوز وكفاف العيش.
عيسى بن هشام :
ماذا وجدت؟
الباشا :
كان من عادة الحكام أمثالنا في الأزمان السالفة أن يأتوا فيما يأتونه من أعمال الخير التي تقربهم من الله وتعتق رقابهم من النار بعمل صالح اتفقوا عليه كافة، وهو إقامة بناء لجامع أو كتاب أو «سبيل» وكانوا يخصصون له أرضا أو ضيعة وقفا عليه للإنفاق من ريعها على طول الزمان، وقد سلكت مسلكهم واتبعت سنتهم وخلفت لذلك وقفا عظيما؛ لا تناله أيدي الأعقاب بالإتلاف والتبذير، فهلم معي نبحث على ما شيدته ووقفته.
الوقف
قال عيسى بن هشام: وظللت أنا والباشا نواصل الطواف بالطواف للوقوف على تلك الأوقاف، ونسائل العابر وابن السبيل، عن المسجد «والسبيل»، ولا سؤال المجدب عن الروض، والظمآن عن الحوض، فلم نجد من يرشد، إلى ما ننشد، وأخذ الباشا يتذكر الطرق وأماكنها والأزقة ومساكنها، ويقول: كان هنا وكان هنا، وجل ما يقضي به إلهنا، وما زال يقاصر في خطواته، ويطاول من آهاته، ويبكي لرسوم الأطلال والديار، بكاء صاحب عزة
1
أو صاحب نوار.
2
فاسألنها واجعل بكاك جوابا
تجد الدمع سائلا ومجيبا
حتى وصلنا بعد طول التجوال والتجواب، وترداد المجيء والذهاب، إلى منعطف مضيق، في منتهى الطريق، فوقف الباشا هناك قبالة دور مهدمة، وجدران محطمة، ومسجد في ناصية منه حانوت خمار، وفي زاوية منه دكان عطار، وبجانبهما حوانيت متباينة الأوصاف، مختلفة الأصناف، فطفق الباشا يصعد نظره فيها ويصوبه، ويخطئ حدسه تارة ويصوبه، فهداه طول النظر والتدقيق، وشدة الإمعان والتحقيق، أن رأى شيخا فانيا متربعا في دكانه، متحيزا بمكانه، عليه علامات الانحلال والسقوط، وشارات الخذلان والقنوط، وسيما الرضاء بالمقسوم، والتسليم للقضاء المحتوم، له جبهة كأنها من ورق البردي العتيق، تتلو فيها ما دونه الدهر من آيات الشدة والضيق، فخرج الباشا في الحال من حال المتحير المتردد، إلى حال الواثق المتأكد، فنادى صاحب الدكان عن بعد، نداء السيد للعبد، فانتفض الرجل انتفاضا عجيبا، وقصده ملبيا ومجيبا، فما شككت من هيبة النداء وأدب التلبية إلا أن ملكا ينادي أحد الحاشية، ووقف الرجل أمامنا وقفة الممتثل الخاضع، والمطيع الخاشع، فقال له الباشا، بعد أن حدد فيه نظره، واستجمع فكره:
الباشا :
ألست أنت أحمد أغا الركبدار المعدود من أهل حاشيتي، ألا تعرفني من أنا؟
صاحب الحانوت :
لولا أن الموت حجاب كثيف وحجاز منيع بين ظهر الأرض وبطنها لقلت: إنك سيدي وأميري، ويشهد الله أنني كلما أمعنت في وجهك وسمعت لصوتك كاد يطير عقلي ويندهش لبي لاستحكام الشبه بينك وبين سيدي المرحوم.
الباشا :
إني أنا سيدك وهذه هي العلامة التي تعلمها في جسمي من أثر اللعب بالجريد على مشهد منك في يوم من أيام السباق والرهان. (وكشف الباشا عن ساقه فأراه العلامة، فوقع الرجل منكبا على الأرض من شدة الدهشة يقبل قدم الباشا، ويغسلها بمنحدر الدموع ويقول في بكائه وشهيقه):
صاحب الحانوت :
كيف بالحياة بعد الممات، لحق أنت إحدى المعجزات، وليس ما أراه بغريب فقد شاهدت في هذا العمر الطويل ما لا تحيط بوصفه الأقلام، ولا تتسع له بطون الدفاتر من عجائب الانتقال وغرائب الانقلاب، فلا يبعد بعد ذلك أن تشرق الشمس من مغربها وتخرج الأرض أمواتها من مقابرها.
قال عيسى بن هشام: فقلت للرجل: لا تكثر من الدهشة والحيرة ولا تغرب في الاستغراب والتعجب:
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
واعلم أن القدرة لا تعجز عن شيء في الوجود ولا تحيط بها العقول، ثم قصصت عليه قصة الباشا منذ البداية، فصاح الرجل يبكي ويتضرع ويقول:
ليت أمي لم تلدني وليت القدرة التي بعثت الأمير من بعد موته نشرت معه زمنه وأعادت عصره، وإلا فكيف له بالعيش في هذا الزمن، وما أولاه بالعودة إلى أدراج الكفن.
ثم التفت إلي الباشا وشرع يقص عليه ما مر به من الحوادث والكوارث، وما جرى لبيت الباشا ولأهل طبقته من النوازل والخطوب:
صاحب الحانوت :
ولم يبق لك أيها المولى من أثر يذكر في ثروتك ومتاعك، وأموالك وضياعك، وقد عشت دهرا وأنا متمتع بريع ما وقفته أيها الأمير على حاشيتك وأتباعك، وعلى هذا المسجد والسبيل والكتاب لتخليد ذكرك وإحياء اسمك، فما لبث الوقف أن تهدم وتخرب بطول الترك والإهمال، فوقعنا كلنا في الفاقة والاحتياج وانقلب الكتاب مخزنا والسبيل خمارة والمسجد مصبغة كما تشاهد وترى، وأصبحت أنا بيطارا بعد أن كنت «ركبدارا»، وأخذت هذه الحانوت من الوقف لممارسة صناعتي فيها والتعيش منها، وسبحان مقلب الأحوال، ومبدل الأشكال.
الباشا :
ألم يبق من ذريتي أحد يباشر هذا الوقف بنظره؟
البيطار :
آخر العهد عندي كان بواحد منهم ذهبت إليه لأجل هذه الحانوت وأعلمته بمكاني من أهل الحاشية فانتهرني وطردني، وأبعدني وزجرني، ولكن الحاجة دفعتني إلى الإلحاح، فترددت عليه مرارا فتخلص من ثقل إلحاحي بإحالتي على رجل إفرنجي عنده يدبر له ما بقي لديه من ثروة نضبت عينها، ونزحت بئرها، فأحالني الإفرنجي على صاحب الخمارة؛ لأنه أصبح صاحب الأمر في أرض الوقف بوضع اليد عليها، وليس يجسر أحد أن يعمل فيها شيئا بغير إرادته؛ خوفا من الخصومة في المحاكم، فقصدت الخمار واتفقت معه على أجرة معينة، وأقمت في هذه الحانوت أصرع الدهر ويصرعني، وأطلب القوت ويعوزني، وأتعجل الأجل ويمهلني، وتعالى الله المتفرد بعزته، المبدع في حكمته.
الباشا :
وأين هذا الولد العاق المخالف لإرادتي، وهو يعلم أن شرط الواقف كنص الشارع.
البيطار :
هو مقيم الآن في «الأوتيل».
الباشا :
وما الأوتيل؟
البيطار : «اللوكاندة».
الباشا :
وما «اللوكاندة»؟
عيسى بن هشام :
الأوتيل» هو بيت معروف يعدونه لنزول من لا بيت له من الغرباء على أجر معين، وهو في المعنى كالخان الذي تعرفونه في زمانكم.
الباشا :
هل وصل التدني بهذا الخائن إلى سكنى الخان، وسبحان مصرف الأحوال ومغير الأزمان، وكيف يطيب للمسكين عيش على هذه الحال، بعد عز النعمة ووفرة المال، أفكان رجوعي إلى الحياة على ما لا أرغبه ولا أرضاه، تعذيبا لي على ما فرطت في جنب الله، أولم يكن عنده سبحانه في الآخرة من عذاب النار، ما يغني عن التعذيب بالعار، في هذه الدار، رب إن الجحيم لأهون علي في العذاب والنكال، مما ألاقيه من الرزية في المال والعيال:
فليت وليدا مات ساعة وضعه
ولم يرتضع من أمه النفساء
عيسى بن هشام :
ليست السكنى في «الأوتيل» اليوم عن ذل وفقر، بل هي عن عز ويسر، فإن النفقة فيه عن بضعة أيام تكفي لنفقة شهر، على أكبر قصر بجواريه وخدمه، وأتباعه وحشمه، وقد دعا أولادكم إلى ذلك ولوعهم بأحكام التقليد للأجانب وإتقان الاقتداء بهم، والسعيد المنعم من أولاد الأمراء اليوم من يبيع عقاره ويرهن ضياعه لتتيسر له الإقامة في هذا الخان، ومنهم من يتعذر عليه مفارقة أهله فيؤتى له بالطعام من «الأوتيل» إلى البيت، وعنده الطباخ في أسفله والجواري الطاهيات في أعلاه.
الباشا (للبيطار) :
أرجوك أن تصف لصاحبي مكان «الأوتيل» الذي يسكنه ذلك الغلام فإن بي حاجة إلى لقائه.
البيطار :
كيف تخاطبني أيها الأمير بلفظ الرجاء، وأنا أنتظر في خدمتك أن تأمرني بما تشاء، وهل تظن أني أفارق ركابك أو أزايل معيتك مهما تقلبت الأحوال وتبدلت الأزمان؟ فهلم منك الأمر والإشارة وعلي السمع والطاعة.
أبناء الكبراء
قال عيسى بن هشام: ودعاني الباشا للسير معه، وهو يكفكف دمعه، وتبعنا البيطار من خلفنا بخطاه الثقيلة، وعصاه الصقيلة، فقد صقلها طول التوكؤ والاستعمال، وتعزى بها في السير والانتقال، عن ظهور الخيل ومتون البغال، إلى أن وقفنا عند أحد القصور الكبيرة، من الفنادق الشهيرة فهال الباشا ما رآه من ضخامة البناء، وفخامة المنظر والرواء، وما لقيه من أدب الخدم والأعوان، ورشاقة الوصفاء والغلمان، فتخيل أننا أخطأنا الأبواب والمداخل، فدخلنا بيتا من بيوت الوكلاء أو القناصل، وتقدمت للسؤال والاستخبار، وقد خلفنا البيطار في الانتظار، فدلنا أحد الخدم على رقم المكان الذي يسكنه الأمير، وبعد طول التردد والتفكير، فما وصلناه حتى دفع الباشا بيديه دفتي الباب، لم يلتفت لطلب إذن ولا لرجع جواب، فوجدنا أمامنا جماعة من أولاد الأمراء، وأعقاب الكبراء، مختلفين في الجلوس، حاسرين عن الرءوس، ففريق منهم عاكفون على لعب القمار، وفريق ينظرون في صور خيل المضمار، ومنهم جماعة قد استداروا بامرأة نصف لا عجوز شوهاء،
1
ولا فتاة حسناء، تجتلب الحسن بإفراط التأنق والتفنن في وجوه التصنع والتزين، فيكاد يضيء وجهها بسنا العقود والقلائد، ويتلألأ جبينها بلألاء الجواهر والفرائد، وفي وسط المكان مائدة عليها صنوف الراح، في الأباريق والأقداح، وبجانبها منضدة،
2
عليها آنية منضدة، وفوقها الدواة والقرطاس، وبراعة مرصعة بالماس، وكتب أعجمية موشاة بالذهب، لا أدري إن كانت في اللهو أم في الأدب، وعلى الأرض أوراق أحكام منشورة، وجرائد تحت الأقدام منثورة، لم يفضض عنها «ظرف»، ولم يقرأ منها حرف، وسمعناهم يتراطنون جميعا بلغات أجنبية، دون اللغة التركية أو العربية، إلا ما كان من أسماء الخيول العربية بعد أن يبدلوا القاف بالكاف، وينطقوا بالحاء كالهاء، ولما رأونا ظهر منهم العبوس والقطوب، وبدا عليهم انقباض الصدور والقلوب، وانبرى من جانب المرأة شاب فأسرع نحو الباب فخاطبنا بعبارة فرنسية ولثغة باريسية:
الشاب :
كيف ساغ لكما الدخول بغير إذن؟
عيسى بن هشام :
دعا إلى ذلك شوق الوالد إلى رؤية ذريته.
الشاب :
لست أفهم لك كلاما فصرح لي وبين.
عيسى بن هشام :
فلان يسأل عن فلان.
الشاب :
إني أنا فلان ولكن من فلان الذي يسأل عني؟
عيسى بن هشام :
هو جدك الأكبر أحياه الله بعد مماته وبعثه من رقاده، وكان من أمره أنني كنت أزور المقابر ذات يوم من الأيام ...
الشاب (مقاطعا مستهزئا) :
اذهب عني فلست أسمع لهذا الكذب والخرف وليس لي اليوم من جد ولا والد، ولا أنا ممن يصدق بحديث البعث في الآخرة، فكيف برجوع الموتى إلى الدنيا، تعالوا أيها الإخوان فاعجبوا معي واضحكوا مما أسمعه من هذا الرجل الذي يخاطبني وانظروا إلى هذا «الباشبوزق» الغليظ الذي بجانبه، فهو يدعي أنه آبائي وأجدادي بعثه الله ليطالبني فيما أظن بما ورثته من الأموال، وينازعني في نظارة الأوقاف، فهل سمعتم بأعجب مما أصبحنا فيه اليوم؛ لم يكتف الدهر بتكدير عيشنا وتعكير حياتنا بمطالبة أرباب الديون حتى بعث الأموات من قبورهم ليطالبونا بمواريثهم وأموالهم، ألا ترونها أيها الخلان أنها أبدع نكتة في أواخر القرن؟
قال عيسى بن هشام: فاستغرق الجميع عند ذلك في الضحك واستلقوا من القهقهة، وكلما سألني الباشا عن مكان حفيده، واستفهم مني عما يجري معي من الكلام استمهلته لتمام الحديث حتى لا يقف على شيء مما يقال، ولا يحس بوقع تلك السهام والنبال، ولما انتهى الشبان من ضحكهم نادوا بالخادم ليأمروه بطردنا وإخراجنا، وحانت في هذه الأثناء التفاتة من الحفيد بين دورانه وحركاته فلمح أحد قرنائه وإخوانه قد انزوى بتلك الخليلة، التي هي عندهم كالحليلة، يلاعبها وتلاعبه، ويغازلها وتداعبه، فانقض عليهما كالصقر الأجدل فاستعر بينهم الجدال واشتد الخصام والتف حولهم الجمع، وسمعت الحفيد يعتب، والصاحب يعتذر، والمرأة تبكت وتؤنب وتقول لعاشقها: «ليس لك مثل هذه الجرأة في العتاب والملام، ولا يأتي ما تأتيه من الحدة والتهور في الغيرة إلا من كان قائما بحاجتي مجيبا لرغبتي، وقد طلبت منك بالأمس أن تشتري لي ذلك العقد الذي حضر لتاجر الحلي من أوروبا في البريد الأخير فسوفت وماطلت بعد أن أجبت ووعدت، واعتذرت بالإعسار والضيق، ثم بلغني اليوم أنك اشتريت فرسا جوادا بمقدار عظيم من المال، فكيف تقصر في حاجتي مثل هذا التقصير، وتبغي مني الاقتصار عليك والاختصاص بك دون بقية من يبذل ماله وروحه في سبيل مرضاتي من أصحابك وإخوانك؟»
ثم سمعت الحفيد يجاوبها والعرق يتساقط من جبينه والوجد يقطع أنفاسه: «تالله ما اشتريت شيئا، ولكن بعت أشياء لأشتري لك العقد بثمنها، ولا يغرنك ما يقال لك عن ثروة هذا الصاحب الدنيء الخائن وعن قلة أموالي ورهن أطياني، فأنت تعلمين بمقدار الأموال التي ستأتيني من اكتساب القضايا المعلقة لي في المحاكم كما ينبئك به المحامي في كل حين.»
وما سمع ذلك الصحاب سبه بهذين النعتين حتى اضطرم واضطرب، وثارت به سورة الغضب، فتقدم فلعنه وشتمه، ودفعه ولطمه، فوعده الملعون الملطوم، بالمبارزة في يوم معلوم.
ثم علا هنا صياح أيضا في مجلس القمار بين صديق وصديق، أحدهما في يسر والآخر في ضيق، وأخ يبغي الاقتراض من أخيه، ومفلس يطالب ميسرا بدين لا يؤديه، وانكشف الجدال كذلك عن الضرب واللكم. وانتهى النزاع بالصفح واللطم.
واشتبك خصام آخر في ركن المكان، بين أهل السبق والرهان؛ هذا يقول: فرسي سابق، وفرسك لاحق، وذاك يقول: «ركبداري» حاذق وابن حاذق، وجوادك قصير وجوادي شاهق، وأنت الآن مقر معترف، بأن الوزن بينهما مختلف، واشتدت المنافسة والمنابزة، وجرى بينهم حديث للمبارزة، كل هذا والمرأة تتسحب من حلقة إلى أخرى، تسحب الحية والأفعى، فتطفئ نار الجدال مرة على حسب بغيتها، وتشعلها طورا لخبث نيتها.
ورأيت الأجدر بنا أن نتركهم على هذه الحال، فجذبت بضبع الباشا وخرجنا من ذلك المكان، وأسرعت به منحدرا إلى الطريق، فسألني عن تفصيل ما كان وجرى، فترجمت له شرح الحال والمآل، فاحتدم غيظه واضطرم حنقه فلم يطفئه إلا ما قلته له في آخر الحديث من عزم القوم على المبارزة فيما بينهم بالسلاح، فقال وهو يتابع زفراته: لعل القدرة تكشف عني هذا المصاب، وتريحني المبارزة من الأبناء والأعقاب، فقلت في نفسي: إن أبناءكم لم يرثوا منكم أخلاقكم، كما ورثوا عنكم أموالكم، وليس عندهم من الشهامة ما يدفعون به عن الأعراض والأحساب، ولا من الشجاعة ما يؤنسهم بالطعان وبالضراب، ولا يأبهون لكشف العار، وأخذ الثأر، والمبارزة عندهم كلمة تقال بالليل وتمحى بالنهار.
وتذكر الباشا في طريقه شدة حاجته إلى وفاء ما عليه من الأجر للمحامي، فالتفت إلى البيطار يسأله:
الباشا :
هل بقي أحد مما كانوا حولي من الخلطاء والأقران أهل النجدة والفتوة وأصحاب الهمة والمروة؟
البيطار :
لم يبق منهم إلا فلان وفلان وفلان.
الباشا :
ابدأ بالذهاب معنا إلى بيت الأول منهم.
قال عيسى بن هشام: فسرنا إلى حيث أشار والهموم تفرسنا، والغموم تخرسنا، والأكدار لا تفارقنا، والأقدار لا توافقنا.
كبراء العصر الماضي
قال عيسى بن هشام: ومضينا نقصد أحد الثلاثة من قرناء الباشا ورفقائه، وبقية أخلائه وأصدقائه، فانتهى بنا طول المسير، إلى بيت ذلك الأمير، وكأنه ميدان في اتساعه، وحصن في ارتفاعه، ووقف بنا البيطار، عند باب الدار، فسلم على الخدم وحياهم، ثم سألهم عن سيدهم ومولاهم، فأجابوه بالتجهم والعبوس، أنه في قاعة الجلوس، فخطونا في بحبوحة الميدان، فرأينا في وسطه شجرة كثيفة الأغصان، حنى قوامها تقادم الأزمان، كأنها الثكلى حلت شعورها في مأتم الأحزان، وفي ظلها فرس يجن من النشاط والمراح، وبجانبه كبش ضأن للنطاح، وحولهما ديكة نزال وضراب، ظنابيبها مسنونة كالحراب:
فحمر وسود حالكات كأنها
سوام بني السيد ازدهته القوائم
1
يزان لديها الطعن في حومة الوغى
إذا زينت للعاجزين الهزائم
وفيها إذا ما ضيع النكس غيرة
تصان بها المستصحبات الكرائم
2
ثم وصلنا إلى قاعة مشيدة البنيان، فسيحة الأركان، في أحد جوانبها سلسبيل، يسيل ماؤه من أفواه التماثيل، والأرض مفروشة بالبسط الفارسية، وبجلود الضواري الوحشية، والحيطان مستورة بأنواع السلاح، من خناجر وسيوف ورماح، وفوقها عدة صفوف، من الرفوف، تحمل الطرائف الكريمة، والأواني الصينية القديمة، مع عيدان للتدخين، من أغصان الياسمين، فخلعنا نعالنا، وتقدمنا أمامنا، فوجدنا الأمير ومن معه جلوسا متربعين، منصتين مستمعين، يضيء في وجوههم نور الشيب والوقار، وتزدهيهم هيئة العزة والاستكبار، فانقطع الحديث عند دخولنا، برد سلامنا، ولكن ما لبث أن اتصل ما انقطع من الكلام، بعد رجع التحية ورد السلام.
ولما استقر بنا المكان همست في أذن البيطار أن ينبئ بأسماء الحاضرين، فقال لي: هذا المتصدر فيهم هو الأمير فلان رب الدار وهو رفيق مولانا الباشا في البيت الكريم الخديوي، وقد اعتزل الأعمال واعتكف في آخر عمره يتعبد ويتهجد ويسلك طريق النسك والزهد ويتقرب إلى الله بدوام القيام والقعود، وطول القنوت والسجود، وله أموال عريضة ينفق منها فيما ينفق على قعدة المشايخ وقوام أهل الطريقة وطواف الآفاق من سكان الأماكن المقدسة؛ رجاء أن يغفر الله له ما تقدم من الذنوب، وأن يلحقه بالصالحين من أوليائه، وأما الذي عن يمينه فهو فلان باشا كان عضوا من الأعضاء الكرام، في «مجلس الأحكام»، والذي عن جانبه عالم من جلة العلماء الأعلام، والمشايخ العظام، وأما الجالس عن شماله فهو فلان الفريق الجهادي المشهور في الوقائع والفتوح، والذي بعده هو فلان من كبار المديرين السابقين، وأما الذي تراه في أخريات المجلس فهو فلان التاجر من تجار خان الخليلي.
قال عيسى بن هشام: ولما وقفت من البيطار على معرفة ما عرفنيه نظرت إلى الباشا، فأدركت أنه لا يبغي المبادرة إلى كشف أمره قبل انتهاء الحاضرين من حديثهم، فأنصت مع المنصتين فإذا الفريق الجهادي يقول في اتصال حكايته وروايته:
الفريق :
وكان «جنتمكان» محمد علي باشا الكبير معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلو الهمة وبعد النظر، وإحكام عقدة التدبير واجتذاب القلوب، وتربية النفوس على الوفاء والأمانة لخدمته، فكان له من الكفاة من خدموه بالصدق وافتدوه بالأرواح، وأذكر منهم المرحوم «محمد بك لاظ أوغلي»، فهو الذي دبر له قطع دابر المماليك في ساعة واحدة، وقد حكى لي المرحوم أخي، وكان حاضرا في تلك الواقعة الهائلة، أن المماليك لما رأوا أن المكيدة في استئصالهم قد استحكم عقدها واشتد رباطها، وأنهم أحيط بهم من كل مكان تقدموا للبحث عن محمد علي في كل حجرة وزاوية من زوايا القصر للفتك به والتخلص منه، فلم يقفوا له على أثر وأعياهم البحث والتنقيب؛ لأن «لاظ أوغلي» أخفاه عنهم شديد الإخفاء، وقام له في ذلك الوقت - إن جاز التشبيه والتمثيل - قيام علي بن أبي طالب مقام الرسول - عليه السلام - ليلة الهجرة.
عضو الأحكام :
نعم وكان المرحوم محمد علي فوق ما يقال وما يتصور في دقة سياسته لتربية الرجال في خدمته، فكانوا كلهم طرازا واحدا في حسن الولاء وجميل الإخلاص، وربما كان يجذب الرجل منهم بكلمة واحدة تطبعه له على الصدق في خدمته طول حياته، ومن ذلك ما حكاه لي صديقنا المرحوم راغب باشا قال: «كنت أقرأ بين يدي المغفور له أوراقا وأنا يومئذ كاتب من كتبة معيته، فدخل علينا سامي باشا في أثناء القراءة، ووقف معنا، فسأله محمد علي عما يريده، فتلعثم تلعثم المتطلع لخروجي حتى ينفرد به فيعرض عليه ما عنده، فقال له: «قل ما عندك في الحال فإني لا أخفي عن «راغب» سرا من أسراري، ولا فرق عندي في المنزلة بين نسلي وذريتي وبين كتبة معيتي.»
فهل تعلمون يا قوم أنه يقوم مقام هذه الكلمة في جلب النفوس وجذب القلوب إلى النصح، والولاء في الخدمة إنعام بضياع أو إحسان بأموال أو تقليد لرتبة أو نشان، وانظروا إلى ذلك الرجل العظيم كيف أتقن صناعة الألفة في تربية رجاله وما للمملوك صناعة غيرها، فإذا أتقنها أحدهم فاز بالتسلط على النفوس، واحتكر مودات القلوب، فيصفوا له الملك ويطيب له الحكم.
الشيخ العالم :
أصبت وصدقت وقد اطلعت في التاريخ القديم على واحدة في هذا الباب للمنصور العباسي، تدل على براعته ودقته في صناعة الملك، وهي أنه كان يأكل ذات يوم وبجانبه ابناه مع شيخ من قواد جيشه ذهبت أسنانه لكبر سنه، فكان يسقط من فمه بعض الفتات وهو يأكل والأميران يتغامزان عليه، فالتفت إليهما الخليفة فرأى ما بينهما، فمد يده فجمع ما سقط من ذلك الفتات فأكله، فقام القائد يقول له: «لم يبق إلا ديني أقدمه لك يا أمير المؤمنين فأمرني بما تريد.»
المدير السابق :
وأنا أقص عليكم واحدة أخرى للمغفور له محمد علي تشهد بلطف سياسته وحسن عطفه على الأهالي وشفقته على الرعية، وهي أن أحد المديرين أراد أن يفوق إخوانه في الخدمة لينال مكانة عالية من أميره، فجد في تحصيل الأموال، وتغالى في طريقته، فأخذ ما عند الأهالي من المال جملة واحدة، فضج ضجيجهم واشتد صياحهم حتى بلغ مسامع ولي النعم، فأمر بإحضار المدير، فلما وقف في حضرته قال له: ادن مني، فلما دنا منه أخذ بعنقه في قبضة يده وصار ينتزع من رأسه شعرة ومن قفاه شعرة ومن عارضه شعرة ومن حاجبه شعرة؛ حتى جمع في قبضته خصلة من الشعر والمدير لا يجد لذلك من الألم إلا أثرا خفيفا، ثم إن الأمير انتقل إلى لحية الرجل، فانتزع منها خصلة دفعة واحدة من جهة واحدة بمقدار تلك الخصلة المتفرقة، فنبع من تحتها الدم وصرخ المدير من شدة الألم، فقال له محمد علي: «هكذا تختلف المعاملة مع الرعية في جباية الأموال، إذا أنت أخذت من هاهنا درهما ومن هاهنا درهما آنا بعد آن خف الوقع على الأهالي ولم يدركوا الألم، وحصلت منهم على مثل المقدار الذي تأخذه جملة واحدة في وقت واحد مع شدة الألم، كما رأيت الفرق بين انتزاع الشعرات متفرقات وبين انتزاعها مجتمعات، والكمية واحدة والألم بينهما مختلف، فإياك أن تعامل الناس بعد اليوم بما يلجئهم إلى الشكوى ويبعثهم إلى الاستغاثة.»
الشيخ العالم (منشدا) :
فلا تكثروا ذكر الزمان الذي مضى
فذلك عصر قد تقضى وذا عصر
ورحم الله الماضي وأعاذنا من الحاضر وأجارنا من المستقبل، وإني لأراكم أيها الأمراء مهما أسهبتم في محاسن المغفور له وأفضاله، وأطنبتم في حميد أخلاقه وخصاله، فلستم ببالغي حق الشكر، ولا موفين بجميل الذكر، ويكفيه من الحسنات التي يغني ذكرها عن الإجمال والتفصيل، وتحكم له بالسبق في باب التمييز والتفضيل، أنه كان يقرب العلماء ويعظمهم، ويدنيهم منه ويكرمهم، ثم يقضي حاجاتهم، ويتبرك بدعواتهم، ولقد رأيت له رؤيا صالحة تحكم له في أخراه، بأن له جانبا مع الله، وأنه نال جزاء الإحسان، بسكنى فراديس الجنان.
قال عيسى بن هشام: وأقبل في أثناء هذا الحديث رجل من أهل مكة المعروفين بالمطوفين أو المزورين فتقدم إلى رب الدار فقبل يده، وإلى الشيخ العالم فلثم ذيله، ثم وضع عن يده صرة فأخرج منها قطعة من الحرير الأخضر وجزءا من التمر ومشطا ومكحلة وسبحة وشيئا من الحناء، ثم قرأ الفاتحة وخاطب الأمير بقوله:
المكي :
قد جئتك أيها الأمير بالقطعة التي أمرتني بإحضارها من الكسوة الشريفة، وأتيتك بجزء من تمر النخلة المباركة التي غرستها الزهراء البتول بيدها الكريمة.
الشيخ العالم (بعد أن ذاق التمر واستطابه) :
إيه إيه صدقت أيها الرجل ومن كان صائما فأفطر على تمر المدينة كتبت له الجنة.
قال عيسى بن هشام: فرأيت الباشا يتأفف بجانبي ويزمجر، ويتململ ويتضجر، ويهم بأن يتكلم، فالتفت صاحب الدار عند ذلك إلى البيطار يسأله عن شأن هذا المتأفف المتضجر، فتقدمت له بشرح القصة على الحاضرين، وذكرت خروج الباشا من القبر ورجوعه إلى الدنيا، فمنهم من صدق ومنهم من كذب، فتنحنح الشيخ العالم، وأشار فيهم بإشارة الاستماع ثم اندفع يقول:
الشيخ العالم :
اعلموا أنه ليس للمعجزات حد ولا للخوارق حصر، ولا تنكروا على الرجل حياته بعد موته، فليس من حسن اليقين، أن ننكر بعث الدفين، والرجوع إلى الدنيا بعد الفناء أمر معلوم بلا امتراء، تخص القدرة به من تشاء، ببركة الأصفياء والأولياء، وأقرب ما أستشهد لكم به على ذلك من كتاب «مناقب تاج الأولياء وبرهان الأصفياء للقطب الرباني والغوث الصمداني السيد عبد القادر الكيلاني» ما أرويه لكم بحرفه ونصه:
ذكر في «رسالة حقيقة الحقائق» أن امرأة غرق ولدها في اليم وجاءت إلى الغوث الأعظم وقالت: إن ولدي غرق في البحر، واعتقادي جازم بأنك تقدر على رد ولدي إلي حيا، فقال لها رضي الله عنه: ارجعي إلى بيتك تجدي ولدك في بيتك، فراحت ولم تجده، فجاءت ثانية وتضرعت، فقال لها الغوث أيضا: ارجعي إلى بيتك تجدي ولدك في بيتك، فراحت ولم تجده، فجاءت ثالثة بالبكاء والتضرع، فراقب الغوث وانحنى برأسه ثم رفع رأسه فقال لها: ارجعي إلى بيتك تجدي ولدك في البيت، فراحت ووجدت ولدها في البيت، فقال الغوث الأعظم بطريق المحبوبية: يا رب لم أخجلتني مرتين عند تلك المرأة؟ فجاءه الخطاب من الملك الوهاب: إن كلامك حين قلت لها كان صدقا، ففي المرة الأولى جمعت الملائكة أجزاءه المتفرقة وفي المرة الثانية أحييته وفي الثالثة أخرجته من اليم وأوصلته إلى دارها، فقال الغوث: يا رب خلقت الأكوان بأمر «كن» ولم يسبق زمان ولا آن وفي وقت البعث تجمع أجزاءها المتفرقة التي لا نهاية لها وتحشرهم في طرفة عين، وجمع أجزاء جسد واحد وإحياؤه وبعثه إلى دارها شيء جزئي، فما الحكمة في هذا التأخير؟ فجاء الخطاب من الرب القدير: اطلب ما تطلب فقد أعطيناك عوضا من انكسار قلبك، فتضرع الغوث ووضع وجهه في التراب، وقال : يا رب أنا مخلوق فبقدر مخلوقيتي يليق بي الطلب، وأنت خالق فبقدر عظمتك وخالقيتك يليق بك العطاء، فجاءه الخطاب: كل من يراك يوم الجمعة يكون وليا مقربا، وإذا نظرت إلى التراب يكون ذهبا، فقال: يا رب ليس لي نفع من هذين أعطني شيئا أعظم منهما ويبقى بعدي لينفع في الدارين، فجاء الخطاب من الله العزيز القدير: جعلت أسماءك مثل أسمائي في الثواب والتأثير، ومن قرأ اسما من أسمائك فهو كمن قرأ اسما من أسمائي.
وروي فيه أيضا عن السيد الشيخ الكبير أبي العباس أحمد الرفاعي - رضي الله عنه - قال: «توفي أحد خدام الغوث الأعظم وجاءت زوجته إلى الغوث فتضرعت والتجأت وطلبت حياة زوجها، فتوجه الغوث إلى المراقبة فرأى في عالم الباطن أن ملك الموت - عليه السلام - يصعد إلى السماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فقال: يا ملك الموت قف وأعطني روح خادمي (وسماه باسمه)
فقال ملك الموت: إني أقبض الأرواح بأمر إلهي وأؤديها إلى باب عظمته، كيف يمكنني أن أعطيك روح الذي قبضته بأمر ربي؟ فكرر الغوث عليه إعطاء روح خادمه إليه فامتنع من إعطائه وفي يده ظرف معنوي كهيئة الزنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فبقوة المحبوبية جر الزنبيل وأخذه من يده فترفقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها، فناجى ملك الموت - عليه السلام - ربه وقال: يا رب أنت أعلم بما جرى بيني وبين محبوبك ووليك عبد القادر فبقوة السلطنة والصولة أخذ مني ما قبضته من الأرواح في هذا اليوم، فخاطبه الحق جلا جلاله: يا ملك الموت إن الغوث الأعظم محبوبي ومطلوبي لم لا أعطيته روح خادمه وقد راحت الأرواح الكثيرة من قبضتك بسبب روح واحد، فتندم هذا الوقت.»
قال عيسى بن هشام: وما انتهى الشيخ من روايته حتى رأيت الباشا قد انتفض قائما يقول لهم والغضب باد على وجهه والغيظ يتقد في صدره:
الباشا :
اعلموا أيها الإخوان أن مغفرة الرحمن وسكنى الجنان لا تنال بكثرة الصوم، وأكل التمر أو التبرك بالآثار والتحصن بالأوراد، وما تكتسب الدرجة الرفيعة عند الله إلا بالعدل والإحسان وفعل الخير، واجتناب الشر والرحمة بالضعفاء والمساكين من عباد الله، وقد غرني في دنياي ما يغركم الآن، فكنت أسمع قبل مماتي من مثل هذا الشيخ العالم ما يهون علي ارتكاب المخزيات وفضائح الشرور في معاملة الناس ارتكانا على نهار أصومه، وليل أقومه، وحرز أحمله، وأثر أقبله، فنمت عن عمل الخير وغفلت عن بذل المعروف، فلما توفاني القدير العليم وسكنت في حفرة القبر علمت ما لم أكن أعلم، فلم يغنني ذلك وحده من الله شيئا وما خفف علي أهوال القبر وهون علي سؤال الملك إلا حسنة واحدة كنت أتيتها في إغاثة مظلوم استجارني فأجرته، وهو في يد الجلاد بين السيف والنطع،
3
فعليكم بالعدل والإحسان وتقوى الله في عباده وإفشاء البر والمعروف في خلقه، ولا تطيعوا النفس الأمارة بالسوء فتركنوا إلى الاغترار بالأمل، وتطلبوا المغفرة بلا عمل، بل استكثروا من الخير قبل حلول الأجل، وتذكروا قول الله الأجل:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
واعتبروا بقول علي رضي الله عنه: «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء.» واسمعوا لقول حكيم الشعراء:
ما الخير صوم يذوب الصائمون له
ولا صلاة ولا صوف على الجسد
وإنما هو ترك الشر مطرحا
ونفضك الصدر من غل ومن حسد
ولا يستقيم أمر المسلم إلا إذا جمع بين فرائض العبادات وحسن المعاملات.
الشيخ العالم :
إني لأخالك أيها الرجل شيطانا في زي إنسان وزنديقا يتستر بدعوى النشور من القبور، تعسا لهذا الزمن ما أكثر أضاليله، وبؤسا له ما أعظم أباطيله، ولم يبق علينا من مدخرات عجائبه إلا أن يخرج الميت من قبره فيخبرنا بما رأى وبما سمع.
صاحب الدار (للباشا) :
سألتك بالله أن تخبرني بأية لغة كان سؤال الملكين لك، أبالعربية أم التركية أم السريانية، فإن هناك اختلافا وأقوالا بين العلماء.
الشيخ العالم :
ناشدتكم الله أن تقصروا عن هذا الرجل ولا تخاطبوه، فإنه فتنة من فتن إبليس اللعين ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال عيسى بن هشام: فلم يسع الباشا إلا الخروج من هذا المجلس وهو يهدر ويغلي ويستعيذ ويستعدي، فانخرطت وراءه وأنا أذكر قول عمر - رضي الله عنه - في مثل هذا الشيخ الغليظ البدين: «إن الله يكره الحبر السمين.» وأردد قول أبي تراب كرم الله وجهه: «أشكو إلى الله من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا، ليس فيهم سلعة أبور من كتاب الله إذا تلي حق تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعا وثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر.»
ولحق بنا البيطار في خروجنا ومعه التاجر الذي كان مقيما في المجلس ينادياننا، فوقفنا لهما فتقدم التاجر إلى الباشا ومال على يده يقبلها ويقول له:
التاجر :
أشهد الله أيها المولى أنني مصدق بأمرك وليس بعد العيان من برهان وما أخطئ نظري فيك، فأنت سيدي الباشا بعينه، وأنت صاحب اليد التي أتذكرها طول عمري، وما بي من نعمة فمنك، وما أصبحت فيه من ثروة فبيمنك وفضلك، ولست أنسى أن أصل شهرتي واتساع تجارتي هو أنك جلست في دكاني مرة عندما عثرت بك رجلك وأنت تقصد زيارة الحسين، فارتفع بتلك الجلسة قدري واشتهر ذكري وأقبل علي الناس من دون التجار لتوهمهم في أن لي برحابك صلة وبجانبك نسبة، فأصبحت ولله الحمد في غنى ومال كثير، وقد بلغني من أحمد أغا هذا ما أنت فيه من الحاجة إلى الدراهم لأجرة المحامي التي جاءت بك إلى هذا المجلس، ولكنك أنفت من ذكرها عندما غضبت لله، وأنا أتضرع بخالق الخلق أن تتنازل فتقبل مني ما تسد به حاجتك وتتخلص به من مطالبة المحامين. (وأخرج التاجر كيسا مملوءا فقدمه إلى الباشا وهو يرتعد من خيفة الرد، فأخذه الباشا وقال له):
الباشا :
إني أشكرك جميل الشكر لحسن صنيعك، وأسأل الله لك حسن الجزاء فهلم أكتب لك صكا بالمال لأرده إليك عند استرداد أوقافي.
التاجر :
حاشا لله أن أكون من أهل هذا الزمن الذين أصبحوا لا يثق بعضهم ببعض، فلا يأمن الأخ أخاه ولا الوالد ولده ولا الصاحب صاحبه ولا الجار جاره على درهم واحد إلا بعقود وصكوك، بل أنا لا أزال من أهل ذلك الزمن الذي لم يكن يتعامل التجار فيه بينهم بغير الثقة والائتمان دون احتياج إلى تحرير الأوراق وتسطير الصكوك، وما يكون الاستيثاق إلا عند توهم الخيانة والعياذ بالله.
قال عيسى بن هشام: فكرر الباشا شكره للتاجر مضاعفا، وقال لي: انصرف بنا إلى المحامي نستنقذ رقابنا من أسره، ثم نذهب إلى المحكمة الشرعية للمطالبة بالوقف، فقلت له: لا بد لنا من محام شرعي يطالب لنا بحقنا، فما نخرج من قبضة محام، إلا إلى قبضة محام، ونسأل الله السلامة في الختام.
المحامي الشرعي
قال عيسى بن هشام: وأخذت طريقي، مع رفيقي، أنشد صاحبا أسترشده، في محام شرعي أقصده، وبينا نحن نسير، ونسأل التيسير، إذا بصاحب لي عرفته، فاستوقفته، قال: ما خطبك؟ قلت: قضية، في المحكمة الشرعية، فما طرق الخبر سمعه، حتى أجرى دمعه، وهول الأمر وهولت، وحوقل وحوقلت، ثم قال: لقد وقعت قبلك في هذا البلاء، ولما تتم لي النقاهة من الداء، وأنا أنصح لك إن كنت مدعيا أن تترك دعواك، وتصبر على بلواك، أما إن كانت الدعوى عليك، فليس الخيار إليك، ولا مرد لحكم القضاء، بتدبير الآراء، فقلت: للضرورة أحكام، فأرشدني لانتخاب محام، يكون مشهودا بعدالته، مشهورا بطهارته، بعيدا عن خلف الوعد، بريئا من خلق الوغد،
1
لا يتفق مع الخصم، ولا يسرق من «الرسم» قال: اطلب من أنواع المحال، أن يحمل الذر الجبال، ولا تطلب في محام اجتماع هذه الشروط، فينتهي بك الأمر إلى اليأس والقنوط، ولمحاولة الارتقاء فوق متن العنقاء،
2
أيسر من ذلك مطلبا، وأوسع مذهبا.
وأقسم لك بخالص الود، أني لا أثق منهم بأحد، وكيف تكلفني أن أنتقي لك ذئبا من الذئاب، وأحمل على كاهلي عبء اللوم والعتاب، فأعفني من هذا الاختيار والانتقاء، عافاك الله من جميع الأسواء، ثم ما لبث أن خلفني ومضى، وتركني على مثل جمر الغضى، فسرت كئيبا حزينا، أبغي سواه مرشدا ومعينا، ولما لم أجد من أصحابي من يتكفل علي عهدته، باختيار محام يوثق بذمته، قصدت أحد المعلومين عندي بكثرة الخصومات، وطول المحاكمات، فكاشفته بطلبتنا ليكشف من مصيبتنا، فقال: اعلم أن المحامين الشرعيين أجناس وصنوف، فمنهم المبصر ومنهم المكفوف، وفيهم - كتب الله لك السلامة - صاحب «الطربوش» وصاحب العمامة، وأنا أدلك على أهونهم شرا، وأقلهم ضرا، وأخفهم رزية وبلية، وأكثرهم علما بالحيل الشرعية، فعليك بفلان وبيته معلوم، في منتهى «حارة الروم»، فقصدنا البيت نشق طرقا معوجة، ونخترق ثنيات مزدوجة إلى أن انتهينا إلى باب دار، كأنها مطلية بالقار،
3
تسورت بأكوام من الأقذار، وتلفعت بتلال من الأوضار، ورأينا عند مدخل الباب صبية يلعبون بالتراب، ومن بينهم طفلة تجمع على وجهها من الذباب، مثل البرقع تنقبت به قبل أوان النقاب، ولما تخطيناهم غشيتنا رائحة المرحاض، فاستندنا هناك على هضبة أنقاض، بجانبها مذود أتان، يزاحمها عليه إوزتان وبطتان، ثم اهتدينا إلى حجرة في جهة اليمين، فرأينا أمامها فرانا ينادي: «العجين» «والأجرة»، فسألناه عن رب الدار فأشار إلى الحجرة، فدخلنا فوجدنا فيها حصيرا تغطى بالغبار والحصباء، ومتكئا تعرى من الفراش والغطاء، وفي زاوية من زوايا المكان، سراج لا ينفذ نوره من تكاثف الدخان، وفي أعلى رفوف الرواق، أحمال كتب وأوراق، قام لها نسيج العناكب مقام الوقاية والتجليد، وألصقتها الرطوبة فحفظتها من التوزيع والتبديد، وفوق الأرض زجاجات مطروحة من المداد، وفي بياض الحائط تسويد وتخطيط من لعب الأولاد، وبصرنا برجل:
تغير حناؤه شيبه
فهل غير الظهر لما انحنى
ووجدناه جالسا على سجادة الصلاة، وعن يساره امرأة كأنها السعلاة،
4
فسمعناه يقول لها في تسبيحه: «أتستكثرين - أدر الله عليك خيره، وأبدلك زوجا غيره - ما أخذته منك لاستنباط الحيلة في التفريق، واستخراج الحكم بالتطليق، فأبعدت عنك زوجا تكرهينه، لتتبدلي منه زوجا تحبينه؟» ثم إنه أحس بدخولنا من ورائه، فارتد إلى اتصال تسبيحه ودعائه، وانتفضت المرأة فتنقبت بخمارها، وتلفعت بإزارها، وخرجت وتركتنا مع رجل يخدع الأنام بطول صلواته، ويتلو سورة الأنعام في ركعاته:
إذا رام كيدا بالصلاة مقيمها
فتاركها عمدا إلى الله أقرب
وجلسنا مدة ننتظر خلاصه من هذا الرياء، وخلاص الملكين من صحيفته السوداء، وخلاصنا من هذا الكرب والعناء، وكنا نشاهد منه في خلال ذلك نظرات مختلسات نحو الباب، كأنه هو أيضا في انتظار وارتقاب، إلى أن دخل علينا غلام يصيح به: إلى متى هذه العبادة، فقد بليت السجادة، وحاجات الناس موكولة إليك، وقضاء مصالحهم موقوف عليك، وهذا دولة «البرنس» ينتظرك في القصر، منذ العصر، دع مدير الأوقاف، و«نقيب الأشراف» فلم يعبأ المصلي بهذا الكلام، بل جهر بالآية من سورة الأنعام:
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، فجلس غلام الشيخ وهو يمسح العرق، واشتد بنا الضجر والقلق، فقلنا: من يضمن لهذه الصلاة انتهاء، ولهذا التسبيح انقضاء، وهممنا بالقيام، فالتفت الشيخ للغلام، وأشبعه من التأنيب والملام، ثم حيانا بألطف سلام، وقال: بارك الله فيكم وعليكم، وأنا في الخدمة بين يديكم، فقلنا: علمنا أنك رجل عدل عف، فجئناك لقضية في وقف، فقال الغلام: أتطلبون ريعه، أم تريدون بيعه، فقلت: سبحان الله وهل تباع الأوقاف؟ قال: نعم ويباع جبل قاف، ثم تنحنح الشيخ وسعل، وبصق وتفل، وتسعط ثم تمخط، واقترب منا ودنا، ثم قال لنا:
المحامي :
دعونا من هذا الغلام وقولا لي ما حقكم في الوقف، وما شروط الواقف، وكم يقدر ثمن العين لتقدر «قيمة الأتعاب» بحسبه؟
عيسى بن هشام :
إن لصاحبي هذا وقفا عاقته عنه العوائق فوضع سواه عليه يده، ونريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد.
المحامي :
سألتك ما قيمة العين.
عيسى بن هشام :
لست أدري على التحقيق، ولكنها تبلغ الألوف.
المحامي :
لا يمكن أن يقل مقدم الأتعاب حينئذ عن المئات.
عيسى بن هشام :
لا تشطط أيها الشيخ في قيمة الأتعاب وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق.
الغلام :
وهل ينفع في رفع الدعاوى اعتذار بإعسار، ألم تعلم أن هذا شغل له «اشتراكات» وللكتبة والمحضرين «تطلعات»، وأنى لكما بمثل مولانا الشيخ يضمن ربح الدعوى وكسب القضية بما يهون معه دفع كل ما يطلبه في قيمة أتعابه، وهل يوجد مثله أبدا في سعة العلم بالحيل الشرعية ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم، واستجلاب عناية القضاة؟
عيسى بن هشام :
دونك هذه الدراهم التي معنا فخذها الآن ونكتب لك صكا بما يبقى لحين كسب القضية، وليس يفوتك شيء من ذلك ما دام ربحها مضمونا لديك على كل حال.
المحامي (بعد أن استلم الدراهم يعدها) :
أنا أقبل منك هذا العدد القليل الآن ابتغاء ما ادخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين، وعليك بشاهدين للتوكيل.
عيسى بن هشام :
وبأية طريقة يكون التوكيل.
المحامي :
يجب عليك أن تستحضر شاهدين يشهدان أمام المحكمة بأن فلان بن فلان بن فلان وكل فلان بن فلان بن فلان «في المرافعات والمدافعات والمخاصمات والمصالحات، والقبض والاستلام والتسليم وفي المطالبة والدفع والإقرار، وفي كل ما يصح فيه التوكيل شرعا، وفي أن يوكل عنه في الدعوى غيره، وأن يعزله وأن يفعل ذلك مرارا وتكرارا كلما بدا له فعله المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة»، وأنا أنتظر حضوركما غدا مع الشاهدين ومستند الوقف.
عيسى بن هشام :
ليس لدينا الآن إلا شاهد واحد يعرف أصل الباشا ونسبه.
غلام المحامي :
هذه أول خطوة في تكاليف القضية ومشاقها ولعلك تعرف قيمتها، ونحن نجد لك بتيسير الله من يعرف أصل الباشا ونسبه ويشهد به بين يدي الحق.
عيسى بن هشام :
وليس في يدنا أيضا مستند للوقف.
المحامي :
أما من جهة المستند فينبغي استخراج صورة من السجل «المصان» «كذا» وهذه خطوة ثانية في متاعب القضية.
قال عيسى بن هشام: وعند ذلك قطع الشيخ المحامي كلامه معنا، واستقبل القبلة بوجهه يتنفل ويتبتل، فقمنا للانصراف وسرت مع صاحبي وأنا غريق في الأفكار أتدبر وأعتبر، وأعجب مما رأيت من سكون الباشا وسكوته وحسن احتماله وصبره بعد أن كان شديد الحدة سريع الغضب، يرى القتل واجبا لأدنى هفوة وأقل سبب، فأصبح بفضل وقوعه في هذه الخطوب المتتالية والرزايا المتتابعة لين العريكة واسع الصدر موطأ الكنف كثير الاحتمال، حتى إنه لم يأنف ولم يتأفف من كل ما رأيناه في يومنا هذا، بل كانت حالته حالة الفيلسوف الحكيم الذي يجعل دأبه البحث والتأمل في أخلاق الناس أثناء التعامل معهم، وازددت يقينا بأنه لا شيء أسرع في تهذيب النفوس وتربيتها على التخلق بالأخلاق الفاضلة مثل ممارسة الخطوب ومصارعة النواب، وأن أسوأ الناس أخلاقا وأنكدهم عيشا هم هؤلاء الأغمار
5
المنعمون المترفون الذين لم يأخذوا العيش عن تجارب الحدثان، ولم تهذبهم صروف الأزمان، ولم يزدني الباشا في كلامه أثناء الطريق على أن قال:
الباشا :
قلت لي: إن المحامين الشرعيين فيهم صاحب «الطربوش» وصاحب العمامة فهل تراهم جميعا على هذا النمط الذي شاهدناه أم بين الفريقين فرق؟
عيسى بن هشام :
اعلم أن الخيرة في الواقع، والحمد لله على كل حال فإن فيهم تحت «الطربوش» من هو أشد فتكا من ضواري الوحوش، وأعرف طربوشا منهم أقسم أمامي بالطلاق ثلاثا من زوجته، ومن كل زوجة يتزوج بها في حياته على إنكار كلام نطق به في مجلس كنت حاضره؛ إرضاء لأحد أرباب القضايا، وإغضابا لخالق البرايا، واستهانة بحكم الشارع، واعتمادا على قول الشاعر:
وإن أحلفوني بالطلاق أتيتها
على خير ما كنا ولم نتفرق
وإن أحلفوني بالعتاق فقد درى
عبيد غلامي أنه غير معتق
قال عيسى بن هشام: ومضت علينا الأيام ونحن نقصد الشيخ المحامي في كل يوم فلا نتمكن من لقائه، فإن ذهبنا إليه في البيت قيل لنا: إنه في المحكمة، وإن ذهبنا إلى المحكمة قيل لنا: إنه في القصر الفلاني أو القصر الفلاني من قصور الأمراء والكبراء حتى حفيت الأقدام، ومللنا الاصطبار، فاخترنا أن نربط له أمام بيته عند الثلث الأخير من الليل فنصطاده عند خروجه، وقعدنا بعيدا عن الباب حتى خرج علينا راكبا أتانه، فتقدمت إليه فقال لي: أرجو المسامحة في هذا التأخير، فالذنب فيه لكثرة مشاكل الأمراء ودعاويهم. فتقبلنا عذره وتوجهنا معه إلى المحكمة، فذهب بنا إلى «كاتب الإشهادات» فوجدناه جالسا يلمع في ثيابه: من حمرة الحذاء في رجله وزرقة الجبة على كتفه وصفرة الحزام في خصره وبياض العمامة فوق رأسه:
تعددت ألوانه
كأنه قوس قزح
وكان الشيخ المحامي قد تركنا مع الغلام والشاهد الذي اختاره لنا، فنظر الكاتب إلى الشاهد نظرة المتوقف، وقال: إنه شاب صغير السن وإنه وإنه ... فمال عليه غلام المحامي، وألقى في أذنه بعض القول فقام معنا من فوره إلى قاضي الجلسة لسماع الأشهاد بعد أن قال لنا الغلام: وهذه الخطوة الثالثة في تكاليف القضية، ثم انتهى الأشهاد بحمد الله وحسن العناية بنا في أثناء يوم واحد، وقال لنا الغلام عند الانصراف: يجب بعد هذا أن نقدم عريضة لحضرة القاضي بطلب الكشف من الدفترخانة عن الوقفية في السجل، وأن نوضح فيها نمرة الوقفية وتاريخها ومن «عملية» من هي «يعني اسم الكاتب الذي كتبها في زمانها»، فخرجنا نبحث عن أحمد أغا البيطار لعله يعرف طريقة توصلنا إلى مطلوبنا، فعثرنا عليه وأعلمناه بغرضنا، فقال: إن عندي ورقة فيها نمرة الوقفية كنت تحصلت عليها بطرق مختلفة بعد الجهد الشديد والزمن المديد لإثبات حقي في ريع الوقف، ثم ذهب إلى بيته وعاد إلينا بالورقة فوجدناها قاصرة على ذكر النمرة والتاريخ، ولم يذكر فيها اسم الكاتب الذي عمل «العملية»، فقصدنا غلام المحامي وتوجهنا معه إلى المحكمة، فكتبنا العريضة وقدمناها لحضرة القاضي فوضع عليها إشارة لحضرة الباشكاتب ليتحرى عن مسألة «الشأن» وطلبوا منا شهودا يشترط فيهم أن يكونوا من أهل جيل الباشا ليثبتوا شخصيته، ويشهدوا بأنه صاحب الوقف وأن سواه وضع يده عليه، فأدركتنا الحيرة في الأمر فتكفل لنا الغلام باستحضار أولئك الشهود أيضا بعد أن قال لنا: وهذه الخطوة الرابعة في تكاليف القضية، ولما نظر الباشكاتب في العريضة ووجد أننا لم نبين فيها اسم الكاتب صاحب «العملية» قال لنا: إنه لا يمكن الاهتداء في الدفترخانة بدون ذلك، وإنه لا بد لنا من انتظار السنين والأعوام حتى يمكن العثور على صورة الوقفية في السجل بالنمرة والتاريخ وحدهما، فعاودتنا الحيرة فقال لنا الغلام: لا تحزنا فأنا أساعد على سرعة الإنجاز، وأتوجه معكما إلى الدفترخانة إن شاء الله، وهذه هي الخطوة الخامسة في تكاليف القضية، وما زال الخبيث يعد لنا الخطوات، ونعد له في كل خطوة دريهمات، ونحن نسأل الله أن ينقذنا مما أصابنا من حكم الدهر، وأن يعجل بانقضاء القضية قبل انقضاء العمر.
الدفترخانة الشرعية
قال عيسى بن هشام: وعكفنا زمنا نشتد في الطلب، والمحامي يشتد منا في الهرب، فلما طال علينا الأمد في ارتياده، ويئسنا من لحاقه واصطياده، انتقلنا للبحث عن غلامه، حتى قبضنا على زمامه، فرأينا الخبيث يصعب في الأمور والأحوال، لنسترضيه بالعطاء والنوال، وقال لنا: أقول لكما الحق والحق أقول، إنه ليس من المتصور المعقول، أن نهتدي في هذه القضية إلى صورة الوقفية، بمجرد تاريخها أو اسم صاحبها، دون الوقوف على اسم محررها وكاتبها، ولا يجول في الخواطر والأوهام أن يعثر عليها كاتب السجل بين تلك الآكام، من غير وحي أو إلهام، إلا بعد كر السنين ومر الأعوام، وإن اعتراكما بعض الشك أو الريب، ولم تصدقا بظهر الغيب، فهلما معي أطلعكما على ما يزول معه اللبس، وتقتنع به النفس، فقيدناه بقيود الترغيب والتأميل، وأعطيناه ما يحضرنا من كثير وقليل، فانطلق أمامنا يثب ويحجل، حتى دخلنا بيت السجل، فلما جاوزنا الباب، حيث يجلس الكتاب، ألفينا خشبا مسندة، على خشب موطدة، وهياكل تفترش الفراء، فوق الأقذار والأقذاء، لا تميز منهم وجه إنسان من إنسان، لعشوة البصر من ظلمة المكان، فتذكر الباشا عند ذلك ظلام الرمس، وكر راجعا ينتظرنا في ضوء الشمس، ثم مال الغلام إلى أذن أحدهم يكلمه، بما لا أعيه ولا أفهمه، فبادر الرجل بالنهوض والقيام، وسار بالغلام وأنا في عقب الغلام، فما خطونا بضع خطوات حتى حيل بيننا وبين ضوء النهار، وتجللنا من حندس الليل بحجب وأستار،
1
فوقفت لا أبصر ولا أهتدي، فأخذ الغلام بيدي.
وقد عميت علي وجوه المسالك، في هذه المخاوف والمهالك، وسرت فوق أرض تهش تحت القدم وتلين، كأنها مفروشة بالهشيم تلبد في الطين، وما زلنا نمشي في أنحاء تلك المطمورة،
2
على هذه الصورة، حتى تخيلت أنني في قبور قدماء المصريين، أو في هياكل الأسرار بمعابد الرومانيين، أو في طريق الامتحان عند أحرار البنائين، فوجب القلب،
3
من شدة الرعب، خشية أحبولة نصبت، أو مكيدة رتبت، ووجمت، ثم أحجمت، وقلت للغلام: ليس بيننا ما يوجب الاحتيال، أو يدعو للاغتيال، وماذا تريد مني في هذا الغيهب،
4
وليس معي من فضة ولا ذهب، ولا من شيء يستلب أو ينتهب، فقهقه الفاجر ثم أقسم بالله وثنى بالطلاق، أننا نسير في أمان بين غرائر الدفاتر ولفائف الأوراق،
5
وقال: كن آمنا مطمئنا على نفسك، وسترى الحقيقة بعيني رأسك، وما كاد الشقي يتم لي هذه العبارة، حتى عثرت قدمي في لفافة فوقعت على غرارة، وإذا بصائح يصيح من تحتها متبرما متأففا، ويقول لي متغطرسا متعجرفا: ما هذه الغشاوة يا عديم الإبصار، ونحن لا نزال في أديم النهار؟ فقمت متثاقلا متساندا، وقلت في نفسي منشدا:
دجى تتشابه الأشياء فيه
فيجهل جنسها حتى يصيحا
ثم تأملت فإذا أنا بخيال ينفض الغبار عن رأسه ولحيته، بذيل مئزره أو جبته، فتولاني الخوف والوجل، وقلت: من الرجل؟ فقال الغلام: كاتب من كتبة «السجلات»، ينبش عن أوراق في «سجل الأيلولات»، فقلت: وكيف يهتدي لذلك، وسط الظلام الحالك، فقال: أولئك قوم اعتادوا العمل مع احتجاب الضياء، فصاروا كالخفاش يبصرون في سواد الظلماء:
ولو سار كل الورى هكذا
لما حسد العمى من يبصرون
ثم انعطفنا من ذات اليمين إلى شبه قاعة، يلوح فيها من الضوء مثل جناح يراعة،
6
وإذا هو لعاب الشمس يسيل من ثقب،
7
في سقف الجب، وهو يتموج بأنواع الجراثيم، تموج الماء بالهشيم،
8
فخلت أن عجوز الفلك الدوار - أريد بها شمس النهار - خشيت أن تضل في ظلمة هذه المفازة، فاتخذت لها من لعابها عكازة، تتوكأ عليها للاهتداء، وتدب بها في هذا العماء، فمسحت على بصري، وأحدقت بنظري، فأبصرت وماذا أبصرت، ونظرت وماذا نظرت:
ما إن سمعت ولا أراني سامعا
أبدا بصحراء عليها باب
نعم رأيت فضاء متسعا تراكم فيه من الأوراق الرثيثة والدفاتر البالية، مثل الربى الشاهقة والأكمات العالية، غير أن هذه تثمر وتجني، وتلك تعث وتبلى، هذه تكون مخضرة مخصبة، إن جادها الحيا أينعت بالغض من النبات، وتلك سوداء مجدية، إن بللتها الرطوبة اهتزت باليابس من الحشرات:
فالأرض تبسط في خد الثرى ورقا
كما تنشر في حافاتها البسط
والريح تبعث أنفاسا معطرة
مثل العبير بماء الورد مختلط
وهذه بسطت فوق الثرى ورقا
لكنه للبلى والعث منبسط
وريحها تورث الأسقام ناشقها
كأنه من تراب القبر يستعط
9
وما لبث أن استبان ليشخص الكاتب المرافق لنا، في لمحة ذلك السنا، فإذا هو قصير القامة، كبير العمامة، ذو وجه مقنع بالاصفرار، وعين مكتحلة بالاحمرار، وقد طوى من خلفه الجبة، ورفعها على ظهره كالجعبة، وفي حزامه دواة من نحاس أصفر، وبين طيات العمامة أوراق بالتواريخ «والنمر»، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت لذلك الغلام اللئيم:
عيسى بن هشام :
هلم بنا أيها المراوغ إلى الباب لنعود إلى ضياء الحياة فقد يئست من أمرنا، وأنى لهذا الكاتب أن يهتدي للبحث في هذا اللج القامس،
10
والليل الدامس.
11
غلام المحامي :
لا تنكرن على مثله الاهتداء في دياجي الظلماء، ولا يهولنك تشتت الدفاتر وتراكم الأوراق فهي مرتبة في حافظته ترتيبا انطبع فيها من طريق الوراثة عن أبيه وعن جده، فلا تخفى عليه مواقعها كما يتوارث رؤساء «البوغاز» في الإسكندرية هداية السفن عند دخولها بما علموه عن آبائهم من مواقع الأرض في قاع البحر، ولو كان معنا اسم الكاتب لسهل البحث ولوصلنا إلى الغرض.
الشيخ الكاتب :
نعم لا تنكر علينا بارك الله فيك اهتداءنا للبحث في هذه الأوراق، والله يعلم أن هذه الدفترخانة مرسومة في ذهني منذ الصغر على أحسن ترتيب وتبويب، فهي مقسمة إلى عدة سجلات منها «سجل الباب العالي»، تسجل فيه الأعيان المبيعة غير الموروثة، ومنها «سجل القسمة العسكرية»، تسجل فيه الأعيان المبيعة الموروثة، ومنها «سجل الأيلولات»، تسجل فيه الأعيان المحصورة من تركة تخصص أو تباع بالمزاد، ومنها «سجل الإعلامات»، تسجل فيه المواد التي تصدر فيها أحكام من المحاكم الشرعية من أي نوع كان، ومنها «سجل التقارير»، تسجل فيه تقارير النظار وقفا وغيره، ومنها «سجل الوقفيات»، وتسجل فيه نفس الوقفيات، ويدخل فيه التوكيلات والوصايا والتصادق.
عيسى بن هشام :
سبحان الفاتح الوهاب، ومن يهديني إلى طريق الباب!
الشيخ الكاتب : ... ومنها «سجل الديوان العالي»، تسجل فيه الفرمانات المتعلقة بتولية القناصل وعزلهم، والإعلامات الصادرة من مجلس استئناف مصر في الهيئة التي يحضرها القاضي الشرعي أو النائب عنه مع جملة من كبار العلماء من المذاهب، ومنها «سجل القسمة العربية»، تسجل فيه الأعيان الموروثة المختصة بالذميين.
عيسى بن هشام :
اللهم ارفع عنا الأذى والمقت، وهلم فقد ضاق بنا الوقت.
الشيخ الكاتب (مسترسلا) : ... ومنها «سجل إسقاط القرى» يسجل فيه ما يأخذه الأمراء ويعطونه من الأطيان والقرى، وليس يخفى أنه كان في مدينة مصر محاكم شرعية سياسية وكانت السيطرة عليها للقاضي من قبل السلطان، وكان لكل واحدة سجل تسجل فيه جميع الأنواع «وقد حفظت تلك السجلات كلها بهذه الدفترخانة»، وكانت مراكزها في جهات «باب الشعرية» «وقناطر السباع» و«جامع طولون» و«جامع قيسون» ...
عيسى بن هشام :
يكفي أيها الشيخ فقد وجب الرحيل، ولا حاجة بنا إلى هذا التطويل والتفصيل.
الشيخ الكاتب (معددا) :
وفي جهات «درب سعادة» و«باب الخلق» و«الصالحية» و«النجمية» و«أحمد الزاهد» و«البرشمية» و«مصر القديمة» و«بولاق» و«جامع الصالح» و«جامع الحاكم» ...
عيسى بن هشام :
تبارك من له الأسماء الحسنى، ومن يعيدني إلى الحياة الدنيا.
الشيخ الكاتب : ... ثم «محكمة الباب العالي»، وهي المحكمة الكبرى وقاضيها هو المسيطر على الجميع المولى من القسطنطينية، و«محكمة القسمة العسكرية»، وقاضيها يعين كل سنة من دار السعادة كقاضي المحكمة الكبرى، ويسمى «القسام» وشغله المواريث بأنواعها فقط، و...
عيسى بن هشام (للغلام) :
لقد مل سمعي، وضاق ذرعي، فاخرج بنا وأنقذني من شر هذه الدار، ومن ثرثرة هذا الشيخ المهذار.
الغلام :
لا تضجر ولا تقنط وأنظرني قليلا حتى أستنير برأي الشيخ لعلنا نجد عنده حلا للعقدة، وفرجا للكربة. (ثم مال على الشيخ منفردا به فسمعته يقول له):
مثلك لا يعجز عن استخراج الوقفية بدون الوقوف على اسم كاتبها، وأنت لا تأبى الربح والكسب لنا جميعا، وأصحاب القضية من كبراء الناس أهل السماحة والكرم.
الشيخ الكاتب :
مهلا فقد كدت أتذكر اسم كاتب الوقفية على ذكر السماحة والبذل، فإن لكتابتها حكاية مشهورة في الجود والعطاء منذ ذلك العصر، ولا يزال للخلع التي خلعت على كاتبها بقايا إلى اليوم عند أهله وذريته وهو المرحوم الشيخ فلان، فدونك وأصحاب القضية فاتفق معهم لوضع هذا الاسم في ورقة النمرة والتاريخ، وجئني بها نافعة تشفع لنا أجمعين، والله ينفعنا بنفع المسلمين.
الغلام (لعيسى بن هشام) :
قد تيسرت الحال بإذن الله ووصلنا إلى معرفة اسم الكاتب الذي تستخرج به الصورة، والرأي لك في هذه الخطوة السادسة.
قال عيسى بن هشام: ثم انطلق الغلام أمامي يسحبني وراءه حتى خرجنا بحسن صنع الله من الظلمات إلى النور فجهرت
12
عيني وسدرت
13
فلم أبصر في الشمس عند الباب إلا بعد التردد مرارا بينها وبين الظلام، ولما التقيت بالباشا في الموضع الذي كان ينتظرني به سألني عن طول هذا الغياب، فلم أرد أن أضيف إلى مصائبه مصيبة أخرى بوصف ما كنت فيه، بل كتمته إياه وأخبرته بتيسير الحاجة، ثم اتفقنا مع الغلام على أن يباشر وضع اسم الكاتب في الورقة، ويعود في اليوم الثاني إلى الشيخ الكاتب ليأتينا بصورة الوقفية، بعد أن نقدناه ما نقدناه.
ثم دارت بعد ذلك علينا الأيام ومضت الشهور، ونحن نتردد على الدفترخانة تارة في صحبة الغلام، وتارة بدونه إلى أن حل الأجل وآن الأوان، فجاءنا الغلام ذات يوم يبشرنا بالوقوف على الوقفية ففرحنا فرح الغواص بدرة التاج، تحت تلاطم الأمواج، ونهضنا معه إلى الدفترخانة فرأينا الشيخ الكاتب عند الباب يتيه إعجابا بمهارته في الاهتداء عليها مع قصر الوقت، ويحمد الله على حسن الطالع وسعود الجد فحمدناه على همته العالية وصنعه الجميل، فأخرج من تحت إبطه أوراقا بالية متخرقة متآكلة لا تستوي منها ورقة مع أختها فيها سطور متقطعة وخطوط متوزعة لا يستطيع أن يحلها إلا من كان عريقا في كشف الرموز وفك الطلاسم، فقلت له: إن الاهتداء إلى نقل صورة مفهومة من هذه الأوراق لأعظم مشقة وأدهى بلية من الاهتداء على موضعها من تلك الصحراء المظلمة، فقال لي: إن كثرة التعود تيسر العسير وتهون الصعب، وقد ورثت عن المرحوم والدي أيضا قراءة هذه الخطوط وتلفيق مارث من أواخر السطور، والعبارة واحدة لا تتغير تقريبا في كل باب من أبواب السجلات، ورأيته يستعد ليسترسل في أبواب الشرح والوصف، وخفت أن تشتد به نوبة الهذر والإكثار فودعناه وانصرفنا، وكلفنا غلام المحامي أن يأتي لنا بالصورة من عنده بعد انتهائها، فطلب منا أن ندفع «رسمها» وأن نأتي بشاهدين يشهدان علينا باستلامها، ووعدنا بأنه ينوب عنا في اجتلابهما بعد أن طالبنا بالمكافأة الواسعة، على هذه الخطوة السابعة.
المحكمة الشرعية
قال عيسى بن هشام: ولما صارت في يدنا الصورة، بعد تلك المواقف المذكورة، خطا غلامنا الثامنة من خطواته، في بعض روحاته إلى المحكمة وغدواته، فذهب إلى كاتب «الطلبات» لتحديد إحدى الجلسات، ثم عاد فبشرنا بأن الكاتب اتفق مع الرئيس، على أن تكون الجلسة في يوم الخميس، وأنه حرر «طلبا» لحضور الخصوم، في الوقت المعلوم، فأقمنا أياما نعلل النفس بالأمل، حتى حل هذا الأجل، وسمح لنا الطالع بطلعة الشيخ المحامي ولقائه، بعد طول احتجابه عنا واختفائه، ورضي أن يتوجه معنا إلى المحكمة، ليكشف عنا بيمنه كل مظلمة، فسرنا جميعا نقصد بيت القضاء الشرعي، والحكم المرضي، والعدل المقضي، بوحي الإله وسنة النبي، حيث تقام منابر الهدى، وتشاد منائر التقى، وينبلج نور الحقيقة والعدالة، وتنكشف ظلمة البدعة والضلالة، ويؤخذ من الظالم للمظلوم، وينتصف من الحاكم للمحكوم، ويسار على الصراط السوي، في الحكم بين الضعيف والقوي، حيث تتحد المواقف والأقدام، وتستقيم الأوامر والأحكام، وتغدو فيه الثكلى ربة الأيتام، أعز من الفارس رب الرمح والحسام، ويصبح الأعزل الشاكي، أقوى من المدجج الشاكي،
1
ويتساوى لديه رب الشويهة والبعير،
2
برب التاج والسرير، نعم حيث يكون المقعد الموروث، عن النبي المبعوث، وحيث يعمل بالسنة وآي الكتاب، فينتصر للذليل على العزيز، ويقتدى فيه تارة بسيرة عمر بن الخطاب، وأخرى بسيرة عمر بن عبد العزيز ، وحيث يكون مقر المهابة والجلال، ومصدر الوقار والكمال، وموضوع الطهارة والأمان ومنبع العفة والصيانة، وقبلة القنوت والخشوع، ومقام الطاعة والخضوع.
ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سرج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا لمن هذي الركاب، فقيل لنا: إنها لجماعة الكتاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب، ونحونا نحو الباب، في تلك الرحاب، فوجدنا عليه شيخا حنت ظهره السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمش والصمم، ولج به الخرف والسقم وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء، ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحما بأناس مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابون ويتشاتمون، ويتلاكمون ويتلاطمون، ويبرقون ويرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان، ويتساقطون على الأرض، وما زلنا نزاحم على الصعود في الدرج، والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى من الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط هذا الجمع المتلاصق، والمأزق المتضايق، ووصلنا إلى القاعة السفلى، فوجدنا عندها امرأة حبلى، تتقلب على الأرض كالثعبان، وتستشهد بالأهل والجيران، أن بعلها أنكر حملها، وحاولنا أن نخطو خطوة إلى الأمام، فلم نستطع من شدة الزحام، وكيف بالتقدم في عباب موج ملتطم، ومنحدر سيل مرتطم، من نساء صائحات مولولات، ونائحات معولات، ونادبات باكيات، وصارخات شاكيات، كأنهن قائمات في مأتم على مدافن الأموات، تقرحت فيه العيون، وبحت الأصوات، وفيهن المسفرة والمتقنعة، والمضطجعة والمتربعة، والحاسرة عن الذراع والرأس، وأختها تفليها في وهج الشمس، ومنهن الكاشفة عن ثدييها ترضع طفلا على يديها، وغيرها ترضع طفلين في حذاء، وزوجها يضرب رأسها بالحذاء، وأخرى آخذة بضفيرة ضرتها، ورضيعها يتلهف على ضرتها.
ومن بينهن من يتقدمها طليقها، ويتبعها عشيقها تشيع الأول باللعن والسباب، وتغمز الثاني بكف مزدانة بالخضاب، ورأينا العقيلة المخدرة مع «الأغا» لا يستطيع أن يحميها في حرمة هذا الوغى، وشاهدنا في الجمع جماعة من فجار الخلعاء، وتباع النساء، يغازلون كل غانية هيفاء، ويغامزون كل غادة غيداء،
3
ويتعرضون لفض النزاع بين ذوات القناع، وفصل العناد والشقاق بين الطاعنات بالأحداق، فتختلط غمزات الطرف بهمزات الكف، فيزول ما هنالك من الجدال والخصام، ويصيرون جميعا إلى الحسنى والرقيق من الكلام، ورأينا فيما رأينا من غرائب البشاعة، وعجائب الشناعة، رجلا وامرأة يتسابقان في ألفاظ الفحش والهجر،
4
ويتباذان في أقوال البذاءة والنكر، وهما يتجاذبان في أيديهما غلاما، كأنما يحاولان له اقتساما، ليأخذ كل منهما من أعضائه بنصيب، والغلام يبكي من شدة الألم والتعذيب، فاستعذنا بالله السميع العليم، من موقف هذا الجحيم، وسمعنا من أفظع ما سمعناه امرأة تنتحب وتقول، ونقابها بماء العين مطلول: «لو كان للنساء قضاة من النساء لما وصلنا إلى هذه الحالة التعساء، فإن الرجال يميلون لجنس الرجال، ويتناصرون لبعضهم على ذوات الحجال»، فاستعنا برب المثاني،
5
وصعدنا في السلم الثاني، فإذا هو كالأول يتموج بالناس كبيوت النمل، أو خلايا النحل، وانتهينا منه إلى قاعة ممتلئة بصنوف الباعة، هذا يصيح: «الخبز والجبن»، وذاك ينادي «الدخان والبن»، وآخر يقول: «الزبدة والعسل»، وبعضهم يردد: «الفول والبصل»، وبائع الضأن يفتت بسكينه جماجم الرءوس، والثلاج يصفق بأكواز «العرقسوس»، وهناك «قهوة» يدب فيها الشهود بالعشرات، كدبيب الحشرات فيعرضون أنفسهم على الخصوم للشهادة أو التزكية بأجر معلوم، وغلمان المحامين يروحون بين الجموع ويغدون، فيمكرون بهم ويكيدون، ويتقلبون بين الخصوم ويحتالون، فيخدعون ويغتالون، ودخلنا حجرة صغيرة من حجرات الكتاب، فثار في وجهنا ما على أطباق الباعة من جيش الذباب، فرجعنا على الأعقاب، ونجونا من الأوصاب، ثم انحدرنا مع غلام المحامي إلى حجرة كبيرة الساحة، فقال: اجلسوا هنا للاستراحة، فأجلسنا في صدر المكان، بين الكتبة والغلمان.
ولا بد لكل كاتب هناك من غلام، يقوم مقامه في تدوين الأحكام، فسمعت الكاتب الجالس عن اليمين، يقسم على أقواله بكل يمين، بأنه لولا اعتراض مركبات الكهرباء وضيق الميدان، لما تأخر حماره عن حمار فلان، وسمعت صاحبه بجانبه، يحلف بجده وأعز أقاربه، أنه لولا حبسه للعنان، لسبق كل الحمير في يوم الرهان، ويقول له وهو يتلفف في العباء: «قد بلغنا عن الأجداد والآباء، أنه إذا صحت الشعرة الخضراء، لم يتعلق بذيل الحمار الهواء»، ثم التفت ذات الشمال فوجدت كاتبا منهم غض الشباب، عظيم التأنق في لبس الثياب، فهو يتلألأ ويتألق، في سندس وإستبرق، كأنما خاطوا له قباء من أزهار بستان، مختلفة الأشكال والألوان، يفعم الأنوف بعطره، ويعبق الجو بنشره، وأمامه رجل في يده صرة ثياب ينشرها ويطويها، فيأخذها «السيد» منه ويرميها، ويقول له في حدته، وشدة سورته:
السيد :
هذه ثياب لا أرضاها ولا أقبلها، وبئس المفصل مفصلها.
الخياط :
كيف ترى ذلك أيها السيد، وأنا أقسم لك بالقرآن المجيد، أنها أوسع من ثياب السيدين عبد العزيز وعبد الحميد.
السيد :
كذبت ورب الكعبة فإن استدارة الكم ضيقة والرقبة لا تنطبق على الزي الحاضر.
الخياط :
وماذا أصنع وذلك كل ما في عرض الحرير، ولو كنا على الزي القديم لدخل مع السيد في طي ثيابه، اثنان أو ثلاثة من أصحابه.
أحد أصحاب القضايا :
صبح الله السيد بالخير والإنعام.
أحد الكتبة الظرفاء (منكتا) :
لا، بل بالخيل والأنعام.
صاحب القضية :
أرجو سيدي أن يعطيني «الإعلام».
السيد :
اذهب حتى يأتي الغلام.
الكاتب الظريف (موريا) :
عليك به في شارع أم الغلام، تجده جالسا نصا تحت الأعلام.
قال عيسى بن هشام: وعافت نفسي هذه النكت الباردة والمعاني الساقطة، فأعرضت عن الإصغاء، وسرحت طرفي في بقية الأنحاء، فرأيت الكتبة كلهم يتفاكهون ويتسامرون، هذا يلت في يده أفيونه، وذاك يكور بين أصابعه معجونه، والغلمان يشتغلون تارة بأوراقهم، وطورا يتباحثون في أذواقهم، وأرباب الحاجات بين أيديهم يقاسون سوء الرد، ومطل الوعد، وسمعت أحد الكتبة يخاطب صاحب قضية، بألفاظ بذية، ويقول له: «كيف تعطي الغلام هذا المبلغ الزهيد؟ أتظنه كان لك من العبيد؟ أتريد أن يكتب لك ويتعب، (وهو لا أجرة له في المحكمة ولا مرتب)
بغير ربح ولا مكسب؟ إن هذا لمن أعجب العجب!» وجاء رسول القاضي يطلب أحد الكتبة الرؤساء فوجده راقدا كالنفساء، فبعضهم أشار بتنبيهه من غفلته، وقال بعضهم: لا بل اتركوه في رقدته، أنسيتم حكم عادته، بأنه لا يفيق من غفوته، قبل أن يسيل الأفيون مع الدم في دورته، ثم اتفق معهم الرسول، على أن يرجع فيقول: «إنني لم أجد الشيخ مكانه، وعلمت أنه نزل إلى الدفترخانه»، ثم استيقظ الراقد بعد مدة فتثاءب وتمطى، ثم تدثر وتغطى، ثم عاد إلى ما كان فيه من السبات، وهو ينشد للمعري من أبيات:
وفضيلة النوم الخروج بأهله
عن عالم هو بالأذى مجبول
ثم جاءه بائع كتب وأوراق فصاح به حتى أفاق، وقام بعون الله وحوله، يخاطب البائع بقوله:
الكاتب :
هل أحضرت ما طلبته من الكتب؟
البائع :
نعم جئتك بكتب قديمة، لا تقدر لها قيمة، منها كتاب «حل الرموز، لفتح الكنوز»، ومنها «أصول المراسم، في فك الطلاسم»، ومنها «حسن إرشاد الناس في استخراج الذهب من النحاس»، ومنها «القول المأثور في تأثير البخور»، ومنها ...
الكاتب :
ألم تعثر لي على كتاب في «الاستحضار»؟
البائع :
نعم معي كتابان أحدهما «قلائد اللؤلؤ والمرجان في استحضار الجان.» والآخر «خير المواقيت، لرؤية العفاريت».
الكاتب :
بارك الله فيك وجزاك خيرا، فإن عندي نسخة محرقة من هذا الكتاب الأخير فاصحبني إلى البيت لنقابلها ونصححها.
قال عيسى بن هشام: وقام هذا الكتاب مع البائع، وأقمت أسخط على هذا الجهل الشائع، والعمل الضائع، وبينا أنا كذلك إذ أشار علينا غلام المحامي بالقيام، فقد آن نظر قضيتنا، فخرجنا فوقفنا عند باب الحجرة التي تنعقد فيها الجلسة، فرأينا الزحام خارجها وداخلها على أشد حالاته، وسمعنا الحجاب ينادي تارة بصوت عال وتارة بصوت منخفض، فسألت الغلام عن ذلك فقال: إنه يخفض الصوت حتى لا يسمع أرباب الدعاوى النداء فتسقط القضية وهو من باب الشفقة والحنو بالمدعى عليه، وفوق ذلك فإن للحجاب أن يدخلوا الجلسة من أرادوا، ويحجبوا عنها من أرادوا، ثم نودي علينا فدخلنا مع شهود المعرفة الذين استحضرهم الغلام لنا، فوجدنا الجلسة مؤلفة من ثلاثة أعضاء برئيسهم وهم جلوس كل واحد منهم بمعزل عن الآخر، وقد تعسر علي أن أفهم كلام الباشا وهو بجانبي يخاطبني لشدة الضوضاء وعلو الأصوات، ثم دخل كاتب الجلسة يرقص في مشيته ، وكأنه الطاووس في هيئته فجلس ووقفت عنده بحيث أبصر ما يسطره، فوجدته قد تناول القلم بأطراف بنانه يضعه في الدواة تارة ويضعه في أذنه أخرى، ثم يلهو بتفقد ثيابه ويشتغل بلمس الإبر التي تتشبك بها العمامة، ثم ابتدأوا في سماع القضية، وتقدم الباشا مع الشهود فلم أسمع شيئا مما قالوه أو قيل لهم لكثرة الجلبة والصياح، وإنما رأيت الكاتب يكتب في دفتر الضبط - وكأنما يكتب من عنده - ما أنقله بحرفه وهو:
استحضر أمام الجلسة المدعي والمحامي والشهود فتقدم المدعي، وعرف أنه فلان بن فلان بن فلان وسمى شاهدي معرفته وهما فلان بن فلان بن فلان، وفلان بن فلان بن فلان الساكنان بالجهة الفلانية شياخة فلان بن فلان بن فلان، وشهد كل منهما على انفراده بأنه يعرف المدعي المذكور، وأشار إليه بيده وهو فلان بن فلان بن فلان المذكور، ثم قال المدعي المذكور: إن لي قبل فلان بن فلان بن فلان دعوى نظر على وقف ومعي مستند دعواي والمدعى عليه لم يحضر مع استلامه علم الطلب المحدد له فيه الحضور في هذه الجلسة.
ثم أمرت المحكمة بانصرافنا للمداولة والنظر في المستند، فوقفنا ناحية من الحجرة ننتظر مع من ينتظر، ثم نودي علينا بعد مدة فقالوا لنا: إن المحكمة تعلمنا بمضمون المادة 72 من اللائحة وهي تقضي - على ما أخبرنا به المحامي - بالإعذار إلى المدعى عليه، وقال: لا بد أن نطلب ذلك من المحكمة؛ لأنه لا يسوغ لها أن تعذر إلا بناء على طلب المحامي، فقدمنا الطلب، فتقرر إصدار الإعذار، والله يكفيك شر ما في هذه الدار، من الأقضية والأقدار، وكثرة الهموم والأكدار.
قصر حفيد الباشا
قال عيسى بن هشام: ودخلنا - لا أدخل الله عليك طوارق النقم، ولا أخرجك من طرائق النعم - في دور الإنذار يتبعه الإنذار، والإعذار يتلوه الإعذار، ومندوب المحكمة يعود إلينا بالخيبة، في كل أوبة، زاعما أن خدم الخصم لا يقابلونه إلا بالازدراء، كغيرهم من خول أبناء الأمراء، حتى وصلنا إلى حد الإعذار الأخير، ورمينا المندوب بالإهمال والتقصير، فرأينا أن نخبر خبره، ونقتفي أثره، ونتحقق بأنفسنا كيف يتسع الذرع، للاستخفاف برسول الشرع، فسرنا وراء المندوب ومعه الشاهدان، يشهدان بأنه أعذر فلان بن فلان بن فلان، وقد أمسك الواحد منهم بكتف الآخر، على هيئة تستفز كل هازئ وساخر، وكل منهم يخد الأرض بحذائه، ثم يعفي الأثر بفضل ردائه.
وهم ينتقلون في المشي من الذميل إلى الرسيم إلى الوخيد،
1
كأنهم مسرعون إلى جفنة ثريد، ونحن من خلفهم نخب ونهرول، ونحسبل ونحوقل، إلى أن كادوا يغيبون عن البصر، وكدنا نفقد منهم الأثر لولا أن عثر أحدهم بقضبان مركبات الكهرباء، فطاحت العمامة وانفلت الحذاء، فانفتل يلتمسها ويلتمسه، فلم يرعه إلا السائق وجرسه، فما تحرك ولا انتقل، حتى أدركته العجل، وكاد يداس ويقضى عليه، لولا أن جذبه رفيقه إليه، فحيل بين الرجل وبين عمامته ونعله، ووقف مخبولا لا برأسه ولا برجله، وهو يستنجد لهما ويستغيث فلا يغاث، حتى مرت عليهما المركبات الثلاث، فأدركناه وهو ممتقع اللون من اليأس والوجل، فبشرناه بسلامتهما فاعتم بهما وانتعل، وحمد الله على هذا اللطف في القضاء، وحمدناه على ما أتيح من التعويق والإبطاء؛ إذ تمكنا من اللحاق بهم، وقدرنا على استئناف السير في عقبهم.
وقد انتهى السير بنا إلى قصر في سرة بستان، يزري في الحسن بقصور بغداد وغمدان، وقد ترصع البستان بأنواع الأزاهر، كأنه محلى بصنوف اليواقيت والجواهر، والقصر في وسطها كأنه الدرة البيضاء، أو البدر بين نجوم السماء:
كأنه جيد وبستانه
من حوله عقد بديع النظام
وما عساي أقول في وصف روض قد نسجته يد الأرض؛ لتزدان به يوم عيدها ويوم زينتها، ونمنمته رداء لها تختال به في حسن رونقها وبهجتها:
مؤزرة من صنعة الوبل والندى
بوشي ولا وشي وعصب ولا عصب
2
قد أغنى الغواني نسيمه العليل، عن المسك الأذفر، وكفاها ريحه البليل، تعطرها بالطيب والعنبر:
بغرس كأبكار الجواري وتربة
كأن ثراها ماء ورد على مسك
ومنى العرائس أن لو اتخذت من نوار الأزهار فصوصا للخواتم، ومن أكمام الأشجار معاقد للتمائم، وودها أن لو تأزرت من سندس أرضه بأبهى إزار ومرط ،
3
وتحلت من جوهر نباته بأزهى شنف وقرط:
إذا ما الندى وافاه صبحا تمايلت
أعاليه من در نثير وجوهر
إذا قابلته الشمس رد ضياءها
عليها صقال الأقحوان المنور
وقامت فيه مثمرات الأغصان قيام الكواعب الأتراب، ساقيات بالأباريق والأكواب، ساكبات سؤر الطل من تلك الأقداح، مائسات من رحيق الندى ومداعبة الرياح:
شقائق يحملن الندى فكأنه
دموع التصابي في خدود الخرائد
فما تخيلنا في هذا الروض مذ رأيناه إلا أننا في حفلة عرس، جمعت أسباب اللهو وأطراف الأنس، قد نصب الغيم عليها سرادقه، ومد ملتف النبات فيها نمارقه،
4
وأشرقت الأغصان الأنوار، إشراق المصابيح بالأنوار، وقامت الأطيار على الأعواد، تتسابق في الترنم والإنشاد، فهي تغرد بألحان يقطع السامع لها حبل النفس، ويأنس إليها مستنفر الوحش المفترس:
رأت زهرا غضا فهاجت بمزهر
5
مثانيه أحشاء لطفن وأوصال
وللنسيم بين الشجر نغمات بالهفيف والحفيف، من ثقيل في الضرب أو خفيف، تصفق لها أكف الأوراق، وتقوم الأفنان للرقص على ساق، مترنحة الأعطاف من خمر الندى، مهتزة القدود بغمز الصبا، تبسم عن أقاح نضيد، يزري بثنايا الغيد، ثم تميل برشيق القوام فتلتقط ما ينقطها به الغمام، والجدول يجري تحت أذيالها ويتعثر، وينساب الماء في ظلالها ويتكسر، كأن حصباءه اللؤلؤ والمرجان، في نحور الحسان، أو قلائد العقيان، في أجياد القيان:
تروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
ولما ملئنا من هذه الجنة طربا، وقضينا عجبا، قلنا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ما أعجز الخلق عن شكر نعماه، وإذا بقوم عند باب القصر، كأنهم أفراخ في مخلب صقر، تعلو وجوههم قترة، ترهقها غبرة، وهم بين باك ومنتحب، وصارخ ومصطخب، فتفرست في هيئاتهم، وهم يذكرون حاجاتهم، فإذا هم جميعا في يأس وقنوط، وخيبة وحبوط، وإذا الصيرفي يقول: بصوت المقهور المخذول:
الصيرفي :
تعسا لي لقد ضاع مالي، وذهبت آمالي.
التاجر :
وبؤسا لي لو كنت أعلم بهذه المآل، لم أقع في تلك الحبال.
البائع :
يا ويح نفسي اغتررت بالمقام العالي، فخسرت رزق عيالي.
الجوهري :
ويل لمن خدعته الظواهر ، فضاعت عليه الجواهر .
الصيدلاني :
أقسمت لا يضيع عنده ثمن الدواء، ولو تعلق بأطراف السماء.
الخمار :
تبا له من محتال مال على دني، ثم اختفى عن عيني.
القصاب :
أنا لا يضيع عنده حقي، ولو وضعوا السكين على حلقي.
الخياط :
وأنا لا أترك هذا الباب، حتى أمزق ما عليه من الثياب.
الإسكاف :
ورأس أبيه وجده، لآخذن ثمن الأحذية من جلده.
الحلاق :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، وكم لصنعتي من منافع ومزايا، وليتني كنت شوهت خلقته، ومسخت سحنته، فنتفت شاربه، وحلقت حاجبه، تالله لآخذن بناصيتي هذا الثقيل البارد، ولأسدن عليه المصادر والموارد ولألزمنه صباح مساء، ولو حلق في الهواء.
كل هذا والخدم يكتمون وجود صاحب الدار، ويقسمون أنه لم يبق لديه درهم ولا دينار، وإذا هم أحد الغرماء بالدخول منعوه، أو دافعهم أحدهم دفعوه، وبينما نحن نتأمل ونتعجب، ونتقلى على الجمر ونتقلب، ونقابل بين سعد المكان، ونحس السكان، إذا برجل إفرنجي قد خرج من بيت الحرم، وهو يلتهب غيظا ويضطرم، ويقول للبواب برطانته، وسوء عبارته: لقد طالبته فأبان الإفلاس والعجز، فلم يبق إلا توقيع الحجز، وإليك قائمة البيان، وحذار من التلف والنقصان، وما كاد «محضر المختلطة» ينتهي ويذهب، حتى حضر «محضر الأهلية» يلهث من التعب، فسلم البواب ورقة إنذار، فأخذها وهو يدعو بالثبور والدمار، وبعقب ذلك انصرف المحضر، وتبعه جميع من حضر لاشتداد حر الظهيرة وأوارها،
6
ولفح الشمس للوجوه بنارها، فانتهزنا هذه الفرصة فتحرك مندوبنا وتقدم، وخاطب البواب وهو يتلعثم، فقال له: أنا مندوب المحكمة الشرعية، فقال له: لم يكن ينقصنا إلا هذه البلية، ثم دفعه في صدره، فرده إلينا بظهره، بعد أن أخرجنا من الجنان، وأغلق باب البستان، فأخذ المندوب بيد الشاهدين وهو يتظلم ويتضرر، ووقف بينهما ينادي في الهواء بالنداء المقرر: «يا فلان بن فلان بن فلان إن مولانا قاضي مصر يأمرك بأن تحضر إلى المحكمة في يوم الخميس الآتي للنظر في دعوى اغتصاب الوقف الموجهة عليك من قبل فلان بن فلان، وإن لم تحضر في اليوم المذكور ينصب عنك وكيلا ، ويسمع الدعوى في وجهه ويحكم عليك غيابيا.»
ثم ودعنا المندوب والشاهدين وانصرفوا إلى سبيلهم، وبقيت أنا والباشا في دهشة وذهول وحزن وأسف مما رأينا وسمعنا، ثم استند الباشا إلى سور البستان، وشرع يقول لي وهو في تأمله وتفكره:
الباشا :
ما زالت بواطن الأمور وحقائق الأشياء تتجلى لي على وجهها منذ غمرني الدهر في هذه المشكلات والخطوب، حتى تحققت اليوم بأن أمور هذه الدنيا إنما تجري كلها على التضليل والبهتان، وتدور على التمويه والبطلان، وتنطوي على الغش والتدليس، فبالله عليك من ذا الذي يرى هذا القصر بزينته وبهجته وخدمه وحشمه ولا يتولاه الحسد لساكنيه، والتطلع إلى حسن حظهم وسعادة عيشهم، ثم يرجع إلى نفسه فيسخط على حظه من الدنيا ويندب نصيبه من الحياة وسوء قسمته في العالم!
عيسى بن هشام :
لا زلت ترى الحق وتقول الصدق بما يتسع لك من سبيل الهداية والحكمة، نعم إن جل من نراهم من المنعمين المترفين والأغنياء الموسرين لو كشفت عن باطن أمرهم وحقيقة أحوالهم وخبايا معيشتهم من وراء الجداران لوقفت على ما يوجب الأسى والأسف، ويدعو إلى الرحمة والشفقة لا ما يدفع إلى الحسد والغبطة، ولأيقنت أن الرجل الأجير الذي يستخرج قوت يومه منغمسا بعرق جبينه هو أسعد منهم حالا وأنعم بالا، والغالب أنه كلما كان مظهر العيش زاهيا زاهرا كان باطنه مقتما مظلما، وأشد ما يكون من البلاء على أهل هذه الطبقة أنهم يقضون أوقات حياتهم في الظهور بين الناس على أغرب حالات التصنع، فيكون الواحد منهم غريقا في بحور الهموم والأكدار، وتراه يقسر نفسه بين الملأ على التظاهر بالسرور والانشراح، وأكثر ما يكون في الضيق والإفلاس تراه يتعرض للتبذير والإنفاق، فهو على الدوام يتقلب بين الضيقين ضيق العيش وضيق النفس، وإن كان عظيم الثروة كثير الغنى، فإنه لا غنى مع ازدياد الحاجات، ولا مال يكفي مع تجدد الرغبات.
الباشا :
قد كانت الحال في أيامنا على العكس، إن كان لا يسرك من الرجل ظاهر حاله فإنه يرضيك باطن أمره، وربما كان يجتهد في التظاهر بلباس الفقر إذا بلغ حد الغنى، ويبدي الشكوى إذا أسر الرضى.
قال عيسى بن هشام: وقضينا مدة في مثل هذا الحديث وأنا متهلل مستبشر بما أراه ينمو ويثمر في نفس الباشا من التعلق بالمباحث العقلية، والتعمق في معرفة الأخلاق النفسانية حتى صار من ديدنه أن يستنبط من كل حادثة يشاهدها ما يرتقي به إلى عالم الفضيلة والحكمة، وازددت يقينا بأن الرجل المرتفع القدر لا يزال غرا بالأمور غافلا عن حقائق الأشياء، فإذا وقع في أشراك الخطوب استنارت بصيرته واستضاءت قريحته، وعلم بطلان ما كان فيه بحقيقة ما وصل إليه.
ثم حانت منا التفاتة إلى ما وراء السور، فرأينا خدم البيت وحشمه قد اجتمعوا حلقة وهم يتحاورون ويتجادلون فسمعنا البواب يبتدئ فيقول:
البواب :
ليت أمي لم تلدني وليت أبي لم يعلمني رسم الخط، فقد كلت يدي وحفي قلمي من طول التوقيع بالاستلام على الإنذارات والمحاضر، فقلما يمضي يوم إلا ولي فيه من التوقيعات ما ليس لرئيس قلم في ديوان، فبئست المعيشة معيشتي وبئس الحظ حظي، وليتني كنت قادرا على الانضمام إلى صف هؤلاء المطالبين والغرماء، فأخلص بجزء من أجرة الشهور المتراكمة، ومن لي بالتباعد عن هذا البيت الذي انتشر فيه جراد الحجز، وأزعجت من فيه أصوات الغرماء، وأزعجني تردد المحضرين على صندوق ثيابي.
الكاتب :
لست أدري والله ما يصنع صاحب البيت، وماذا تحتال لحالته وكيف لنا بالمعيشة معه ولم يبق عنده كثير ولا قليل، وإن صدق ظني كانت عاقبته من أقبح ما تتصورونه في سوء العواقب، فقد أحسست من كثرة حركته واضطرابه في هذه الأيام أنه يدبر لنفسه أسوأ تدبير للخلاص من ضيقه ليختتم أمره بأقبح الخواتم، ويعلم الله أنه لولا ما ألتقطه في أشغاله من هنا ومن هناك لما تيسر لي القيام بقوت عيالي بعد أن انقطعت عنا أجور الشهور، وقد دعاني هذا الأمير أمس وأعطاني خاتما من الياقوت لأبيعه فذهبت به إلى الجوهري الذي كنا اشتريناه منه بأكثر من مائة جنيه فلم يدفع لي فيه إلا خمسة وعشرين، فبعته إياه وعدت للأمير بالدراهم فكأنما فككت الأسير من القيد وأنقذت الغريق من اللج.
الوصيف :
الآن انحل ما كان مشكلا وانكشف لي ما كان غامضا، فإني رأيت معه أمس ذهبا كثيرا لم أهتد إلى مورده أعطاني منه عشرة جنيهات، وأمرني أن أبتاع من أخيه هذا الكلب الذي ترونه مولعا بملاعبته منذ الصباح.
الفراش :
وأنا اشتريت له من صهره تلك الببغاء بخمسة جنيهات، وأخذت له غرفة في «تياترو الأوبرا» بثلاثة، وزجاجة عطر باثنين.
الكاتب :
فعلى هذا لم يبق معه إلا خمسة جنيهات ولا بد أن أبادر في الحال لمطالبته بإنجاز الوعد الذي وعدته لصاحب الجريدة المعلومة حتى يسكت عنه، ويكف عن التعرض له.
السائق :
وأنا أذهب إليه أيضا لآخذ منه ثمن الريش والإسفنج الذين وعدني به ما دام معه من الدراهم بقية.
الخصي :
إنكم لفي نعمة وغبطة بما تنالونه من وراء هذا البيع، وهذا الشراء من الربح، ولكن غيركم من الخدم في الحرم قد اقتنعوا من العيش بيسير الأكل والشرب من غير أجر، وصبرنا على هذه الحال وفاء بالعهد لأهل البيت، ويا ليت هذه النعمة تدوم فقد سمعتم اليوم وعيد حضرة البك الجزار، كما سمعتم أمس بإنذار البك الخباز.
السقاء :
ما أظن أن لنا حيلة نلجأ إليها في آخر الأمر إلا أن نطلب منه إحالة أرزاقنا على ريع الوقف الذي سلم وحده من الحجز.
البواب :
لقد خاب ظنك وضاع أملك، فإن هذا الوقف الذي كنا نرتكن عليه قد دخل في دور القضايا والدعاوى، وجاء اليوم مندوب المحكمة الشرعية بالإعذار الأخير، ومن يعلم ماذا يكون من أمره. (وسمعنا الجرس يدق من جانب الحرم، فتشتت الجمع نحو المطبخ لحلول وقت الغداء، فانصرفنا من موقفنا واكتفينا بما شهدنا.)
قال عيسى بن هشام: وحل اليوم الموعود لجلستنا في المحكمة الشرعية فتوجهنا إليها ولم يحضر المدعى عليه كعادته، ولما فتحت الجلسة تقدمنا إليها وشهد أمامها شهود المعرفة، ثم اطلع الأعضاء على الإعذارات الثلاثة، فوجدوها جامعة للشروط المقررة، فأمروا بأن ينصب للمدعى عليه وكيل يكون موثوقا بأمانته معروفا بالمحافظة على حقوق الغائبين، فاختاروا من اختاروه وكلفوه شرح دعواه مكان المدعى عليه، ثم أخذ محامينا ينظر في صورة الوقفية التي استخرجناها من الدفترخانة ليعدد الأعيان، فلم يجد فيها جميع ما عددناه له، بل وجد منها جزءا قليلا لا يقوم بالتعب في إقامة القضية وخشي أن المحكمة لا تحكم لنا بغير المبين في «الصورة» من العقار فتضيع علينا بقية الحقوق، فطلب من الجلسة تأجيل سماع الدعوى زمنا يتمكن فيه من البحث عن بقية تلك الأعيان الموقوفة، فوافقه الوكيل المنصوب للغائب، فتأجلت القضية إلى ما بعد الفسحة القضائية من العام.
وخرجنا من الجلسة مع المحامي وقد فتح له ولغلامه باب احتيال جديد، ولما سألناه عن المظان التي تنبئنا عن بقية أعيان الوقف تلكأ في الجواب، ثم أحالنا على الغلام وتركنا معه وانصرف، فقال لنا الغلام: لا مظنة عندنا غير ديوان الأوقاف؛ لأنه يوجد بهذا الديوان سجلات تسجل فيها مثل هذه الأعيان، وطلب منا أن نتفق معه على أجر معلوم للسعي وراء هذا الغرض، فوافقنا على هذا المطلب الجديد والله يفعل بنا ما يريد.
الطب والأطباء
قال عيسى بن هشام: ولما حال أمرنا من المحكمة إلى الأوقاف، وعلم الباشا بما هنالك من قلة الإنصاف، وأنه لا بد لنا من أن نطيل الالتماس والرجاء، ونكرر الدعاء والنداء، ونكثر من الغدو والرواح، في كل مساء وصباح، فنبلي في هذا الديوان جدة الزمن، ونقف عليه وقوف العاشق على الدمن، ولما هو مستفيض من اختلال أعماله، واعتلال عماله، وفساد إدارته، وسوء نظارته، نزل به من الهم والغم، ما أورثه الضنى والسقم، وحل به من الحزن والكمد، ما أخل بنظام الجسد، فغدا هزيلا نحيلا، ووقع مريضا عليلا، فأشرت عليه بالطبيب، قال: يخطئ ولا يصيب، وماذا يجدي العلاج وما يفيد، وللآجال توقيت وتحديد؟! فأقنعته بأن الاعتقاد بتحديد الأجل، لا يمنع من مداواة العلل، وسبحان من أرشدنا إلى الدواء، عند حلول الداء، لالتماس الشفاء، فقبل إشارتي بعد طول الإباء، فجئت له بأحد الأطباء، من ذوي الشهرة بالبراعة، في ممارسة الصناعة، فجلس بجانبه يجس نبضه ويقرع صدره، ثم استلم قلمه وولاه ظهره.
وأخذ يرقم أصناف العلاج، بيد دائمة الاختلاج، ثم قال: دونكم هذا الدواء، جرعة في الصباح وأخرى في المساء، ولا تأخذوه إلا من صيدلية فلان فإنه صادق مؤتمن، لا يغش في التركيب ولا يغلي في الثمن، ثم وقف عند المرآة يسوي مفرق شعره، ويصقل ما استطال من ظفره، ويرسل اللحظات تباعا نحو الباب، بنظر مستراب، كأنه يريد أن يستشف ما وراء الحجاب، من آنسة في الخدر أو كعاب، ولما أعوزه ما تفقده، طلب أن يغسل يده، وقال: إني أرى حالة المريض شديدة، تقضي بعيادته أياما عديدة، حتى ينتهي المرض من شدته، ويتلطف من حدته.
ومضت مدة والطبيب يذهب ويعود، ودرجة الحرارة لا تفتأ في صعود، والمريض يهذي في شدة حماه، وأنا أتضرع وا رحماه، حتى كدت أيأس من الشفاء، وأسلم لحكم القضاء، ولكن زارني أحد الأصدقاء، ممن يولعون بالطب والأطباء، فقال لي وهو يبصر حالته: من الطبيب الذي يعالج علته؟ فقلت: هو الشهير فلان، قال لي: علمت السبب الآن، وأنا أنصحك أن لا تعتمد في الطب، إلا على أطباء الغرب، أولئك قوم قد برعوا في معرفة الأمراض، وتشخيص الأعراض، وأحاطوا بكل جليل وحقير، من البسائط والعقاقير، فالأدواء لا تستعصي في أيديهم، وليس بين الوطنيين من يماثلهم أو يدانيهم، وأنا آتيك بمن هو فيهم أوسع معرفة وعلما، وأشهر صيتا واسما، وقام فعاد بأجنبي يهد الأرض بخطواته، ويكثر من إشاراته ولفتاته، فتقدم نحو المريض فجس ولمس، ثم قطب وعبس، ووضع طرف منديله على أنفه، وقال لنا في صلفه وعنفه: إن هواء الغرفة فاسد قتال، وداء المريض داء عضال، ولا رجاء إلا باتباع إشارته، في تواتر زيارته، ثم هزأ بما رآه من دواء الطبيب الأول، بعد أن كتب علاجه بوصف مطول، وقال: لا يحسن تركيب هذه الأجزاء إلا صاحب «صيدلية الشفاء»، وما زال هذا الطبيب أيضا يذهب ويحضر، والعلاج يتجدد ويتكرر، والمريض يتألم ويتضجر، والمرض باق لا يتقدم ولا يتأخر، حتى جاء في خاطري أن أجمع منهم جماعة للاستشارة والمداولة، فنخلص من هذه المراوغة والمطاولة، فلما اجتمعوا وقعوا في الحجاج واللجاج، ولم يتوافقوا على تشخيص الداء أو تقرير العلاج، وأقام كل واحد منهم منفردا برأيه، لا يهتدي إلا بهديه، وسمعت بينهم من يقول لرفيقه، لا ينبغي أن نوافق فلانا في تحقيقه، كما أنه لم يوافقنا على رأينا في الاستشارة الماضية، وأنكر علينا جميع أدويتنا الشافية.
ثم خلفوني ونزلوا على الخلاف، وإن كانوا اتفقوا في تناول الأجرة عند الانصراف، وكنت شاهدت بينهم طبيبا يظهر نفوره من طريقتهم، ويجري معهم على غير حالتهم، فأرسلت في أثره من دعاه، وكاشفته بأنني اخترته على سواه، فقال لي: إن علة المريض بسيطة فيما أراه، لا يجب فيها هذا الاختلاف والاشتباه، ولعلها ناشئة عن انفعالات نفسانية، من هموم فجائية، فقلت له: نعم أصبت في النظر، ثم أخبرته بجملة الخبر، فقال: الآن تبين أن معالجة الأطباء كانت بغير اهتداء، ولا يلزم لعلاجه إلا الامتناع عن هذه المركبات، والاكتفاء ببعض البسائط من النبات مع جودة الغذاء، وتبديل الهواء، فأيقنا حينئذ بمهارته، وسلمنا لإشارته، فلم يمض إلا بضعة أيام حتى انتقلنا من دور السقم والاعتلال، إلى دور النقاهة والإبلال، وجلس الباشا ذات يوم إلى الطبيب يشكره على حذقه وبراعته، ويحاورنا في الحديث على حسب عادته:
الباشا :
كيف اهتديت أيها الطبيب إلى ما لم يهتد إليه سواك من الأطباء فأدركت سبب علتي، وأحسنت تشخيص مرضي، وأصبت في اختيار العلاج فكان الشفاء؟ لا شك عندي أنك نادرة عصرك ونابغة زمنك.
الطبيب :
لا فضل لي يستحق كل هذا المدح والثناء، والسبب في خطأ الأطباء أن العدد الأعظم منهم يسيرون في ممارسة صناعتهم على طريقة معينة ودائرة محدودة قررتها العادة فيهم، فهم لا يتخطونها ولا يتعدونها، فترى كل واحد منهم يحصر في ذهنه عدة أمراض معلومة وعلل معروفة، فيطبق عليها كل ما يراه من الأعراض التي تظهر له في عامة المرضى - والأعراض تختلف وتشتبه - فيحكم بمعرفة الداء ويأمر بالدواء المعين لذلك المرض المعين بقطع النظر عن الفحص والتأمل في حال المريض أو البحث، والتدقيق في معرفة الأسباب المادية والأدبية التي يرجع منشأ المرض إليها، ولا يكلف ذهنه التبصر أو التصرف على حال من الأحوال، فيعيش في أسر العادة وقيد الطريقة لا يعبأ بالبحث في اختلاف الأمزجة وتباين الغرائز، وتفاوت المعايش وتغاير القوى في البني؛ فلذلك يكثر منهم الخطأ ويقل الصواب.
عيسى بن هشام :
كأنك تريد أنهم يكونون على مثل حال أهل الصناعات الآلية الذين يحل فيهم مجرى العادة محل إعمال الفكرة؛ فتنطلق أيديهم على وجه واحد وتنصرف أفكارهم عن التصرف أو التفنن في وجوه شتى.
الطبيب :
نعم لقد أصبت في التشبيه، وغير ذلك فإن بين هؤلاء الأطباء من لا يرى في صناعته إلا آلة لاجتلاب الرزق واصطياد الربح، واستدرار الدرهم والدينار حتى يصلوا إلى اكتناز الأموال، ويصبحوا في مصاف أهل الغنى والثراء لا يبالي أحدهم أي باب طرق ولا أي سبيل قصد للتوصل إلى هذا الغرض المطلوب، فكل الوسائط لديه مقبولة وكل الطرق عنده مسلوكة، فهو يدخل على المريض طامعا في ماله لا طامعا في شفائه، فيحتال له أنواع الحيل لتطول مدته في المرض فيتسع نصيبه من الأجرة، فيعطيه من أصناف الأدوية ما لا ينفع ولا يضر، أستغفر الله بل ما يضر ولا ينفع ليبقى المريض في حاجة دائمة إلى تجدد العيادة والزيارة، وفي كل مرة يصف له نوعا حديثا وصنفا جديدا من المركبات التي يعظم ثمنها بمقدار ما يقل نفعها، وينفسح له بذلك طريق للكسب والربح فوق أجر العيادات يرصده له الصيدلي في دفتر شركتهما؛ ليقاسمه أرباح تلك الأثمان الفادحة لتلك الأدوية المتكررة، فيضرب الطبيب في صناعته بقدحين، ويصيب في الكسب بسهمين، بعد أن يملأ جوف العليل من كل دواء ضار، ويخلي كيسه من كل فضة ونضار.
ومن أولئك الأطباء من يجعل همه منصرفا إلى الإبداع والتفنن، في وجوه التزيي والتزين، ويسلك سبيل التصنع والتكلف، في أبواب التظرف والتلطف، ثم يتفنن ما استطاع في حسن المحاضرة، ويتعمد رقة الحديث والمسامرة، ويتقلب في أساليب المؤانسة والمجاملة، وأفانين المغامزة والمغازلة، ليقيم له بين النساء بضاعة رائجة، وسوقا رابحة فيحل من أهل الحرم محل الجليس المحبوب، والأنيس المطلوب، وينزل من ربات الخدور، بمنزلة المحب المكرم، ويكون بين مقصورات القصور، أكرم زائر في أرحب منزل، والنساء لا يعدمن العلات، على العلات، ولا تعوزهن العلل، في اختراع العلل، لا سيما إن كانت دعوى المرض، تدني من نيل الغرض، فيكون للطبيب بينهن زيارات وعيادات، وروحات وغدوات، والطبيب كما يعلم الناس مؤتمن الجانب، يؤتمن فوق الأهل والأقارب، تفتح أمامه الأبواب، ويكشف من دونه الحجاب، فترى له زيارات بين كل صباح ومساء، تكتب له بوافر الأجر وسوء الجزاء: بوافر الأجر في دفتر حسابه، وبسوء الجزاء يوم عرضه وحسابه، ومنهم من يتطلع إلى ما فوق ذلك فيطمع في ثروة البيت بأكملها وفي حيازة الأموال بأجمعها، فيديم التردد ويوالي العشرة ويحكم الصلة ويلحم الخلطة، حتى إذا تأربت عقدة الحبل تم الاتفاق بينه وبين ربة البيت وصاحبة المتاع على التأهل بها، لا التفات هناك إلى تفاوت الأقدار ولا عناية بوجود الكفاءة، فتصبح له حليلة بعد أن كانت خليلة، وينتهي ما كان من أمر الداء والعلاج، بما تم من أمر العقد والزواج.
عيسى بن هشام :
الآن تبين لي ما كان علي غامضا واتضح ما كان مبهما من أمر الطبيبين اللذين كانا يعالجان الباشا في كثرة الزيارة وقلة نفع الدواء، وشدة التدقيق في تعيين الصيدلية، وطول استراق النظر لما وراء الحجاب.
الطبيب :
أجل، هذا هو حال بعض الأطباء، مع الأعلاء وأشباه الأعلاء، فأما حالهم مع الأصحاء وذوي السلامة من بعض الخلق فهو أعجب وأغرب، وما يعزب عنك أن كثيرا من المولعين بسوء التقليد للغربيين والمتهالكين على حب التظاهر بمظهر الرفه والترف، يتغالون في الاحتياط لأبدانهم ويبالغون في التوقي لأجسامهم، فينمو فيهم وسواس المرض والسقم، فتراهم يتوجسون من كل أكلة شرا، ويتوقعون من كل شربة ضرا، ويتخيلون أن في كل لقمة تخمة، وفي كل جرعة غصة، فلا يتناولون قدحا من الماء، أو يستنشقون نفسا من الهواء، إلا وفي اعتقادهم أنه لا يخلو من كل هامة سامة، أو جرثومة ضارة، ولا يزالون على هذه الحال حتى يمتنعوا عما فيه صلاح أبدانهم من المأكل والمشرب، ويبعدوا ما استطاعوا في طرق الحمية من غير علة ولا داء فيبدلوا الماء الزلال بالماء المعدني، ويهجروا الأغذية المناسبة لتركيب الجسم، وقوام البدن إلى الأطعمة الغريبة عن أذواقهم المنافرة لنسيج أبدانهم، فيضطرب نظام التركيب وتضعف البنية، ويصبح كل واحد منهم جازما بأن به داء دفينا وما به من داء، وعلة كامنة وما به من علة، فيشكو أمره إلى الطبيب فيكون الطبيب حينئذ أسرع من وهمه وخياله في اختلاق علة له واختراع مرض دون أن يفحص أمره أو يبلو خبره، فينزل به ما ينزل من بوائق الخوف والفزع، ويوالي عليه الطبيب ما يوالي من صنوف الخلاصات المعدنية والجواهر السامة والمركبات الحادة، فيترصف على مائدته من ألوان العلاج والدواء أضعاف ما يترصص عليها من ألوان الطعام والغذاء، ويتقيد المسكين بمعيشة لا تناسب غريزة البنية ولا فطرة المولد ولا طبيعة الإقليم، ولا توافق إلا من جمدت عروق آبائه تحت جليد لوندرة، لا من ذابت مفاصل أجداده تحت هجير القاهرة، فلا يلبث أن يأتي على ما بقي في الجسم من قوة، وما في البدن من صحة، ويعيش إن عاش في يد الطبيب حيا كميت، ويكون بين الأموات والأحياء، لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، إلى أن يلحد في لحده، شهيد طبيبه وقتيل يده، وهناك يخلق بأهله أن يكتبوا بنجيع الدمع لا بسواد المداد، ما كتب على قبر عظيم من قدماء القواد: «لم تمتني قوة الأعداء، وإنما أهلكتني قوة الأطباء.»
ولقد سرى هذا البلاء فينا مسرى العادة فأصبحنا لا نرى في جمهور من نراهم من المترفين المقلدين إلا شاكيا من ألم أو متألما من مرض، فراجت سوق الطب وعظم عدد الأطباء وغدت حوانيت الصيادلة في الأسواق أكثر عددا من حوانيت الخبازين والقصابين، وصار من متاع البيت وجهاز العروس صناديق الدواء وآنية العلاج، وقل أن تجد اليوم بيتا خاليا من مريض ولا مجلسا ليس فيه من سقيم.
عيسى بن هشام :
كأنك تحاول أيها الطبيب الآسي أن تقنعنا بقوة البرهان، وجلي البيان أن لا فائدة من الطب ولا منفعة في الأطباء.
الطبيب :
حاشا لمثلك أن يشتبه عليه القصد أو أن يذهب بقولي خلاف مذهبه، وما قصدت بكلامي هذا كله إلا أن أظهر عيب بعض الأطباء في ممارسة صناعتهم دون التعرض لصناعة الطب في ذاتها، على أنه يمكنني أن أضيف إلى ما قلته ما قد قيل من قبل، وهو أن العلم علمان: علم تستنير به البصائر وتهتدي به العقول فهو جميل الأثر، محمود الورد والصدر، وعلم تصدأ منه الأفهام، وتضل به الأحلام، فهو وبي المرعي، سيئ العقبى، وكذلك الطب طبان: طب يصحح الأجسام، ويشفي الأسقام، فهو عظيم النفع جليل القدر، وطب يورث الأمراض ويولد الأدواء فهو شديد الوطء عظيم الضر، ومدار الأمر كله على حسن الاهتداء للتمييز بين النافع والضار والتفريق بين الطيب والخبيث، ولا تتوهمن أيضا أنني أتناول بكلامي جماعة الأطباء قاطبة، فإن فيهم الصالح كما أن فيهم الطالح، ولكنني أعني من بينهم أولئك الذين يطلبون مجرد الربح من مباشرة الصناعة مع الجهل بها، أو يتعمدون الحيل وينصبون الأشراك حتى يعتل جسم الصحيح ويزمن مرض المريض ليكون لهم من وراء ذلك ما يسد بعض شرههم في الغنى واليسار، وما أولى سائر الناس بأن يثبتوا بينهم عادة أهل الصين في معاملة مثل هؤلاء الأطباء، وذلك أنهم يجرون على أطبائهم العطاء ما داموا أصحاء، فإذا نزل بأحدهم المرض انقطع العطاء عن الطبيب حتى يعود المريض إلى سلامته، فيكون من مصلحة الأطباء على الدوام أن تطول مدة السلامة وتقصر مدة العلة، على خلاف الحال بيننا.
وما ينبغي أن ينصرف شيء مما قلته إلى بقية أهل الصناعة من ذوي الحذق والأمانة الذين يوفون الصناعة حقها، ويؤدون الواجب عليهم فيها حق أدائه، والذين يراعون في ممارستها ما يكون من تفاوت الأحوال في العلل والأمراض، وما تقضي به أحكام البلاد والعادات واختلاف الأمزجة والطبائع، والذين يجعلون لأنفسهم من حسن تبصرتهم وكثرة تجربتهم عدة حاضرة لمقاومة الأمراض وصحة تشخيص الأدواء ولطف تناسب العلاج وحسن الإرشاد لرفع الوسواس ودفع الخيال، وما يجري هذا المجرى من استعمال ما يليق بأهل الإقليم الحار مما لا يليق إلا بأهل الإقليم البارد، واجتناب ما لا يوافق أمزجة أهل البلاد الشرقية من المركبات المجهزة لطبائع أهل البلاد الغربية، ولقد طالما سمعت عن أشياخي في الصناعة أنه يجب على الطبيب في مصر أن يختار ما يكون من الأدوية وغيرها ألين قوة حتى لا يكون على طبيعة المصريين فيها كلفة، ولا يلحق أبدانهم منها مضرة، وأن لا يقدم على كل الأدوية المسطرة في كتب أهل الغرب، فإن أكثرها عملت لأبدان قوية البنية عظيمة الأخلاط على خلاف المعهود في أهل مصر، فيتعين على الطيبب حينئذ أن يتوقف في إعطاء هذه الأدوية للمرضى، ويختار ألينها وينقص من مقدار تركيبها، ويبدل كثيرا منها بما يقوم مقامه ويكون ألين منه، وأن لا يهمل الاعتماد على الأدوية الطبيعية وهي البسائط واللين والحمية والفصد والاستحمام والرياضة والهواء، وأن يكون على الجملة مولعا بلذة الصناعة في ذاتها لا يعادلها لديه سواها من سائر اللذات، ممتلئ النفس بجلال قدرها وشرف منزلتها من بين الصناعات والفنون، فتعظم عنده نفسه ويشرف في عينه قدره، فيترفع عن سفالة الطمع وحطة الشره ويزهد في نيل الغنى من طريق التحايل على اقتنائه من وراء هذه الصناعة الجليلة، وكيف تزدهيه لذات العالم أجمع من مال وجاه أو زخرف ومتاع في جانب لذة الإتقان في الصنعة والإحسان في العمل، وأية رتبة من مراتب الخلق تماثل رتبة الطبيب العامل، وهو القيم على قوام الأبدان والكفيل بصحة الأجسام والرقيب على اعتدال الأمزجة والمشرف على سلامة الجوارح، لا بل أية صناعة في الوجود تفضل صناعته وهي أمس الصناعات بخلقة الصانع الفاطر وتكوين المبدع القادر.
وإذا كان قد بلغ عجب الصناعة بأحد النحاتين المصورين في الزمن السابق لما ازدهاه جمال الإتقان والأحكام في صورة إنسان نحتها من المرمر أن استخفه الطرب واستفزته لذة الصنعة، فعمي عليه فأنحى على التمثال بمنحاته، يثيره على نطق اللسان بعد أن أحكمت فيه خلقة الإنسان، ويكلف الجماد، وقد أتقنت فيه الصنعة، أن يخرج من الجمود إلى الحركة، حتى أطار عنه بعض أجزائه وبقي التمثال قائما إلى اليوم يفصح بما فيه من التلف عن نهاية الكمال في جمال الإتقان ومقدار لذة الإحسان في عمل الإنسان، فما بالك بلذة الطبيب ومقدار طربه في صناعته إذا هو شاهد أجسام الأحياء أمامه، وقد استخلصها من شوائب الأمراض واستنقذها من آفات العاهات، وردها إلى سواء التكوين، وأعاد نظام الخلقة إلى أصله وانتساق التركيب إلى شكله، فهل يجوز في العقل لمن يدرك كنه هذه الصناعة من الأطباء أن يرغب عن تلك الدرجة الرفيعة إلى الدرجة الوضيعة، فينزل بصناعته إلى مصاف أهل التجارة والسلع لا يفقه فيها من معنى سوى اصطياد الدرهم، ولا يعلم لها من مزية سوى الاحتيال على اكتساب الأموال، لا جرم أن الطبيب المدرك يفضل لذة صناعته في ذاتها على كل لذة، ويسلو عندها أعظم مزية في العالم وأعلى رتبة، وفصل الخطاب، في هذا الباب، أن يكون مبلغ همته، ومجمع لذته، أن يرى المريض بعد شفائه، بوجه لامع كالدينار، لا أن يراه في طول شقائه، بنظر طامع في درهم أو دينار.
قال عيسى بن هشام: فأعجبني من هذا الطبيب صدقه في مقالته، وحسن نظره في صناعته، وسألت الله لجماعة الأطباء، أن يهتدوا مثل هذا الاهتداء، ثم إني ودعته بعد أن عين لنا البقعة المناسبة لتبديل الهواء، وقرر ما يناسب حال المريض من العلاج والغذاء، إلى أن يتدرج من النقاهة إلى تمام الشفاء.
الطاعون
قال عيسى بن هشام: فطاوعنا القدر، وعزمنا السفر، التماسا لبرء الداء، بتبديل الهواء، ونزلنا من ضواحي الإسكندرية قصرا ذا روضة غناء في بقعة فيحاء، لا تسمع فيها إلا هديل الورقاء، إيقاعا على هدير الماء، فإذا بلل الموج جناح النسيم، فرفرف على ذلك الروض البسيم، نثر الماء درا على تيجان الزهر، ورقرقه دموعا في أحداق العبهر،
1
هناك يتمنى العاشق لو استعار هذي الدموع لمحاجره، فيستلين بها قلب شاجيه وهاجره، وتود الغانية لو نظمت من ذلك الدر عقدا لنحرها، أو نطاقا لخصرها:
إن هذا المكان شيء عجيب
تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيث ما ذهبنا ودر
حيث درنا وفضة في الفضاء
أو قل: إنه المجرة قامت فيه زواهر الزهر، مقام الكواكب الزهر، وعناقيد الكروم، مقام ثريا النجوم، وأنوار الأثمار، مقام الشموس والأقمار، فأقمنا في ذلك الظل الوريف، مدة من أيام الخريف، ومكثنا نقطف القطوف الدانية، بين تلك الأعين الجارية، في عيشة راضية، لا تسمع فيها لاغية، آخذين بمستن النحيزة،
2
ومجتن الغريزة، فيما يوافق صحة البدن من طعام شهي، وغذاء مري، ورياضة للأعضاء، دون تعب أو شقاء، وتطهير للنفس من أدران الكدر، بلطف البحث وحسن النظر، وتجريد للصدر من عوامل الهواجس، وغوائل الوساوس، بالتبصر في حقائق الوجود، والتمعن في صنعة الخالق المعبود، وأفضت بصاحبي طيب هذه الإقامة، إلى المقصود من تمام العافية والسلامة، لولا أن راعنا شيطان من الإنس بخبر الطاعون، فقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وسبحان الله والحمد لله ما زلنا نعلل النفس، بزوال النحس والنكس، وما زالت تناوبنا النوائب والأحزان، وتراوحنا النوازل في كل منزل ومكان، وانبرى الباشا يسألني عن هذا الطاعون وأخباره، وما يتوقعه من هول أفعاله وآثاره، فأجبته بأنه لا يلبث أن يصبح أثرا بعد عين، وما أصاب إلى اليوم إلا عدد أصابع اليدين، وقريبا يفر من أمامنا هذا العدو المناجز، ونردد في أثره قول الراجز:
قد رفع الله رماح الجن
وأذهب التعذيب والتجني
الباشا :
كيف تدعي ذلك وتزعمه، وما عهدت منك إخفاء للحقائق ولا تمويها للوقائع، وللطاعون في مصر أفاعيل تذوب لها المآقي والأحداق وتتفطر منها القلوب والأكباد، وهو عندنا من أمراض مصر الموضعية التي تحدث عند اختلاف الفصول، والمصريون يتوقعونه لكل ربيع حتى أطلقوا عليه كلمة «الفصل»، فيقولون: جاء «الفصل» عند ظهور الطاعون، فترتاع النفوس وتنخلع القلوب وتخور القوى وتذهل العقول، ثم يصول صولته ويفتك فتكته فلا يقف سيله عند حاجز، ولا يمنع اندفاعه مانع، ولا تغيض قرارته حتى يخرب القصور، ويعمر القبور، فتصبح الأطفال يتامى، والنساء أيامى، ويمسي الخلق بين ثاكل ومثكول، وحامل ومحمول: هذا يبكي أباه، وذاك يندب أخاه، وهذه تولول على أهلها، وتلك تنوح على بعلها، وقد سمعت عنه في زماني عن أحد المعمرين يقول في وصفه عند وقوعه في سنة 1205:
ابتدأ الطاعون في شهر رجب سنة 1205 وداخل الناس منه وهم عظيم، واشتد بطشه وقوي بأسه في رجب وشعبان، ومات به من لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمراء، ومات من الصناجق أمراء الألوف اثنا عشر صنجقا منهم إسماعيل بك الكبير، وقد أفنى عسكر القليونجية والأرنؤوط المقيمين بمصر القديمة وبولاق والجيزة، وكانوا لكثرة الموتى يحفرون حفرا بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها، وكان يخرج من بيت الأمير في الجنازة الواحدة الخمسة والستة والعشرة، وازدحم الناس على الحوانيت يلتمسون ما يجهزون به موتاهم ويطلبون من يحملون النعوش فلا يجدونهم، ويقف الناس يتشاحنون ويتضاربون على ذلك، ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه، فلا تجد إلا مريضا أو ميتا أو عائدا أو معزيا أو مشيعا أو راجعا من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولا بتجهيز ميت أو باكيا على نفسه موهوما، ولا تنقطع صلاة الجنازة من المساجد والمصليات، ولا تقام الصلاة إلا على أربعة أو خمسة، وندر من يصاب ولا يموت، وقل ظهور الطعن على الجسم فيكون الإنسان جالسا فيرتعش من البرد فيتدثر، فلا يفيق إلا مخلطا أو يموت في غده إن لم يمت في نهاره، واستمر فتكه إلى أوائل رمضان، فمات الأغا والوالي في أثناء ذلك فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولوا خلافهما أيضا. واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في سبعة أيام، وأغلق بالمفتاح بيت أمير كان فيه مائة وعشرون نفسا فماتوا جميعا.
عيسى بن هشام :
إني لأظنك تصف لي موقفا شاهدته من مواقف الآخرة وأهوال القيامة.
الباشا :
وما كان الأمر ليقتصر في الطاعون بعد ذلك على فتكه، بل كان يزيد عليه من البلاء ما دسه الإفرنج للولاة من وجوب إزعاج الناس بأمور تشق على نفوسهم يزعمون أنها تدفع الطاعون، فيفصلون بين الناس بعضهم عن بعض، ويفرقون بين الأب وابنه والأخ وأخيه والمرء وزوجه، ثم يهدمون الدور ويحرقون الثياب وينشرون البخور كأنهم لجهلهم يظنون أن هذه الأعمال التي تؤذي النفوس وتعطل مصالح العباد تشتت شمل الجن، وتكسر أسنة رماحهم، فيزداد الناس ويلا على ويل وحزنا على حزن وخرابا فوق خراب، وقد شاهدت بعيني ما تشيب له النواصي في سنة 1260، وقص علي أخي ما رآه منه في سنة 1228 وهو في خدمة المرحوم محمد علي باشا الكبير، قال:
أمر جنتمكان محمد علي بعمل «كور نتيله» بالجيزة في اليوم العاشر من ربيع الثاني وعزم على الإقامة بها؛ إذ اشتد عليه الوهم من الطاعون لوقوع القليل من الإصابات بمصر، ومات به الطبيب الفرنسي وبعض من نصارى الأروام، وهم يعتقدون صحة الكور نتيله وأنها تمنع الطاعون، وقاضي الشريعة الذي هو قاضي العسكر يحقق قولهم ويسير على مذهبهم، واتفق أن مات بالطاعون شخص بالمحكمة من أتباع القاضي، فأمر بحرق ثيابه وغسل المكان الذي فيه وتبخيره بالأبخرة المتنوعة، وكذلك الأواني التي كان يمسها وأمروا أصحاب الشرطة أنهم يأمرون الناس وأصحاب الأسواق بالكنس والرش والتنظيف ونشر الثياب في كل وقت، وإذا وردت عليهم مكاتبات خرقوها بالسكاكين ودخنوها بالبخور قبل تسليمها إليهم، ولما عزم الباشا على كور نتيله الجيزة أمر في ذلك اليوم أن ينادوا بها على سكانها بأن من كان يملك قوته وقوت عياله ستين يوما، واختار الإقامة فليمكث بالبلدة، وإلا فليخرج منها ويذهب فيسكن حيث أراد، وأعطوا مهلة أربع ساعات، فانزعج سكان الجيزة وخرج من خرج، وأقام منهم من أقام، وكان ذلك في وقت الحصاد وللناس مزارع ومرافق مع مجاوريهم من أهل القرى، ولا يخفى احتياج الإنسان لبيته وأهله وعياله وأسباب رزقه، فيحرمونه من ذلك كله حتى لقد سدوا خروق السور والأبواب، ومنعوا مراكب المعادي من السير، وأقام الباشا في بيت الأزبكية لا يجتمع بأحد من الناس إلا يوم الجمعة، ثم قصد الجيزة وقت الفجر من ذلك اليوم وصعد إلى قصره، ووقف مركبين الأولى ببر الجيزة والأخرى في مقابلتها ببر مصر القديمة، فإذا أرسل الكتخدا أو المعلم غالي مراسلة ناولها المرسل للمقيد بذلك في طرف مزراق بعد تبخير الورقة بالشيح واللبان والكبريت، فيتناولها منه الآخر بمزراق آخر على بعد منهما ويعود راجعا، فإذا قرب من البر تناولها المنتظر له أيضا بمزراق وغمسها في الخل وبخرها بالبخور المذكور، ثم يوصلها إلى حضرة المشار إليه بكيفية أخرى، وأقام الباشا على ذلك أياما، وسافر إلى الفيوم ثم عاد وأرسل مماليكه ومن يخاف عليه الموت إلى أسيوط.
عيسى بن هشام :
اعلم أن ما كان يعترض عليه عامة الناس في الأزمان الغابرة - ولا يزال بيننا إلى اليوم بقية منهم - من الأخذ بأسباب التوقي والاحتياط لدفع غائلة الطاعون لجهلهم بحقيقته وأسباب انتشاره هو الذي يحمينا اليوم من فتكاته وسطواته التي قصصت علي طرفا منها، وقد كان جمهور الناس في أزمانكم ينكرون هذه الوقاية ويسخرون منها.
الباشا :
قل لي بالله أية علاقة بين إحراق الثياب، وتلك الوخزة التي تأتي بالأجل، وأي ارتباط بين هذا البخور وحمى الطاعون، اللهم إلا أن يراد به تلطيف أمزجة الجن.
عيسى بن هشام :
لا يفوتنك أن كثيرا من الحقائق كانت مكنونة في خفاء الجهل عند عامة الناس لاختصاص بعض الأفراد بالعلم، ولبعد تناوله على بقية الطبقات، فلما انتشر العلم وأضاء برهانه كشف للناس ما كان مكنونا عنهم، وأظهر من العلل والأسباب ما كانت تقف دونه الأفكار حيرى، فإن كان الناس في زمانكم يعتقدون أن الطاعون من وخزات الجن برماحها، وأن لا شيء يقوى على رد تلك الرماح الخفية عن العيون، فإن البحث أوصلهم اليوم إلى اليقين بأن للطاعون جنودا لا تدركها العيون المجردة، وأن لها وخزا خفيا دونه وخز الأسنة وعوالي المران،
3
ولكنهم استعانوا بالعلم فصنعوا آلة تجسم الأشياء الدقيقة وتعظمها، وتبرزها مرئية للعين فوقفوا بها على حقيقة تلك الجنود، واستنبطوا طرق الوقاية منها فتدرعوا بها لدفع أذاها ورفع غائلتها.
الباشا :
وماذا تجدي الوقاية والحذر من القضاء والقدر؟
عيسى بن هشام :
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء، إن الوقاية من السنة الشريفة وأحكام الدين المبين فقد ظاهر - عليه الصلاة والسلام - في الحرب بين درعين، وقال الله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ولطرق الوقاية اليوم أنواع مختلفة لدفع هذا العدو الخفي الذي يسمونه «الميكروب» وهو دويبة دقيقة من عالم الذر ينطبق عليها أحد أوصاف الجن في سرعة التولد وكثرة التعدد في أيسر مدة من الزمن، وهم يتخذون البخور في الوقاية؛ لينحل تركيبه ويحرقون الثياب والأمتعة حتى لا ينتقل بها عدواه.
الباشا :
لقد كشفت لي معنى دقيقا في رماح الجن المسمومة ما كنت إخال أن أحدا يدركه في عصرنا الماضي، وهل لك في أن تطلعني على تلك الآلة العجيبة المجسمة للأشياء الدقيقة لأزداد تبصرة وهدى بالنظر في عجائب المخلوقات؟
قال عيسى بن هشام: فذهبت إلى معمل كيميائي وأريته نقطة من الماء تحت «المكروسكوب»، فلما رآها كأنها غدير ورأى ألوف الألوف من الهوام سابحة فيها سجد سجدة التقديس لقدرة الخالق والتمجيد لعظمة الصانع، وتلا قوله عز من قائل:
وما يعلم جنود ربك إلا هو
فحمدت الله؛ إذ آمن بالبرهان الساطع، ولم يفعل ما فعله ذلك الهندي مع العالم الألماني حيث أراه مثل هذه النقطة وما فيها من الحيوانات؛ ليقنعه بأن ماء الشرب مشحون بما يحرم أهل الهند قتله وأكله من الحيوانات، فسخر الهندي منه وكسر الآلة إصرارا على الباطل وعنادا للحق، ولما أيقن الباشا بصدق ما قلته وما رآه، وأن العلم هزم جنود الطاعون وحطم رماحه ولولاه لمات به اليوم مئات الألوف مكان العشرات سألني يقول:
الباشا :
ومن المخترع لهذه الآلة التي تدل بغير واسطة على عظمة الخالق وقدرة الصانع من مشايخ الموحدين وعلماء الدين؟ وفي أية بقعة من بقاع المسلمين كان مولده لنردد الثناء عليه ونذكر اسمه بالحمد؟
عيسى بن هشام :
أقسم لك بالله وملائكته وكتبه أن أكثر مشايخنا لا علم لهم بها، وأنهم لا يزالون كالعهد بهم في معزل عن هذه العلوم النافعة والمخترعات المفيدة، وما نشط لرؤيتها أحد منهم، وهم إلى اليوم ينفرون من الأخذ بوجوه الوقاية ويفضلون التعرض لنيران البنادق في معارضتهم لأوامر الحكومة دون الإذعان لوجوب الاحتياط من هذه الحيوانات الدقيقة، ولا يعرفون منها إلا ما نخر كتبهم من الأرضة.
الباشا :
ومع هذا كله فلا مقام لنا اليوم في هذه البلدة التي أصيبت بالداء، وقد وجب علينا الفرار من قدر الله إلى قدر الله، فعد بنا إلى مصر إن شاء الله آمنين.
قال عيسى بن هشام: فأجبته إلى سؤاله وقفلنا إلى القاهرة، بعد أن ودعنا تلك المناظر الباهرة.
الوباء
قال عيسى بن هشام: وأقمنا في مصر مدة وقد أبل الباشا من علته وسقمه، وتمت له العافية والسلامة في جسمه، فأخذت أهنئه ذات يوم بالشفاء والإبلال، من المرض والاعتلال، وأذكر له أن صحة الأبدان، هي ملاك السعادة للإنسان، وأنك لو جمعت نعم العالم كلها للمريض، من مال واسع وجاه عريض لانصرفت نفسه عنها انصراف الضب عن الماء، والأرمد عن الضياء والممعود عن شهي الغذاء،
1
وأن خاتم الياقوت في الإصبع التي أصيبت بدمل، لا يساوي عند صاحبه حبة من خردل، وأن ما اجتمع في سرير الملك من العزة والبأس، ليهون عند مفقور الظهر أو مصدوع الرأس:
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
وكنت كلما زدته من هذه الموعظة والحكمة، أراه قد زاد في الإعراض عن شكر تلك النعمة، فتحققت أن المرء إنما يذكر النعيم في البؤس ولا يذكر البؤس في النعيم، وينسى المرض في الصحة ولا يذكر الصحة إلا وهو سقيم، وقل من يحمد النعماء في لبسها، ويدرك سعادة الحياة إلا في نحسها، فهذا معنى من معاني الآية الشريفة:
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ، فسألته عما دهاه وأذهله عن شكر الله، فأجابني يقول، في حال الخبل والذهول:
الباشا :
فيم الهناء بكشف البلاء والضرر، وما انتقلت من خطر إلا إلى خطر؟
فإن أسلم فما أبقى ولكن
سلمت من الحمام إلى الحمام
ألم تسمع معي بخبر انتشار الوباء في مصر بعد أن خلفنا الطاعون في الإسكندرية، فما هذه الرزايا المتساقطة، وما هذه البلايا المتلاحقة، أوكلما انتهينا من بلاء دخلنا في بلاء، وانصرفنا من شقاء إلى شقاء؟!
عيسى بن هشام :
أراك لا تزال كأمثالك من سائر الناس، يغلب عليك الفزع والوسواس، وإن كنت جربت في هذه الحياة شدة الألم وذقت في القبر راحة العدم، وأن ما كنت تتمناه على دهرك من الرجوع إلى قبرك، عند اشتداد الكروب، من وقع الخطوب، لم يكن لشجاعة في النفس، تستهين بسكنى الرمس، بل كان لضعفك عن احتمال الآلام، من نوازل الأيام، وأراك لا تزال مع صحة الدين، وقوة اليقين، ترهب الموت وتخشاه، وتعتورك الأهوال من ذكراه، وهذا داء في الناس قديم، عز شفاؤه على كل مرشد وحكيم:
وخوف الردى آوى إلى الكهف أهله
وعلم نوحا وابنه عمل السفن
وما استعذبته روح موسى وآدم
وقد وعدا من بعده جنتي عدن
ولكنني لا أزيدك في الموعظة ولا أخفف عنك من ويلات الهواجس والوساوس بأحسن من أن أقرأ عليك مقالة نافعة اطلعت عليها اليوم في بيان أحوال الناس، وتقسيم طبقاتهم في أهوال هذا الوباء، فإن أردت تلوتها عليك، ثم ضع نفسك بعدها حيث شئت.
الباشا :
هات أسمعني لا زلت للحق راويا، وللهدى داعيا.
عيسى بن هشام (قارئا) : «إنما النوازل العظيمة والخطوب الجسيمة محك الطباع ومسبار الأخلاق، فهي لشدتها وهولها تكشف عن الناس ما يخفونه عن الناس، وتهتك سجوف التمويه والتزويق عن حقائق الصفات، فلا تتمالك النفوس أن تبقى على التظاهر بما ليس فيها، ولا التطاول بما هو مفقود لديها، بل تتجلى للناظر بما اشتملت عليه ضمائرها واحتوته سرائرها من قوة أو ضعف ومن فضيلة أو نقيصة ومن علم أو جهل، وهنا يتمكن الباحث في الأخلاق من النظر فيها نظرة التثبت والتحقق وهي مجردة أمامه من كل غشاء، عارية من كل غطاء». «وليس في باب النوازل والخطوب ما يهول النفوس ويروع القلوب أعظم ولا أكبر من مصيبة الموت وبلاء هذا الوباء؛ فلذلك لا نرى بأسا من الكلام بشيء عما يجده المستقرئ لأحوال الناس من طبقات المصريين وهم بين أيدي هذه النازلة العظمى والمحنة الكبرى». «فطبقة العامة أناس جبلوا في مثل هذه النوازل العامة على التسليم لأحكام القضاء وتفويض الأمر لأقدار السماء، وهم لا يعلمون من أمر الوباء، ما جراثيم الداء، ولا علة المرض والشفاء، ولا سبب الهلاك والنجاء، وليس في قدرة قادر من البشر أن يزحزحهم عن اعتقادهم أو يحولهم عن يقينهم، ولا في استطاعة أحد من أبلغ الوعاظ وأفصح الخطباء أن يضع في رءوسهم أن الوقاية تمنع من المقدور، وأن الحذر ينجي من المكتوب، وأن طب الأطباء يؤجل في الأجل المحدود، وأن صنوف الدواء تنفع في رد القضاء المحتوم، وهم يرون كل ما يؤمرون به من وسائل الوقاية وأسباب الحيطة أمورا تضر ولا تنفع فلا تزيد في عمرهم ساعة، ولا تكف عنهم غرب المنون، ولا تفيض دونهم يد قابض الأرواح، فهم بمعزل عن الخوف والهلع، وفي أمان من الذعر والفزع، وفي ضمان من الوسواس والهواجس، وإن كانوا مقيمين في غفلة عما يجب عليهم لأنفسهم من المحافظة على صحة الأبدان، وتعهد الأجسام بما يدرأ عنها الاستعداد لقبول الداء والوقوع في مخالب الوباء؛ لبعدهم عن فهم قوله عليه الصلاة والسلام: «اعقلها وتوكل.» لكنهم لا يزالون على كل حال في صحة من الأرواح وإن أعوزتهم صحة الأبدان». «وطبقة الخاصة ونعني بهم أهل الدين واليقين، وهم الذين يعتمدون أيضا على التسليم لأحكام القضاء وحسن الاعتقاد بتحديد الآجال، والإيمان بأنه لن ينالهم إلا ما قدره الله لهم، ولا تفتأ تجري ألسنتهم في مثل هذه الأهوال بتلاوة الآيات البينات من كتاب الله: و
لكل أجل كتاب ؛
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ؛
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ؛
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم
تعالى الله أحكم القائلين، وهم الذين يعلمون علم اليقين أن الموت أمر واقع لا مرد منه، وأن الإنسان عرضة له في كل وقت ولحظة، وأن طعمه واحد، سواء أكان بمرض الوباء أو صواعق السماء، أو زلازل الأرض، أو كان بغصة شراب أو عثرة قدم أو لسعة حشرة، وأن نفس المرء خطاه إلى أجله فعليه أن ينتظر ساعته في كل حركة وسكون، وعند كل قيام وقعود:
وما نفس إلا يباعد مولدا
ويدني المنايا للنفوس فتقرب
وهم يعتقدون حق الاعتقاد أن الحي حي للفناء، وأنه مقيم من دنياه أبدا في أرض وباء، وإن لم يكن ثم وباء.
ما خص مصرا وباء وحدها
بل كائن في كل مصر وبأ
وأن من فر من المقدور فعلى المقدور نزل، ومن هرب من القضاء فإلى القضاء رحل.
مهلا أمن وبأ فررت وهل ترى
في الدهر إلا منزلا موبوءا؟
وأن من حانت منيته، لم تنفعه تقيته، ومن حل أجله، لم يحمه وجله:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أسباب السماء بسلم
إلا أنهم مع ذلك كله لا يرون من مانع يمنعهم عن الأخذ بأسباب التقية والحذر، ولا في العمل بمقتضى القوانين المندوب إليها في حفظ صحة الأبدان، وما يقرره أهل صناعة الطب من سبل التوقي والتحرس اتقاء لما نهوا عنه من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة واحتذاء لما ترسمه ظروف الأحوال وتقضي به أحكام الزمان، ولا يجدون الطاعة لإشارة الأطباء في مثل هذه النوازل مما يخالف لهم سنة أو يناقض لديهم شرعا، وإن لم يكن من ورائها فائدة فليس في عقباها مضرة، فنراهم لذلك في أجل مقام من شجاعة القلب وقوة النفس وثبات الجنان بفضل الدين واليقين، وعلى أحسن حال من سلامة الجسم وطهارة البدن بفضل العلم، وحسن القيام بما يرشد إليه من وسائط الوقاية، لا سلطة للوساوس والهواجس عليهم ولا محل للرعب والرهب فيهم، آمنين مطمئنين يتمتع كل واحد منهم بالروح السليمة في الجسم السليم». «وهناك طبقة ثالثة حديثة النشأة حديثة التربية لا من هؤلاء ولا من هؤلاء لم يرسخ الإيمان في قلوبهم، ولم تتمكن التربية الدينية من نفوسهم، ولم يتأدبوا بأدب الدين، ولم يرتاحوا لحسن اليقين، بل اقتصرت بضاعتهم على ما تلقوه في المدارس من العلوم الآلية والفنون الصناعية دون علوم التربية النفسانية والفضائل الروحانية، وخلت صدورهم من آيات الله والحكمة، قد أخذوا عن بعض الغربيين عادة التهاون بالشرائع والازدراء بالإيمان، ولم يحيطوا بشيء من العلوم الموضوعة لتقويم النفوس، وتطهير الطباع ومعرفة الحقائق ورياضة القلوب على التجلد والثبات عند وقوع المكروه ونزول الملمات، فتجدهم قد ظهروا للناس في هذه النازلة الوبائية، وانكشفوا لأهل البحث والنظر أصغر خلق الله نفوسا وأجبنهم قلوبا وأكثرهم هوسا ووسواسا، وأشدهم قلقا واضطرابا وأعظمهم خوفا ورعبا وأكبرهم بلاء وكربا، يتمثل لهم الموت في أعينهم على أفظع الصور وأشنع المناظر، فيحاولون الفرار منه وهو ممسك بنواصيهم، ويهابون دنوه وهو آخذ بتلابيبهم، حل الخوف مفاصلهم واستل الرعب نخاعهم؛ فهم يرون في كل عود نعشا لهم ويحسبون كل صيحة عليهم، أولئك لا إيمان لهم يثبت أقدامهم، ولا علم لديهم يرجح أحلامهم، بل هم على مثل حال المغشي عليه من الموت أو الممسوس من الشيطان يتوهمون طعم الموت ومذاق الوباء في تنفس الهواء وتناول الغذاء وشرب الماء وملامسة الأيدي ومخاطبة الناس، فإذا رأى المسكين منهم تلك الآلة الحدباء تحمل أحد المصابين بالوباء جمد دمه وسال عرقه وخمدت أنفاسه والتوت أعصابه وأمسك من بجانبه يستنجد به ويستغيث ليحميه من شر العدوى، ويدفع عنه نزول البلوى، وما أشبههم في حالهم هذه من الخور والهلع والفزع والجزع إلا بمثل أناس قضي عليهم بالإعدام لوقتهم فهم وقوف بين يدي الجلاد والسياف؛ إذا قدم أحدهم للسيف والنطع مات الذي يليه من الخوف قبل القتل.
ومنهم من اعتكف على الخمر يشربها ليله ونهاره عساها تجهله كيف اطمأنت به الحال، ومنهم من يبالغ ويغالي في تناول العقاقير السامة والجواهر القتالة مما وضعه الأطباء لقتل الجراثيم، فهو يشربها ويستعطها ويدهن بها جسده ويغمس فيها ثيابه ويبلل بها فراشه ويغسل بها آنية طعامه وشرابه، وكلما سمع بزيادة العدد في المصابين زاد في مقدار ما يستعمله منها يوما بعد يوم حتى أصبحت أجسامهم مسمومة وأبدانهم مهزولة وشفاههم متقلصة وعيونهم غائرة ووجوههم مغبرة وأناملهم مصفرة ينطبق عليهم قوله جل وعلا:
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، إذا رأيتهم حسبتهم في حال المصابين بالفعل لولا أن هؤلاء يفضلونهم بالخلاص من ألم الداء براحة العدم والفناء، ولما كان الخوف والوسواس من أكبر وجوه العذاب في الحياة، ومن أعظم الأسباب في رأي الأطباء لجلب الداء كانوا هم أعداء أنفسهم بأنفسهم، وهم أصحاب الأرواح السقيمة، في الأجسام السقيمة، لهم النكد في هذه الدنيا ولهم الخزي في الآخرة».
فأين تضع نفسك الشريفة أيها الباشا من هذه الطبقات؟
الباشا :
ما أرى لي موضعا بعد - إذ عاشرتني وأرشدتني - إلا في طبقة أهل الخاصة الذين يسلمون للقضاء والقدر، ويعملون بالحيطة والحذر، لكنني مع ذلك أفضل الابتعاد عن ضوضاء الناس في هذا الوباء وأرغب في التخلص من النظر إليهم وهم في مثل أهوال القيامة من الفزع والهلع، وليس من الصواب أن نجمع بين أكدارنا وهمومنا، وبين التأثر لأكدار الناس وهمومهم.
قال عيسى بن هشام: وخشيت على الباشا إن أنا تركته في هذه الحال غريق أفكاره، وأسير همومه وأكداره، أن ينتويه الانتكاس ويعتريه الارتكاس،
2
والنكسة بعد البلة شر أطوار العلة، فبادرت إلى طاعته، وامتثال إشارته فاخترت له من ضواحي المدينة مكانا قصيا، ومسكنا مرضيا.
العزلة في العلم والأدب
قال عيسى بن هشام: واعتزلت بالباشا مدة من الدهر، نستملح العزلة ونستعذب عليها الصبر، ونعيش فيها عيش الحكماء، من حسن الرضاء، بحسن الاكتفاء، ونستروح راحة البعد عن هذا العالم وأذاه، وإغماض الجفون على قذاه، مؤتنسين كل الائتناس، بالوحشة من الناس، بعد الذي شهدنا من أعمالهم ورأينا، وسمعنا من أقوالهم ووعينا، وقاسينا من عشرتهم ما قاسينا:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
إن سالمتهم حاربوك، وإن وادعتهم ناصبوك، وإن صادقتهم خانوك، وإن واثقتهم كادوك، وإن خالطتهم لا تأمن الاعتداء، وإذا مازحتهم لا تعدم الافتراء، وإذا طالبتهم بحق فإنك لا تسمع الصم الدعاء:
فلو خبرتهم الجوزاء خبري
لما طلعت مخافة أن تكادا
ولو أنك لم تخالطهم إلا في مجالس أنسهم وصفوهم، ومعاهد لعبهم ولهوهم، لم تجن منها إلا كل ما يبعد وينفر، وينغص ويكدر، تدخلها إذا دخلتها مستروحا مستبشرا، وتخرج عنها مستقبحا مستنكرا، فعيشتهم في كلتا الحالتين قرارة معايب، ومجتمع نقائص ومثالب، ومنابت أكدار، وينابيع أضرار، ولا راحة في الدنيا إلا لمن تنسك وتزهد، ولا سلامة من الخلق إلا لمن اعتزل وتوحد، وأبعد الناس عن معاشرة البرايا، أقربهم إلى كرم السجايا:
بعدي عن الناس برء من سقامهم
وقربهم للحجى والدين أدواء
كالبيت أفرد لا إيطاء يدركه
ولا سناد ولا في اللفظ إقواء
1
وعكفت مع الباشا في عزلتنا أذهب به كل مذهب، وأنتقل به من مطلب إلى مطلب، في مطالعة الأسفار والكتب، من تاريخ وأدب، ومن حكم متينة قويمة، وشتى علوم حديثة وقديمة، أهديه من كل طرف بطرفة، وأتحفه من كل باب بتحفة، وأجتنب معه ما يدعو إلى الضجر والملل، ويدني من الكد والكلل، فتارة أخوض معه عباب البحار، وطورا أجتاز به سراب القفار، فنرى من يحرق في البحر مراكبه، ليحمل على اقتحام المنايا كتائبه، ونسمع الشاعر في القفر يحدو بناقته، ويشبب بمعشوقته، ثم لا يقعد به ذل الغرام، عن التفاخر بعز الكرام، ولا ينسيه ذكر الهوى، مواقف الحتف والردى، فيخلط بالغزل الفخر، ويخاطب صاحبته من جوف القفر:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة
يوما سراة كرام الناس فادعينا
إن تبتدر غاية يوما لمكرمة
تلق السوابق منا والمصلينا
2
وليس يهلك منا سيد أبدا
إلا افتلينا
3
غلاما سيدا فينا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ولو نسام بها في الأمن أغلينا
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا
نأسو بأموالنا آثار أيدينا
إني لمن معشر أفنى أوائلهم
قيل الكماة
4
ألا أين المحامونا
إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم
حد الظبات
5
وصلناها بأيدينا
ونرى الناقة تطرب تحته إلى مواطنها، وتشتاق إلى معاطنها، فتحن حنينه، وتئن أنينه، وكلما رآها تشكو مثل شكواه، وتصغي بأذنها إلى نجواه، وتردد برغائها صداه،
6
وتسعده بترجيعها في هواه ، تأوه وتنهد، وترنم فأنشد:
لقد زارني طيف الخيال فهاجني
فهل زار هذي الإبل طيف خيال
لعل كراها قد أراها جدابها
ذوائب طلح بالعقيق وضال
7
ومسرحها في ظل أحوى
8
كأنها
إذا أظهرت فيه ذوات حجال
تلون زبورا في الحنين منزلا
عليهن فيه الصبر غير حلال
وأنشدن من شعر المطايا قصيدة
وأودعنها في الشوق كل مقال
ثم ننتقل إلى مشاهدة المعامع المشهورة، والوقائع المذكورة، فترى الدماء تجري أنهارا في الوديان، والمهج تسيل انحدارا من مسايل الأبدان، والموت واقفا يحصد الرءوس، ويجني نفائس النفوس، والفارس يمشي في الصفوف مشية الخيلاء، ويطعن برمحه كل طعنة نجلاء، ثم ينشد في وصف أثرها وبعد غورها:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر
لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها
يهون علي أن ترد جراحها
عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها
وتذكو شعلة الحرب فلا تنطفئ نارها، ولا يخمد أوارها، إلا وقد غادرت النساء أيامى، والأطفال يتامى، والأموال نهبا منهوبا، والأعلاق سلبا مسلوبا، والمدائن خالية خاوية، والقصور بائدة بالية، والحرب ينخذل فيها القوي لأوهى سبب، وينتصر الضعيف من حيث لا يحتسب، فكم دالت بها الدول، ودارت الدوائر، وانثلت العروش، وسقطت الممالك، بعد لواء العز المعقود، وبساط المجد الممدود، وبعد ذلك التناهي في العظموت، والتمادي في الجبروت، وبعد أن لم يكن يدور في الوهم سقوطها، ويخطر في الخيال هبوطها، كل ذلك يكون أسرع من لمح البصر، إذا نزل القضاء وحم القدر، وكل ملك مهما امتد ظله زائل، وعند التناهي يقصر المتطاول.
ثم أدخل به في مطالعتنا إلى حلقة حكيم واعظ يسلب الألباب بقوة بيانه، ويخلب العقول بضوء برهانه، ويسترق النفوس بطلاقة لسانه، ويقول في حقارة الغنى وهوانه: «أيها الناس والله لدنياكم هذه أهون عندي من عراق
9
كلب في يد مجذوم». «والمخير بين أن يستغني عن الدنيا وبين أن يستغني بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا».
من سره أن لا يرى ما يسوءه
فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا «والحياة الطيبة هي حياة الغنى، والغنى هو القنوع؛ لأنه إذا كان الغنى عدم الحاجة إلى الناس فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى الناس، ولذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء:
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة
فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
ويقول في محاسن الأخلاق: «الجود حارس الأعراض، والحلم فدام السفيه،
10
والعفو زكاة الظفر، والاستشارة عين الهداية، وأشرف الغنى ترك المنى، وكم من عقل أسير عند هوى أمير، ومن التوفيق حفظ التجربة، ومن لان عوده كثفت أغصانه، ومن لانت كلمته وجبت محبته».
ويقول في مساوئ الصفات: «الكاذب في نهاية البعد من الفضل، والمرائي أسوأ حالا من الكاذب؛ لأنه يكذب فعلا وذلك يكذب قولا والفعل آكد من القول، فأما المعجب بنفسه فأسوأ حالا منهما؛ لأنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه والمعجب بنفسه قد عمي عن عيوب نفسه، فيراها محاسن ويبديها، وإني لأعجب للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ويفوته الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، وأعجب للمتكبر الذي كان بالأمس نطفة وفي الغد جيفة، وأعجب لمن يغفل صبره ويشكو إلى الناس دهره، فإن كان عدوا سره وإن كان صديقا أساءه، وليس مسرة العدو ولا مساءة الصديق بمحمودة:
ولا تشك إلى خلق فتشمته
شكوى الجريح إلى العقبان والرخم «والعجز عجزان: أحدهما عجز التقصير وقد أمكن الأمر، والثاني الجد في طلبه وقد فات».
ويقول في ذكر الحياة والموت: «إنما المرء في الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ونهب تبادره المصائب، ومع كل جرعة شرق وفي كل أكلة غصص، ولا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله، فنحن أعوان المنون وأنفسنا نصب الحتوف، فمن أين نرجو البقاء وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شيء شرفا إلا أسرعا الكرة في هدم ما بنيا وتفريق ما جمعا، وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى من يموت.»
ويقول في وصف العلماء: «الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي هو بالرحمة أحق منه بالغلظة، ويعذره بنقصه فيما فرط منه، ولا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته».
ثم يختم وعظه بقوله:
الدين إنصافك الأقوام كلهم
وأي دين لآبي الحق إن وجبا
والمرء يعييه قود النفس مصحبة
للخير وهو يقود العسكر اللجبا
11
اللهم اكفني بوائق الثقات ومكايد الأصدقاء.
ثم أنتهي بصاحبي إلى مجلس محاضرات بين الأدباء، ومفاكهات بين الندماء، فنقرأ من لطيف بوادرهم، ورقيق نوادرهم ما ينير ظلمة الفهوم ويجلو صدأ الهموم:
لفظ كأن معاني السكر تسكنه
فمن تحفظ شيئا منه لم يفق
جزل يشجع من وافى له أذنا
فهو الدواء لداء الجبن والقلق
إذا ترنم شاد للجبان به
لاقى المنايا بلا خوف ولا فرق
وإن تمثل صاد للصخور به
جادت عليه بعذب غير ذي رنق
وهكذا قضيت مع الباشا زمنا ليس بقصير أستخرج له نفائس الأعلاق، من بطون الأوراق، وأقتطف معه زهر الأدب العاطر، من حدائق الكتب والدفاتر، إلى أن قال لي ذات يوم بين ندم ولوم:
الباشا :
إن أعظم ما آسف عليه اليوم تلك الأيام التي أضعتها من سالف عمري فيما لا يجدي ولا يفيد من مشاغل الدهر وملاهي العيش، ويا ليتني كنت قصرت همي منذ صباي على مثل هذه المعيشة مع هذا التفرغ لاجتناء فوائد العلوم واقتناء فرائد الآداب مغتبطا سعيدا لا حاسدا ولا محسودا، أتنقل من مطالعة الكتب إلى مذاكرة العلماء، ومن مذاكرة العلماء إلى مسامرة الفضلاء، ومن مسامرة الفضلاء إلى مطارحة الأدباء، والله يعلم أن أسفي ليزيد شدة، وأن ندمي ليعظم حدة كلما تذكرت ما كانوا يحدثونني به في أيام دولتي عن مجالس العلم والأدب، فما كنت آبه ولا أنتبه إليها، وكنت أظن أهلها قوما من أهل الكسل والفراغ يجلسون للدفاتر والكتب كما تجلس النساء للغزل والردن،
12
والحمد لله الذي أرشدني إلى الهدى آخر الدهر، فعلمت مقدار هذه النعمة التي حببت إلي الحياة ثانية، وهونت علي احتمال متاعبها، وما إخالك تبخل علي بعد الآن وقد علمت نفع ذلك لي، بمداومة السير معي في هذا الطريق الحميد، وما أرى من بأس في أن نترك هذه العزلة حينا بعد حين للاجتماع بالناس في مجالس الأدب ومجامع الفضل وأندية العلم لنتذاكر معهم ما نطالعه ونأخذ عنهم ما يحفظونه، وقد زالت المخاوف واطمأنت الخواطر بزوال الأوبئة والطواعين، والحمد لله رب العالمين.
عيسى بن هشام :
لا تطمعن أيها الأمير - دفع الله عنك المكاره - في مثل هذه المجالس فقد طوتها الأيام ورمستها الليالي، ولم يبق اليوم من يأنس إليها وينافس فيها.
الباشا :
كيف يكون ذلك وأنا لا أزال أسمع ما تزعمونه من كثرة المدارس الآن، وانتشار العلوم والفنون وتعدد الطالبين، وسهولة الحصول على الكتب ووفرة المطابع وإطلاق الأفكار من القيود، وأين هذا مما كنا عليه في الزمن الأول من تعسر الوصول إلى الكتب وتعذر استنساخها لضن أربابها كأنها لديهم خفايا الكنوز، حتى لقد كان الجهلاء الذين لا ينتفعون بها ولا يفقهون منها شيئا هم أول من يفاخر باقتنائها، ويعتبرونها ضربا من ضروب الزينة والزخرف كأنها اليواقيت والجواهر يعجز عنها من يروم الانتفاع بها إن لم يكن ذا ثروة واسعة تمكنه من استنساخها أو ابتياعها، فلا بد اليوم أن يكون في يد كل مصري كتاب يطالعه، وأن يكون كل واحد منهم قد أصبح في العلوم والفنون أليف محاضرة وحليف مذاكرة تزدهى به مجالس الفضل وتزهو أندية الأدب، وكيف لا يكون ذلك وقد ذقت من حلاوة المطالعة والمذاكرة ما أنساني حلاوة كل لذة في العالم؟
عيسى بن هشام :
نعم شاعت العلوم في هذا العصر، وترقت الفنون وكثرت المطابع وسهل على الناس اقتناء الكتب ومطالعتها، ولكن قل بيننا عدد الراغبين فيها والمطالعين لها، فكسدت سوقها وبارت تجارتها وأغفلها من ينتفع بها للاشتغال بسواها من الأمور الباطلة والأشياء التافهة، ورغب عنها من كان يقتنيها للزينة لكثرة الانتشار والتبذل، والناس اليوم في حركة لا شرقية ولا غربية قد اشتغل بعضهم ببعض، واكتفوا من دهرهم بحوادث يومهم فتعطلت بينهم مجالس العلم، واندرست مجامع الأدب، واقتصروا على مطالعة أخبارهم في الجرائد والصحف دون الدفاتر والكتب، وأنى يكون لهم الاستقرار في المجالس وهم لا يستقرون في مكان، ولا يهدأون من حركة ولا ينفكون عن غدو ورواح ولا ينتهون عن نقلة وسفر، وأكثر ما يكون جلوسهم في المركبات، مركبات الخيول أو البخار أو الكهرباء، وأهل اليسار منهم يقضون جزءا من شهور العام مترحلين في بلاد الأجانب متنقلين في ديار الغربة للنزهة والتفكه، وقصارى العلم عندهم أن يتلقى الطالب أشتاتا منه في المدرسة وأطرافا، وهو بالسن التي لم يصل فيها بعد إلى تمام التعقل وكمال الإدراك، فيحفظها ويؤديها كالببغاء، فإن أسعده الحظ في آخر الدراسة ونجح عند الامتحان تأبط صك الشهادة ونفض يده من تلك العلوم، وطرحها عنه طرح الثوب الخلق، ونبذها نبذ القادم على أهله ما أسن من ماء
13
وما جف من زاد انتقاما لنفسه مما عاناه من مشقة، وقاساه من تعب في درسها وحفظها من غير أن يفقه لها مزية في ذاتها أو يذوق لها حلاوة في طعمها، فإذا هو بلغ إربته ودخل في خدمة الحكومة أصبح كالعامل من العمال لا العالم من العلماء، وقل فيهم بعد ذلك من يصبو إلى العلم وأهله أو يحن إلى الأدب وكتبه، ولئن مال بعضهم للمطالعة، فإنها لا تتجاوز حد الكتب المتعلقة بأصول وظيفته، ولذلك أصبحت كتب العلم والأدب مملولة منبوذة، وثقل على الناس مطالعتها لما هم فيه من كثرة الحركة والتنقل، وطول الانهماك في الأشغال المتجددة، فلا يقوى أحدهم على مطالعة صحيفة من كتاب إلا وقد بلله العرق ودهمه الكلال والملال، ونزل به الضجر والسأم، وإنك لترى مثل هذا بينا في حديثهم فهم لا ينصتون إلى قصة متصلة، ولا يتبعون في الكلام قضية مرتبة، ولا يعجبهم منه إلا ما كان متقطعا مبتورا أو مقتضبا مجذوما.
الباشا :
ما أكاد أخليك أيها الصديق من غلو في وصف هذه الحال، وهل خلا أو يخلو زمان في البداوة كان أو في الحضارة من مجالس للعلم، ومجامع للفضل وأسواق للأدب، وما كان زماننا الذي كنت فيه ليخلو من آثارها حتى لقد رأينا فيها كثيرا من الكبراء والأمراء ممن لا نصيب لهم من العلم والأدب لا يغفلون مجالسهم من وجود شاعر مجيد أو فاضل أريب، أو نديم أديب أو محدث ظريف تتفكه به النفوس وتستريح له القلوب، هذا والكتب بين الناس قليلة التداول والعلم بعيد التناول، فما بالكم اليوم على هذه الحال التي تصف والصحف منشورة والكتب مطبوعة وأسماء العلوم مذكورة.
عيسى بن هشام :
قد استغنى كبراؤنا وأمراؤنا اليوم عن تزيين مجالسهم بالعلم والأدب، وقصروا هممهم فيها على التفاخر بالمقتنيات المزخرفة والأدوات المصنعة من عمل الغربيين، فترى الكبير أو العظيم يقلب في يده العصا المضيئة بالكهرباء مثلا أو الساعة التي ترن بعدد الثواني وهو يعتقد أنها أجل قيمة في العين، وأجمل أثرا في النفس من جميع العلوم التي تستضيء العقول بممارستها، ومن جميع الكتب التي تصفو ساعات الحياة بمطالعتها، ولا تتوهمن أنني أجزم لك بخلو هذا الزمن عن مجالس للعلم ومحافل للأدب، وما كان كلامي إلا على الوجه الأعم، وقد آن أن أجيبك إلى ما طلبت فأزور بك بعض المجالس والمحافل لينقطع ريبك، وليطمئن قلبك.
الأعيان والتجار
قال عيسى بن هشام: واستنهضت الباشا أزور به مجلسا من تلك المجالس المعدودة، والأندية المعقودة، مجلس الوجهاء والتجار، أهل الصيت المرتفع في الأمصار، فشهدت منه ازورارا وانقباضا، ووجدت فيه انحرافا وإعراضا، ثم التفت إلي يعاتبني عتابا شديدا، ويوسعني عذلا وتفنيدا، ويقول لي: ما عهدت منك منذ صاحبتك إلا الخير لي تريده، والنفع تبدؤه وتعيده، وما زلت أشكر لك تلك اليد البيضاء في العزلة عن الناس والتخلص من مواقف القضاء، دفعا لما كنت تحذر وتخشى من شر الخاتمة وسوء العقبى بتزاحم الأحزان، وتراكم الأشجان، وما تعقبه من السقم والاعتلال، وسوء النكسة بعد النقه والإبلال،
1
فما بالك تستنهضني إلى مثل هذه المجالس والمجامع.
وربما كان فيها ما يؤذي العيون وينفر المسامع، وقد شاهدتني يكاد يصيبني التلف، من شدة الحزن والأسف، فقلت: أشهد الله ما أبغي لك إلا الخير والتوفيق، في كل مذهب وطريق، وقد رأيت التجارب أوسعتك كرما وحلما، وصروف الدهر أكسبتك معرفة وعلما، بعد قلة الاختيار ، وكثرة الاغترار، وسوء الابتدار، في الإيراد والإصدار، وما كان فيك من خشونة الملمس، وشموخ الأنف، وضيق العطن، وصلف الرأي، وما أحب لك بعد ذلك أن ترى في أمور الناس إلا مشهدا يسلي عن الكرب، وملعبا يفرج عن القلب، فلا يكن نظرك إلى أعمالهم في غدوهم ورواحهم وفي أفراحهم وأتراحهم، ونعيمهم وبؤسهم، ورجائهم ويأسهم، مثل نظر الحكيم «هيراقليط»، بل مثل نظر الحكيم «ديموقريط»، كان الأول يشاهد أمور الناس فيبكي ويتحسر، وكان الثاني يراها فيضحك ويسخر، فإذا أنشد أحدهما في نصرة مذهبه:
الناس من دنياهم في مأتم
فالسحب تبكي والرواعد تندب
أنشد الثاني في تأييد مشربه:
هذي الحياة رواية لمشخص
فالليل ستر والنهار الملعب
ومن صواب الرأي أن لا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تذرف عينك من أجلهم العبرات، وهلم معي أمتعك بزيارة مجلس يؤنس من وحشتك، ويكشف من غمتك، فأسلس مطاوعا في القياد، ووافقني على ما تبين له من الرشد والسداد، فيممت به دارا عالية الجدران، واسعة الأركان، شاهقة البنيان لأحد التجار والأعيان، فزاحمنا عند الباب سائس يسحب فرسا مصحبا مطيعا، ويحمل على كتفه طفلا رضيعا، يقول وقد أظهر الغيظ بواطنه الكامنة: «لست أدري والله أسائس أنا أم حاضنة؟» ومن ورائه آخر يحمل صفحة متدفقة بالمخلل، يقول وقد تلوث بمائها وتبلل: «علام أتعب في هذه الدار وأشقى؟ وإلام يدوم هذا الشقاء ويبقى؟ ولست أدري والله أسائق أنا أم سقا؟» ولما ولجنا الباب إذا بالبواب يقول وفي يده صرة ثياب: «لا مرد للمقدور والمقضي، ولا رجاء في العيش الرخي، والله ما أدري أبواب أنا أم خصي؟» ولما جاوزنا دهليز المكان، إلى باب الإيوان، وجدنا عنده غلاما فتي السن يتنهد ويئن، وبين يديه دخان وورق، وبجانبه كتاب مطبق، وهو يقول: «عجبا والله للوالد يشغل ابنه بسجارات يحشوها فيلهيه بها عن دروس له يتلوها، لا غرو إن فاضت العيون بسواكبها، واحترقت القلوب بلواهبها، فما أدري والله أفراش الدار أنا أم ابن صاحبها؟» فما أحس بنا حتى انتفض قائما، وتقدم مسلما، ثم ذهب أمامنا ليذكر قدومنا، وإذا بالوالد مقبلا علينا يتكفأ في مشيته، ويتعثر في جبته، فسهل بنا ورحب، وبالغ في التحية وأسهب، ودخل بنا على أهل مجلس مختلفي الأزياء والهيئات، متبايني الأشكال والسمات، فمن صاحب عمامة يتعهد بيده رصفها وآخر يجدد لفها، ويحبك بالإبر طرفها، ومن صاحب طربوش قد أماله على جبينه، فإذا تحرك أسنده بيمينه، فترى يده أبدا لا تسكن ولا تستقر، كأنما هو في تأدية سلام مستمر، ووجدناهم جميعا قد كثر بينهم اللغو اللغط، وسمعناهم يتحاورون على هذا النمط.
أحدهم :
نعم لا بد من ذلك إذا يسر الله وتم الاتفاق مع الخواجه فلان، فإن إقامة عمارة أخرى بجانب تلك العمارة مما يأتي بأرباح لا يمكن أن تأتي بها الأشغال التجارية، وأنا أنصحك يا أبا هاشم أن تترك التجارة جانبا، فقد أصبحت الآن لا نفع يرجى منها، وتوكل على الله في الاشتغال معنا بالأبنية فهي أنجح وأربح.
الثاني :
ومن أين لي زادك الله من النعمة والبركة ما يساعدني على هذا التوسع، والحال على ما تعلم ضعيفة، والحمد لله على نعمة الستر، فهي الغنى الكامل؟
الأول :
لا تقل هذا أيها السيد،
وأما بنعمة ربك فحدث
ودعواك ضعف الحال إن هي إلا تواضع منك، والله يزيدك فضلا على فضل.
الثاني :
أستغفر الله يا سعادة البك هذا حسن ظن منك وإلا فالحقيقة غير ما ظننت، وقد قلت لك: إن الستر هو الغنى الكامل، وعلى كل حال فالبركة في التجارة، فمنها كان رزق الآباء والأجداد، وربح مستور، أبرك من ربح مشهور.
ثالث :
تالله إنكم لفي ضلالكم القديم، وهل بقي في التجارة التي زاحمكم عليها الأجانب ربح يذكر أو رزق يطلب، فاتركوا هذا الخمول وعليكم بأشغال الأقطان في البورصة، فهي الربح المضاعف والرزق الحاضر يأتيك رغدا بلا كد ولا تعب، وكم رأينا من فقير ولج البورصة فخرج بفضل المضاربات غنيا كبيرا، وهذا صاحبنا الخواجة فلان اليهودي وفيكم من أدرك والدته تبيع الخبز بالحارة، قد مارس تلك الأشغال، فأصبح أكثر الناس مالا وأرفعهم حالا، ونحن لا نزال على ما تركه لنا الآباء والأعمام، رحمة الله عليهم.
رابع :
ولكن فاتك أيها السيد أن صاحبنا هذا الذي تعنيه لم يصل إلى ذلك إلا بأشغال السمسرة، وفيها من الحطة ما لا يخفى عليكم، وهل تريدون أن ينزل أحد منا بنفسه إلى هذه الأشغال بعد أن عشنا مثل هذا العمل؟
الثالث :
حاشا لله أيها السيد ليس هذا من قصدي، وإنما أردت أن أبين لكم أن هذا اليهودي دخل البورصة سمسارا لا يمتلك مالا، فأصبح من كبار الأغنياء، فما بالك بمن يدخلها وهو صاحب ثروة، لا شك أنه يخرج منها بعد مدة قصيرة قارون زمانه.
خامس :
ما وراء الربح الكثير إلا الخسران الكبير، وقد شاهدنا بأعيننا ما أنتجته أشغال البورصة من تخريب البيوت العامرة، وتبديد الغنى الواسع وانحطاط العماد الرفيع، وأرى أن الإقدام على هذه المهالك من الجنون المحض «فالله خير حافظا».
سادس :
أما أنا، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فقد كفاني تأديبا ما تكبدته من الخسائر في تلك المضاربات على الأقطان، ولولا فضل الله وبركة دعاء الوالدين لما نجوت من الخراب.
الثالث :
لا حول ولا قوة إلا بالله
إنك لا تهدي من أحببت
كيف تخشون الخسارة في أشغال الأقطان، وتتوقعونها والربح فيها مضمون مع بعض الانتباه لمجرى الأخبار وحسن التخمين في الإحصاء، وتقدير المحصول والمطلوب للتسليم، ومع القليل من الممارسة والجراءة في العمل.
سابع :
كيف تدعي ذلك - حفظك الله - وهذا فلان المشهور قد انقطع لهذا العمل، واجتمعت فيه معداته فما زال يهوي في بحر البورصة حتى وصل في الخسارة إلى القرار، وإن كان لا يزال ظاهرا في أعيننا بمظهر الغنى الواسع والمال الجم.
ثامن :
سبحان الله ألا تعجبون معي من اتساع الشهرة بيننا بالغنى والثروة، ثم لا نلبث أن تنكشف الحال عن القلة والضعف، فكم سمعنا بأن فلانا صاحب ثروة تقدر بألوف الألوف ثم يظهر الخفي ويتضح الباطن، فلا تبلغ الحقيقة معشار تلك الشهرة الكاذبة.
الخامس :
نعم صدقت ألم تروا إلى المرحوم فلان كيف كان يفاخرني في كل مجلس، عندما أخذت الرتبة بأنه أكثر مني مالا وأعظم ثروة، وأن مقامه بذلك رفيع ومرتبته سامية، فلما توفاه الله انكشفت الحال، ولم يرث عنه أولاده ما يكفي لبقاء بيته مفتوحا وبقاء اسمه مذكورا، وقس على ذلك أمثاله من هذا القبيل فسبحان الغني الدائم.
الرابع :
دعونا بالله من ذكر الأولاد والمواريث، فإنني كلما تذكرت أخلاق آبائنا في هذا الزمن، ورأيت ما وصلت إليه ثروة فلان وما انتهى إليه حال أولاده من الفقر والضنك بعد أن بددوا تلك الأموال الطائلة، وأصبح ذكر أبيهم بينهم نسيا منسيا فلا يزورون له قبرا ولا يطلبون له رحمة، هان علي أن أنفق ما في حوزتي في حياتي، وأن أتمتع بأموالي في مدة عمري.
الخامس :
معاذ الله أن نفعل ذلك بأبنائنا، وما فائدتنا في هذه الدنيا إذا لم نجمع الأموال وندخر الثروة لأعقابنا، ونترك لهم ما يغنيهم عن سؤال اللئيم بعدنا، ولا تجعل الذنب كله على الأولاد في تبديد المواريث، بل الذنب كل الذنب على الآباء الذين يتركون أموالهم هملا بعد موتهم، ويغفلون عن تقييدها بالوقف فينتفع الأولاد بالريع، وتبقى العين قائمة والبيت مفتوحا والاسم مذكورا، ولا يحتاج أحد من الذرية وذرية الذرية مع وجودها إلى ...
السادس :
لا مؤاخذة يا سعادة البك في مقاطعة الحديث، ألم تسمع بما حصل في وقف فلان وفلان وغيرهما، وكيف اغتال النظار حقوق المستحقين، وذهب الوقف ضياعا بين القضايا والدعاوى والديون، حتى آل النظر والاستحقاق فيها لليهود، واندثرت البيوت وعفت الآثار، وذهبت أسماء أصحابها كما ذهب أمس قبل اليوم.
السابع :
نعم ينفع الوقف ويبقى الميراث على شرط أن يكون بمثل الشروط التي وقف بها المرحوم فلان، فإنه خصص جانبا من الريع لذريته، واشترط أن يحفظ الباقي ويدخر، وكلما تكون منه نقد عظيم يشترى به عقار ثم يوقف ويضاف إلى الوقف الأصلي ليكون في نمو متواصل على توالي الأيام وصروف الحدثان، وبذلك يصير البيت في درجة عالية من الغنى بعد وفاة صاحبه فوق ما كان عليه في أيام حياته، فأنعم بها من طريقة وأحسن بها من وسيلة .
الثالث :
ليس ذلك من الحزم في شيء، ولكنه الغلو في البخل والشح ومحبة الادخار بعد مفارقة الحياة، ولقد حرم المرحوم نفسه من التمتع بماله في حياته وحرم أولاده منه بعد موته بابتداع هذه الطريقة الغريبة في شروط الوقف.
الأول :
أطلب منك العفو والسماح وعدم المؤاخذة، فمن يقول: إن المرحوم كان شحيحا مقترا، قد والله عاشرته الزمن الطويل فما رأيته يحرم نفسه أو يقتر عليها، وما كانت مائدته لتخلو من الضأن أو الحمام أو الدجاج، وحق جدك، وإنما كان الرجل حازما لا ينفق ماله إلا في الوجوه النافعة.
الثاني :
لا اعتماد عندي في هذا الباب على الوقف أو الملك، وخير ما يدخر الوالد لأبنائه وأفضل ميراث لهم أن يحسن تعليمهم وتهذيبهم في المدارس، وأن لا يعودهم في حياته الإنفاق والتبذير، بل يروضهم على التوفير والتدبير ومعرفة قدر الدرهم والدينار.
الأول :
وهل جاءتنا المصائب في أولادنا إلا من هذه المدارس وتعليمها، وهل زادهم ذلك التهذيب إلا ما شئت من الفظاظة والوقاحة والكبرياء والمكابرة، ولقد أدهشني فلان بالأمس، وأضحكني في شكواه مر الشكوى من حال ابنه المتهذب المتعلم في المدارس والمجالس؛ إذ قال لي في حديثه: «ما زال هذا الولد يزيد في تعذيبي وتكديري منذ خروجه من المدرسة، فأصبح لا يكلم أهله إلا بالرطانة ولا يعرب عن غرضه إلا بالتعنيف والتأنيب، ولا يرضى عن شيء في البيت، فإذا جاءوا له بالماء قال: فيه الميكروب، وإذا أتوه بالخبز والجبن قال: علي بالميكروسكوب، ثم ترى الشقي يقسم الأطعمة أقساما، فيقول: البيض واللبن غذاء كامل، والخضر غذاء ناقص، لا ينفع ولا يمري، وأن الأرز وما شابهه من «المواد النشائية» لا فائدة منها سوى أنها تحترق كالوقيد في الجسم، وما زاد منه عن الحاجة فهو شحم يغلظ به الجسد وتتورم به الأعضاء، وأن الفواكه لا بد أن تؤكل من ساعتها إذا تشققت خصوصا البطيخ؛ لأنه أسرعها قبولا لتولد الحيوانات السامة، وهلم جرا حتى حير الخبيث أهل البيت في طعامه وشرابه فوق ما حيرني في اختلاف ملابسه وتعدد أزيائه، وكلما عارضته في شيء شمخ بأنفه استكبارا ولوى عنقه استحقارا، وسخر بي لجهلي وفخر علي بعلمه، هذا هو منتهى التأدب الذي يكتسبه أبناؤنا من علوم المدارس، يتعالون على آبائهم ويعيرونهم بعد أن كان الولد كالبنت البكر في الزمن الماضي لا يرفع طرفه في وجه والده حياء ووجلا، وكان لا يجرؤ على مكالمته إلا مجيبا عن سؤال من صغره إلى كبره.
الثاني :
ولكن فاتك أن تعليم أبنائنا في المدارس يفيدنا فائدة عظيمة يغتفر لها كل ذنب، وهي دخولهم في سلك الموظفين في الحكومة وارتقاؤهم المراتب والمناصب، ويا ليت آباءنا كانوا التفتوا في أيامهم إلى تعليمنا في المدارس فكنا استغنينا عن ممارسة التجارة وذل البيع والشراء، وكساد السوق وترويج السلعة بالأقسام والأيمان، فما العيش إلا عيش الموظفين الذين يأخذون مرتبهم في آخر كل شهر نقدا عينا وذهبا خالصا دفعة واحدة سالمة لأيديهم بلا مطل ولا تسويف، في مقابل جلوسهم بالديوان ثلاث ساعات من كل يوم يقضون الجزء الأعظم منها في المسامرات والمفاكهات، ثم ناهيك بما لهم بين الناس من التوقير والتعظيم، وما في قدرتهم من مساعدة الأصحاب ونكاية الأعداء، ورأس المال في ذلك كله الإحاطة ببضعة كتب في المدرسة، فأخبرني حينئذ أي ربح في التجارة وأي شأن لها يوازي هذا الربح وهذا الشأن في خدمة الحكومة، وسبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة.
الرابع :
كل هذا معلوم ومسلم به، ولكن من أين لك أن ينال ابنك الشهادة وأنت تعلم حال القابضين على زمام التعليم، فقد خرج أكثر أبنائنا من المدارس بلا شهادة وخسرنا عليهم الأموال في نفقاتها، ومن صادفته العناية منهم ونال الشهادة مثل ابني، فإنه لم يزل يتردد على أبواب الحكومة في تطلب الخدمة، والوظائف مشحونة ونظار الحكومة لا يجددون سواها.
السادس :
عسى الله أن يبدل الأحوال وتسقط هذه النظارة ويمن علينا برجوع أولئك النظار الذين يهتمون بمصالح أهل البلد وأبناء الوطن، فترى حينئذ كيف يكون تقدم أبنائنا في المناصب.
الخامس :
حقا إذا ذهب هؤلاء النظار وعاد صاحبك إلى النظارة، فقد أقبل علينا السعد وانجلت الكروب وصفت الأوقات، وأنا أرجو أن لا تنسى ابني عند السعي لأنجالك فقد كان معهم في مدرسة واحدة، وهو دائما يطالع الجرائد، ويترقب الحوادث التي يكون من ورائها سقوط هذه النظارة.
الثامن :
أراكم تخبطون في أمر أولادكم على غير هدى، والأصوب عندي أن نعلمهم العلوم ليكونوا أسوة أهل زمانهم معرفة واطلاعا، لا لأجل التوظف في الحكومة والخروج عن طبقاتهم، وأما من جهة حفظ المواريث في أيديهم بعد مماتنا فأحسن الطرق أن لا نقتر عليهم في النفقة أثناء حياتنا، وأن لا نتركهم بمعزل عن أشغالنا، بل نخصص لهم قسما من المال يشتغلون به على حدتهم تحت أعيننا ليتمرنوا على العمل، ويدركوا لذة المكسب بأنفسهم فتتربى لهم ملكة الحرص على المنافع، وينتفعوا بعلومهم في اتساع تجارتهم والتفنن في أبواب المرابحة، وقد جربت ذلك في أولادي وأنا أرجو فيهم الخلف الصالح إن شاء الله.
السادس :
هل جاءت جريدة اليوم؟
صاحب البيت (مناديا لابنه) :
ائتنا بالجريدة واقرأها علينا. (يحضر الغلام وفي يده الجريدة ناشرا لها.)
الأول :
اقرأ لنا من الأول.
الغلام (قارئا) :
الحرب.
السادس :
هل وقعت الحرب؟
الغلام :
ليس يتبين ذلك من أول المقالة.
السادس :
اقرأها من آخرها.
الخامس :
اتركها من أولها إلى آخرها، واقرأ في «المحليات» فلا فائدة لنا في وقوع الحرب أو اجتنابها.
الغلام (قارئا) :
تأليف الشركات.
الرابع (للسادس) :
لا يذهب عن فكرك مشروع الشركة الوطنية التي كنا تكلمنا في تأليفها منا لمشتري الأطيان المعلومة من الحكومة.
الخامس :
إن شاء الله يكون لنا نصيب معكم في هذه الشركة.
الثالث :
من أعضاؤها، ومن الرئيس؟
السادس :
أعضاؤها فلان وفلان وفلان ورئيسها فلان.
الثالث :
معاذ الله أن أقبل الدخول مع فلان في شركة، وهل نسينا ما وقع منه.
الثاني :
وأنا لا أقبل الدخول في شركة بعد تلك الشركة المشهورة بخيبة المسعى ما لم أكن أنا الواسطة في مقابلة الحكام والمداولة معهم.
السابع :
وأنا لا أقبل الدخول فيها إلا إذا كانت «أسهمي» في التأسيس أكثر من فلان.
الأول :
وأنا لا أقبل أن يكون فلان رئيسا علي في شركة أبدا.
قال عيسى بن هشام: واشتد بينهم الجدال والخصام فحملقت العيون وعبست الوجوه وتحركت الضغائن وثارت الأحقاد، ورأينا كل واحد منهم يضمر لأخيه من الشر والأذى، ما لا يضمره القرن لقرنه في ساحة الوغى، فانصرفنا عنهم وتركناهم يموج بعضهم في بعض، كأنهم في موقف الحشر ويوم العرض.
أرباب الوظائف
قال عيسى بن هشام: وسرنا إلى زيارة مجلس من أرباب الحكم والولاية، وذوي السياسة والدراية، ممن بيدهم حل الأمور وعقدها، وبملكهم شقاء الأمة وسعدها، الناشئين في مهد المعارف والعلوم، والنابغين في أشتات المنطوق والمفهوم، والموصوفين بدقة النظر وبعد الهمم، والواقفين على أخلاق الخلق وعادات الأمم، الذين تنكشف لضوء آرائهم غياهب الخطوب الداجية، وتنقاد للطف سياستهم أزمة القلوب الآبية، فوصلنا إلى دار يزهر بياضها، ويبهر إيماضها، قد ضربت عليها المحاسن أطنابها، وخلعت عليها الزخارف جلبابها، فسار بنا الخدم إلى حجرة في جانب الساحة، أعدت للانتظار والاستراحة، وإذا برجل جالس فيها يتمايل بين يقظان ووسنان، فرأسه كرة والكرى صولجان، فلما أحس بقدومنا ودخولنا عليه، انتبه يزيح النعاس بإصبعه عن عينيه، فسلمنا فسلم، وهو يتثاءب ويتلعثم، فتخيلناه من ظاهر جملته، وبذاذة هيئته، أنه صانع من الصناع أو تبع من الأتباع، ولكن ما لبث أن ظهر لنا من مخاطبته للغلام، أنه ذو رحم في البيت وذو مقام.
ثم التفت إلينا يخاطبنا ويقول، بعد أن ذهب الخادم مستأذنا في الدخول: «قبح الله الخدم، فهم نقمة من النقم، شرهم حاضر، وخيرهم نادر، والعناء بهم ليس له آخر، فكم أغضبوا حليما، وآذوا كريما، وكم كسروا الصحيح، وخلطوا الصريح، وكم ارتكبوا جرما وإثما، وجاءوا إفكا وظلما وكم فتحوا الأغلاق، واختلسوا الأعلاق، وكم أحدثوا الشقاق وأذهبوا الوفاق، وكم فرقوا بين المرء وأهله، وحالوا بين الفرع وأصله، ولعنة الله عليهم في الدارين، فقد ذقت منهم الأمرين، وكادت تصل بنا أفعالهم الشنيعة إلى ما لا يحمد من الجفاء والقطيعة، وابني حرسه الله ينظر ويغضي، ويتحمل منهم ما لا يرضي، وهم يتجنون علينا وينتصرون، وإذا أمرتهم بأمر لا يأتمرون، ويشهد الله أنني كلما رأيت مال ابني في أيديهم يتبعثر ويتبدد، وثقته بهم تتضاعف وتتجدد، ذاب الفؤاد فسال من العيون، مشوبا بماء الشؤون،
1
وأما وكيل البيت، وما أدراك ما الوكيل، فحسبنا الله ونعم الوكيل، فتى لا تخطئ في النفاق مخيلته، ولا تطيش في البيت حيلته، دأبه المكر والخداع، وديدنه الشقاق والنزاع، يرضى طفلا، ليسخط كهلا، ويتملق للجارية في الحرم، وللوصيف من بين الخدم ...»
هذا، وما زال الرجل يشكو ويتضجر، ويتأفف ويتحسر، فلم ينقذنا من هذه الشكوى التي تصم الآذان، إلا رجوع الغلام بجواب الاستئذان، فانتهينا من شقشقة لسانه، وحمدنا الله على كرمه وإحسانه، ثم اقتفينا أثر الغلام إلى حجرة بادية الرواء، مضيئة بالكهرباء، مفروشة بأثمن فراش، وأبدع رياش، على اختلاف في الأجناس والأنواع، وتباين في الأشكال والأوضاع، فالتحفة الشرقية، تقابلها الطرفة الغربية، وآنية الذهب يضارعها آنية الخشب، فوجدنا المجلس حافلا بأهل الولاية والقضاء، من الرؤساء والوكلاء، فأخذنا مجلسنا نستمع ما يدور من السمر، ونجني من أدبهم ما يحلو من الثمر، ودونك بعض ما اقتطفنا وجنينا، وسمعنا ووعينا:
أحدهم :
نعم حبذا نصرة حزب الجيش على بقية الأحزاب في فرنسا، فإن في ذلك لو تعلمون تحرير رقبتنا وانقضاء محنتنا.
ثانيهم :
ما أبعد ما ترمي وما أسرع ما تحكم، فهلا نبأتنا لله أبوك كيف ترتيبك لهذه القضية واستقراؤك لهذه النتيجة، وما نحن وخذلان الأحزاب الفرنسية ونصرة حزب الجيش عليها!
الأول :
أراك لست بعويص الرأي في السياسة، ولا ببعيد الغور في استخراج النتائج، ألا تعلم، لا زلت مسددا، أن في انتصار حزب الجيش قلبا لهيئة الجمهورية ورجوعا بفرنسا إلى الملكية والإمبراطورية أو القنصلية، فتأتينا بمثل أولئك الملوك والقواد الذين دوخوا الشرق والغرب، وقهروا الممالك وأخضعوا الدول، وأصبحت لهم الكلمة العليا على أهل البسيطة، فلا يمانعهم في أغراضهم ممانع، ولا يعارضهم في مطالبهم معارض، وإني لأعلم علم اليقين ممن عاشرت من كبار الفرنسيين وصاحبت أنه لولا هذه الجمهورية لما وصلنا نحن إلى هذه الحال.
ثالثهم :
دعنا بالله من هذه الخيالات واتركنا من هذا اللغو ، ومثلك لا يحق له الشكوى من هذه الحال، فإنك متين العلاقة بالمستشار، وما بينك وبين الوصول إلى المنصب الذي تتطلع إليه إلا قيد شبر، وأنت مع ذلك في غنى عن خدمة الحكومة بما لك من الغنى واليسر، ولكن ماذا تقول في من هو في حاجة دائمة إلى البقاء في أسر الحكومة وذل الخدمة، ولولا الاحتياج إلى المرتب والاضطرار إلى الرزق لما أقمت في الخدمة يوما واحدا.
رابعهم :
وأنا والله لا أنتظر إلا أن يتم لي نصف معاش فأهجر خدمة الحكومة، وأنجو بنفسي من أسر الرق وذل العبودية، ثم أعتمد بعد ذلك على الاشتغال بالتجارة، فهي أهنأ عيشا وأعظم ربحا وأبعد بصاحبها عن مواقف الذل والهوان.
خامسهم :
ما أسخف الرأي وأضعف الفكر، ومن ينكر أن خدمة الحكومة على كل حال هي أعلى قدرا وأرفع شأنا من بقية الحرف والصناعات، وكل أسباب المعايش لا تخلو في هذه الدنيا من المتاعب والأكدار، ولكن خدمة الحكومة أهونها حالا وأقلها عناء، ولا يفضل عليها الاشتغال بالتجارة إلا من كان قليل التبصر في الأمور، ويكفيك برهانا على ما أقول أنك تستخدم التاجر وتسخره ما دام درهمك في يدك، ولكن التاجر في حاجة أبدا إلى أصغر موظف في الحكومة، وإن كان من أغنى الأغنياء، ولو تراهم إذ يفتخرون بينهم بزيارة الكاتب ومجالسة المعاون وتحية القاضي ومخاطبة المدير، لعلمت أن خدمة الحكومة بلغت في أعينهم وأعين بقية الطبقات مبلغا عظيما من الشرف والرفعة، بحيث لو خيرت أحدهم بين الخروج عن ماله وعقاره وتجارته وأطيانه وبين الدخول في صف الموظفين بالحكومة لخرج من كل ذلك خروج السهم من قوسه والأرقم من جلده، ولحكم بأن السعادة كل السعادة فيما تعده أنت شقاء وبلاء وتعتبره ذلا وهوانا.
سادسهم :
على رسلك أيها القاضي لا تعكس القضية، ولا تقلب الحقيقة، ولا تحمل ما تراه في أخلاق أهل التجارة والصناعة والزراعة من الاستهانة بحرفتهم والاستعظام لأهل الحكومة على أن حرفتهم خسيسة في ذاتها، بل ذلك حادث فيهم من جهلهم وضعف إدراكهم ، وإلا فلو تخلى أحدهم عن طبقته، ودخل في طبقتنا يوما لأدرك في الحال ما كان فيه من نعمة الاستقلال في العمل والحرية في الرأي، ولعلم أن الموظف قد باع للحكومة حريته ووهب لها نفسه تتصرف فيها تصرف المالك في ملكه مقابل مقدار من المال يعد لأجله ساعات اليوم وأيام الشهر، ويربحه الواحد من أولئك الجاهلين بأحوالنا في يوم واحد وهو أمير نفسه وسيد أهله، ويا ليت آباءنا كانوا انتبهوا إلى تعليمنا الصنعة وتمريننا على التجارة، ولكن بئس ما صنعوا وبئس ما خلفونا له، ولو أنهم كانوا أدركوا ما انتهت إليه حال الخدمة في الحكومة اليوم، ولم يغتروا بما كان للحكام في الأزمان السالفة من الصول والطول والقوة والحول، واكتساب المال من الجاه، ولو علموا أنه سيأتي زمان على هذه الحكومة التي كانوا في أيديها كالأيتام في يد الوصي يكون أرباب المناصب فيه كالأطفال في حجر المرضع؛ لعضوا الأنامل ندما ولأرسلوا بدل الدمع دما على ما فرطوا في أمرنا وأهملوا في شأننا.
الخامس :
إنك لتتكلم بكلام العجائز اللائي يقنعن من دهرهن بالخسيس من الملبس والمطعم، وأين أنت هداك الله من طلب المعالي وابتناء المفاخر، وتشييد المجد وخدمة الوطن وارتقاء المناصب للقدرة على النفع والضرة، وأين أنت من قول الشاعر الحكيم:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني، ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وإلى الله المشتكى من زمن صغرت فيه النفوس، وضعفت الهمم وماتت العزائم، ورضي الناس فيه بالخمول والسكون وبالعيش الدون.
السادس :
إني لأعجب منك أيها الفاضل كيف يغيب عنك الصواب إلى هذا الحد، فترى أن في خدمة الحكومة سؤددا وعلاء ومجدا وسناء، وما هي إلا الذل والشقاء، والبلاء في أثر البلاء، وأنا أفصل لك الحال تفصيلا لتعلم أن بقاء أمثالك في خدمة الحكومة مع القدرة على التنحي عنها عجز وضعف، وجهل براحة الحياة وأي جهل فأقول:
تنقسم الرغبة في خدمة الحكومة إلى أربعة أقسام:
القسم الأول:
الرغبة فيها للمال؛ أعني لسد العوز وكفاف العيش ، وصاحب هذا القسم يكون في حال المضطر الذي حكم عليه الدهر باحتمال الهوان لضرورة الرزق، فهو مثلي يغبط حال كل صانع وتاجر وزارع، ويتمنى على الدوام أن يخرج من خدمة الحكومة إلى صف أهل الصناعات الحرة.
والقسم الثاني:
الرغبة فيها للجاه؛ أعني عزة المنصب ونفوذ الكلمة ومضاء الحكم، وهو ميدان بعيد الشأو واسع الأطراف ليس لشوطه نهاية، ولا لحدوده غاية، ولا بد فيه للجواد من كبوة، وللسيف من نبوة، وطالما كان اعتلاء المناصب، وارتقاء المراتب، داعية للرزايا والمصائب، ومجلبة للبلايا والنوائب.
والشر يجلبه العلاء وكم شكا
نبأ علي ما شكاه قنبر
2
ولو سلمنا أن صاحب المنصب سلم من المعاطب ونجا من الخطوب، فهو لا يزال طول حياته في هم ونصب كلما ارتقى في المنصب درجة، وجد فوقها درجة أخرى يحسد من يليها، ويحقد على من يعتليها، ولا يفتأ مستعظما لما فوقه طامعا فيه مستصغرا لما في يده راغبا عنه، فهو في ذهول دائم عن التمتع بلذة الحياة التي يجري وراءها غير راض عن نفسه، ولا الناس عنه راضون، وهذا هو منتهى الشقاء والبلاء وملتقى الكمد والكدر.
ذلك الخائب الشقي وإن كا
ن يرى أنه من السعداء
يحسب الحظ كله في يديه
وهو منه على مدى الجوزاء
وأخلق بمن كان همه أبدا التطلع إلى غير ما في يده أن يكون أنحس البرية حالا وأمضهم عيشا، ولذلك زهد الراسخون في العلم من الفلاسفة والحكماء في اعتلاء المناصب، ورغبوا عن اغتراب غاربها، وحذروا العقلاء من السعي وراءها وشغل النفس بها، هذا كله إذا كان المنصب عظيم الجاه نافذ الأمر، وكان الوصول إليه من طريق الفضيلة والشرف، والحصول عليه من باب الجدارة والاستحقاق، فأما والطريق إلى المناصب كما نراه اليوم قاصر على التوسل والتوسط وإهراق ماء الحياء، والمنصب على ما تعلم لا أمر فيه ولا نهي، ولا حل ولا عقد، فالفرار منه أجدر بطالب الجاه وأحرى، والتباعد عنه أشرف بذي الفضل وأسنى، والنزول عنه نعم المنصب العالي، لطلاب المعالي.
والقسم الثالث :
الرغبة في المنصب لشغل النفس دون سواه دفعا للسأم والملل وتضييعا لأوقات الحياة وساعات العمر في الاشتغال بحاجات الناس، والتلهي بها عن تهذيب النفس، ولا يدخل في هذا القسم إلا من كان فارغ الفؤاد خاوي الصدر خاليا من كل أدب وفضل مشغول الضمير بالوساوس والهواجس، فأكره شيء لديه نفسه وأثقل حمل عليه حياته، ولا بد له من مشاغل متجددة ومسائل متعددة تشغله عن الخلوة بنفسه التي صارت عنده إذا هو خلا بها لحظة كأنها خلية من خلايا الزنابير أو وكر من وكور الأفاعي، وهيهات أن يبلغ المسكين غرضه يوما؛ لأن من ضاقت عليه نفسه كان العالم عليه أضيق، ومن ثقلت عليه أخلاقه فالخليقة عليه أثقل.
والقسم الرابع:
الرغبة في خدمة الحكومة لخدمة الوطن ونفع الأمة، وهذا مطلب عقيم النتيجة أيضا؛ لأنه لا يتفق لنا الجمع بين المحافظة على البقاء في المنصب، وبين الاستقلال في الرأي الذي تقتضيه مصلحة الوطن، ومن أراد أن يخدم وطنه فليتخلص من قيود الحكومة ويخدمه، وهو مطلق اليدين واسع التصرف.
ولا تنس فوق هذا كله ما يعقب حلاوة الولاية من مرارة العزل، خصوصا في بلد ينسبون فيه إلى صاحب المنصب كل فضيلة وينزعونها عنه إذا سقط منه، فالرجال عندنا بالمناصب لا المناصب بالرجال على عكس ما قد قيل:
إن الأمير هو الذي
يضحي أميرا يوم عزله
إن زال سلطان الولا
ية لم يزل سلطان فضله
فمن ذا الذي يقبل الدخول في خدمة الحكومة، وهو يجد عنها محيصا إلا من أضله الله على علم، ولذلك فإني عاهدت نفسي أن أتخير لأولادي في تعلمهم صناعة يتعيشون بها أحرارا، وتكون معهم أينما حلوا وساروا لا يسلبها منهم تقلب السياسة وتغير الحوادث، ولا يؤثر فيهم غضب زيد أو رضى عمرو.
سابعهم :
لله أنت ما أحلى بيانك، وأجلى برهانك! وأنا معك في هذا الحكم، وعلى هذا العزم.
الثاني :
اتركوا هذه الخطب المكدرة والأفكار المحزنة، وخذوا بنا في حديث غير هذا يفرج عنا ويروح، ولا تجمعوا علينا بين ذل النهار وهم الليل ، وهل لك يا فلان أن تقوم معي للمسابقة والرياضة بالبسكليت؟
الأول :
الأحسن من هذا أن تأتونا بالفونوغراف نستمع إليه.
ثامنهم :
أو قوموا بنا إلى عرس فلان فقد بلغني أن فيه «بوفيه» لم يسمع بمثله حسنا ووضعا.
الأول :
أنا معك.
الثامن :
لكن على شرط أن تقيم معي هناك نستمع الغناء.
الأول :
لست معك في هذا، بل نخرج من البوفية إلى الأزبكية لسماع الموسيقا الإنجليزية أو الأوبرا التليانية.
الرابع :
أنا لا أتوجه معكما؛ لأنني ذاهب إلى «الكلوب».
السابع :
انتظروا قليلا حتى نقرأ جرائد المساء.
الخامس :
علي بالجرائد الفرنسية منها فهي أصح من العربية أخبارا وأغزر مادة.
الثالث :
اقرءوا الجرائد العربية أولا واحدة بعد أخرى أو بعضها مع بعض.
الثاني (قارئا) : «آسيا في أوروبا وأمريكا في أفريقيا».
الرابع :
ماذا جرى لصوابك يا عزيزي؟ اقلب الصحيفة الأولى فما لنا ولهذه المقالات الافتتاحية، وما لنا ولهذه الأفكار الصبيانية؟
الثاني (قارئا في الصحيفة الثانية) : «الإسكندرية لمكاتبنا»؛ «الأمة برجالها والمناصب بأربابها والمعارف هي التي تخرج لنا رجال المستقبل، ومن أين لنا بالرجال إذا كانت تبخل بالمال، فالمستقبل حينئذ مظلم والوطن آسف ولا نهضة للأمة إن لم تنهض العواطف لإنشاء مدرسة كلية أو معارف أهلية وبخلاف ذلك كان» ...
الرابع :
حسبك أيها القارئ حسبك، أما قلنا لك: لا تقرأ هذه المقالات المعلومة؟
السابع :
اترك «الإسكندرية» إلى غيرها.
القارئ (الزقازيق لمكاتبنا) :
يثني العموم بلسان واحد على حضرة مأمور البندر لاهتمامه بالكنس والرش ...
الثامن :
أنعم به وأكرم وأكثر الله من أمثاله في خدمة الوطن عليك يا صاحبي بالحوادث الداخلية.
القارئ : «يسافر سعادة العضو الوطني في السكة الحديدية إلى الإسكندرية في هذا المساء، ويحضر سعادة مدير البوستة إلى العاصمة على إكسبريس الصباح ...»
الثامن :
اترك قراءة هذا «المانيفستو» أيضا.
القارئ : «سبقنا فذكرنا أن مجلس النظار بحث في الجبانات، والآن نذكر نص القرار ...»
الثامن :
جعل الله الجنة قراره ومثواه، فدعه واقرأ لنا سواه.
القارئ : «وصل سعادة السردار إلى أم درمان، وقد بلغنا عن ثقة أن أهم ما يشتغل به الآن هو السؤال عن أحوال السودان».
الثامن :
سبحان الله كنت أظن أنه سيشتغل هناك بالسؤال عن أخبار اليابان وحوادث اليونان.
القارئ : «يسم البوليس الكلاب الضارة ...»
الثامن :
نسأل الله السلامة والهداية للجميع.
القارئ : «كتب إلينا أحد أفاضل الأطباء بأنه اكتشف علاجا يشفي من كل داء مزمن ومرض عضال، ويقول - حفظه الله - في آخر رسالته: إنه من غرامه بصدق لهجة جريدتنا صار لا يفارقها حتى ولا في منامه على فراشه ...»
الثامن :
لا نزاع في هذه الكفاءة وسبحان الموفق.
القارئ : «رزء عظيم: قد فجع الإسلام وانهدم ركن الدين وأظلم الكون؛ إذ قصفت المنون غصن نقيب الأشراف بالدير الطويل عن ست وتسعين سنة قضاها في عمل البر والإحسان؛ فكان لنبأ موته أسف وحزن في قلوب أهل بلده خصوصا والقطر المصري عموما».
الثامن :
لا حول ولا قوة إلا بالله، لا بد أن تكون أسعار البورصة هبطت لهذا النبأ هبوطا فاحشا في القطر المصري، خصوصا وفي الولايات المتحدة عموما.
القارئ : «نفيد حضرات القراء أنه لا يزال التحقيق جاريا في قضية التزييف، ولم يتم فيها شيء للآن، ومتى تم نبادر إلى نشره إفادة لحضراتهم كما هي عادتنا في نشر الأخبار بأوقاتها.»
الثامن :
أفادكم الله ونفعنا بهذه الأخبار.
القارئ : «فاتنا أن نذكر أن حضرة وكيل دائرة الهياتم كان في مقدمة المشيعين لجنازة المأسوف عليها، وردة جعلان في الأسبوع الماضي، وكذلك فاتنا أن نهنئ حضرة مكاتبنا الفاضل «بنزلة واكد»، حيث رزقه الله بولادة مولود جعله الله من أولاد السعادة.»
الثامن :
جل من لا يغفل ولا ينسى، ولكن فاته أن يذكر أكان ذكرا أم أنثى.
القارئ : «لدغت عقرب ابنة في قسم الوايلي.»
الثامن :
نعوذ بالله هذا كله ناشئ من إهمال الحكومة في «الاحتياطات الصحية»، ومن غفلة البوليس عن ضبط الوقائع الجنائية.
القارئ (للثامن) :
يكفيك يا حضرة القاضي من السخرية والاستهزاء واسمع لهذا النبأ العظيم.
الثامن :
سمعا وطاعة.
القارئ : «بلغنا اليوم أن الحكومة تبحث الآن في مشروع فتح شارع المرور، ونحن بلسان العموم وبالنيابة عن الأمة المصرية الأسيفة نحذرها من عواقب هذا المشروع الوخيمة، الذي يكون من ورائه رسوخ قدم الأجنبي في البلاد، وسنشرح لحضرات القراء مضار هذا المشروع في مقالة افتتاحية.»
الأول :
إن هذا الخبر لا يعلم به أحد سواي، فكيف وصل إلى الجرائد؟
الثامن :
إني لأخشى إن دام إفشاء الأسرار على هذه الحال أن يعمد أرباب الحل والعقد إلى استخدام الخرس في مجالس الحكومة رجوعا إلى العادة القديمة في مجالس الوكلاء بالدولة العثمانية.
الرابع (للثاني) :
اقرأ بقية الأخبار المحلية.
الثاني :
لم يبق في الجرائد الثلاث إلا التلغرافات والإعلانات.
الرابع :
أراك لم تقرأ إلا جريدة واحدة فما قولك: «الجرائد الثلاث»؟
الثاني :
هي كما تعلم نسخة واحدة في الأخبار، وإن كانت مختلفة في الأسماء.
الرابع :
اقرأ لنا التلغرافات.
الثاني (قارئا) : «ديروط الساعة 8 والدقيقة 37 كان الاحتفال بتوديع حضرة النشيط معاون بوليس المركز هائلا، وتليت الخطب وأنشدت القصائد والتفصيل بالبوستة.»
الرابع :
ما هذه الصغائر؟
الثاني :
هي التلغرافات الخصوصية.
الرابع :
علينا بالعمومية.
قال عيسى بن هشام: وما قرأ القارئ التلغرافات السياسية حتى استدار أهل المجلس حلقة يكثرون اللغط في شرحها، ويرجمون الظنون في تأويلها.
وما فيهم إلا من هو على خلاف لرأي صاحبه، وإذا هم قد عادوا إلى مثل ما كانوا فيه وقت دخولنا عليهم، ولما وجدنا الجدال يحتدم بينهم اشتعالا، خرجنا من بينهم انسلالا، وتركناهم في سياستهم يتيهون، وفي ضلالهم يعمهون.
العرس
قال عيسى بن هشام: ولما فرغنا من زيارة تلك المحافل المشهودة، والمجالس المعدودة، قلت للباشا: قد آن أن نعود إلى ما كنا فيه من الانفراد والاعتزال، ونبتعد عن مثل هذا الاختلاط والابتذال، فأجابني وهو يظهر التوقف، ويبدي التأفف: «ما بالك تقطع علي الطريق، في البحث والتحقيق؟ وما لك تحرمني السعي والاجتماع، للاطلاع على العادات والطباع؟ ولم تختار أن نقتصر على ما في الكتب والأوراق، لمعرفة الآداب والأخلاق؟ فنترك النظر للخبر، واللمس للبس، والممارسة للمقايسة، وأي الطبيبين أدق صنعا، وأكثر نفعا: الطبيب الذي يقتصر على الكتب في درس الأعضاء والأحشاء، أم الطبيب الذي يدرسها في تشريح الجثث وهي تسيل بالدماء؟ على أنه قد زال عني في هذه المدة، ما كان يعترضني من الغضب والحدة، وانقلب العسر من أمري يسرا، وغدا التقطيب بحمد الله بشرا، وصرت لا أقابل عيوب الخلق، بغير الحلم والرفق، وتعلمت أن أتحلم، ولا أتألم وأتبصر، ولا أتحسر، وأتدبر، ولا أتضجر، فأنا اليوم أتفكه بمخالطتهم وأتروح بمباسطتهم، فلم يبق لك من عذر وجيه، ترتضيه بعد ذلك وترتجيه».
وما زال الباشا يجري على هذا النمط في الشرح والبيان، ويأخذني بالبرهان في أثر البرهان، حتى ملكني بسلطان حجته، وأنزلني على حكم رغبته، وكنت دعيت فيمن دعي من الناس إلى وليمة عرس من أكبر الأعراس، فقلت له: عندي اليوم حد الكفاية، في بلوغ الغاية، فهلم إلى المحفل الذي تحتشد فيه المحافل، والمنهل الذي تتفرع عن المناهل، وسرت به منذ أرخى الظلام من سجوفه وأستاره، وبدأ في الطور الأول من أطواره، فما قربنا من قصدنا حتى وجدنا الليل هناك نهارا يتألق، وفحمة الدجى جمرة تتحرق، فدخلنا ساحة كأنها مدينة، تبرجت في يوم الزينة، فوقفنا هنيهة في وسط المزدحم، لا نجد موضعا للقدم، حتى أخذ بيدنا أحد المستقبلين بالباب، من ذوي العلامات في الثياب، فدسنا بين جماعة لم نعرف منهم أحدا، ولم يحسنوا لتحيتنا ردا، فجزيناهم على ذلك بغض الطرف، وأقمنا بينهم لا ننطق بحرف، ثم أخذنا نتلمس بأعيننا صاحب الدار، فلا نهتدي له على قرار، كأنما صنعت الوليمة في غيبته، وأقيم الاحتفال انتظارا لأوبته، أو أننا أخطأنا العرس إلى سواه، واشتبه علينا مقره ومثواه، فهممنا بالقيام والمسير، لولا أن أشار لنا بالسلام مشير، فتبيناه صديقا لنا من الخلصاء، في جمع من الفضلاء والأدباء، فقصدناهم فأفسحوا لنا بينهم مكانا رحبا، وجلسنا معهم نجتني ثمر الحديث يانعا ورطبا، وعلمنا منهم أن رب الدار في ذهول لا يدرك ما يذره وما يأتيه، وأن صاحب البيت لا يدري الليلة بالذي فيه، وأن لا تثريب عليه ولا لوم، فهو مشغول بتحية كبار القوم، ممن لم يخالطهم قبل اليوم.
الباشا :
وهل يدعو الناس إلى أعراسهم من لم يعرفوه أو يخالطوه من قبل؟
أحد الأصدقاء :
نعم يدعو الناس إلى أعراسهم كل من علا له صيت، واشتهر له اسم من الأمراء والكبراء والعلماء، فمنهم من يجيب الدعوة ومنهم من لا يجيبها لعدم معرفته لصاحب العرس، وبين الكبراء جماعة اشتهروا بأنهم لا يخيبون للداعي رجاء، ولا يتخلفون مرة عن إجابة الدعوة حتى صاروا من عمد الزينة وأساطين الأعراس.
الباشا :
وما الغرض لصاحب العرس من هذا كله؟
الصديق :
الغرض منه أن يذاع بين الناس تشريف هؤلاء الكبراء والعلماء لبيته، وأكثر الذين نراهم يقيمون ولائم الأعراس ينفقون عليها جانبا عظيما من ثروتهم لا غرض لهم منها سوى ذلك وحده، وفيهم من وصل به حب الشهرة والفخفخة أن أنفق في إقامة العرس جميع ماله، ثم بقي عليه من الدين ما أخل بنظام معاشه، وأعرف تاجرا من التجار أنفق الجانب الأعظم من رأس ماله في إقامة عرس كبير، ثم قسم دفاتر تجارته إلى شطرين: شطر يحتوي على بيان ما بقي لديه من أصناف التجارة وأجناسها، وشطر يتضمن أسماء من حضر العرس من الأمراء والكبراء، وقل أن تشتري منه صنفا إلا ويذكر لك منهم اسما يقسم بحياته ورأسه أن الصنف جيد والثمن في جنبه هين.
الباشا :
ما كنت أعهد أن الأعراس تكون على هذه الحال من استخدامها للشهرة والصيت، بل كنت أعهدها أنها تقام لائتناس صاحب العرس بأصحابه وأصدقائه ومشاركتهم له في صفوه وهنائه، ولإطعام المساكين ومساعدة الفقراء.
الصديق :
ليس للفقراء اليوم ولا للمساكين نصيب في طعام الأعراس، بل هو من نصيب مثل هذا الوفد الخارج أمامك وأضرابهم.
الباشا :
إني أعرف من هؤلاء الخارجين ثلاثة أشخاص اجتمعت بهم في مجلس للعلماء.
الصديق :
نعم هذا الوفد كله من كبار العلماء وحملة الشريعة وأئمة الدين.
الباشا :
وما لي أراهم يسرعون ويهرولون في خروجهم، وما الذي وقع لهم حتى يتركوا العرس منذ أول الليل، وليت شعري ما الذي أزعجهم وأخرجهم، أنزل بالدين مكروه؟ أحل بالإسلام خطب؟ أحدث بين الناس حادث بدعة يستدعي قيامهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الصديق :
لم يحدث من كل ذلك شيء ولم يعرض لهم عارض ، وإنما هي عادة لهم ألفوها في الولائم والمآدب إذا انتهوا من غسل أيديهم بعد تناول الطعام بادروا إلى الخروج من العرس، فتراهم عند قول أحد الظرفاء «يد في الكباب، ورجل في الركاب.» والذين يعتذرون لهم يقولون: إنهم علماء عاملون بقوله تعالى:
فإذا طعمتم فانتشروا
وإنهم يرون سماع الغناء مكروها في الدين فلا يجلسون في العرس بعد الطعام خشية أن يبتدئ الغناء فيحل بهم المكروه.
الباشا :
ومن هذا الشيخ المتخلف عنهم القادم علينا؟
الصديق :
هذا الشيخ المتخلف عالم من أفاضل العلماء ونبهائهم، وهو قادم علينا للجلوس معنا، فإن فينا من يأتنس به ويصبو إلى مجالسته.
الباشا (للشيخ بعد جلوسه) :
أرجوك أن تسامحني في فضول القول، فلا صبر لي عن الاستعلام والاستفهام خصوصا إن كان في الأمر ما يخص الدين، فقد قيل لي: إن السبب في مغادرة وفد العلماء للعرس في عقب الطعام هو كراهتهم لحضور مجلس الغناء، فهل لك أن ترشدني إلى القول الأصح في هذا الباب، وما الذي يجب أن يؤخذ به، وكيف انفردت أنت عنهم بالبقاء والجلوس ورضيت سماع الغناء إن كان مكروها.
الشيخ المتخلف :
الكلام في هذا الباب طويل، وما أظن السبب الأعظم في المبادرة بالخروج إلا طلب الجسم للراحة بعد الامتلاء.
الباشا :
إني أريد أن أهتدي بهديك في باب سماع الغناء وتقرير كراهته أو إباحته، فلا تبخل علينا بفضلك وعلمك، والوقت وقت مسامرة، فإن أردت أن نقضي جانبا منه فيما ينفع ويفيد فقد أديت واجبا عليك في الدين، وجعلتنا لك من الشاكرين.
الشيخ المتخلف :
اعلم أن طرب الغناء أمر غريزي راسخ في طبيعة الحيوان، ومن الحيوانات العجم وضواري الوحوش ما تسمع الغناء فتحن إليه وتسكن به، فيضعف من قسوتها ويكسر من حدتها، وربما ذلت به رقابها وأمكن قيادها، وهذه الفيلة وهي من أكبر الحيوان أجساما وأشدها بطشا إذا سمعت صوتا مرنما أو كلاما منغما لم يلبث هذا الجسم العظيم أن يتمايل ترنحا ويهتز طربا - ولو كان في مواقف النيران - اهتزاز الحمامة المطوفة على فنن من الأفنان، وهذه الإبل المعروفة بأنها أغلظ الحيوان أكبادا تراها إذا براها السرى وأضناها التعب وأهلكها الظمأ فتغنى لها الحادي ذهلت في الحال عما أصابها، وتعللت بالغناء عن مناهل الماء، وهي على الخمس في ظمئها أو العشر،
1
ونشطت به تستعيد القوى لاستئناف السرى، وطالما شاهد المشاهدون هوام الأرض ودوابها تخرج من كهوف الجبال وبطون الرمال، فتجتمع جيوشا تتبع جيوش الحرب في مسيرها، وقد ظهر لأحد الباحثين من علماء الطبيعة عن علة ذلك الاتباع أن صوت الموسيقى أمام الجيوش هو الجاذب لها، والدافع بها للخروج من أوكارها وأحجارها للمسير خلف الجيش، ومن الروايات العتيقة أن أحد الموسيقيين من الفلاسفة كان عند شاطئ بحر يبغي الشاطئ الآخر ولا يجد ما يحمله إليه فجلس يلهي نفسه بالغناء وإذا بدلفين
2
قد شق أمواج البحر يتدنى من صاحب الصوت، فلم يزل في تدنيه والفيلسوف في تغنيه حتى حاذى الشاطئ وسكن يستمع، فأيقن الفيلسوف أنه استهواه بتأثير الغناء وذلله بقوة الطرب فامتطاه يسخره كيف شاء، فوق عباب الماء، كأنه مطية وجناء،
3
تسير في عرض البيداء على توقيع الحداء، وحكاية إبراهيم بن المهدي في اقتياده الوحوش الضارية بسحر غنائه مشهورة مذكورة.
هذا بعض ما يقال في تأثير الغناء في الحيوانات العجماء مع ضعف إدراكها وكثافة إحساسها ونقص خلقها، فما بالك بتأثيره في الإنسان وهو أسمى الحيوان رتبة، وأكمله خلقة، وأعظمه إدراكا، وأصفاه جوهرا، وألطفه روحا؟
والغناء في تعريف قوم من الفلاسفة فن يقصد به تحريك النفس بتنسيق الصوت وتأليفه على طريقة ترتاح لها الأذن، فتهتز له نفوس أرباب المدارك العالية والأمزجة الصافية، وهو القوة المساعدة لقوة النطق في التأثير في السامع، وكان القدماء يعتبرونه لغة عامة لسائر الناس يفهمونها على اختلاف لغاتهم وألسنتهم، وكان لا بد لطالب الفلسفة عندهم من الإحاطة بفن الموسيقا مع الرياضيات، وقد عبر عنه الحكيمان الكبيران «فيثاغورس» و«هرمز» أنه علم التنسيق لكل شيء، ولذلك أطلقوا عليه لفظة «أرمونيا» ومعناها النظم والتنسيق ومنه الترتيل، وكلهم مجمعون على أن لا شيء في العالم يعادل تأثير الغناء في تهيئة النفوس وتوطئة القلوب لقبول الفضائل والكمالات، وعندهم أن الذي لا يتأثر منه لا بد أن يكون به نقص في الخلقة، والغناء مغروس في طينة الإنسان منذ نشأ في حجر الطبيعة، ومنذ استهل في المهد باكيا فلا يسكن إلا به، ولا يراح عنه إلا بتطريبه، وفضل تأثير الغناء في النفوس على تأثير الكلام كفضل الشعر البليغ في لغته على ترجمته كلاما غير موزون إلى لغة أخرى.
والوقائع كثيرة جمة في التاريخ تشهد بقوة تأثير الغناء، منها أن أهل مدينة إسبرطة كانوا في فتنة اشتد لهيبها وعظم شرها، فعمد جماعة من الموسيقيين إلى مكان الزعماء القائمين بأمرها، فما زالوا يغنونهم حتى طربوا فصفت أرواحهم ورقت نفوسهم ولانت عريكتهم، فانتهوا من أنفسهم عن إشعال نار الثورة فخمدت، وقام صياح الطرب، مقام صياح الشغب، ومنها أن أهل سويسرا كانوا ينزلون عن رءوس الجبال للاحتشاد في الجند، فإذا انعقد جمعهم أغرى العدو بهم من يغني فيهم بلحن لهم معروف يتغنى به الرعاة في قلل الجبال فيشتغل في نفوسهم لهب الوجد، وتهيج فيهم ثائرة الحنين وينزع بهم الشوق إلى منازلهم فيلقي أسلحتهم عن أيديهم، ويذهب بهم على وجوههم، وقد تكرر وقوع ذلك فيهم حتى قرر رؤساؤهم الحكم بالإعدام على كل من تغنى بينهم بذلك الغناء، ومنها حكاية الحكيم أبي نصر الفارابي مع سيف الدولة بن حمدان؛ إذ أضحك أهل مجلسه وأبكاهم ثم أنامهم وتركهم، وقد كان خطباء الدولة الرومانية يتسابقون إلى تنسيق أصواتهم في الخطابة وتتبع النغم لتأثير القول في النفوس، وربما استصحب بعضهم مع أحد الموسيقيين بآلة من آلات الطرب، فيجعله بجانب المنبر حتى إذا وجده خرج عن النغم أو شد نبهه بصوت الآلة فيرجع إلى الأصل، ولسنا نجد بين الأمم أمة في بداوتها وحضارتها وماضيها وحاضرها إلا وعندها الغناء في الجيش آلة من آلات الحرب تعين على ممارسة الأهوال، وتثير إلى منازلة الحتوف، وكان القدماء منذ عهد داود - عليه السلام - يعتقدون أن الغناء يشفي من الأمراض والأسقام، وكان «إيسمين» في مدينة «تيب» يزعم أنه يشفي من عرق النسا بصوت الناي، وكان «هوميروس» و«جالينوس» و«بلوتارك» من بعدهما يؤكدون أن الغناء يشفي من الطاعون ومن داء المفاصل ومن نهش الأفاعي، وقام اليوم جماعة من كبراء الأطباء في أوروبا يقررون بعد كثرة التجارب أن الغناء دواء نافع لكثير من الأمراض، وأطلقوا عليه لفظة «ملوترابيا» يعني العلاج بالطرب، كما قرروا من قبل «الهيدروترابيا» وهي المعالجة بالماء «والاليكتروترابيا» وهي المعالجة بالكهرباء، وقد جرب أطباء فرنسا تأثير الغناء في وظائف الأعضاء بآلة حاسبة، فوجدوا أنه يزيد في دورة الدم وفي حركة التنفس سرعة مقبولة، وذهب بعضهم أن للأخشاب التي تتخذ منها آلات الطرب تأثيرا آخر على المريض مثل اتخاذ الناي من خشب الكينا فإن سماعه يشفي من الحمى، وبلغت العناية بهذا الفن في ألمانيا أنهم جعلوه درسا من الدروس الأساسية يبتدئ به التلامذة ابتداءهم بحروف الهجاء، وينتهون منه انتهاءهم من دروس الفلسفة.
وجماع القول في هذا الباب من جهة البحث والنظر أن الخالق جلت عظمته قد جعل من فضله ونعمته على الإنسان لكل حاسة لذة؛ فلذة النظر في تناسق المرئيات وترتيب أجزائها وذلك هو الجمال، ولذة الذوق في ائتلاف الطعوم وذلك هو العذوبة، ولذة الشم في لطف الرائحة وذلك هو الطيب، ولذة اللمس في تناسب أجزاء الملموس وذلك هو النعومة، ولذة السمع في اتساق الصوت وحركة توقيعه وذلك هو الغناء.
وأما القول فيه من جهة الدين فقل أن تجد دينا من الأديان في أنحاء العالم إلا ويستعان فيه على العبادات بالترتيل والترنيم والتنغيم، لما ينشأ عن ذلك من صفاء النفوس وانتعاش الأرواح للتجرد والاتصال بالعالم الروحاني، وما كان الدين الإسلامي وهو دين الأذان لينكر سماع الغناء ويحكم بكراهته، وشأنه في فطرة الإنسان على ما بينته لك، وناهيك بما ورد في الخبر الصحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سمع نسوة يتغنين في وليمة عرس، فلم ينكر ذلك عليهن، وقد استقبله - عليه السلام - نسوة من الأنصار عند مقدمه من إحدى الغزوات بالدفوف والمزاهر وهن يتغنين على الإيقاع بقولهن :
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
فلم ينكر ذلك عليهن أيضا، وهذا عمر بن الخطاب، على المعروف من غلظته وشدته في الدين، قد سمع الغناء فلم ينكره ولم يكرهه بل استعاد ومزح، روي عن أسلم مولاه قال: مر بي عمر - رضي الله عنه - وأنا وعاصم نغني فوقف وقال: أعيدا علي. فأعدنا عليه وقلنا: أينا أحسن صنعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: مثلكما كحماري العبادي قيل له: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا، فقلت له: أنا الأول من الحمارين؟ قال: أنت الثاني منهما، وكان عبد الله بن جعفر على قرابته من رسول الله وصحبته له كثير الجلوس لسماع الغناء عظيم الاحتفال به.
وروي أن معاوية قال لعمرو بن العاص: امض بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته حتى نعيب عليه فعله؛ يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدخلا إليه وعنده من المغنين «سائب خائر» وهو يلقي الغناء على جوار لعبد الله، فأمر عبد الله بتحية الجواري لدخول معاوية، وثبت سائب مكانه وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاوية عمرا فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه، فأمر بالكراسي فألقيت، وأخرج الجواري فتغنى سائب بقول قيس بن الخطيم:
ديار التي كادت ونحن على منى
تحل بنا لولا نجاء الركائب
ومثلك قد أصبيت ليست بكنة
ولا جارة ولا حليلة صاحب
وردده الجواري عليه فحرك معاوية يديه وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه فجعل يضرب بهما وجه السرير، فقال له عمرو: اتئد يا أمير المؤمنين فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالا وأقل حركة، فقال معاوية: اسكت لا أبا لك فإن كل كريم طروب.
ودخل المغنون منزل سكينة بنت الحسين سبط رسول الله، فأذنت للناس إذنا عاما، فغصت الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة فأكلوا منها، ثم إنهم سألوا «حنينا» أن يغنيهم صوته الذي أوله:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
فقال لهم: «ابدؤوا أنتم ، فقالوا: ما كنا لنتقدمك ولا نغني قبلك حتى نسمع هذا الصوت، فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتا فازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه، فسقط الرواق على من تحته فسلموا جميعا وأخرجوا أصحاء، ومات حنين تحت الهدم، فقالت سكينة عليها السلام: لقد كدر علينا حنين سرورنا.»
وذكر الدلال المغني عند عبد الله بن أبي عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - فقال: إنه كان يحسن:
لمن ربع بذات الجي
ش أمسى دارسا خلقا
ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة يصلي، فلما كبر سلم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: اللهم إنه كان يحسن خفيفه فأما ثقيله فلا ... الله أكبر.
ولقي «ابن أبحر» عطاء بن أبي رباح وهو يطوف بالبيت الحرام، فقال: اسمع صوتا للغريض، فقال له «عطاء»: يا خبيث أفي هذا الموضع؟ فقال ابن أبحر: ورب هذه البنية لتسمعنه خفية أو لأشيدن به، فوقف له فتغنى:
عوجي علينا ربة الهودج
إنك إن لا تفعلي تحرجي
أني أتيحت لي يمانية
إحدى بني الحرث من مذحج
نلبث حولا كاملا كله
لا نلتقي إلا على منهج
في الحج إن حجت وماذا منى
وأهله إن هي لم تحجج؟
فقال له «عطاء»: الكثير الطيب يا خبيث.
وولي قضاء مكة الأقوص المخزومي فما رأى الناس مثله في عفافه ونبله، فإنه لنائم ليلة في جناح له؛ إذ مر به سكران يتغنى بصوت للغريض فأشرف عليه فقال: يا هذا شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ، خذه عني، فأصلحه له وانصرف.
وكان لأبي حنيفة - رحمه الله - جار بالكوفة يغني، فكان إذا انصرف وقد سكر يغني في غرفته فيسمع أبو حنيفة غناءه فيعجبه، وكان كثيرا ما يغني:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
فلقيه العسس ليلة فأخذوه وحبس، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة فسأل عنه من غد فأخبر، فدعا بسواده وطويلته فلبسهما وركب إلى عيسى بن موسى فقال له: إن لي جارا أخذه عسسك البارحة فحبس وما علمت منه إلا خيرا ، فقال عيسى: سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس البارحة: فأطلقوا جميعا، فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة وقال له سرا: ألست كنت تغني كل ليلة:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا؟ فهل أضعناك؟ قال: لا والله ولكن أحسنت وتكرمت أحسن الله جزاءك، قال: فعد إلى ما كنت تغنيه فإني آنس به ولم أر به بأسا، قال: أفعل إن شاء الله.
هذا جملة ما يذكر في طرب الغناء طولت فيه وأسهبت ليتبين لك منه القول الراجح والوجه الصالح.
الباشا :
تعالى الله ما شاء
وزاد الله إيماني
ما هذا الذي أراه من بحر العلم المتدفق والفكر المتعمق؟ وما هذا الإبداع والتفنن في أطراف المعقول والمنقول؟ وما هذا التضلع في علوم الأولين والآخرين؟ وما عهدت قبل اليوم في العلماء من اجتمع له مثل ما اجتمع للشيخ من دقة النظر وصحة القياس، وسعة الاطلاع في تواريخ الأمم على اختلاف ألسنتها وأجناسها، يتنقل في تقرير البرهان وشواهد البيان تنقل النحل على جنى الأزهار فيخرج بنا من التاريخ اليوناني إلى الروماني إلى الأوروبي إلى الإسلامي فعجبا له، أأعجمي وعربي؟ وشرقي وغربي؟ وكيف انفردت أيها الشيخ عن بقية إخوانك المشايخ ولم تأخذ بنهجهم في طريقهم، فتقف عند حد العلوم الشرعية والأقوال الفقهية، ثم خالفتهم إلى التوسع في العلوم الدنيوية والمباحث العقلية؟
الشيخ المتخلف :
لم أخالفهم إلا لأن العلم حق شائع في بني الإنسان، ونور ساطع يستضيء به جميع الأنام، فلا يختص به أهل إقليم دون إقليم، ولا أهل ملة دون ملة، ولا يقف الإنسان منه عند حد، ومن طلب العلم وارتاحت له نفسه لم يمنعه تخالف اللغات وتفرق الأجناس عن اجتناء ثمره من أي لسان كان وفي أية أمة كانت وفي أي عصر من العصور، وما في الأديان دين يبعث أهله ويحض بنيه على طلب العلم والتقاط الحكمة بأي وجه من الوجوه مثل الدين الإسلامي، ولكن قد فشا في علمائه داء الكسل، فاقتصروا في طلبهم للعلم على نيل رتبة العلماء دون العلم في ذاته، واعتقدوا أنهم على الهدى ومن سواهم في ضلال.
الباشا :
قل ما شئت في كسل علماء الدين الإسلامي وسواء تراخيهم واشتغالهم عن العلم لا بالعلم، ولقد بلوت مجلسا من مجالسهم ضاق منه صدري، وعيل صبري، ولا أزال كلما تذكرته جاش بي الهم والغم وتملكني الأسف والحزن، وأراك أيها الشيخ الفاضل أحسنت كل الإحسان بتوسعك في الاطلاع وتبحرك في طلب العلم، وتعلقك بأسباب العلوم الأوروبية، ولكنني مع ذلك لا أتمنى لجميع علماء الدين مثل ما أنت فيه خشية أن تلهيهم هذه العلوم عن علوم الشرع، وتستدرجهم إلى الخلط والخبط، وقل في الناس من يحكم نفسه للتوسط في الأمور والاعتدال في المطالب، والوقوف عند الحد، ولست أدري إلى اليوم، يعلم الله، أي العالمين أضل سبيلا وأسوأ مصيرا: العالم الذي يتخبط في ظلمات الخرافات، ويضرب في تيه الترهات ويغوص في لجج الأباطيل بلباس الدين، أم العالم الذي يوغل في علوم الأوروبيين، ويأتم بسنة المخالفين للدين ويغتر بتمويه المموهين فيضله الله على علم.
الصديق :
ليس هذا وقت الجدال في تلك المباحث الدقيقة، والتفتوا بنا إلى سماع الغناء قليلا فقد احتشد له المغنون.
الباشا (ملتفتا) :
نعم أصبت، وهل لك أن توفق لي بين حالة المغنين التي أراهم عليها الآن في احتشادهم على منصة الغناء وبين ما سمعته آنفا عن هذا الفن من الجلال والكمال، فانظر إليهم تجد أحدهم يمزح ويقهقه، والآخر يتثاءب ويتمطى، وهذا يبصق يمينا ويمخط شمالا، وذاك يصيح بأعلى صوته القهوة القهوة، وتأمل في هذا الواقف منهم فوق المنصة على رجل واحدة وبيده الرجل الأخرى يخلع منها نعله في وجوه الحاضرين، وأين ما ينبغي أن يكون عليه المغني من سكون النفس واجتماع الخاطر، وانشراح الصدر وصفاء الروح لحسن تأدية الغناء، واستهواء النفوس إليه؟
الصديق :
لا تؤاخذهم بما هم فيه فإنهم نشأوا في أمة يرى السواد الأعظم فيها أن صناعة الغناء من سافل الصناعات، وأن في ممارستها حطة ونقصا.
فصغرت لذلك نفوس المغنين وهانت عليهم صناعتهم، ولم يروا فيها سوى أنها أداة للكسب والارتزاق على مثال بقية الصناعات، فهم والحدادون أو هم والبناؤون سواء بسواء، وذهلوا كل الذهول عن جمال الصنعة وجلالها، وغفلوا كل الغفلة عن لذة الفن وأدبه وصاروا يؤدونه كما يتفق لا كما ينبغي، وكما يجيء لا كما يرضي، ولا يغيب عن فطنتك أنه لا بد للمغني من أن يثق في نفسه بتأثير غنائه في نفوس السامعين حتى تثور فيه نشوة الطرب، ويتبادل معهم لطف الانفعال، فتتصل القلوب وتتجاذب الأرواح وتصعد به نفسه في مراقي الفن وتسمو به في صناعته إلى مدارج الكمال، وإلا كان المغني إذا غنى في غفلة السامع واشتغاله عنه كمن يقرأ للنائم كتابا، أو يسرج للأعمى سراجا، فيحل به من التواني والفتور ويعتريه من الانقباض والضيق ما يذهب برونق الصنعة ويمحو بهجة الفن، وإنك لتحقق صدق ما أقول إذا نظرت معي نظرة إلى هيئة السامعين في هذا المكان، فعن يمينك جماعة من الأعيان والتجار تراهم مشتغلين بمراقبة كل داخل وخارج عساهم يحظون بإشارة تحية أو إيماءة تعطف، فهم لا ينفكون طول ليلهم في قيام وسلام للتزلف إلى الكبراء والحكام، وحديثهم لا ينقطع عن التفاخر بمعرفتهم والتباهي بأقدارهم، وعن شمالك خليط من القضاة والمحامين لا ينتهون أبدا من المناقشة في صنوف الدعاوى والقضايا، ولا يستريحون لحظة من تفسير المواد وشرح البنود واستنتاج الأحكام، ولا يترك المحامون القضاة إلا بعد أن يحتالوا على استنفاد ما عندهم من الأفكار والآراء في الوقائع المختلفة والمسائل المشتبهة؛ لينتفعوا بها ويستندوا عليها في مرافعتهم أمامهم ويتأكدوا بها ربح ما لديهم من المشاكل والدعاوى، ومن قدامك طائفة من الأمراء والحكام لا هم لهم إلا أن يجتلبوا توقير الحاضرين واحترامهم بالتأنق في الجلوس، والتكلف في الشمائل والانتفاخ في الثياب والفتل في الشوارب، أجسامهم حاضرة وقلوبهم غائبة، وأبصارهم شاخصة وألبابهم ذاهلة على هيئة التماثيل والأصنام؛ فاسألوهم إن كانوا ينطقون، ولئن نطقوا بكلام فإنما يدور على أن اليوم كان شديد الحر، وأن أوان الرحيل عن مصر قد حل، ومن خلفك ثلة من الأحداث، لم تهذبهم الأحداث، وشبان لم يربهم الزمان، مرمى الغاية عندهم أن تكون ملابسهم على الزي الجديد، وأن تفرغ أجسادهم منها في قالب من حديد، فهم لا يتحركون حركة إلا بألف حساب، خشية أن ينفرط نظام الثياب، فإن قعدوا فكالقاعدين للمصور في حفظ الأشكال والأوضاع، وإن هم وقفوا فكالمصلوبين على الأجذاع، ولئن تجاوز حديثهم حديث الملابس والأزياء، اشتغلت ألسنتهم بذكر النساء، ورووا عن زوج فلان أو بنت فلان، ما تنقبض منه النفوس وتقشعر الأبدان، ولم يبق غير هؤلاء من طبقات الحاضرين من يلتفت إلى سماع الغناء ويتفرغ له إلا طبقة الغوغاء من الخدم وغيرهم، فكيف يتيسر للمغنين في هذا المقام أن يتقنوا في عملهم، أو يتفننوا في صناعتهم أو يحافظوا على أدب المجلس ويراعوا حرمة الفن؟
قال عيسى بن هشام: وانقطع الحديث بمرور صاحب العرس أمامنا مر السحاب، فانقض على الواقفين عند الباب، كأنه بارقة شهاب، أو نازلة عذاب، يدفع بيديه عن الشمال وعن اليمين، في صدور القاعدين والقائمين، لا يشك من رآه أنه أسير حل عنه الوثاق، أو عبد من العبيد يطلب الإباق، فالتفت الباشا يسأل الصديق: أجدار هوى في البيت أم حريق؟
الصديق :
لا هذا ولا ذاك وإنما جاء الخبر لصاحب البيت بقدوم جماعة من رجال الإفرنج ونسائهم.
الباشا :
أتراهم يريدون إقامة ألعاب إفرنجية مع الأغاني العربية؟
الصديق :
ولا هذا أيضا بل هم قوم من السائحين الأوروبيين في البلاد الشرقية يتشوقون في مطالعتهم الآثار المصرية إلى رؤية المحافل والأسواق، فإذا سمعوا بحفلة عرس هرعوا إليها بنسائهم وأولادهم لتسلية الخاطر بدرس العادات والأخلاق.
الباشا :
قد تبين لي آنفا أن صاحب العرس من أهل الصعيد، فأية صلة بينه وبين سياح الإفرنج تدعوه إلى دعوتهم في عرسه؟ أم من عاداتهم أن يهجموا على بيوت الناس بغير دعوة ولا استئذان كالطفيليين.
الصديق :
هم من المدعوين لا من المتطفلين، ولا يلزم لدعوتهم أن يكون لصاحب العرس أدنى صلة بهم أو أن يعرف أشخاصهم ويفقه لسانهم، ولكن حضورهم في حفلة العرس أمر مرغوب فيه عند صاحبه ينشرح به صدره، ويزهو به عنده قدره ، ويراه فخرا له يعلو به ذكره، ومجدا للبيت يرتفع به عماده وهو في دعوتهم بالخيار إما أن يرسل إلى بعض تراجمة الفنادق فيعطيهم عددا من تذاكر الدعوة بغير أسماء معينة ليوزعها على من يكونون في خدمتهم من السياح، فيبيعها التراجمة إليهم بقيمة معلومة من الدراهم كأنها تذكار الملاهي العامة، ويعتقد الأجانب أن تلك عادة من عادات الشرقيين أن يدخل الناس إلى أعراسهم بأثمان معينة، وإما أن يترقى صاحب العرس، فيخاطب أصحاب الفنادق الكبيرة بأن لديه حفلة عرس في الليلة الفلانية، ويرغب أن يحضرها كذا عددا من السياح، فيتحف صاحب الفندق نزلاءه فيما يتحفهم به بالدعوة إلى العرس، فإذا شرفوا صاحب العرس بحضورهم هرع إلى حسن استقبالهم، وبالغ في التلطف والترحيب بهم، وأنزلهم فوق منازل الأمراء والكبراء ونسي كل من في العرس سواهم، وتفرغ طول ليلته لخدمتهم كما تراه من صاحب هذا العرس، وانظر إليه كيف يتيه عجبا ويشمخ كبرا وهو يتقدم نساءهم ليدخل بهن إلى بيت الحرم لمشاهدة زفاف العروسين بعد أن أجلس رجالهن على رءوس العظماء والأمراء في صدر المكان.
الباشا :
وما هذا الذي أراه في أيدي النساء يحملنه معهن، كأنه الأسفاط فيها الحلي لهدية العروس،
4
فهل بلغ بهن الكرم إلى تكليف أنفسهم تقديم الهدايا لعروس لا يعرفنها ولا يعرفن أهلها من قبل؟
الصديق :
هذه آلات الرسم والتصوير يحملنها ليأخذن بها مناظر الحرم وصور النساء في زينتهن وتبرجهن، وما تكون عليه هيئة الزفاف ليتهادين بها إذا رجعن إلى ديارهن، وربما نسخت منها ألوف النسخ لتباع في الأسواق الأوروبية وتنشر هناك للاستهزاء والسخرية.
قال عيسى بن هشام: ومنذ عاد صاحب العرس من تشييع السائحات إلى الحرم، كالصاعدات إلى الهرم، تقدم إلى صدر المكان، ونظر في الوجوه بإمعان، ثم دنا من طائفة الكبراء والأمراء، وقصد الأمير المقدم فيهم بلا مراء، فوقف أمامه وقفة الإجلال والإعظام، ودعاه لافتتاح قاعة الشراب والطعام، فقام الأمير يمشي أمام الصفوف في خيلائه، مشية القائد يوم بلائه، وفتح له الباب ففتح المائدة، ولا فتح سعد للقادسية، والمعتصم لعمورية، ومحمد للقسطنطينية ، نعم ولا فتح جده الأعلى للأقطار الحجازية، ودخلت في أثره صفوف الجموع، وهم في سكون وخشوع، دخول التقاة، للصلاة، والعفاة للصلات، ثم ما لبثوا أن هجموا على المائدة هجوم الفوارس البواسل، على الحصون والمعاقل، لا بل هجوم الأسود الضارية، على الأشلاء الدامية، والذئاب الخاوية، على الشياه الراعية، والنسور على القبور، والذباب على الشراب، واشتد الزحام وزلت الأقدام، وضلت المذاهب، واصطكت المناكب، وشخصت الأحداق وامتدت الأعناق، وتهدلت الشفاه، وتحلبت الأفواه، وتحركت الأشداق، وتقارعت الأطباق، وتصاولت الأيدي بالمدى، كالظبى في الوغى، والتفت الساق بالساق، واشتد الهول وضاق الخناق، ثم انجلت المعمعة عن شهداء التخم، وأسراء البشم، وقتلى الطعام وصرعى المدام:
بأجسام يحر القتل فيها
5
وما أقرانها إلا الطعام
ولعبت الكئوس بالرءوس، والشمول بالعقول،
6
والراح بالأرواح، وذهبت العقار بالوقار،
7
والبطنة بالفطنة، فاختلط الحابل بالنابل، والعالي بالسافل، والرفيع بالوضيع، والأمير بالحقير، هذا يمزح، ويقهقه، وذاك يتمتم ويتهته، والآخر يقيء طعاما، وسواه يقيء كلاما، ولم نسمع بينهم من قول يفهم ويعقل، أو حديث يؤثر وينقل، إلا ما سمعناه يدور بين شاب متكلف متصنع، وكهل مجرب متضلع.
الكهل :
أليس من أسوأ الأسواء وشر البلاء ما نراه من حال هذا الصعيدي صاحب العرس كيف اعتزل سنة آبائه وأجداده، وانسلخ عن مألوف العادة في قومه ودياره وطفر طفرة واحدة إلى العمل بعادات الغربيين والتقليد لبدع الإفرنج، فجرى في الاحتفال بالعرس على نمطهم وأسلوبهم مع جهله بها، وعدم ملاءمتها لطبعه، وكيف لا يرثى لحال هذا المسكين وقد أنفق جانبا عظيما من أمواله لإقامة المهرجان على هذا الطراز الغريب عن ذوقه، فهو في حيرة وذهول لا يدري ما صنع، ولا يعلم ما يفعل في وسط هذه السوق القائمة والزحام الهائل، وانظر إلى مقدار السخط النازل فوقه والاعتراض المصبوب عليه من أكثر الذين دعاهم ليرضيهم بعمله، ويكرمهم بحسن صنعه بعد أن تكلف لهم ما يفوق الطاقة، وارتكب ما يخالف العادة، ثم اشهد معي بأنه أساء إلى نفسه وجنى على أهله.
الشاب :
ما أراه إلا أنه أحسن صنعا وأجاد عملا، وأخذ بالسنن الأرشد في التحلي بشعار المدنية والتعلق بأسباب الترقي في الحضارة، وقد آن أن يستوي أهل الأرياف بأهل المدن في السير على النهج الغربي لهوا كان ذلك أو جدا، وأن يخلعوا عن رقابهم أغلال العادات العتيقة وربقة الأفكار القديمة، فترتفع الأمة وتنتفع البلاد.
الكهل :
أي نفع يرتجى لأهل البلاد بخراب البيوت ودمار الدور، ولئن امتد الزمن قليلا على عمد الأرياف وأعيانها وهم يرسلون بأبنائهم إلى البلاد الأوروبية، ثم يهجرون مساكنهم ومساكن آبائهم، ويتركون مزارعهم ومرافقهم ليسكنوا معهم عاصمة البلاد بعد عودتهم ويتخلقوا بأخلاق الغربيين ويتبرأوا من كل ما كانوا فيه من قديم وعتيق؛ لم تلبث الأموال أن تذهب ضياعا، والدور أن تمسي خرابا، وأن تصبح المزارع بأيدي الأجانب الذين يقلدونهم في امتلاك الأطيان وزراعة الأراضي، كما يقلدونهم هم في باطل المدنية وزخرف معيشتها.
الشاب :
أظنك كنت تريد أن يقام الاحتفال بزواج هذا الشاب المتمدين بين الأحواض والمستنقعات في قرية أبيه، وبين الأوباش والهمج من فلاحيه ومزارعيه، فيبدل المقاصير بالخيام، والكهرباء بالمشاعل، و«البوفيه» بالسماط، والصحاف بالقصاع، والأباريق بالجرار، و«الديند» بالدفين، و«المايونيز» بالعصيد والهليون بالفول، وعش الغراب بالحلبة، و«الموستاردا» بالمش، و«المربى» بالرطب، و«المانجو» بالدوم، و«التكريز» بالجميز، و«الشمبانيا» بالمزهر، و«الكاب» بالحليب، و«الكنياك» بعرق البلح، والموسيقى بالمزمار، والأوتار بالأذكار، و«البيانو» بالأرغول، و«الأوركستر» بالرباب، و«الباللو» بالسحجة، و«مس أوستن» ببنت أم شنب، وموكب الزفاف بلعب الهوارة، ثم يدعو مشايخ العربان بدل القناصل العظام، ونظار الزراعة بدل نظار الحكومة، وكتبة المراكز والصيارف، بدل أمراء البورصة والمصارف، ويضع على رءوسهم سعف النخيل والعراجين، بدل أكاليل الأزهار والرياحين.
الكهل :
يكفيك فقد أسهبت في الشرح والوصف، وأنا أقول لك: نعم يعجبني أن يكون الأمر على مثل ما تسخر منه ما دام من عاقبته عمران البيوت وحفظ الأموال، وبقاء الأحساب وإطعام المساكين، وبر الأقارب وإسداء الخير للأصحاب والجيران، وإدخال السرور على النفوس بما يرضيها ويلائم أذواقها، بهذا ينتفع أهل البلاد ويرضى الناس بعضهم عن بعض ، ولا أرضى أبدا أن ينقلب الحال كما أراه ما دام من ورائه عواقب الخراب وسخط الناس، وعقوق الأهل ولصوق العار، ووقوع الفضيحة وسوء المصير، ومن الذي يعارض فيما أقول من أهل العقول الصائبة، وهو يرى هذا الرجل العريق النسب في أهل الصعيد أهل الشهامة والحمية، وذوي الغيرة والأنفة، ومن حوله الخصيان على ما نشاهده الآن يطالبون أن يأمر الخدم بحمل صناديق الخمر لشرب النساء في الحرم، وهو يعرف حكاية الأعرابي الذي سقوه الخمر في أحد الأعراس، ولم يكن ذاقها من قبل، فلما ثارت سورتها قال لمن حوله من أهل البيت: «إن كان نساؤكم يشربنها فقد زنين ورب الكعبة.» ولست أدري على كل حال ما الغرض الدافع لصاحب هذا العرس إلى احتمال كل هذه الفضائح والمعايب، فإن كان غرضه إرضاء أهل العاصمة بإنفاق تلك الأموال الطائلة في إقامة الاحتفال، فقد أغضبهم وأسخطهم جميعا على ما نسمعه ونراه، وليس فيهم إلا كل منتقد لعمله معترض على فعله يرميه بعضهم بالتبذير ويرميه بعضهم بالتقصير، وإن كان الغرض من هذا التوسع في الإنفاق إذاعة الشهرة بعظم الثروة والغنى بين الناس، وانتشار ذكره بالكرم والجود، فلهذه الشهرة وجوه أخرى تفيده وتفيد الناس، ولابتناء المحامد سبل شتى ترضي النفوس وتسر القلوب، ولو كان اقتصر في إقامة الوليمة على نصف ما أنفقه فيها، وبذل النصف الآخر في باب من أبواب البر والإحسان مثل مساعدة الفقراء وإنشاء الملاجئ، وإقامة المستشفيات وإعانة ذوي الصناعات لخلد ذكره بين قومه بالعمل الصالح، ولأقاموا لمجده صروحا من طيب الأحدوثة وجميل الثناء.
قال عيسى بن هشام: وما نشعر إلا وقد انقطع علينا سماع بقية الحديث بصياح جماعة من خدم المائدة يدعون المدعوين للخروج من القاعة، حيث لم يبق على المائدة من طعام ولا شراب، ويعدونهم بالعودة إليها بعد غسل الآنية وتجديد الألوان، فلم يسمع لهم أحد ولم يلتفت إلى صياحهم، فأخذوا في التصفيق بالأكف تنفيرا لهم كتنفير الدجاج، فلم ينتقلوا ولم يتحركوا، فعمد الخدم إلى آخر حيلة يضطرونهم بها للخروج، فأطفأوا الأضواء، وتركوهم يتخبطون في الظلمات ويتساندون على الجدران يطلبون الأبواب، فسبقناهم إلى الخروج، والتقينا في خروجنا عند الباب بصاحبين يتنازعان في هذه الحال، ويتخاصمان في شدة السكر، فلطم أحدهما صاحبه فسقط على الأرض يتخبط في قيئه، وينشد هذه الأبيات في هذره وهزئه:
شربت الخمر حتى قال صحبي:
ألست عن السفاه بمستفيق؟
وحتى ما أوسد في مبيت
أنام به سوى الترب السحيق
وحتى أغلق «البوفيه» دوني
وآنست الهوان من الصديق
وسمعنا الآخر ينشد وهو ينتفخ تيها وعجبا، ويصغر خده صلفا وكبرا:
شربت الخمر حتى خلت أني
أبو قابوس أو عبد المدان
وسمعنا في الخارج عزف الموسيقى تتقدم العروس لزفافه عند دخوله الحرم، فسكت المغنون وضج المكان واضطرب الحاضرون، ووقف الجالسون، وصعد بعضهم فوق الكراسي يتطاولون لمشاهدة العروس وهو في زمرة من إخوانه وأترابه يخطر بينهم، ويرفل حتى إذا توسطوا ساحة الدار وقفوا به وقفة، فقام أحد الحاضرين فصعد على منصة المغنين صعود الخطيب على المنبر، فشخصت نحوه الأبصار ومالت إليه الأسماع، وإذا هو يخطب بخطبة هذه نسختها:
أيها الحاضرون والغائبون، هذه ليلة قامت فيها أعواد السرور، على منابر الحبور، وأشرقت فيها أهلة المسرة والبدور من سماء القلوب وأرض الصدور، وطلعت فيها كواكب السعود من أفق العيون، فانجلت عن بصائرنا غمائم الأحزان ووبل الشجون، ولو أني لست من فرسان هذا الميدان، الراكبين لحيازة قصب الرهان، ولا من المجردين لسيوف الخطب وخطب السيوف، بحروف الرماح، ورماح الحروف، ولا من الممتطين في شروح البلاغة متون الضوامر، ولا من السابحين في بحور النظم والنثر على كل كامل ووافر، ولا من الساحبين في حلة سحبان، ولا من المتدرعين في حصون المعاني والبيان، وقد حيل بين العير والنزوان، إلا أن ما أعرفه في هذا العروس من العلم والإقدام، وما له في مستعمرات التربية من وطأة الاحتلال ورسوخ الأقدام، وما أعتقده فيه من محبة الأوطان ومصادقة الإخوان، كما أن ما أعلمه وأتحققه في العروس التي تزف إليه هذه الليلة، من علمها بتدبير المنزل وفروض العيلة، وما هو مشهور عنها لدى كل قاص ودان ، مما يوجب حسن القبول والامتنان، وما شهد لها به معلمو المكاتب ومدرسو المدارس، بأنها أنس المحافل وبهجة المجالس، وما أراه على وجوه الحاضرين من الكرم والسماح، وأتوسمه في جباههم من الفرح والانشراح، كل ذلك هو الذي جرأني على الوقوف في هذا الموقف الحرج، وسط بحر هذا العرس المتموج، وإني أتوجه إليكم بوجهي لتضربوا عن تقصيري صفحا، وأتقدم لكم بنفسي لتطووا عن هفواتها كشحا، وأطلب منكم أن تشربوا معي نخب الكئوس، في نخب العروس، وتقولوا معي: فليحي هذا الشاب في هناء وسرور، ورخاء وحبور، ممتعا بنشأة الرفاء والبنين، وناشئة الأولاد الناجحين، ما ناح القمري في رياض البساتين، وصاح الأخدري
8
بين الأعشاب، آمين آمين.
ثم نزل الخطيب فقابلته الأكف بالتصفيق والأفواه بالتهليل، والصدور بالتبجيل وصدحت له الموسيقى ثلاثا بالسلام، ثم أعقبه على المنبر شاعر من المشهورين بين الخاص والعام، فأنشد هذه القصيدة النادرة والمدحة الباهرة:
بأوقات الهناء الصافيات
تجلى الأنس من كل الجهات
لقد قام البشير بها ينادي
على أهل العروسين الهداة
في تلك الصدور الفرح يجري
كما تجري خيول الصافنات
فبشرى أيها الشهم المفدى
بخير الغانيات الآنسات
ظفرت بدرة في عقل ماس
من المتأدبات الراقيات
وقد زفوا بهذا الأفق بدرا
إلى شمس الهدى والمكرمات
تغذت بالمعارف والمعالي
فحازت زينة المتعلمات
يرجى أن يكون كذا بنوها
لدى أيامنا المستقبلات
بهم تزهو الشبيبة في المرامي
وتغدو للحمى أقوى الحماة
بهم ترقى المواطن مرتقاها
وتصبح قدوة المتربيات
كجيش في البلاد عرمرمي
وجند في الحروب مبرزات
وتمشي التيه في أوج المراقي
وترفل منه في حلل الثبات
فتصبح أنت خير أب كريم
وتصبح تلك خير الأمهات
ودمتم بعد ذاك بألف خير
ونعمى بالبنين وبالبنات
ولولا الاختصار وضيق وقت
لجئت بألف بيت شاهقات
ثم انتهينا بحمد الله من الشاعر بعد الخطيب، وعاد المغنون إلى اللحن والتطريب، فأخذت أجيل النظر وأقلب الطرف، من ركن إلى ركن ومن صف إلى صف، فلم أجد في الحاضرين بلا استثناء من هو ملتفت إلى سماع الغناء، بل رأيتهم يوجهون النظر إلى السماء ، ويكثرون من الإشارة والإيماء، كمن يتضرع بالدعاء، لكشف المحنة والبلاء، فرفعت مثلهم نحو السماء بصري، فدهيت من حيث أدري ولا أدري؛ إذ رأيت نوافذ الدار، مهتوكة الأستار، وفي كل نافذة هيفاء مسفرة النقاب، كالدمية في المحراب، أو كالصورة تتألق في إطارها كالشهاب، أو كالبدر بدا مسفرا من خلل السحاب، تنفذ منها مثل خيوط الغزالة
9
للمغازلة، وتجرد من اللحظات مثل سيوف الكماة للمنازلة، فتصيد طيور القلوب الحوائم، وتفتك بمهج النفوس الروائم، ثم تراها تومئ بكأس الصهباء، إلى شفتها الحمراء، وتلمس واسطة العقد، بزهرة من الورد، فيشتبه على الرائي وجه الأمر، باختلاف اليواقيت كالجمر، ياقوتة الخمر، بياقوتة الثغر، وياقوتة الزهر، بياقوتة النحر، ثم لا تفتأ ترسل الإشارة تلو الإشارة، تارة بالمروحة وأخرى «بالسجارة»، مع ابتسامات توضح عن مكنون الصدور، وتفصح إفصاح المعاني في السطور، والرجال من تحتهن يجاوبونهن على أعين النظار، طورا بإشارات الأيدي وطورا بلغة الأزهار، وكل مغازل فيهم يعتقد أنه امتاز على سواه، وتغلب على أهل النوافذ بهواه، وأضرم فيهن نار العشق وجواه، وخلع قلوبهن بدعواه، وما بالنوافذ سوى أزواجهم وبناتهم، أو أخواتهم وبنات أخواتهم، والمغني يستقبل وجوههن في هذه الأثناء، بوجه ليس فيه أدنى حياء، فيغنيهن من الأصوات والألحان، ما يثير من الغرام ويهيج من الأشجان، والخصيان يصعدون إلى الحرم بأوراق وينزلون منه بأوراق يتخيرن فيها الأدوار السائرة على ألسنة العشاق، في وصف حرارة الأشواق، ومرارة البعد والفراق، وما زالت الحال تتزايد قحة ووقاحة، وتتضاعف هتكا وفضاحة، حتى قام في وسط المكان جماعة من الأصحاب، يتقاذفون بألفاظ القذف والسباب.
ثم إنهم انتقلوا من التلاعن والتشاتم إلى التضارب والتلاكم، فقام الحاضرون على الأقدام، لمشاهدة ميدان النزال والخصام، ثم توسط رجال الشرطة بينهم لفض المخاصمة، وسوقهم إلى المحاكمة، بعد أن تمزقت الثياب تمزق الأوراق، وتخضبت الوجوه بالدم المهراق، فصارت الأفراح أتراحا، وانقلب الغناء نواحا، وقلت لصاحبي: هلم بنا إلى الفرار، من مواقف التهمة والعار، وخرجت به أسوقه أمامي، وأقول له في بعض كلامي: لقد حق لك بعد الذي رأينا ونظرنا، وبلونا وخبرنا، أن تلتهب بالغضب والحنق التهابا، أو يذهلك الدهش والعجب فلا تعي جوابا، وهل بقي بعد ذلك فرق بين سرور الدنيا وحزنها، أو فضل لظهر الأرض على بطنها، فأجابني بلسان الحكيم المدرب، والحليم المهذب، وهو يبتسم استهزاء، ويهز كتفيه ازدراء: لم يبق في بفضل الحكمة فضل للسخط والغضب، وعجبي اليوم مما أرى يكون من العجب.
العمدة في الحديقة
قال عيسى بن هشام: وتمكن من الباشا حب الاستكشاف والاستطلاع، لدرس الأخلاق وسبر الطباع، وتبدلت الوحشة عنده بالائتناس، في مخالطة الناس، فصار يلح علي ويلج في الطلب، أن أذهب به في هذا السبيل كل مذهب، وأنا أداوره وأحاوله، وأماطله وأطاوله، وهو لا ينفك يستنجزني ويستقضيني، وإذا استعفيته لا يعفيني، فقلت له: لم يبق أمامنا من المجالس والمنتديات، إلا ما اشتملت عليه الأزبكية من المخجلات المنديات،
1
وما تضمنته من صنوف الرجس والنكر، وفنون الفسق والسكر، وأنا أجلك أن أسلك بك مسالك الظنة والتهمة، وأن أحلك محال الريبة والشبهة، وأربأ بسنك وقدرك أن تختلط بتلك الزمر، وتدخل معهم في تلك الغمر، وتقسر نفسك الشريفة على ما لم تألفه من مثل ما يعملون، وشروى ما يفعلون،
2
فلا نأمن حينئذ نقد الناقدين، وطعن الطاعنين، وقاسمته إني لك لمن الناصحين، فقال: ألي تقول ذلك وقد آتيتني من دروس الحكمة العالية، وضروب الفلسفة السامية، ما أزدري معه عذل العاذلين، وأحتقر به لوم الجاهلين؟! ولن يضير النفس الشريفة الطاهرة، أن تجاور النفس الخبيثة الفاجرة، وقل أن يعدي المريض الطيبب، وتذهب رائحة الدفر،
3
برائحة الطيب والإمعان في رؤية النقيصة والرذيلة، يزيد النفس الفاضلة تمسكا بالفضيلة، ولا يعرف قدر الرشد والهداية، إلا من نظر في أعقاب الضلالة والغواية، وبالظلمة يعرف فضل الضياء، وبضدها تتبين الأشياء، ذلك من فضل ما علمتني مما علمت رشدا، ولقد كان من أدب الحكام في أيام دولتنا، وزمن صولتنا أن يغيروا من هيئاتهم، ويستروا من سماتهم، ويبدلوا من أزيائهم المعروفة، بأزياء غير مألوفة؛ ليتمكنوا من مخالطة الناس على اختلاف أشكالهم ويقفوا على جلية أمرهم وحقيقة أحوالهم، فلم يكن ذلك مما يضر بسمعتهم، أو يحط من رتبتهم، عند ظهور أمرهم، ووضوح سرهم، فلا عليك إذا أن تسلك بي ما شئت من المسالك، ولا تخش علي شيئا من تلك المعاطب والمهالك.
قال عيسى بن هشام: ولما لم يبق لي بد من امتثال حكمه، وتنفيذ عزمه، قصدت به من الأزبكية روضتها الغناء، وحديقتها الفيحاء، فلما وصلنا إلى بابها، ووقفنا عند «دولابها»، وضعت فيه أجرة العبور، كما توضع النذور في صندوق النذور، ودرت فيه دورتي ودار الباشا دورته، فقال لي وهو يدافع الغضب وسورته: هل كتب على الداخلين في هذه الجنة الزاهية أن يدور الإنسان دورة الثور في الساقية؟ فقلت له: نعم شاع التخوين بين الناس في جميع الأشياء، فاخترعوا لهم مثل هذه الآلة الصماء؛ لتكون رقيبا عتيدا، لا يستطيعون معها اختلاسا ولا تبديدا، فهي ترقم من الداخل عند كل دورة، ما ينقده الداخل فيها من الأجرة فلا يضيع منه مثقال ذرة. ولما جاوزنا الباب أعجب الباشا حسن المنظر وازدهاه، وراقه بهاء المكان واستهواه، وتملكه الابتهاج وتولاه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله! لمن هذه الجنة من كبراء البلد؟ قلت: هي ملك كل واحد وليست بملك أحد، أنشأتها الحكومة من «المنافع العامة» لنزهة الخاصة والعامة. ثم سرنا نطوف في أنحاء الحديقة، بين أشجارها الوريقة، وأغصانها الرشيقة، وأزهارها الأنيقة، والباشا يهتز طربا ويميل عجبا، لحسن هذا المنظر العجيب، والمنبت الخصيب، ثم وقف بنا وقفة بين برد الظلال وخرير الماء، ورفع ببصره يقدس باسط الأرض ورافع السماء، ثم رأيته ينحني للركوع انحناء القوس بعد أن أنشد قول حبيب بن أوس:
أرض إذا جردت في حسنها
فكرك دلتك على الصانع
وسمعته يتلو في الركوع والسجود، قول صانع الوجود:
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ، وقوله أيضا عز من قائل:
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
ثم انثنيت به في طلب الراحة، فجلسنا على أريكة من أرائك تلك الساحة، ودارت بيننا هذه المخاطبة، بما اقتضته المناسبة:
الباشا :
كيف لا يكون هذا المكان بالناس غاصا، وبالمرتاضين مزدحما، يشاهدون جماله ويتفيأون ظلاله ما دامت الحكومة قد أباحته لكل رائح وغاد كما تزعمه؟ وما لي لا أرى فيه غير هؤلاء الأجانب في أزيائهم، بأبنائهم ونسائهم، فهل وقفته الحكوة على الغربيين وحرمته على المصريين، فإنني لم أجد فيه أحدا منهم منذ دخولنا إلى هذه الساعة؟
عيسى بن هشام :
لم تؤثر به الحكومة قوما دون قوم، ولكن المصريين كأنهم ألفوا التهاون باللذات الروحانية وتغافلوا عنها، وأخصها معرفة ما حسن في الأشياء، وتمييز الجمال والكمال ومواضع الإحسان والإتقان في صنعة الوجود، ورياضة الفكر والنظر في مطالعة كتاب الكائنات، ونظام المخلوقات التي تسبح بحمد خالقها؛ أي: تدل عليه بصنعته فيها، وكأن الواحد منهم قد حبس نفسه وقيد فكره في الوجود على الماديات، فلا يكاد ينظر في دهره نظرة المشاهدة والإمعان في خلق السماوات وما يتألق فيها من الشموس والأقمار والنجوم والكواكب، ولا في خلق الأرض وما ينبت فيها من النبات، ويدب من الحيوان ويجري من البحار ويرسو من الجبال، وهي بجمال صنعها وكمال وضعها.
تصيح بمن يمر: ألا تراني
فتفهم حكمة الخلق العجيب؟
الباشا :
جل الخالق الصانع، ولكن لأي سبب ألف المصريون غفلتهم عن التمتع بهذه النعمة؛ نعمة المشاهدة ولذة المطالعة وصار الأجانب يتعلقون بها دونهم ويمتازون بها عنهم؟
عيسى بن هشام :
لا سبب فيما أعلم إلا التمادي في التهاون والتراخي عن إيقاظ هذا الشعور الغريزي الكامن في النفس، وتنميته بالرياضة والتفكير ومعاودة الإمعان والتدقيق، وقد اعتنى الأجانب به عناية خاصة فاجتهدوا في تنميته وترقيته، حتى صار لديهم ملكة من الملكات وفنا جميلا من أرقى الفنون فدربوا عليه ومرنوا فيه وسرى في دمائهم يتوارثه الأبناء عن الآباء، فترى الطفل فيهم إذا شب ودرج، وأراد أن يتحف أهله يوما بادر إلى الأرض، فاقتطف منه أول زهرة من الربيع وتسابق بها إليهم، كأنما عثر لهم على كنز لحسن الوقع عندهم، ولقد برعوا في الصناعة بفضل هذا الشعور ودوام نموه، ولم يقتصر الحال فيه عندهم على المرئيات الطبيعية، بل تجاوزه إلى المرئيات الصناعية، ففيهم من يبذل الألوف من الدنانير والملايين من الدراهم لاقتناء صورة من الصور، ورسم من الرسوم يحسن تمثيل زهرة من الزهور أو دائرة من الشفق أو راع من الرعاة أو حيوان من الحيوانات بما لا مناسبة بين قيمته في الأصل الطبيعي، وبين قيمته في الشكل الصناعي، وقل أن تدخل دار ميسور منهم إلا وتجد أنحاء الجدران مزدانة بألواح التصاوير والتهاويل مما يحاكي المناظر الطبيعية، فلا يفوت صاحب الدار أن يتمتع بحسن المنظر في داخلها إن حجبته عن مشاهدة جمال الطبيعة في خارجها، ولقد جرهم ذلك إلى شدة الولوع بمشاهدة الآثار القديمة، والتنافس في اقتنائها والغلو في التحفظ عليها والضن بها، فكم رأينا من قطعة من الحجر أو غيره تزدريها الأعين بيننا ولا يعبأ بها المصري، فيطرحها في كناسة منزله فلا تزال كذلك حتى يلتقطها الأجنبي في بحثه وتنقيبه، فتصير عنده في قيمة فريدة التاج أو يتيمة العقد، وكم رأينا من السياح من يتكبدون مشاق الأسفار ويتحملون أهوال البحار وأخطار القفار مع إنفاق الألوف المؤلفة من الذهب والفضة لمشاهدة آثار الدمن، وما عفا من الرسوم في هذه الديار، وربما رأينا المصري ساكن القاهرة يشب ويشيب ويكتهل، ويشيخ ويعمر ويهرم، ولم ير من الأهرام القائمة في جواره غير صورتها المرسومة على ورق البريد، وربما لم يلتفت إلى رؤية ذلك أيضا حتى يدركه الموت.
الباشا :
تالله إن ذا لمن العجب، ولو كان الأمر يجري على القياس لكان المصريون في مقدمة الأمم التي ينمو فيها الشعور بلذة التأمل في بدائع الكائنات، ومحاسن الموجودات لرقة طباعهم، ولطافة شيمهم، وسرعة التأثر والانفعال في نفوسهم، ولما ميزهم الله به من حسن الإقليم واعتدال الجو وفيض الماء وخصب التربة، ولانحصار موارد أرزاقهم ومعاشهم في استنبات الأرض، وطول ممارستهم للفلح والحرث والزرع والحصد، وكل من رأى الإقليم المصري كالزبرجدة الخضراء في وسط رمال الصحراء، لا بد أن يحسد أهله على التحلي بهذه الفريدة من عقد الطبيعة، ويغبطهم على دوام تمتعهم باجتلاء هذا المنظر الذي يجلو البصر ويثلج الفؤاد وينعش القلب، ويلطف من هواجس النفس وبلابل الصدر فتصفو الروح، فتخف من قيود العالم السفلي إلى الاتصال بمعارج العالم العلوي، فترتاح هناك هنيهة مما تقاسيه في مصارعة العيش من ضروب الأكدار والآلام، وتفر من وجهها إلى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، واعلم - وهذه لفظة طالما أفادني تكرارها على لسانك فاسمح لي بها مرة من لساني، وما أعلمك إلا عن خبرة وتجريب - أن الفرق بين الإنسان والحيوان لا ينحصر في الخلقة، ففي الخلقة ما يشبهه، ولا في النطق ففي الحيوان ما ينطق، ولا في الذكاء ففي هوام الأرض ما يفوقه ذكاء، وإنما المزية التي تميزه عن سائر الحيوانات والخصلة التي يفضلها بها هي إدراك حقيقة الوجود بالإمعان والمشاهدة وطول الفكر والنظر في خلق السموات والأرض للاهتداء إلى معرفة خالقها، وعبادة صانعها، قال - جل وعز - في محكم بيانه:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت * فذكر إنما أنت مذكر ، هذه هي اللذة الروحانية التي أسعد الله بها الإنسان دون سائر المخلوقات وهي أشرف اللذات، وأصفاها وأفضلها وأبقاها، وما يتقرب العبد إلى الله زلفى في عبادته بأجل من النظر والتفكير في حسن صنعه وكمال خلقه، قال وهو أحكم القائلين:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، ولا يقف على مقدار هذه اللذة الروحانية تمام الوقوف إلا من تجرد مثلي يوما من عالم الأجسام والفناء، إلى عالم الأرواح والبقاء، ولا ينبئك مثل خبير.
ولو كانت الأمور تجري على القياس أيضا لاشتغل المصريون بلذة هذه المشاهدة، وسعوا في نموها فيهم؛ إن لم يكن من جهة لطف الإحساس والشعور فمن جهة انصرافهم إلى تقليد الغربيين، والعمل على نمطهم في مختلف أحوالهم كما شاهدته منهم عيانا في جميع حركاتهم وسكناتهم، ولكن لعل هناك من خفي الأسباب ما حرمهم اطراد التقليد في هذا الباب.
عيسى بن هشام :
لم يكن هناك من سبب يمنعهم غير ميلهم إلى الفتور والانقباض، سواء أكان في الماديات أم الأدبيات، وهم على شدة ولعلهم بتقليد الأجانب لا يقلدونهم إلا فيما خف وهان من الزخرف المموه والبهرج الكاذب والملاذ الشهوانية مما لا ينتج عنه إلا سقم الأجسام ونفاد الأموال، وما عدا ذلك من أمور المدنية النافعة فمجهول عندهم بل مرذول لديهم، وإجمال القول في هذا الباب أن مثل المصري في أخذه بالمدنية الغربية كمثل المنخل يحفظ الغث التافه ويفرط في الثمين النافع.
الباشا :
يا أسفا عليهم كأنهم تخلوا عن فضائل مدنيتهم القديمة، ولو يتحلوا بفضائل المدنية الحديثة، فأصبحوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
قال عيسى بن هشام: وما زال الحديث يجري بنا على هذا النحو حتى وصلنا إلى المغارة المصنوعة في بعض أنحاء الحديقة، فرأينا صنعا جميلا وشكلا بديعا، وأعجبنا تدفق الماء من ثنايا الأحجار، فجلسنا على سرر هناك أعدت للزائرين، وإذا بجانبنا ثلاثة أشخاص من المصريين شغلهم اتصال الحديث بينهم عن الالتفات إلينا، فأقمنا نسترق السمع ونلتقط اللفظ، فتبين لنا من سياق كلامهم أن أحدهم عمدة من عمد الأرياف، وثانيهم تاجر من تجار الثغور، وثالثهم فتى من أهل البطالة والخلاعة، ومما التقطناه من قول العمدة للخليع في مجرى حديثه:
العمدة :
وأين الآن ما دخلنا الحديقة من أجله، فقد طال بنا الجلوس ولم نر شيئا؟ وهل كان جل القصد ومنتهى الجهد أن نجلس هنا في وخامة الأشجار ورطوبة الهواء وعفونة الماء؟ وتالله ما أجد فرقا بين هذا المنظر وبين منظر ذلك المستنقع الذي خلفته خلف بلدتنا، ولعمري إن الأوز الذي يسبح فيه هناك أكثر عددا وأعظم سمنا من الأوز الذي يسبح أمامنا، وما الفائدة في طول جلوسنا أمام هذه الأشجار العقيمة التي لا تثمر ولا تغني من جوع؟ وأين نحن من ذلك الثمر الشهي والصيد الطري الذي وعدتنا به وأطمعتنا فيه!
الخليع :
مهلا فلن يفوتك من هذا شيء وإن كنا أخطانا الغرض هنا؛ لأنني كنت أظن الحديقة على عهدي القديم بها، وما كنت أتخيل أن الأمر وصل بها إلى مثل هذا الخراب من الظباء والغزلان، إلا منذ أخبرني أحد الأصحاب بعد دخولنا بأن الحكومة اشتغلت بأمر هذه الحديقة لخلو يدها من الأشغال، فباشرت الإصلاح فيها بمنع ذوات البراقع والمآزر من دخولها والتجول في أنحائها، ولا أقول في هذه النازلة إلا قول الجرائد في التأفف من أعمال الحكومة: «حسبنا الله ونعم الوكيل».
التاجر :
وعلى هذا فقد ذهبت تلك الليالي والأيام التي كانت فيها الحديقة مرتعا للحسان، وملعبا للقيان، ولطالما دخلت هنا وحيدا فريدا فما أكاد أنصب الحبالة، وأضع الحب حتى أقتنص من آرامها مثنى وثلاث ورباع.
العمدة :
يعلم الله أن العاصمة أصبحت على حال لا تصح معها الإقامة إلا مدة قضاء الحاجة والرجوع إلى البلد فورا، وإلا فقد عرض الواحد منا دراهمه للضياع وصدره للانقباض، وإلى الآن تراني في غاية الأسف والحزن على ما جرى لي أمس في سهرتي مع فلان الموظف؛ إذ جرني للنزهة معه فطاوعته على هواه أملا في إنجاز حاجتي عنده فسحبني من مكان إلى مكان، ومن حان إلى حان يشرب هو وأصحابه على حسابي، وكأنما أجوافهم دنان متخرقة فلا تمتلئ أبدا من الخمر، وكأنما كيسي كنز لا يفنى بالإنفاق، وما كدنا ننتهي من حانات الخمر حتى اندفعوا إلى بيوت القمار، فأصبحت مصدع الرأس من الخمر، فارغ الكيس من القمر.
التاجر :
ولم تطاوعه على أغراضه وتنقاد مع أصحابه، وتنفق مثل هذا الإنفاق من غير حظ ولا لذة؟ وإن كانت لك حاجة ترجو قضاءها منه كما تزعم فيكفي في ذلك أن تضع «المبلغ المناسب» في يده، وتتخلص منه ومن أصحابه فلا تسايرهم، ولا تعرض نفسك للتورط معهم كما فعلت.
العمدة :
يحق لك أن تعترض وتلوم فقد أراحكم الله معاشر التجار في المدن من متاعبنا ومصائبنا مع الحكام؛ فإن أشغالكم لا تتعلق بهم كما تتعلق أشغال الفلاحة في الأرياف ، فنحن في اضطرار دائم إلى استرضائهم «والمبلغ المناسب»، الذي تقول عنه لا يكفي وحده في قضاء الحاجة، بل يلزم الإنفاق عليهم في كل زمان ومكان علاوة على تلك المبالغ، وإن لم يكن لك عندهم حاجة في الحال، وكم من كلمة واحدة من موظف صغير كانت سببا في تعطيل عمل كبير، وما يدريك أن الذي تغضي عنه الليلة ولا تلتفت بنظرك إليه في حانات الأزبكية يصبح غدا قاضيا في المحكمة أو حاكما في المديرية؟
الخليع (مقاطعا) :
إذا كانت الليلة الماضية قد انقضت على غير هواك، فلنا عنها عوض من ليلتنا هذه إن شاء الله.
العمدة :
أنصدقك في وجود العوض وقد أخلفت وعدك معنا في هذه الحديقة، وآذن الليل بالدخول وليس في اليد شيء من الصيد؟
الخليع :
صدقني بالله، فإني ما كنت أعلم بما أصاب الحديقة من أمر الحكومة؛ لأنني كنت مقيما بحلوان مدة طويلة، وجئت وأنا أحسبها على حالها الأول، ولكنني قد رتبت لك الآن سهرة في فكري تفوق في حسنها كل سهرة مضت، فإني أعرف صاحبا لي أخبرني عن بيضة خدر من بيت فلان باشا، فقوموا بنا وأنا أذهب للحصول عليها هذه الليلة بما يمكن من الحيل، وسأكتم عنها أمركما إلى أن تصير معي في الموضع الذي أختاره، ثم أرسل إليكما من هناك بمن يأتيني بكما، فيكون دخولكما على حين غفلة، فلا تستطيع الاختفاء ثم تضطر إلى البقاء في مكانها، وحينئذ يدور بنا المجلس معها دورة الأنس والسرور، ولكن لا أخفي عنكما أن مقدار ما معي من الدراهم الآن لا يكفي لإعداد معدات هذا المجلس، وأخشى إن أنا ذهبت إلى البيت لآخذ دراهم أخرى أن يمنعني أهلي من الخروج ثانية، كما هي العادة عند النساء في التضييق على الرجال.
العمدة :
لا عليك فعندي من الدراهم ما يكفي وزيادة.
قال عيسى بن هشام: وقاموا في الحال للسعي وراء اللهو والمجون، وقام الباشا يسحبني وراءهم للعلم بما سيكون.
العمدة في المجمع
قال عيسى بن هشام: وخرجنا في أثر الخليع والعمدة والتاجر، وقد ألقت ذكاء يمينها في كافر،
1
ثم أضيئت بعد ذلك شموع الكهرباء، فعادت الشمس متوزعة في مصابيح الضياء، كالنجوم تتلألأ في أفق السماء، وتقشع دياجي الظلماء، ولما توسطنا ساحة «الأوپرا» و«الأوپرا بار»، وقف الباشا وقفة الإعظام والإكبار، يكفكف غرب الدمع والاستعبار، ويقول: سلام على إبراهيم، أإبراهيم في النار، كيف لا يضطرم القلب استعارا، ويجري الدمع مدرارا، فلا أستطيع أواري،
2
ولا أستطيع أواري، وقد تمثل أمامي في هذه البقعة، وهي موسومة بسوء السمعة، بطل مصر، ورافع بنود النصر، وقائد جيوش الحرب وهاديها، في مفاوز الأرض وبواديها، وموقد نيران الوقائع وصاليها، وخائض غمرات المعامع وجاليها:
في كل منبت شعرة من جسمه
أسد يمد إلى الفريسة مخلبا
وكيف جاز لهم أن يضعوا عنوان البأس والجد، في مواضع الهزل والدد،
3
ويقيموا لإبراهيم صنما على صورته، في وسط سوق الفسوق وسرته، مشيرا بيمناه إلى مواطن اللهو والفجور، وأماكن الفحش والعهور، ودينه ينهاهم عن تشييد الأصنام وإقامتها، ويأمرهم بكسرها وإبادتها، ويا بؤس قوم جعلوا اليد التي كانت تشير للكماة والفرسان، في ميدان الضرب والطعان، بمصافحة المنايا، ومقارعة الأفران، تشير اليوم وسط هذا الميدان، بمغازلة البغايا، ومعاقرة الدنان، فسبحان محول الأحوال ومبدل الأزمان، فقلت له: ما هذه الأفكار المحزنة، أحنينا إلى تلك الأزمنة، وقد انقضت بخيرها وشرها، وذهبت بحلوها ومرها، وأين أنت من طريقك في الحكمة والسداد، ومن سبيلك في الهداية والرشاد؟ فخفض عليك من حزنك وهمك واترك تلك الهواجس فأنت ابن يومك، ولا تجعل لهواك القديم عليك سلطانا مطاعا، فذهب ما استفدناه من العلم ربحا مضاعا، أما إقامة التماثيل في الميادين، ومخالفتها للشرع والدين، فقد أقامها حكامنا تقليدا للغربيين، ولمن ينكرها أحد من طلبة العلم وعلماء المسلمين، فاستنامت إليها الأفكار، ولم يوقظها التحريم والإنكار.
وأما وضع التمثال في هذا المكان دون سواه، وإشارته فوق الحصان بيمناه، فلعل الآمر بوضعه أراد أن يذكر هؤلاء الغافلين الذاهبين بما كان لآبائهم الأولين، من الشأن الرفيع، والركن المنيع، أيام إمارته، وينبههم على ما انتشر ذكره في الآفاق، وخلدته لهم بطون الأوراق، من اقتحام المهالك، وافتتاح الممالك، تحت قيادته، وهو يشير اليوم بتلك اليد؛ ليستفزهم إلى مواقف العز والمجد، ويستنفرهم عن مواطن الخلاعة والبطالة إلى مواطن الشجاعة والبسالة، فتبسم الباشا من قولي ضاحكا، وقال: ما عهدتك في الجواب محاولا مماحكا، فقلت له: دع هذا وانظر إلى هذه البنية الإيوانية، ذات الأرائك الخسروانية، فقال: أعظم به من بناء، بين بيوت الكبراء! قلت: هو بيت لهو رفع إسماعيل قواعده، وبوأ الناس مقاعده، يشاهدون فيه صنوف الألاعيب، وضروب الأعاجيب، مما يؤخذ عن أساطير الأولين، وأقاصيص الراوين، وما تفتن فيه كل غادة حسناء، من جمال الزينة وحسن الرواء، وتفتن به كل قينة هيفاء، من فنون الرقص والغناء، اقتداء بالغربيين في ديارهم، واحتذاء لآثارهم، وقد بقي من بعده تنفق عليه الحكومة من عيش الصانع والفلاح، لتفكهة النزلاء والسياح، ثم انظر أمامك إلى هذا المجتمع الملتحم، والموقف المزدحم، فالتفت فقال: ما هذه الضوضاء العظيمة؟ أمأتم ما أرى أم وليمة؟ قلت له: لا بل هو مجتمع عام تتزاحم فيه المناكب والأقدام، لمسامرة الأصحاب، ومعاقرة الشراب، وبينا نحن كذلك؛ إذ وقف بأصحابنا المسير، عند باب هذا الحان الشهير، فسرنا في عقبهم، ولحقنا بهم، فسمعنا الخليع يقول لصاحبيه: كونا هنا في الانتظار، حتى أعود إليكما بالأخبار، إنجازا لوعدي، وإيفاء بعهدي، فأجاباه بالقبول، وتقدما للدخول، فقال العمدة للتاجر: ما أحوجني إلى تضييع الزمن، ورياضة البدن، بشرب كأس من العقار، ولعب دور من «البليار» وقال التاجر: وما أحوج يدي إلى ملامسة ورق القمار، وأذني إلى رنين الدرهم والدينار! ثم صعدنا وراءهما إلى قاعدة بأعلى المكان، أعدت للعب والرهان، فتقدم العمدة وهو يهز أعطافه وأردانه، فتسلم كرة «البليار» وصولجانه، وقعد التاجر وهو يرتعد من الفرق، في مجلس اللاعبين بالورق، وجلسنا نحن للنظر والسمع، في غمار ذلك الجمع، فسمعت عن يميني أحد السماسرة المعروفين بالدهاء، يقول في مناقشة لأحد أرباب الثروة والغناء:
السمسار :
لا نزاع ولا جدال في أن ينابيع الثروة قد نضبت بذهاب تلك الأيام الماضية، التي يغتني الرجل فيها بكلمة ويثري بإشارة فيصبح بها أغنى الأغنياء بعد أن كان معدودا من الفقراء، ولقد وصل المصريون الآن إلى زمن كله ضيق وعسر ولم يبق من حكامهم من يقطع الأقطاع ويهب الضياع، وبقي الغني الحازم فيهم على الحال الخمول والانكماش لا يستثمر أمواله، ولا يستربح ثروته، وقد زادت الحاجات وتعددت وجوه المطالب يوما بعد يوم، فأصبح مضطرا إلى الإنفاق من تليده فسرى النقصان إلى رأس المال حتى إذا مضى لسبيله لم يترك لأهله وذريته، إلا ما يقوم بالكفاف وحده بعد توزعه بينهم، وكن على يقين أنه لا يمضي جيل واحد على هذه الحال إلا ويندثر بين المصريين ما بقي من بيوت المجد والغنى، واعلم أنه لم يبق أمامنا اليوم سوى بيت واحد هو منبع المنابع في الثروة والمال، وكنز الكنوز في الغنى واليسار؛ يقوم للمصريين مقام أعظم بيت من بيوت الحكام الذين كانوا ينعمون عليهم بالسيب والعطاء، ويدفعون عنهم الضراء بالسراء، وما يخفى عليك أنه بيت البورصة.
الغني :
اسكت ولا تذكر لي اسم البورصة، فقد سمعنا في هذه الأيام عن فعلها بفلان وفلان ما فيه عبرة للمعتبر وموعظة للمتدبر.
السمسار :
ألتمس من سعادتكم غض النظر عن الاستشهاد بفلان وفلان، فإن الخسارة لحقتهما من سوء رأيهما وشدة جهلهما، أما أحدهما فإنه كان يعتمد في المضاربة بأمواله على التفاؤل والتطير، وكان لا يأخذ إلا بكلام إحدى العرافتين: العرافة السودانية أو العرافة الإفرنجية، تلك بودعها، وهذه بورقها، ومن نوادره في الأخذ بالتفاؤل أنه سمع رجلا مجذوبا يصيح في الطريق بقوله: «اذهب يا يزيد» وكان لا يزال مترددا بين البيع والشراء لا يرجح بين الهبوط والصعود، فتفاءل بالكلمة واعتمد عليها وسار من توه إلى سمسار، فأمره أن يشتري له عشرين ألف قنطار، فنصحه وحاول أن يحوله عن رأيه فلم ينتصح ولم يتحول، وهبطت الأسعار في اليوم الثاني وتوالى هبوطها فكان ما كان من خسارته، وأما الثاني فكان جل اعتماده على الأخذ بأفكار أرباب الجرائد والثقة بالأخبار الكاذبة من الموظفين، ولم يعمل برأي السماسرة الذين هم أدرى الناس بوجوه المضاربة، وأعلمهم بطرق الصواب فيها.
الغني :
لن تزيدني والله براعتك في البيان والبرهان إلا ابتعادا عن مضاربة البورصة وعن أهوالها، ولا أعتبرها في نظري إلا أكبر باب من أبواب المقامرة، والمقامرة هي عين المخاطرة.
السمسار :
أما المخاطرة فهي لاصقة بالإنسان في كل حركة وسكون وملازمة لعمله في كل زمان ومكان، ومن أراد أن يتوقى الأخطار ويسلم من المخاوف، فلا يباشر عملا من الأعمال، والأولى له أن يترك هذا العالم إلى سواه، واسمح لي بآخر قول أقوله لك في هذا الباب وهو أنك أخبرتني بمقدار محصولك في هذا العام، وهو ثلاثة آلاف قنطار مخزونة عندك إلى اليوم، لم تبعها تربصا لصعود الأسعار، ولم تبال بما يلحق القطن في طول خزنه من نقص الوزن وما يتهدده من بقية الأخطار كالسرقة والحريق، فإذا كنت فضلت الانتظار لصعود الأسعار على هذه الحال في ثلاثة آلاف قنطار، فما الذي يمنعك عن مثل هذا العمل في ثلاثين ألف من «الكونتراتات» دون كلفة ولا مشقة، كالتي احتملتها في استخراج المحصول؟ فإنك لا تدفع هنا ثمن أرض ولا تنفق على حرث ولا تؤدي ضريبة، ولا تبذل ماء وجهك لري الأطيان، ولا تحني ظهرك لأصاغر الحكام، وما دخلت في قضية ولا وقعت في منازعة ولا تخوفت شيئا من الآفات، سماوية كانت أم أرضية، بل هو ربح يأتيك عفوا صفوا ولا رأس مال له سوى أربعة حروف أو خمسة تخطها بيمينك في التوقيع.
الغني :
يجوز أن يكون في قولك هذا بعض ما يقنع، ولكني لا أجد نفسي تطمئن يوما إلى ولوج هذا الباب.
السمسار :
أنا لا أكلفك أمرا عظيما ولا أدعوك إلى أدنى خسارة، وما عليك إلا أن تجرب صدق نصيحتي، فتشتري ألفين من «الكونتراتات» فتنتظر بها صعود الأسعار مع أقطانك المخزونة، وأنا أضمن لك الربح ما دمت آخذا برأيي، ولا تستمر في هذا الانكماش والحذر اللذين هما علة تأخر المصريين، وخذ في النشاط والإقدام اللذين هما سبب تقدم الغربيين، واعلم أن الفرق في سرعة الربح بين ما يشتغل به الناس من التجارة والصناعة والزراعة، وبين أشغال البورصة و«الكونتراتات» كالفرق ما بين السفر على ظهور الجمال والطيران على أجنحة البخار، أو ما بين نسخ الكتب بالخط ونسخها بالطبع، ولكل زمان ما يقتضيه من العمل ويحكم به من السير، وأنت المخير مع ذلك فيما ترضاه لنفسك.
الغني :
وكيف حال الأسعار اليوم؟
السمسار :
كما كانت أمس وهي فرصة ثمينة للشراء.
الغني :
خذ لي اليوم خمسمائة قنطار للتجربة.
قال عيسى بن هشام: وتركنا هذا العصفور قد وقع في يد الصائد المحتال، والتفتنا إلى ذات الشمال، لسماع ما يدور من الجدال، بين رجل فرغ كيسه من المال، وامتلأت رأسه من الآمال، وبين تبيع محام من الأجانب، يتلقط القضايا من كل جانب:
التبيع :
لا أشير عليك أبدا برفع هذه القضية أمام المحاكم الأهلية، وهي معروفة بجبنها وخوفها من الحكم على الحكومة في مثل هذه القضايا، ولئن حكمت مرة فقلما تبادر إلى التنفيذ، أما المحاكم المختلطة فإنها لا تحسب لغير الحق حسابا، وسواء لديها الحكومة والأهالي، والتنفيذ فيها أسرع من نفاذ السهم عن القوس، كما أن المحاكم الأهلية لا تعرف قدر هذه القضية ومنزلتها من التاريخ، ولا تقدر لك الفائدة من عهد وضع اليد عليها إلى الآن، فلا مندوحة لك عن المحاكم المختلطة، ولكن أخبرني قبل كل شيء عن تلك الشجرة هل لها ذكر في الحجة باسمها التاريخي المعلوم، وهل يمكنك إثبات نسبك متصلا إلى الواقف؟
صاحب القضية :
أما الشجرة فمذكورة في حجة الوقفية أنها «شجرة العذراء»، وهي قائمة على أرض سواد، وأما نسبي فهو متصل بأحد عتقاء الواقف السلطان الغوري، ولكن من لي بدخول القضية في المحاكم المختلطة وأنا رجل من رعايا الحكومة؟ ومن لي بمحام أجنبي وأنت تعلم ما يلزم لمثله من المبلغ الجسيم في «مقدم الأتعاب» الجعالة؟
التبيع :
هون عليك الأمر، أما رفع القضية إلى المحاكم المختلطة، فإنه سهل هين يكون بالتنازل عن القضية لأحد الأجانب، وأما المحامي الأجنبي فأنا أتكفل لك بإقناع المحامي الذي أشتغل معه ليقبل القضية غير أن يلتفت إلى «مقدم الأتعاب »، وإنما يتفق معك على مناصفتك فيما تأتي به القضية من الأموال، وأما الأجنبي الذي تتنازل له عن القضية فهو حاضر في مكتبنا تحت يدنا لتسخيره في مثل هذه القضايا، وما عليك الآن سوى النفقات والرسوم القضائية.
صاحب القضية :
لا بأس بما تقول ولكن ليس عندي ما أستغني عنه اليوم لتلك النفقات، ولو كنت واثقا بعض الوثوق بكسب القضية لبادرت إلى بيع الحصة، التي بقيت لي من العقار، ولكنني أخشى أن تذهب الحصة وأخسر القضية فأصبح بلا مال ولا أمل.
التبيع :
لو كنت تعلم بمهارة معلمي وما له من علو الشأن في المحاكم المختلطة، ومن الاتصال بقناصل الدول لاستخرت الله في بيع الحصة ورفع القضية.
صاحب القضية :
استخرت الله واعتمدت على هذا الرأي.
التبيع :
فقد أذنتني حينئذ بالكلام مع المعلم، ولك أن تحضر غدا لعقد الشروط.
صاحب القضية :
أمهلني أياما حتى أجد من يشتري الحصة بالثمن المناسب.
التبيع :
أنت في سعة من الوقت لبيع الحصة، إنما يجب أن تبادر بإحضار الأوراق والمستندات من الغد للاطلاع عليها ودرسها.
صاحب القضية :
بيني وبينك مساء الغد في هذا المكان.
قال عيسى بن هشام: وتركنا أيضا هذه السمكة، تتخبط في الشبكة، ثم حولنا النظر إلى العمدة في لعبة البليار، فما راعنا منه إلا أن ضرب الكرة بصولجانه ضربة أفقية فأطارها إلى وجه أحد الجالسين من الأجانب، فاستشاط غضبا واحتدم غيظا، وقام هاجما على العمدة يريد به شرا وهو يدمدم ويطمطم والعمدة يجمجم ويغمغم، وكاد يقع ما تسوء عقباه لولا أن أسرع التاجر، فحال بينهما وأخذ بيد الأجنبي يستعطفه، ويبالغ في الاعتذار إليه حتى لانت شكيمته بافتتاح زجاجتين من «الشمبانيا» لعقد الصلح على حساب العمدة، ثم عمد العمدة إلى الجلوس فلم يمهله الذي كان يلاعبه وطلب منه استكمال اللعب، فقام إليه مكرها وقلبه يرتجف ويده ترتعش، فما هي إلا الضربة الثانية حتى أخطأ الكرة بصولجانه، فأصاب غشاء البليار فخرقه وشقه، فذهب الخادم مسرعا وعاد بصاحب «البار» ومن ورائه بقية الخدم وهو يقول لهم بصوت عال: كيف تسلمون عصا البليار لهذا الفلاح الأخرق فيخرقه ويتلفه؟ ثم وقف للعمدة يطالبه بثمن ما أتلف وتعويض ما عطل وقدره له بخمسة عشر جنيها لا يتجاوز عن درهم واحد منها، فأخرج العمدة كيسه، فأحصى ما فيه عدا فإذا هو لا يزيد عن ثلاثة عشر جنيها فلم يقبل منه، فتوسط إليه بعض الحاضرين، فقبلها متكرها وجلس العمدة متكدرا، ولقد كان اللعب بالأفعوان، أقرب إلى السلامة من هذا الصولجان، ثم استمر جالسا ينتظر انتهاء التاجر من لعبه حتى قام عنه زاعما أنه خسر فيه ثلاثة جنيهات، وقعد بجانبه يظهر التأسف والتندم فقال له العمدة: دع عنك الأسف والكدر فالضائع ضائع ومصيبتك على كل حال أخف وقعا من مصيبتي، وبينما هما على هذه الحال إذا بالخليع قد حضر من غيبته يقول لهما هاشا باشا وفرحا مرحا:
الخليع :
أشرق أنسنا وسعدت ليلتنا وطاب وقتنا وانقضت حاجتنا، وأسأل الله أن يطيل لنا ليلنا ويبعد عنا نهارنا فقد تم مرادنا وهلم بنا.
العمدة :
ونحن نسأل الله أن يقصر ليلنا ويدني منا نهارنا، فاقعد معنا نقصص عليك ما دهانا في غيابك.
الخليع (بعد سماع القصة) :
ويلي ثم ويلي فأنا الملوم؛ إذ تركتكما فوقع لكما ما وقع، ولكن قدر الله لكما ولطف بكما، أما مصيبتي الآن فهي أعظم من مصيبتكما وأبلغ، فماذا أقول وماذا أفعل؟ وكيف أدفع وبأي عذر أعتذر، وقد أخرجت البيضة من خدرها والظبية من كناسها، واستعد المجلس لحضورنا وأنسنا؟
التاجر :
الأمر أيسر مما تخشاه فما يفوتنا الليلة ندركه غدا.
الخليع :
ذاك شيء لا يدرك في كل وقت وحين، وهذه المرة هي بيضة الديك لبيضة الخدر، وكيف يمكن فض هذا المجلس وتأجيله وقد مضى قطع من الليل وتعذرت سبل الرجوع.
كيف الرجوع بها وحول قبابها
سمر الرماح يملن للإصغاء؟
فخلصاني ناشدتكما الله مما وقعت فيه وأنقذاني من هذا البلاء العظيم.
التاجر :
وما وجه الخلوص وقد علمت بتفصيل الحال؟
العمدة :
تالله إن الحرمان من هذا المجلس النادر لأعظم مصابا من كل ما نابنا، ولو كان الوقت نهارا لأسرعت إلى «البنك»، فأخذت ما يلزم لنا من الدراهم.
التاجر :
إذا كانت الرغبة انتهت بك إلى هذا الحد، فالأمر يسير ومعي الآن ما يكفي وأنا أقوم لك مقام «البنك» فكم تطلب، ولأي ميعاد تكتب؟
الخليع :
هكذا يكون الصديق، في وقت العسر والضيق، فحياك الله وأبقاك.
العمدة (للتاجر) :
أعطني عشرين جنيها تكون معي على سبيل الاحتياط.
التاجر :
ولك الفضل، هاك سبعة عشرا جنيها تبلغ العشرين المطلوب بالثلاثة التي خسرتها هنا أمامك، وألتمس منك كتابة ورقة على سبيل التقييد.
قال عيسى بن هشام: فما كان أسرع من الخليع في استحضار الدواة والقرطاس، لإجابة هذا الالتماس، فطلب العمدة منه أن يكتب الصك عنه، ثم خرجوا والعمدة يجرر أذياله، ويحك قذاله،
4
وخرجنا خلفهم في الحال، نتبعهم متابعة الظلال.
العمدة في المطعم
قال عيسى بن هشام: ولما صرنا في الطريق أخذ الباشا يطيل من فكرته، ويقصر من مشيته ويقول: ما هذا الذي أرى من فساد هذا الورى؟ كأن ناقعا نقعهم في خابية،
1
جمعت أخلاط الكبائر، أو غامسا غمسهم في جابية،
2
وعت أمشاج الجرائر،
3
أوكلما خطونا خطوة رأينا من الغش والمكر أصنافا وأضرابا، أو حضرنا ندوة شهدنا من الخداع والنفاق فصولا وأبوابا؟ فما أتعس من يعاشرهم! وما أنحس من يحيا فيهم! وما أشقى من يجاورهم! وما أسعد من يجافيهم! وا غوثاه من الإنسان، في هذا الزمان، فقلت له: قدك
4
بل في كل زمان:
لن تستقيم أمور الناس في عصر
ولا استقامت فذا أمنا وذا رعبا
ولا يقوم على حق بنو زمن
من عهد آدم كانوا في الهوى شعبا
هكذا كان بنو آدم، تأخر عهدهم أو تقادم، فهم على ما هم فيه أبدا، أمس واليوم وغدا، وما عساك تقول في ذرية الشيخ آدم وزوجه حواء، وقد قالت من قبل فيهم ملائكة السماء:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وما عساك تقول في قوم ترى الصغير منهم قبل الكبير، والمولى قبل الأمير، يهون عليه أن يفتدي ما أسف من الدنايا وسفل من المطالب بمنطقة البروج ، ومجرة الكواكب؟ وما عساك تصف خلقا أفضل ما في أعضائه، أكبر سبب لشقاء الخلق وشقائه؟
أفضل ما في النفس يغتالها
فنستعيذ الله من جنده
هذه المضغة التي بفيه، ويقال: إنها أفضل ما فيه، لو نسجت مضغة على قدرها، حمات العقارب
5 - حماك الله - لحمتها، ولعاب الأفاعي - عافاك الله - صبغتها، لكانت في جانب هذا اللسان أخف ضرا، وأهون شرا، وما عساك تنعت نوعا نعت الله واحدا منهم في آية من الآيات بتسع صفات:
حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم .
فأف لعصريهم نهار وحندس
وجنسي رجال منهم ونساء
وليت وليدا مات ساعة وضعه
ولم يرتضع من أمه النفساء
وما يدريك أن ما رأيته من أخلاق هذا النفر، أفضل من أخلاق من علاهم من سادة البشر؟ ولعل ما أدركته من طمع الغني ومكر السمسار وخداع التبيع، وما تبينته من غش التاجر وغفلة العمدة واحتيال الخليع، هو دون ما تكنه صدور الكبراء، وتجنه قلوب الأمراء، تحت حجاب التكلف والتطبع، ويسترونه عن أعين الناس بستار التمويه والتصنع، وكلما اعتلى الإنسان درجة في المقام، وخطا فيها خطوة إلى الأمام، تقنع لها بقناع وتلثم بلثام، فتجد حقائق الخلائق مرموسة تحت صفائح الدهاء، مضروحة بين جنادل الرياء، بل ربما كان أخلاهم أخلاقا حسانا، أبلغهم في التظاهر بها زورا وبهتانا، كان لي صاحب تراه من لسانه غضنفرا رئبالا،
6
يحمي عرينا ويحرس أشبالا، تتقيه القياصرة، وتخشاه الأكاسرة، فإذا كشفت عن قلبه، وحسرت عن لبه، وجدته شاة تعطف على سخلها،
7
وظئرا تحنو على طفلها،
8
وأعرف آخر قد ضجت أحرف الفضيلة من ذكرها بقلمه ولوكها في فمه، وهو مع ذلك يخمش وجهه ويدمي جفونه إن سمع أن مختلسا اختلس دانقا دونه، وفيهم من يملك من وجهه التغير بالانفعالات المتناقضة، والتلون بالألوان المتعارضة، فتكون دموعه طوع إرادته، وابتساماته عند حاجته، قال حكيم لآخر: ما أكثر ما تتحول رقعة الشطرنج وتتقلب! قال له: تقلب وجه الإنسان أعجب وأغرب، وقد تبقى الأخلاق الذميمة، والصفات اللئيمة مطوية عن النظر، محجوبة عن البصر، حتى يتاح لها كاشف من الحوادث فينزع عنها الفدام،
9
ويحسر اللثام، فيظهر الطبع السقيم، ويبدو الخلق الذميم، ومن عوامل التبيين والبيان في أخلاق الإنسان الغضب والجبن، أو السكر والحزن، ونحن الآن في ساحة السكر فهلم بنا، نلحق بأصحابنا، فأدركناهم وهم وقوف يتشاورون وسمعناهم وهم يتحاورون.
العمدة :
دعوني من هذا كله فقد صاحت عصافير بطني ولم يدخل جوفي اليوم شيء من الطعام سوى لقمة الصباح التي أكلتها مستعجلا، فهيا بنا إلى «السكة الجديدة» نعطف على «العطفي» فإن طعامه دسم وسمنه زبدة ولحمه سمين.
التاجر :
ما هذا «العطفي» الذي تذكره وأين أنت من كباب «الحاتي» وحمام «لوكه» أو طواجن «الفار» وأرز «العجمي»؟
الخليع :
ما هذا الخلط ونحن في وسط الأزبكية بين «النيوبار» و«سان جمس بار» و«اسبلندد بار» وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؟ وناهيك بهذه الأماكن ونظافتها وحسن خدمتها وعلو قدر الواردين عليها.
العمدة :
دعنا من هذه الأماكن فإن طعامها لا يسمن ولا يغني من جوع، خصوصا وأنا على هذا الخلو من بطني.
الخليع :
وأنا لا يمكنني على كل حال أن أترك هذه الأماكن، وأذهب معكما إلى الحوانيت التي تشيران بها، وأخشى أن يراني بها أحد ممن يعرفني فأصغر في عينه.
التاجر :
إذا كان الأمر كذلك فأنا على رأيك.
الخليع (للعمدة) :
لا مناص لك حينئذ فضعيفان يغلبان قويا فادخل بنا «النيوبار».
قال عيسى بن هشام: فدخلوا ودخلنا معهم، وجلسوا وجلسنا على مقربة منهم، وما خلع الخليع طربوشه حتى نزع العمدة عمامته، وما ضرب الخليع بيده على المائدة حتى صفق العمدة بيديه، فحضر الخادم ومعه قائمة الألوان، فتناولها العمدة ونظر فيها نظر المريض إلى وجود العود، ثم ناولها للخليع ليقرأها فأخذها وتأمل فيها وشرع يسرد الألوان حتى انتهى منها، والعمدة لاه عنه والتاجر منصت إليه.
الخليع (للعمدة) :
ماذا تحب وتختار؟
العمدة :
أختار المرق ومن بعده لحم الفرن أو الكبما.
التاجر :
وأنا أطلب كبابا وقرعا وأرزا.
الخليع :
وأنا أختار «فاتحة الطعام» أولا، ثم خلاصة اللحم بالبيض وأرزا بفاكهة البحر ودجاجة بعش الغراب وسمانا بالكمأة، وهليونا بالزبدة.
العمدة :
ما هذه الأسماء الغريبة؟
الخليع :
هي أطعمة خفيفة لا تقوى معدتي على هضم غيرها.
التاجر : «كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس.»
قال عيسى بن هشام: فيذهب الخادم ويجيء للخليع بفاتحة الطعام من زيتون وفجل وسمك مملح وزبدة، فيتأمل العمدة فيها ثم يميل على قطعة الزبدة فيبتلعها وهو يقول: أزبدة وسمك؟ فيطلب الخليع سواها، ثم يأتي الخادم بصحن المرق للعمدة، فيجده قد أكل ما كان وضعه أمامه من الخبز وعطف على خبز الخليع يأكل منه، فيأتيه الخادم بنصيب آخر فيتناوله العمدة ويفته في صحن المرق حتى يمتلئ ويفيض على المائدة، ثم إنه انحنى فأنحى عليه وصفق يطلب صحنا آخر وخبزا آخر، وهو يميل في هذه الأثناء على طعام الخليع، فيأخذ قطعة من الدجاجة ويضعها أمامه، ويحاول قطعها بالشوكة والسكين فتفلت منه إلى الأرض فيقوم فيلتقطها ويأكلها باليد، ثم يأخذ جزءا من عش الغراب فيقضم منه فلا يألفه فيمجه ثم يرده إلى صحن الخليع ثانية ويقول: ما هذه القشور التي يطبخونها هنا وهي عندنا شائعة على الجسور تفحص عنها الخنازير في الأرض بأرجلها فتستخرجها ولا تأكلها، فتبقى ملقاة على ظهر الطريق لا يمسها إنسان ولا حيوان، ثم يأتي الخادم بالمرق فيطلب منه خبزا آخر فلا يكفي لامتلاء الصحن، فيعاود الطلب فيمل الخادم ويقول له: إنما أنت هنا يا سيدي في مطعم لا في مخبز.
الخليع (للخادم) :
ما هذا الكلام البارد «يا جورج»؛ أليس لكل شيء ثمن هنا؟ ونحن نأكل بدراهمنا ما نشتهي ونطلب ما نريد.
الخادم (للخليع) :
لا مؤاخذة فإن كلامي ليس موجها إليك.
الخليع :
إن لم يكن الكلام لي فهو لصاحبي، وصاحبي هذا أعز علي من نفسي.
العمدة :
دعه يأت لنا بخبز ولو بالثمن ولا تشغل نفسك بما يقول مع أنه يقال: إن هذه المطاعم العالية تبذل الخبز للآكلين مجانا.
التاجر (للخادم) :
أعطني أيضا لونا من الخضر.
العمدة (للخليع) :
قل للخادم يحضر لي مع لحم الفرن فحل بصل.
الخليع :
كل شيء يجوز إلا أكل البصل في هذه الليلة.
العمدة :
لا مؤاخذة فإن النفس الملعونة ذهبت إليه من غير ترو.
التاجر (للخادم) :
ائت لي بشيء من الحلوى أو الفاكهة.
العمدة :
إذا كان في الفاكهة برتقال أو بلح فأعطني منه.
الخليع :
ولا تنس «يا جورج» أن يكون في نصيبي من الفاكهة «مانجو» و«قشطة خضراء» و«موز» و«أناناس».
العمدة (للخليع ممازحا) :
ومن قال: إنك لست من الناس؟
الخليع (للخادم) :
هات زجاجة نبيذ أخرى بغبارها.
قال عيسى بن هشام: ولما حضر الخادم بالفاكهة وانصرف أسرع العمدة بيده إليها، فانتقى من كل فاكهة زوجين ودسها في جيبه وهو يقول: هذه تنفعنا للتنقل بها على الشراب فيما بعد، ثم حضر الخادم بآنية من البلور الملون فيها ماء وقشر ليمون، فوضع أمام كل واحد منهم إناء، فهم العمدة بشرب إنائه في الحال، فبادره الخليع ونزعه بيده عن فمه.
العمدة :
لماذا تمنعني عن شرب هذا «الخشاف»، وقد أنعشتني منه رائحة الزهر؟
الخليع :
هذا يا سيدي ماء لغسل أطراف الأصابع بعد الأكل.
التاجر :
من عاش رأى!
العمدة (للخادم) :
الحساب «يا خواجا».
التاجر :
القهوة.
الخليع :
الخلال مع كأس من «الكونياك» بجانب القهوة، ويأتي الخادم بجميع هذا فيتناول العمدة ريش الخلال فيتخلل بريشة، ثم يعيدها إلى مكانها، ويأخذ أخرى فينكش بها أذنه ثم يمسح ما علق بها في غطاء المائدة، ثم يلتفت إلى الخليع ويطلب منه أن يقرأ قائمة الحساب ويخبره بكميته.
الخليع :
أربعون فرنكا.
العمدة :
اقرأ جيدا فإن هذا غلط فاحش.
الخليع :
قد قرأت وحسبت وأعرف أنهم لا يغالطون هنا.
العمدة :
ما هذا النهب والسلب، وما هذا الإسراف والتبذير؟ لو كنا ذهبنا إلى مكان من الأماكن التي عددناها قبل دخولنا هنا لكنا ملأنا البطون، وتمتعنا بالطعام الكثير مع الثمن القليل، ولو كنا توجهنا إلى المحل الذي أبيت فيه لكنا وجدنا من الأكل ما يكفينا بغير ثمن؛ لأن في غرفتي برمة أرز بحمام مما أحضرته معي من البلد، ولا شك في أن الخادم يريد أن يستغفلنا فزاد في الحساب ما أراد، وأنا رجل لا أقبل الغفلة على نفسي ولا أدفع هذا الحساب، وسأكشف لكما هذا الغش بكل طريقة، فإنه يهون علي أن أبدد عشرة جنيهات في الهباء ولا يهون علي أن أدفع قرشا واحدا بطريق الغش والاختلاس. (ثم إنه رفع كأس النبيذ وهو في حدته فصك به قدحا آخر ممتلئا لاستدعاء الخادم، فانقلب الكأس وأهرق النبيذ على غطاء المائدة، فحضر الخادم فعز عليه ما رأى.)
الخادم :
ما هذه الليلة السوداء؟
العمدة :
هذا ما أقوله أنا أيضا، فقل لي ما هذا الغلط في الحساب؟ وهل تريدون أن لا يدخل محلكم بعد اليوم أحد؟
الخليع :
هل في الحساب غلط «يا جورج»؟
الخادم :
وأي غلط يكون في الحساب بعد الذي حصل، وهذا هو بيان الثمن أمام كل صنف؟
العمدة :
أي حساب وأي بيان! ولكنك أنت الكاتب له.
الخادم :
نعم أنا الكاتب له ولكنك أنت الآكل له.
العمدة :
وهل أكلنا أربعين صحنا حتى ندفع أربعين فرنكا؟
الخادم (للخليع) :
أرجوك أن تقنعه.
العمدة :
وهل أنا جاهل حتى يقنعني؟
الخليع (وهو قائم) :
حاشا لله يا سيدي.
التاجر (للخليع) :
إلى أين؟
الخليع :
أراهم وضعوا في لوح التلغرافات السياسية تلغرافا جديدا أريد أن أقرأه.
الخادم (للعمدة) :
أعطني الحساب ولا تعطلني عن الشغل.
العمدة :
هاك عشرين فرنكا لا أدفع سواها.
الخادم :
ليس هنا محل المساومة في ثمن الطعام بعد أكله.
التاجر :
زده فرنكين.
الخادم :
لقد كان الأولى بكم أن تأكلوا في غير هذا المكان ما دمتم بهذه الصفة.
التاجر :
لا تغلط «يا خواجا»، فإن حضرته يأكل في مثل هذا المكان، وفي أعظم منه، ولكنه يحب الأمانة ويكره الاستغفال.
الخادم :
وهل أنا خائن؟ وأنا صاحب شرف مثلك ومثل أعظم منك.
التاجر (للعمدة) :
حقيقة إنه لقليل الحياء.
العمدة :
وحياتك لا أخاف منه ولا يأخذ مني غير هذا المبلغ.
صاحب المحل (وقد حضر مع الخليع) :
ماذا جرى؟
العمدة :
خادمك يسرقنا ويشتمنا.
صاحب المحل :
هذا كلام لا يقال عن محلنا.
التاجر :
وذاك كلام لا يقال لنا.
صاحب المحل (للخليع) :
عهدي بك لا تصاحب إلا الكبراء والظرفاء، فما هذا الشيخ الذي جئتنا به هذه الليلة، وقد شاهدته من مكاني يفعل أفاعيل انتقدها جميع الحاضرين، فإنه كان يبلع الزبدة، ويطوي الخبز، ويمد يده إلى صحن سواه، ويعيد إليه فضلة ما يأكله، ويتناول قطعة الدجاجة من الأرض فيلتهمها، ويلوث المائدة بالمرق والنبيذ، ويمسح يده في الغطاء، ويكسر الكأس ويختلس الفاكهة فيضعها في جيبه، ويهم بشرب ماء الغسل، وينكش أذنه بريشة الخلال، ولم يكتف بهذا كله حتى أخذ يغازل السيدات ويغامزهن، فقمن مستقبحات مستنكرات، وقام كثير من المترددين على المحل اشمئزازا من هذه الأفاعيل، ولا أشك في أنه إذا حضر عندنا شيخ آخر مثل هذا أن يبتعد الناس ويتعطل المحل.
الخليع :
لا تلقبه بلقب شيخ فإنه سعادته من الحائزين للرتبة الثانية، وله سعي في رتبة التمايز، ولا تستصغر قدره فهو من كبار الأغنياء في الأرياف.
صاحب المحل (للعمدة) :
لا تؤاخذ الخادم يا سعادة البك فهو على كل حال خادمك والمحل محلك.
العمدة (للخادم) :
يجب عليك أن تعرف الناس وتتعلم حسن المعاملة من حضرة الخواجا صاحب المحل، ووالله لولا حسن ذوقه ولطفه لما زدت عن العشرين فرنكا، ولكني أعطي الآن ما تطلبه مراعاة لخاطره عن طيب خاطر وحسن رضاء.
صاحب المحل (للخادم) :
اسأل حضراتهم ماذا يشربون على حساب المحل لتأكيد المعرفة والمسامحة فيما حصل.
قال عيسى بن هشام: ثم مال الخليع على العمدة يشير عليه بأن يطلب دورين من الشرب لإكرام صاحب المحل في مقابلة إكرامه لهم، فطلب العمدة ثم طلب، وشرب ثم شرب، وقام بعد الدفع يتمايل ويتثنى، ويتثاءب ويتمطى ويشكو للخليع فعل الكأس، وهجوم النعاس، فيقول له: هذه عادة تكون عند الامتلاء، ولا يصرفها إلا كئوس الصهباء، فهيا بنا الآن، نذهب إلى الحان، فخرجوا وخرجنا من ورائهم نستقصي بقية أنبائهم.
العمدة في الحان
قال عيسى بن هشام: وأخذوا طريقهم إلى الحان المقصود، والحوض المورود، وفيما نحن نسير، بين تقدير وتفكير؛ إذ التفت الباشا إلى ذلك الفندق الكبير، بل الخورنق والسدير،
1
فرأى فيه شموس الكهرباء مشرقة، وينابيع الضياء متدفقة ، يلوح فيها زنجي الليل بقميص أبيض، ويبدو فيها أديمه كالآبنوس المفضض، وعمد المصابيح كأنها أغصان الأشجار، أزهرت بالأنوار مكان الأنوار، فصار كل عمود منها عمود فجر، يفجر ثغرة الدجنة أي فجر، وكأن منثور الشموع في ظلمة الحلك، منثور النجوم في قبة الفلك، ورأى تحتها صفوفا من الرجال، بين صفوف من ذوات الحجال، على سرر متقابلين، وأرائك متكئين، يسعدهم الجد المقيم، ويرفرف عليهم الرفه والنعيم، فطفق يسألني: أتراه محفلا ليوم أنس؟ أم زفافا في بيت عرس، أم تراها ليلة مهرجان، لقبيل من الجان، نسوا تفاوت الجنس، فأنسوا إلى الأنس، وهجروا جوف الأرض لظهرها ودرجوا من بطنها إلى حجرها؟ فقلت له: نعم هؤلاء شياطين الإنس يطوون البر والبحر، ويقطعون الحزن والوعر، ويطيرون في السماء، ويمشون على الماء، ويخرقون الجبال، وينسفون القلال، ويقلبون الآكام وهادا، ويبسطون الربى مهادا، ويجعلون القفار بحارا، ويحيلون البحار بخارا، ويسمعون من بالمشرقين، أصوات من بالمغربين، ويستنزلون لبصرك أنأى الكواكب، ويعظمون في عينك أوهى العناكب، ويجمدون الهواء، ويذيبون الحصباء، ويستحدثون الأنواء، ويزنون الضياء، ويستشفون خبايا الأحشاء، ويكشفون خفايا الأعضاء، فقال لي: أئنك لتحدث عن جن سليمان، في هذا الزمان، قلت له: هؤلاء سياح الغربيين أهل المدنية والحضارة، الناظرون إلى الشرقيين بعين المهانة والحقارة، فإن نظروا إليهم من جهة العزة فنظرة العقاب من شماريخ رضوى وثبير
2
إلى جنادب الرمل وضفادع الغدير،
3
وإن نظروا إليهم من طريق العلم، فنظرة معلم الإسكندر عالم العلماء إلى صبي يتهجى في العين والياء، وإن نظروا إليهم من باب الصناعة، فنظرة «فيدياس» صانع التماثيل والدمى
4
إلى بناء يقيم أكواخ القرى، وإن نظروا إليهم من جهة الغنى، فنظرة صاحب المفاتيح التي تنوء بالعصبة إلى أجير ينضح عرقا تحت القربة، وإن نظروا إليهم من جهة الفضائل النفسانية، فنظرة الحكيم «سقراط»، شارب السم غراما بالفضيلة، إلى الشرير «أرسطراط» حارق المعبد ولعا بالرذيلة، تلك دعواهم في نفوسهم، وقولهم بأفواههم.
وهم في رحلتهم إلى الشرق على ضربين: أهل الفراغ والجدة الذين أبطرهم الغنى وألهاهم الاستمتاع ببدع المدنية ولم يبق في أعينهم جديد، فانتقمت منهم الطبيعة في خروجهم عن سننها فسلطت عليهم داء الملل والسأم، فأصبحوا هائمين على وجوههم في الأقطار والبلدان، وحطتهم القدرة إلى الاستشفاء من ذلك الداء بالتنقل في البلاد المنحطة عنهم في درجات المدنية والإقامة في الأقطار الباقية دونهم على الفطرة الغريزية، والضرب الثاني منهم أرباب العلم والسياسة وأهل الاستعمار والاستنفاض
5
يستعملون علومهم، ويعملون أفكارهم في احتلال البلدان وامتلاك البقاع، ومنازعة الناس في موارد أرزاقهم ومزاحمة الخلق في أرضهم وديارهم، فهم طلائع الخراب أدهى على الناس في السلم من طلائع الجيوش في الحرب.
قال عيسى بن هشام: وانقطع الحديث بدخول أصحابنا في الحان، واصطفافهم حول الدنان، فأخذنا مجلسنا بقربهم، ننظر ما يصنع بهم، وإذا الخليع يلتفت عن اليمين والشمال، ويبادر الخادم بالسؤال:
الخليع (للخادم) :
ألم يشرف دولة «البرنس» هنا في هذه الليلة؟
الخادم :
هو في داخل المكان وسيعود إلى مجلسه في الحال.
العمدة (مدهوشا) :
هل يجيء هنا البرنسات، وهل يليق بنا أن نجلس للشرب في مكان يحضروننا فيه، فلم اخترت هذا المحل ولم لا نذهب إلى محل سواه؟
الخليع :
لا بأس علينا هنا وسترى كيف أفعل حتى لا تخرج من هنا إلا والبرنس مصافحك ومجالسك.
العمدة :
لا تهزأ بي ولا تمزح، فأين نحن من البرنسات؟
التاجر (للعمدة) :
لا تستبعد ذلك، فإن لبعض البرنسات أخلاقا واسعة ونفوسا ترابية، ومن رأيهم الاختلاط بالناس والتساوي بهم في مجتمعاتهم ومعاملاتهم.
العمدة (للخليع) :
وهل لك معرفة سابقة به؟
الخليع :
كيف لا أعرفه ولي معه جلسة في كل ليلة؟ وكثيرا ما أوصلته آخر الليل إلى قصره.
العمدة :
إنك لتبالغ؟
الخليع :
لا مبالغة ودونك البرهان.
قال عيسى بن هشام: ويقوم الخليع واقفا عند عودة البرنس إلى مجلسه، فيومئ البرنس إليه بالسلام فيتبعه إلى مائدة عليها صنوف وألوان من الخمر والنقل فيجلس بجانبه مع الجالسين حوله يخاطبه بصوت يسمعه العمدة من مكانه:
الخليع :
لا زال أفندينا في أسعد حال وأنعم بال.
البرنس :
وأين أنت؟ فقد سألت عنك مرارا.
الخليع :
أنا في الخدمة تحت أمر أفندينا وعند طلبه ، وما منعني عن المبادرة إلى مجلسكم العالي إلا اصطحابي بصاحبين أحدهما من عمد الأرياف والآخر من تجار الثغور، لصقا بي للبقاء معهما وألحا علي أن أصحبهما.
أحد الجلساء (ممازحا) :
لا بل تسحبهما.
البرنس (منكتا) :
وهل هنا «زريبة» يا بك؟
جميع الجلساء (ضاحكين) :
لله در أفندينا في هذه النكتة فما ألطفها وأرقها!
البرنس :
أنا لم أتعلم التنكيت ولكن يصادفني منه بعض كلمات في بعض الأوقات.
أحد الجلساء (لآخر) :
انظر بالله يا أخي حدة البرنس في لطافته، وشدته في رقته، وقوة إدماجه في ألفاظه.
الجليس :
وأنت ما شاء الله ما أفصحك الليلة في تعبيرك! وما أبلغك في كلامك! أأنت تأخذ هذه الجمل عن الجرائد؟
البرنس (للخليع) :
ماذا تشرب؟
الخليع :
العفو يا مولاي فلا بد من الرجوع إلى صاحبي أولا حتى أتخلص منهما.
البرنس :
وهل هما من الأغنياء المعتبرين؟
الخليع :
أما العمدة فإنه يمتلك ألف فدان، وللتاجر في بلده أعظم خان، وللعمدة عشرة وابورات للري وعنده الرتبة الثانية، وللتاجر وابور للحليج وعنده وعد بالثالثة.
البرنس :
لا تحرمنا من وجودك ولا بأس من استدعائهما للجلوس معنا.
أحد الجلساء (لآخر) :
قم بنا نفسح لهما.
الجليس :
انتظر قليلا حتى يأتي «الدور» المطلوب مع صحن بلح البحر الذي أوصى عليه البرنس آنفا. (قال عيسى بن هشام: وينصرف الخليع إلى صاحبيه لإحضارهما، فينهض له العمدة وافقا لتبجيله وتعظيمه، فيسقط من يده «فم السجارة» على الرخام فينكسر فينحني إلى الأرض يجمع شظاياه، ويظهر عليه من الأسف والكدر ما لا يقدر، فيجره الخليع إليه ويقول له):
الخليع :
لا يليق بنا أن نكون على هذه الحال من الأسف لأجل هذا «الفم»، فإن البرنس ينظر إلينا، وقد جئت لك بدعوة منه للجلوس معه.
العمدة :
ليس أسفي على «الفم» في ذاته؛ بل لأنه تذكار عندي من حضرة مأمور المركز، كنت أهديته فرسا فأهداني إياه؛ فهو ثمين عندي من هذه الجهة، ولكن قل لي كيف يدعوني دولة البرنس إليه، وكيف ذكرتني له؟
التاجر :
أي نعم قل لنا كيف كان ذلك وهل جرى لي ذكر عنده أيضا؟
الخليع :
قد قلت ما قلت وذكرت ما ذكرت، ويقال في المثل: «أرسل حكيما ولا توصه».
العمدة :
أحب أن أسمع تفصيل ما دار من الكلام بشأني، فإني رأيته يضحك كثيرا وأنت تكلمه.
الخليع :
أخبرته بقصتك مع سمسار القطن ولطف حيلتك معه حتى حرمته أجره.
التاجر :
وعلى ذكر السمسار هل تعلم أن دولة البرنس باع قطنه في هذا العام؟
قال عيسى بن هشام: فكان جواب الخليع أن أخذ بيد العمدة وتبعهما التاجر حتى صاروا أمام مائدة البرنس، فطأطأ العمدة إلى ركبة دولته، فدفعه بيده فاستلمها العمدة وقبلها مرارا بطنا وظهرا، فتبسم له البرنس وأشار إليه بالجلوس، فامتنع واستمر واقفا ويداه إلى صدره حتى أقعده الخليع مع التاجر بجانبه بعد شدة الإلحاح.
البرنس (لأحد جلسائه) :
لا تنس أن تذكرني غدا بتصوير الفرس «سيرين»، فإن «الدوك أوف بروك» أرسل إلى صاحبنا المستشار يطلب مني صورتها ليعرضها في معرض السباق بلوندره.
الجليس :
الأوفق أن يكون ذلك بحضور المستشار في اليوم الذي عينه أفندينا له للغداء مع مفتش الري.
البرنس (للعمدة) :
ماذا تشرب يا حضرة الشيخ ... يا بك؟
العمدة (واقفا على قدم التاجر) :
ألتمس السماح يا مولاي فإني لا أشرب شيئا.
التاجر (متململا من الألم) :
العفو يا أفندينا أستغفر الله فإن ذلك لا يليق في حضوركم.
البرنس :
لماذا جئتما هنا إن لم تشربا؟
الخليع :
يشربان حسب أمر دولتكم فالامتثال فوق الأدب.
قال عيسى بن هشام: ويتناول الخليع «علبة السجارات» من أمام البرنس، فيعطي للعمدة واحدة وللتاجر واحدة فيتحاشى العمدة إشعالها في حضرة البرنس ظاهرا - وربما كان غرضه الباطن إبقاءها لديه أثرا من البرنس يفتخر به عند أقرانه - ثم يأتي أحد باعة الزهور، فيهمس في أذن البرنس بكلام يقهقه له، ويأمر الخادم أن يعطيه كأسا فيشربه وينصرف، ثم يلتمس الخليع من البرنس أن يسمح للعمدة بطلب زجاجة من «الشمبانيا»، فيسمح له ويلتفت إلى العمدة يخاطبه بقوله:
البرنس (للعمدة) :
كيف حال المحصول عندكم، وكم رمى الفدان من القطن؟
العمدة :
رمى الفدان عندي سبعة بأنفاس دولتكم.
التاجر :
المحصول جيد ولكن الأثمان في هبوط، وهل باع دولة أفندينا أقطانه أم هي باقية؟
البرنس (لأحد جلسائه) :
أنا لا أدفع في ثمن الخنجر الذي رأيناه اليوم أكثر من عشرين جنيها، ولو كان عليه تاريخ صنعه لدفعت ما يطلبه صاحبك فيه.
الجليس :
لا بأس به إلى الثلاثين.
البرنس :
ما الذي تراه في مسابقة الخيل غدا؟
الجليس :
أرى فرس البرنس سابقا بغير شك.
قال عيسى بن هشام: ولما جاءت الزجاجة المطلوبة بادر العمدة إلى جيبه، فأخرج منه ذلك الموز فمسح واحدة منه وقدمها إلى البرنس، ووزع البقية على الحاضرين، فيجد أحدهم صوفا متلبدا في الموز فيعافه ويتركه على المائدة.
أحد الجلساء (للعمدة) :
هل هذا الموز من زراعتكم، وهل تنضجونه في الصوف عندكم؟
العمدة :
كلا يا سيدي بل هو موز «النيوبار»، ولم يمكث في جيبي غير مسافة الطريق، ومعي أيضا برتقال أحمر وبلح أصفر وقشطة خضراء.
أحد الجلساء :
أظن أن لكم شركة مع حسن بك عيد في تجارة الفاكهة؟
التاجر :
حضرته لا يشتغل بالتجارة، وليس كل الناس من يقدم عليها فهي ربح محفوف بالخطر.
العمدة (للخادم) :
أحضر لنا أيضا زجاجة شمبانيا إنكليزي.
أحد الجلساء (لآخر) :
يظهر أن الفدان رمى بعشرة.
الجليس :
في البنك العقاري.
البرنس :
وما معني إنكليزي؟
الجليس :
يعني أنها من جنس الجنيه.
قال عيسى بن هشام: وفي هذه الأثناء يعود بائع الزهور فيلقي في أذن البرنس كلاما، فيقوم البرنس في الحال ويخرج والبائع في أثره، ثم يتسلل الجلساء من بعده واحدا واحدا فلا يبقي منهم أحد، وتخلو المائدة للعمدة فيشرب سؤر الكأس التي تركها البرنس، ويميل على ما بقي في آنية النقل فيأتي عليه أكلا.
التاجر (للعمدة) :
ينبغي أن تطلب من الخادم غيرها قبل حضور دولة البرنس.
العمدة :
أنا لا أطلب شيئا إلا في حضور دولته.
الخليع :
أظن أن دولته لا يعود في هذه الليلة، وهذه عادته إذا هو قام مع أحد الباعة عند تمام نشوته.
العمدة :
ولكنني لم أره دفع شيئا من الحساب.
التاجر :
لعل له هنا حسابا جاريا.
الخليع :
نسأل الخادم.
العمدة (للخادم) :
ألم يدفع دولة البرنس شيئا؟
الخادم :
لم يدفع شيئا قبل خروجه.
الخليع :
وكم الحساب؟
الخادم :
مائة وواحد وعشرون فرنكا.
العمدة :
أنا لا أصدق أن أفندينا يخرج من غير أن يدفع ما عليه من الحساب، ومع ذلك فلننتظر عودته.
الخادم :
إذا قام البرنس على هذه الصورة فإنه لا يعود، وإن أردت أن لا تدفع ثمن ما شربه البرنس فأنا أقيده في حسابه.
العمدة :
وأنا إذا كنت أدفع شيئا، فلا أدفع إلا ثمن ما شربه دولة البرنس وحده. (وفيما هم على هذا النزاع؛ إذ دخل أحد وكلاء المديريات، فينهض العمدة لمقابلته ويلح عليه في الجلوس معه، ثم يلتفت إلى الخادم بصوت عال):
العمدة :
علي بتفصيل الحساب وبين لي فيه ما شربه دولة البرنس، وما أكله دولة البرنس، وبكم شرب أصحاب البرنس، وكم شربنا مع البرنس، وكم شرب قبلنا البرنس، واسأل سعادة البك الوكيل ماذا يشرب وعد لأدفع لك كل الثمن المطلوب.
الوكيل :
أنا لا أشرب شيئا.
العمدة :
كيف لا تتفضل علينا بالشرب معنا كما تفضل دولة البرنس إرضاء لخاطرنا؟
الوكيل :
لا بأس أن أشرب كأسا واحدا من «الكنياك».
العمدة :
لا والله لا تشرب إلا «شمبانيا» كما شرب معنا دولة البرنس.
الخليع (للعمدة) :
لماذا لم تقدمنا للتعارف بسعادة البك؟
العمدة :
سعادته وكيل مديريتنا، وحضرته (مشيرا إلى التاجر)
من أكابر التجار، وحضرته (مشيرا إلى الخليع)
من ظرفاء مصر.
الخليع (للوكيل) :
تشرفنا بهذه المعرفة، وكيف حال سعادة المدير، فهو من أعز أصحابي وطالما قضينا معه أوقات أنس وسرور؟
العمدة (للوكيل) :
أظن أن سعادتكم حضرتم إلى مصر في عقب كشف الرتب المقدم إلى الداخلية.
الوكيل :
نعم كنت اليوم في الداخلية، وسينتهي الأمر إن شاء الله على ما نحب.
العمدة (للخادم) :
زجاجة شمبانيا أخرى.
الوكيل :
يكفي فإني أريد أن أنتقل إلى داخل المكان في مجلس إخواننا القضاة ووكلاء النيابة.
الخليع :
لا لزوم؛ لانتقال سعادتكم، فأنا أدعوهم للجلوس معنا وفيهم فلان وفلان من أعز أصدقائي.
الوكيل :
لا تكلف خاطرك بذلك، فإن الأليق أن أذهب للجلوس معهم.
العمدة (للوكيل) :
إذا كان الأمر كذلك، فكلنا نقوم مع سعادتكم ويأتينا الخادم بزجاجة الشمبانيا هناك.
الوكيل :
إن أردت ذلك فلا بأس.
قال عيسى بن هشام: فيقومون فيجلسون مع أهل ذلك المجلس، ويحضر الخادم بزجاجة الشمبانيا فيرجوهم العمدة الشرب منها فيمتنعون، فيشدد فيمتنعون؛ فيقسم عليهم بالطلاق وهو يتلعثم سكرا إلا شربوا معه، ثم يتناول الكأس ويقوم متساندا على الخليع ليشرب معهم فما يكاد يضع الكأس في فيه حتى تأخذه غصة فلا يملك نفسه عن رد الفعل فتتلوث ثيابه، ويبادر الخليع مع الخادم إلى سحبه داخل المكان ليصلح ما فسد من أمره.
ثم لبثنا مدة ننتظر العمدة، ونترقب له الرجعة والعودة، حتى أقبل يتهادى في مشيته، بعد أن أفاق من غشيته، وعمد إلى الخروج والخليع عن يمينه يناجيه، والتاجر عن شماله يرائيه ويداجيه.
العمدة في المرقص
قال عيسى بن هشام: ولما خرجوا من ذلك المحفل، ونحن أتبع لهم من الظل، سمعنا العمدة يشكو للخليع في طريقه، ما يجده من انقباض الصدر وضيقه، ويسأل التفريج لكربه، والترويح عن قلبه، ويذكره بما كان من الوعود، ويطالبه بزيارة ذلك المجلس المعدود، ويقول له: تالله لقد أنصبتنا وأجهدتنا، فهلم بنا الآن إلى ما وعدتنا، لنربأ عنا الهم بربيئات الخدود.
ونكشف عن الغم بكاسفات البدور، ونجلو أعيننا بنجل العيون، وننعش أنفسنا بناعسات الجفون، ونستصبح ليلتنا بالوجوه الصباح، قبل أن يصبحنا جيش الصباح، فيقطع عليه الخليع كلامه، ويدفع عن نفسه ملامه، بأن طول الانتظار، يذهب بحسن الاصطبار، ولا صبر لذوات الدلال، على خلف الوعود من الرجال، وقد جاءني رسولها في غفوتك برسالة، تشكو فيها ما لحقها من السآمة والملامة، وتنحي علي بالعتاب المر، وأن ما فعلته معها ليس بفعل الحر؛ إذ اخترقت من أجلنا ما اخترقته من السجوف والكلل،
1
وتحملت في مجيئها ما تحملته من الخوف والوجل، حذر الوشاة والرقباء، وخشية الأهل والقرباء، ثم إنها أقامت طويلا في انتظار اللقاء، وهي على مثل حر الرمضاء، فإذا الوعد بلا وفاء، وإذا الدين بلا قضاء، وكأنما كانت تنتظر غائبا لا يؤوب ، وتستمطر سحابا لا يسح ولا يصوب، فذهبت بحسرتها، ومضت لطيتها،
2
وفاتنا ما كنا نبتغيه، وأيأسنا ما كنا نرتجيه، وتلك فرصة أضعناها، لنزغة شيطان أطعناها، فيقول التاجر: إذا ما الذي اكتسبناه، بعد الذي احتسبناه؟ وماذا أفدناه، بعد الذي فقدناه؟ وأين منا ما نجم به شملنا، ونبدد به ليلنا؟ فيقول له الخليع: لم يبق أمامنا في هذه الساعة سوى ملاعب الرقص والخلاعة، عسانا نجد فيها بديلا، مما لم نجد إليه سبيلا، فيخرج العمدة دراهمه فيعدها، ثم يخشخش بها ويردها فيقول له التاجر: لا تهتم فدرهم الأنس ميسر، ويقول للخليع: تقدم، فما من شيء عليك معسر، فيعطف بهما الخليع من غير إبطاء، إلى حان للرقص والغناء، فدخلوه ودخلنا من خلفهم، وجلسوا وجلسنا في صفهم، فرأينا المكان حومة وغى احتدم وطيسه، وميدان حرب اصطدم خميسه،
3
عجاجته الدخان، ومتارسه الدنان، وسلاحه الأباريق والأقداح، ودروعه الغلالة والوشاح، ونباله أصمة القوارير،
4
وطبوله توقيع العيدان والمزامير، ومغافره العصائب والأكاليل،
5
وأعلامه المآزر والمناديل، وقواده وشجعانه، قواده وغلمانه، وكأن منصة الرقص هي حصنه الحصين، وصاحب الحان هو قائد الكمين، وكأن المغنين هم الكماة والأقران والراقصات الحماة والفرسان.
أولات الظلم
6
جئن بشر ظلم
وقد واجهننا متظلمات
فوارس فتنة أعلام غي
لقينك بالأساور معلمات
وترى كل ذات ثدي حاسر بارز تنادي: هل من منازل أو مبارز؟ ثم تتبختر وتجول، وتخطر وتصول، فترمي كل طامع في وصالها، بسهام اللحاظ ونصالها، ثم ترشق بها الدنان تارة فتسيل بدم العقار، وتشق بها الجيوب أخرى فتسيل بدم النضار:
وقد أغمدن في أزر ولكن
سيوف لحاظهن مجردات
قد حن زناد شوق من زنود
بنار حليها متوقدات
وترى في وسط تلك المعركة، من كل هلوك مهلكة،
7
تنساب في حلة رقصها وتسعى، كأنها حية في قميصها أو أفعى، لعاب الأفاعي القاتلات لعابها، وأنياب الأسود الضاريات أنيابها، تنفث السم رائحة وتنتهش غادية، وإن رأيتها شادنة وسمعتها شادية، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.
قال عيسى بن هشام: ولما طال جلوسنا، وضاقت أنفاسنا، وكاد يغمى علينا من كريه الروائح المنبعثة من أرجاء المكان المتصاعدة من أكنافه: رائحة عكر الخمور، ورائحة عرق الأبدان، ورائحة زيت المصابيح، ورائحة الدخان والحشيش، ورائحة أنفاس المخمورين، ورائحة تلك المراحيض التي لم يدخلها ماء، ورائحة الأرض التي تسقى بالأقذار ولم تسطع فيها شمس ولم يتغير عليها هواء، فإذا امتزجت هذه الروائح بعضها ببعض، انعقدت منها في جو المكان سحابة سوداء تمطر الأدواء، وتساقط الأوباء، فتستنشقها الأنوف وتمتصها الرئات وتضوى بها الأجسام وتتضاءل منها ذبالات المصابيح تضاؤلها في أجواف المناجم وبطون الكهوف، وكاد الباشا يختنق وهم به الغثيان فهم بالقيام فأمسكت به وقلت له:
عيسى بن هشام :
أيصير مثلي على هذا المقام، ولم أشهد في عمري معركة ولم أحضر معمعمة، ثم يجزع منه مثلك وقد مارست الحروب وشاهدت الوقائع تحت سحب العجاج وفوق جثث القتلى، وأشلاء الجرحى لا تبالي برائحة الجيفة، ولا برائحة الدم ممزوجا بصدأ الحديد؟
الباشا :
لقد كان ذلك ولكن في الخلوات والفلوات، حيث تسطع الشمس وتجري الرياح، ولم أستنشق تلك الروائح منحصرة كانحصارها في هذا المكان، ومع ذلك أتجلد مثلك للبقاء به كيلا يفوتنا شيء مما نحن بصدده من بداية الأمر إلى نهايته.
وبينا نحن كذلك إذا بصديق لي دنا مني فسلم علي، وأظهر لي تعجبه من دخولي هذا المحل، فأظهرت له تعجبي من دخوله أيضا فأجابني بقوله:
الصديق :
إن السبب في دخولي هنا هو البحث عن رجل احتال علي في بعض الشئون ثم غاب عن نظري، وأنا أعلم أنه يأوي إلى مثل هذا المكان فدخلته على كره مني بعد أن حرمت على نفسي التردد عليه منذ زمان بعيد، وحكم الضرورة مطاع، ولكن قل أنت ما الذي جاء بك إلى هذا الوكر وكر الأفاعي، وأدخلك في هذا العش عش الشيطان؟
عيسى بن هشام :
أدخلنا فيه حب الاستطلاع والاستكشاف عن الأخلاق والعادات، ولكنني فيه غريب لا أفقه كثيرا مما أرى، والحمد لله الذي سخرك لنا في هذه الساعة؛ لتبين لنا ما غمض وتبدي لنا ما يخفى.
الصديق :
لك ذلك مني وفوق ما تريد.
قال عيسى بن هشام: وجلس الصديق معنا يحدثنا ويرشدنا، ويسرد علينا من غرائب الوقائع وعجائب النوادر في هذا الباب ما أدهشنا به، ثم انقطع الحديث بيننا بدخول رجل يتمايل سكرا، فاخترق صفوف الجالسين وقد سكنت ضوضاؤهم، وهدأت حركاتهم لسماع الغناء من إحدى القيان البارعات فيه، فأعناقهم نحوها مشرئبة وأبصارهم إليها شاخصة كأنهم جالسون تحت المنبر يستمعون أحسن الحديث من وعظ الخطيب، واستمر السكران في سيره يقع بينهم مرة ويقوم أخرى، حتى وصل إلى منصة الرقص والغناء، فضرب عليها مرارا بعصا في يده ونادى على من فيها بأعلى صوته يطلب العدول عن الغناء إلى الرقص، فلم يسمعوا لندائه، فالتفت إلى زمرة من الجالسين وطلب منهم مساعدته على غرضه فنادوا معه: الرقص الرقص، ونادى الراغبون في السماع: الغناء الغناء، فانبرى لهم السكران يهزأ بذوقهم ويسفههم في سوء اختيارهم، فأجابه سفيه منهم على سفاهته، فهجم عليه السكران بعصاه فقفز صاحب الحان من مكمنه إلى السكران فأخذ بتلابيبه، ويقوم طالب الغناء حينئذ من مكانه فيشبع السكران ضربا وصفعا فيتعلق السكران بخناقه وينادي: البوليس البوليس، فيجتمع غلمان الحان يجرونه إلى الخارج وهو ممسك بعنق الضارب له لا يخليه، حتى إذا صاروا إلى الباب أدركهم جندي البوليس، وقبض على المتضاربين فيتعرض له صاحب الحان، ويمنعه من القبض على الضارب ويقول له: ليس لك إلا أن تأخذ هذا السكران وحده فقد جاءنا بعد أن امتلأ سكرا من الخارج يعربد في محلنا، وكأنه مأجور من أرباب الحانات الأخرى للإضرار بنا وإحداث الفشل في محلنا، فيأبى الجندي إلا أن يسوق المتضاربين معا، فيغمزه صاحب الحان ليلين له فيبتدره أحد غلمانه قائلا له: لا لزوم لما تأتيه مع هذا الجندي من المصانعة، وغرضنا يقضى بدونه فإن حضرة معاون القسم جالس عندنا داخل «البار» مع صاحبته.
صاحب الحان (للجندي) :
لم يبق لك من وجه لسحبهما إلى القسم، وتعالوا ندخل جميعا عند حضرة المعاون في «البار».
الجندي :
هذه حيلة غير خافية تريد بها تهريب صاحبك، وكيف يكون حضرة المعاون موجودا الآن في «البار » والنوبة عليه الليلة في القسم!
صاحب الحان :
ما عليك إلا أن تدخل وهما في قبضتك لتراه بعينك، فيجيب الجندي صاحب الحان إلى ذلك، فيدخل فيرى المعاون جالسا بجانب صاحبته خالعا رداءه على كتفها، وطربوشه على رأسها وهو يسقيها من كأسه وتعاطيه من كأسها.
صاحب الحان (للمعاون) :
لقد تعطل المحل يا حضرة الأفندي في هذه الليلة وتعطيله لا يرضيك، فإن هذا الرجل دخل علينا سكران ولم يشرب من محلي شيئا فعربد بين الجالسين، وأخل بنظام الاجتماع، ثم تعدى على هذا البك بالشتم والضرب وهو من أجل المترددين على المحل، والغريب أن جندي البوليس هذا لم يسمع لقولي فيه، بل صمم على سحبه مع ذلك المتعدي إلى القسم وهو من أبناء الكرام، ولا يليق بكرامته أن يساق مع هذا السكران إلى المحاكمة.
المعاون (للجندي بعد أن يلبس طربوشه) :
ما هذا الذي أسمعه؟
الجندي (رافعا يده بسلام التعظيم) :
لم أعلم بوجود حضرتكم هنا، والأمر إليكم.
المعاون (للجندي) :
إذا كان الرجل السكران في حالة سكر بين فخذه وحده إلى القسم، وما دام حضرة البك لم يحصل منه اعتداء بشهادة حضرة الخواجة، فلا لزوم لذهابه معك، ويكفي أن حضرته يعطينا وعدا بالحضور غدا إلى القسم لأخذ شهادته على هذا السكران. (وعند ذلك يدفع صاحب الحان بالسكران إلى الخارج مع الجندي.)
الجندي :
إذا كنت تطاوع غلامك كل مرة فيما يشير به عليك يا حضرة الخواجة، فليس يكون حضرة المعاون عندك في كل ليلة والأيام بيننا.
صاحب الحان :
أوصيك بهذا السكران شرا، ولا يكن عندك شك في دوام الرعاية بك.
قال عيسى بن هشام: وخرج السكران أمام الجندي مدفوعا في ظهره، يقع ويقوم ويستعدي ويستنجد، وعدنا إلى داخل الحان ننظر ما يجري فيه، فإذا صاحب الحان ومعه البك خصيم السكران قد جلسا مع حضرة المعاون والكئوس تغدو عليهم وتروح، فجلسنا ناحية نستمع لهم ونؤثر ما يجري من حديثهم على نحو ما ترى:
صاحب الحان (للمعاون) :
لماذا أوعزت إلى صاحبتك بالقيام عند جلوسنا معك؟
المعاون :
أنا لم أوعز إليها بشيء ولكنها هي التي قامت مغضبة.
صاحب الحان :
ولأي سبب أغضبتها؟
المعاون :
لم آت سببا يغضبها، بل هي التي انتحلت سببا كدرتني به وكدرت نفسها أيضا.
صاحب الحان :
لا شك أن ما حصل هو من باب الدلال دون سواه، وسأدعوها في الحال لعقد الصلح بينكما.
المعاون :
لا دخل للدلال هنا، ولكن جرى في أمر حضرة البك والسكران ما هو على خلاف هواها، فإنها كانت ترغب في التضييق على الأول والتفريج عن الثاني؛ لأن حضرة البك هو من أكبر أصحاب المغنية، والمغنية من ألد أعدائها.
صاحب الحان :
لقد حرت في أمر هذه الفتاة، فإن ضروب حماقتها لا حد لها وفي كل ليلة تأتيني بنوع من المشاكل جديد ينتج عنه ما لا يعوض من خسارتي، ولولا منزلتك عندي ومنزلتها عندك لما أبقيتها في المحل يوما واحدا، ولا كابدت إعطاءها في كل شهر مقدار ما يأخذه وكيل المديرية مرتبا من الحكومة، ولو شاهدت منها ما أشاهده كل ليلة من تسافهها على الرجال، وتخاصمها مع النساء اعتمادا على سلطتك واتكالا على مساعدتك لعلمت مقدار حماقتها وجنونها.
المعاون :
نعم إن حماقتها عظيمة وطالما شددت عليها؛ لتجنب المنازعات والمشاجرات حتى لا يقال: إن علاقتها بي هي التي تجرئها على ارتكاب ذلك، ولكنها على كل حال سليمة القلب خفيفة الروح.
صاحب الحان :
صدقت وهي مع ذلك تحبك حبا صادقا. (وهنا تدخل المغنية في البار بعد انتهائها من الغناء، فتتقدم نحو هذا المجلس لتسأل من حضرة البك صاحبها عما تم عليه أمر المخاصمة مع السكران فيقول لها.)
البك :
أنا في غاية التشكر لحضرة المعاون الذي أنصفني، وفي غاية التكدر لما وقع له من فلانة بسببي، فإنها اهتاجت غضبا لما علمت بمساعدته لي وهي تبغضني لعلاقتي بك، فبحياتي عليك إلا ما قبلت التوسط في الصلح بينكما، وإزالة ما في النفوس فتعود راضية على حضرة المعاون ويتم الصفو لنا جميعا.
صاحب الحان :
أنا أوافق على هذا الرأي.
المعاون :
وأنا لا أرفضه.
البك :
وأنا أرسل في طلبها .
قال عيسى بن هشام: وتحضر الفتاة فيقع نظرها على المغنية جالسة مع المعاون وأصحابه، فتشتعل جذوة نار من الغضب وتنقلب لبؤة هاجت لفقد أشبالها، فتشتم وتسب وتقذف وتلعن وتنفل وتبصق وتنقض على المغنية فتأخذ ببرقعها فتزيلها من مكانها، وتلتفت إلى المعاون فتتوعده بالشكاية والطعن فيه لدى رؤسائه، ثم إلى صاحب الحان فتتهدده بأنها لا ترقص في ليلتها، فلا يسع صاحب الحان إلا أن يتلافى الفضيحة، فيجرها إلى خارج البار بالقوة ليتمكن المعاون أن يتسلل هاربا، ثم أخذ ينصحها ويحذرها ويقول لها: إن المعاون قد ذهب إلى القسم الآن وقلبه مملوء منك حقدا وغيظا، فإذا أنت لم ترجعي عن حماقتك وتصعدي إلى المنصة للرقص أوعزت إلى المغنية أن تمسك بك وتذهب معك إلى القسم، والحاضرون يشهدون أنك تعديت عليها بالضرب، والمعاون هناك ينتظرك للتشفي منك.
قال عيسى بن هشام: فوقع هذا القول منها وقع الماء في النار، وإنذار الحجز على أهل الدار، فهدأ جأشها، وسكن طيشها، وصعدت للرقص على منصتها، تتأوه من حسرتها وغصتها، وعدنا للجلوس أمام الميدان. ننظر ما يكون من الغلبة والخسران.
قال عيسى بن هشام: وجاء دور الرقص فضجت الغوغاء، واشتدت الضوضاء، وامتدت الأعناق بالصفير والنعيق، واشتغلت الأكف بالتصفيق، ترحيبا وتأهيلا، وتكبيرا وتهليلا؛ إذ قامت على المنصة هلوك ورهاء،
8
عمشاء مرهاء،
9
فطساء فوهاء، عجفاء شوهاء
10
مزججة الحاجبين، محمرة الخدين، مبيضة الساعدين، مخضبة اليدين، قد ألبست وجهها من الطلاء نقابا، وأسدلت على أطرافها من الدهان ثيابا بأصباغ شتى وألوان، بين أبيض ناصع وأسود فاحم وأحمر قان، تتلون تلون الحرباء، في هجير البيداء، وقد وارت ما تعرض من جسمها، وتعرى من لحمها، بأنواع العقود والقلائد والأساور والمعاضد، والدمالج والجلاجل، والمناطق والخلاخل، فأخذت في الرقص والحجلان، على توقيع الضروب والألحان، وبجانبها خادم ما شككنا من قبح هيئته، أنه إبليس اللعين في طلعته، ركبت منه أقبح هامة، على أسوأ قامة، بوجه قد من الصخر، وعين كعين الصقر، وأنف كمنسر النسر، وفم يرمي بالزبد كالبحر، وشفة مهدولة، وعمامة مجدولة، وفي يمينه قدح وإبريق ، يسقيها منه بكأس من حريق، لا بكأس من رحيق، ويعاطيها من غسلين أو قطران،
11
ويجرعها من حميم آن، وكلما أترع لها كأسا، همست في أذنه همسا، ثم تشير بطرف الكف، إلى بعض الجلوس في أول صف، فيصيح اللعين صيحة الأسد في عريسته،
12
وقع بصره على فريسته، فيجيبه غلام الحان جذلا وابتهاجا، ويأتيه بالزجاجات أزواجا، فيفض عنها الفدام، ويصففها أمامها تحت الأقدام، ولا يزال خادمها يملأ لها ويسكب، وهي تشرب وتطلب لا تكتفي ولا تقتنع، ولا تروى ولا تنقع، كأنما يمتح لها من قليب،
13
ويصب في واد جديب، أو يملأ من ماء منبثق، ويفرغ في دن منخرق، فإذا دبت في عروقها نمال الخمر، واشتعلت في جوفها اشتعال الجمر، جدت في لعبها ودورانها، واشتدت في قفزها وجولانها، وتلوت كالحية في طرقها، ولعبت كالسلحفاة بعنقها، والخادم أمامها ينازلها وتنازله، ويغازلها وتغازله، ويراقصها وتراقصه، ويقارصها وتقارصه، وهي ترسل على الحاضرين أقوالا بذيئة، وتخاطبهم بألفاظ قبيحة رديئة، فتفتر لها الثغور، وتنشرح الصدور، ليس فيهم إلا كل مستحسن مستزيد، ومستملح مستعيد، إلى أن تخور قواها، وتغور عيناها، وتتقلص شفتاها ويكلح شدقاها، وينضح العرق من أطرافها وتراقيها، وينعقد الزبد بنحرها وفيها، فتضطر إلى إزالته، وتعمد لإزاحته، فتتناول المنديل تمسح به من وجهها وذراعها فيتلون بأشكال الصبغة وأنواعها، فيغدو المنديل كأنه قوس قزح، بما تصبب من أديمها وارتشح، وينكشف التمويه والتلبيس، ويفتضح التلفيق والتدليس، فيظهر ما بطن ويبرز ما كمن، وتنقلب إلى صورة سعلاة، تتراءى في سراب فلاة، أو غول تكشر وتصول، أو دب يهتز ويدب، فحولنا عنها الوجوه استنكافا واستنكارا، ولوينا الأناق استقباحا واستقذارا، ومال الباشا على الصديق يسائله في دهشته، ويقول له في نفرته: أعلى مثل هذه تذوب القلوب، وتنشق المرائر والجيوب؟ وهل وصل العمى بالناس إلى هذا الحد، ولم يبق فيهم تمييز للغزال من القرد؟
الصديق :
نعم إن هذه التي تهرب منها الوحوش لفظاعتها، ويتعوذ منها الشيطان لدمامتها، هي عند هؤلاء الحاضرين دمية القصر، وفريدة العصر، كم ذهبت بأموال وأودت بأرواح، وكم أضاعت شرفا وأزالت مجدا، وأذلت رقابا وأفسدت حكاما، وكم فرقت بين المرء وزوجه، وولدت العقوق بين الوالد وولده، وألهبت العداوة بين الأخ وأخيه، وكم خربت بيوتا عامرة، ودنست أنسابا طاهرة، وكم بذرت للشر أسبابا، وفتحت للسجون أبوابا، وهؤلاء الذين تراهم جلوسا في هذا المستنقع الوبيء والمرعى الوبيل يقضون فيه ليالي الشهر تباعا، وشهور العام ردافا لا تتوهمنهم من أسافل القوم ولا من أدنياء الناس، بل فيهم الكبير والأمير والسري والوجيه، وانظر عن يمينك إلى هذا الجالس بين إخوانه جلسة الكبرياء، فهو أحد أبناء الأمراء، مات أبوه وترك له أموالا جمة فالتف حوله قرناء السوء من أهل البطالة والفراغ، فبدأ في تبديد تلك الأموال باقتناء الخيول المسومة، والمركبات المطهمة، ثم ثنى بالإسراف الفاحش في مهرجان زواجه، ثم ثلث بتسليم ما بقي منها لأيدي العواهر والفواجر، وأخصهن هذه اللخناء التي لم يبق له منها إلا التمتع بالنظر، وهي لا تنظر إليه، ولا تسأل عنه بعد أن استفرغت أمواله، وانظر عن شمالك إلى هذا الجالس الذي يفتل شاربيه، ويحملق بعينيه، ويغمز بحاجبيه، فهو من أبناء الكبراء أيضا ماتت أمه فورث عنها أموالا طائلة، ولم يمض على موتها بعضة أيام حتى أوقعه سوء طالعه في مخالب هذه الخداعة الغرارة، فهو لا يصبر عنها، ولا يقطع المجيء إليها في كل ليلة، وهي تسلبه كل ما تصل إليه يده من خفيف وثقيل، وما كان لأمه من حلي وجواهر غير ما ينثره من الذهب والفضة في أرض هذا المكان، وانظر أمامك إلى هذا الجالس معظما بين جلسائه مبجلا، فهو من كبار الحكام في الأرياف وقع في أشراك هذه المرأة فكادت لفظاعة أعمالها معه أن تسلخه من شرفه، وتسقطه عن منصبه وهو مع ذلك لا يسلوها، ولا يلهو عنها، وليس له في مدة إقامته بالقاهرة غير بيتها مأوى، ومرقصها ملهى، فإذا هو عاد إلى مقر وظيفته عاد بغير لبه، فيسعى في استغواء العمد والأعيان لإقامة الولائم والحفلات، واستئجار هذه الراقصة لإحياء لياليها، وانظر إلى هذا الشيخ الجالس منفردا منزويا ويده مرتشقة بين صدغه وعمامته ، فهو من أعيان البلد لم يمنعه وقار السن وهيبة المشيب من الوقوع في أسر هذه الغاوية؛ فأخذ يبدد عندها في شيخوخته ما كان جمعه في شبيبته.
الباشا :
لو أنه كان لهذه المرأة مزية ظاهرة من مزايا النساء لقلنا: الهوى في الناس داء قديم، والولوع بالحسان أمر بديه والعذر غير معدوم، ولكن ما بالهم والمرأة في القبح والدمامة بمنزلة الشيطان، والهروب منها مندوب إليه، فهل تعلم لذلك من سبب خفي؟
الصديق :
السبب فيه حب التباهي والتفاخر والأثرة، والاختصاص، وقد اشتهرت هذه البغي بإتقان الرقص والتفرد فيه، وأنفس الجهلاء مولعة بالشهرة الباطلة والصيت الكاذب يتشبثون به عمي النواظر، عمه البصائر، فهم يرون أن الاختصاص بمثل هذه الشهيرة في فنها وإن قبح منظرها، وساء مخبرها هو الفخر كل الفخر والسبق كل السبق، وهم مجبولون على الحكاية والتقليد؛ فلذلك نفذ فيهم سهمها وسرى في عروقهم سمها.
الباشا :
إن كان لا يوجد في هؤلاء الناس عقول تردعهم، ولا يوجد بينهم واعظ يرشدهم، أفلا كان هناك من سلطان يزعهم، وحكم يكف الأذى عنهم؟
الصديق :
لا واعظ ولا ناصح ولا سلطان ولا وازع، وقل بيننا من يشتغل للناس في نفع الناس.
قال عيسى بن هشام: وانتهت الراقصة من رقصها، فدخلت حجرة لتغيير لباسها وإصلاح ما فسد من حالها، ثم نزلت منها وقد جددت ألوانها وأدهانها وسارت تتكسر في مشيتها بين الجموع وهم يرمقونها رمق الشهوة، ويتطلعون إليها تطلع البهيمية فتزحزحت لها المجالس وحلت لها الحبى، وأعد لها كل فريق كرسيا بجانبه وتناثرت عليها الإشارات بالتفضل بالجلوس، فلم تعبأ بشيء من ذلك ولم تلتفت إليه، واستمرت في تكسرها وتهاديها حتى وصلت إلى مقام صاحب الحان، فوقفت معه ملاعبة مداعبة وممازحة مضاحكة، وجاء خادمها في عقبها فاستوقفه إليه ذلك الحاكم من حكام الأرياف، فوقف بجانبه يهزل معه ويمزح، ثم شاهدنا الحاكم يخرج من جيبه بعض الدراهم فوضعها في يده، فانصرف الخادم إلى الراقصة فكلمها وأشار بيده إلى الحاكم يستعطفها له، ويستدعيها إلى الجلوس معه، فأبانت عن أمارات الإباء والرفض في أول الأمر، ثم انتهت بها لجاجة الخادم إلى الرضاء والقبول، فقصدت مجلس الحاكم وقصد الخادم غلام الحان، فما جلست حتى كان الغلام بجانبها يحمل في يده أربع زجاجات من الشمبانيا فبزلها كلها بمبزله،
14
ففارت وفاضت وانتشرت كلها حببا والغلام متلاه عنها لا يسرع الإملاء منها، حتى إذا لم يبق بها إلا مقدار صبابه
15
صبها الخبيث في الأقداح وقدمها للفاجرة، فبادرت إلى لمس كل كأس لمسة بيدها وفيها، ثم يعود الغلام بعد هنيهة لأخذ الزجاجات الفارغة فتأمره بإحضار سواها، وهكذا يتوالى الحال في طلب الأدوار حتى يبلغ إلى الدور الخامس في مدة يسيرة، وجميع الجالسين لا يتحولون بنظرهم عنها يراقبون حركاتها وسكناتها، كأنما يرصدون نجما أو يرقبون هلالا، ولما انقطع ورود الزجاجات التفتت العاهرة إلى خادمها وهو على بعد منها، فرأته يشير إليها بحاجبيه تارة وبطرف لسانه أخرى فهمت بالقيام، فأمسك الحاكم بأذيالها فصفعته صفعة مزاح على قفاه، بعد أن لعنت أمه وأباه، استرضاء له عن تركها إياه، فهش وبش اعتقادا منه أنها لا تعامله بهذه المعاملة إلا لسقوط الكلفة وتمكن الألفة، وتنسل من حضرته إلى حيث أشار الخادم، فتهبط على الفئة التي عن يميننا وفيها ذلك الشاب الذي أفنى في حبها ماله وأضاع في هواها شرفه، فخاطبته بلسان اللوم والعذل تسأله لأي سبب دعاها، ولأجل أية علة أقلقها من مكانها، فيتلعثم المسكين ثم يجيبها بأنه دعاها لمصلحتها وقضاء حاجتها، فإن المحامي أخبره بنجاح قضيتها، فتتبسم له قليلا ثم تلتفت عنه إلى سواه، فيستحلفها بالود القديم والعهد العتيق أن تجلس معه لمحة ليقص عليها تفصيل الخبر، فتنفر منه فيرميها بسوء الوفاء وخيانة العشرة، ويبكتها مذكرا لها بما كان بينهما من الصفاء والهناء، وما أتلفه في معاشرتها من نضار وعقار، فتلطمه على وجهه لطمة المعلم المؤدب وتجلس إلى جانبه، وتسأله أن يدع عنه ذكر تلك الليالي والأيام الخوالي، وأن يحفظ عنها «قصة الأضراس» في باب الاعتبار.
وروت له هذه القصة التي هي عندهن عماد الصنعة وأساس الفن: زعموا أن فتى كان يهوى فتاة وتهواه، فعاشا تحت جناح الحب زمنا سعيدا، ثم طرأ على الفتى سفر يبعده عنها في طلب المال وجاءت ساعة الوداع، فانهملت العبرات وتوالت الزفرات، وأقسمت له بأن العيش لا يطيب لها من بعده، وأن الموت أهون عليها من بعده، وسألته أن يبقي عندها أثرا منه تتعلل به في غيابه ساعة الحنين، وتشم منه ريحه وقت هيام الذكرى، فقال لها: سأترك لك بضعة مني وأنتزع لك أثرا من بين لحمي ودمي، ثم عمد بيده إلى فيه، فاقتلع لها ضرسا من أضراسه غير مبال بألم الانتزاع ووجع الاقتلاع، وناولها إياه يقطر بالدم فأخذته منه وأشبعته لثما وتقبيلا ووضعته في حقة نفيسة، وسافر سفره ومضت عليه الأيام والليالي، ثم آب من سفره خائبا لم يظفر بحاجته ولم يفز بطلبته رقيق الحال ضعيف الركن، فذهب إلى دار صاحبته وقد أضناه الشوق وبراه النوى فلما طرق الباب ولمحته من النافذة تنكرت له وأنكرته، فناداها أنا فلان فاسمحي لي بالدخول، قالت له: ومن فلان فإني لا أعرفه؟ قال لها: خليلك وحبيبك صاحب العهد الوثيق والعشرة الطويلة، قالت له: كل الناس عاشر وفارق فأيهم أنت؟ قال لها: أنا صاحب الضرس، قالت: أولك ضرس عندي؟ قال: نعم، قالت: فادخل فدخل فأجلسته وأحضرت أمامه حقة كبيرة وأمرته بفتحها ففتحها فوجدها مملوءة بكمية عظيمة من الضروس، وقالت له: دونك إن كنت تعرف ضرسك من بين هذه الأضراس فأنا أعرفك اليوم من بين الناس. ولما أتمت الواعظة وعظها انصرفت عن هذا المجلس إلى مجلس ذاك الشيخ الوجيه، فيقوم لتحيتها واقفا ويبدي لها نواجذه متهللا، فتجلس معه وغلام الحان فوق رأسها ينتظر طلب الزجاجات، فلا تلتفت إليه فيديم الوقوف فتأمره بالانصراف فيعود خائبا، وتقول للشيخ: إنها لا تريد أن تحمله في حبها مغرما ولا تقيسه عندها ببقية الحاضرين الذين تسلبهم لصاحب الحان، فيخرج الوجيه من حزامه عقدا يتلألأ فيضعه بين يديها، فتبسم له وتنعطف إليه وتقيم عنده مدة في مضاحكة ومغازلة، ثم تقوم لتنصب على سواه شباكها ، وترمي لصيد القلوب أشراكها.
تحيي وجوه الشرب فعل مسالم
16
يضاحكه والكيد كيد محارب
قال عيسى بن هشام: وأقمنا نتأمل في أفعال هذه البغي الفاجرة، ونفكر في أعمال هذه الخداعة الماكرة، ونعجب كيف يقتدر مثلها على ختل الرجال، فترميهم في مهاوي الغواية والضلال، وهي عارية من ثوب الجمال، مجردة عن جميع المزايا والخصال، مفرعة في قالب الوقاحة، معجونة من حمأة الدمامة والقباحة، وما زالت الفاجرة تتقلب بين الجالسين وتتنقل، وتتجول بين الصفوف وتتحول، وتروح إلى صاحب الحان وتغدو، وتخفى آونة ثم تبدو، منطلقة اللسان بالسب والثلب، منبسطة اليد بالنهب والسلب، ممتدة الكف باللطم والضرب، دائبة في السكب والشرب، وهي في تنقلها تقطب تارة وتتجهم، وتفتر تارة وتتبسم، وتنبسط حينا وتنقبض، وترضى ساعة ثم تمتعض، وتعامل كل إنسان بما يلائمه، وتجري معه على ما يوائمه، فتضل الألباب والنهى، ويقع الجميع في أسر الهوى، وآية حبها وميلها، أن تصفع الصب بنعلها، فإذا أضافت إلى الضرب بالنعال، شق القباء ونتف السبال
17
كان في ذلك بلوغ الآمال، بدنو ساعة الوصال، واستوى المضروب يفاخر أصحابه وخلانه، ويباهي أنداده وأقرانه، كالظافر في ساحة الطعان والضراب، والفائز بالغنائم والأسلاب، فيغالي في إظهار الابتهاج والائتناس، وتنبسط يده في الكيس ويدها في الكاس، والغلام على رأسه بالآنية، يصب لها زجاجة كل ثانية، وهي تصب الكئوس في الهاوية، كأن حلقها قناة وكأن الساقي ساقية، وحانت منها التفاتة إلى الخليع وصاحبيه فإذا العمدة يشير بيديه، ويغمز بحاجبيه، ويقول للخليع في اشتعاله والتهابه ويخاطبه في ارتباكه واضطرابه:
العمدة (للخليع) :
لقد أسعدنا الجد وحلت لدينا عاقبة الصبر ولئن فاتنا الأنس بالغائب فما أكمل أنسنا بالحاضر، وهذه الراقصة التي اجتمعت على محبتها القلوب وافتتنت بها العقول هي عندي الضالة المنشودة والأمنية المطلوبة، ومن يبلغنا إياها سواك ويمن علينا بها غيرك؟
الخليع :
هذه هي الفتانة المشهورة بكثرة العشاق والطلاب ولا عيب فيها غير المزاحمة عليها، والمورد العذب كثير الزحام، والوصول إليها من دونه أهوال.
وإنك إن أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
التاجر :
نعم هذه هي البضاعة الثمينة والسلعة الرائجة؛ فاز من حازها وخسر من فاتها، ولو كانت الأيام أيام ربح ورخاء لصبا إليها القلب وولعت بها النفس، ولكن لرب العيال ما يشغله عنها ويبعده منها.
العمدة :
ليس يفوتنا على كل حال أن نتمتع بها الليلة بالمجالسة والمغازلة، ونروي بمحادثتها الغليل ونشفي بكلامها الهيام.
الخليع :
حبذا لو جلست معنا ساعة، ولكنك ترى من المزاحمة فيها والمنافسة بين الحاضرين في الغرام بها، والغرم عليها ما يجعل نيل الغرض متعسرا، ودرك الطلب متعذرا.
العمدة :
أما المزاحمة عليها فإن لنا من مهارتك ونباهتك ما يقرب الأمل بالوصول إليها، وأما المنافسة في الغرم عليها فالأمر مستدرك والدراهم موجودة.
التاجر :
ما أشك بعد هذا في نيل الغرض وقضاء الوطر، وستنتهي ليلتنا بمسك الختام.
قال عيسى بن هشام: ويدعو الخليع خادم المرأة، ويهم بإعطائه شيئا من الدراهم فيسابقه التاجر فيمنعهما العمدة ويقوم مقامهما، فيلقي الخليع في أذن الخادم قولا، ويطول الخطاب بينهما همسا، ثم يذهب الخادم فيعود بمولاته تتيه دلالا، وتتثنى اختيالا، وتبدي الرضى من خلال التمنع فتسلم على أهل المجلس، وتخص الخليع بابتسامة وتجلس بجانبه، وتسأله عما جرى في المجلس بعد انصرافها عنه بالأمس فيقطع عليها هذا الحديث بالقهقهة، ثم يبدأ بعقد التعارف بينها وبين العمدة، ويطنب لها في علو شأنه ورفعة مقامه فترحب به فيرفع العمدة يده إلى رأسه مرارا تشكرا لها، فتلمح فص الخاتم يتألق في إصبعه ويتوهج فتضع يمينها في يمينه وتجرها إليها ترصد الحجر، فيسيل الرجل طربا وابتهاجا ويعتقد أنها كلفت به حبا وغراما، فلا يروعه إلا أصوات الأصمة ينزعها الغلام عن الزجاجات تباعا، وكلما أفرغ أربعا عاد بأربع حتى هال التاجر من ذلك ما هاله فمال إلى الخليع يناجيه، فسكن الخليع من روعه، وأزال الهواجس عنه، فيميل التاجر إلى الأقداح يسكب ويشرب، وإلى المرأة يهازل ويغازل، ويعاطي ويناول، والعمدة على حاله باهت شاخص ومولع موله، والخليع مسرور مبتهج، لا يرسل الكأس عن فيه ، إلا ممسكا بأخيه ، والمرأة تخدع وتكيد، وتقول للغلام: هل من مزيد؟ ثم يخرج العمدة ساعته من جيبه ويتشاغل عن النظر إليها بالحديث، فتقبض المرأة عليها تتمعن فيها وتقول له: قد آن أوان الانصراف وحانت ساعة الختام، وتقوم مودعة فيتلهف العمدة ويتحسر، ويسألها أن تتم جميلها بالبقاء معه بعد الانصراف في مجلس آخر، فتضحك له ضحكة القبول وتلطم الخليع بالمروحة على خده وتغادرهم إلى صاحب الحان فتجلس معه، ويأخذ الناس في الانصراف والخدم في رفع الكراسي وإغلاق بعض الأبواب، ولا يبقى في المكان غير أصحاب الوعد من العاهرة: ذلك الحاكم الوامق، وذلك الغلام الوارث، وذلك الشيخ المتصابي، وهذا العمدة المغرور بتاجره وخليعه، فإذا طال عليهم الانتظار ويئس الواحد بعد الآخر من صدق الوعد عمدوا إلى الانصراف يصحبهم الهم، ويرافقهم الكدر إلا العمدة، فإنه يلح في الانتظار لشدة ما به من سكر الهوى وسكر الخمر.
سكران سكر هوى وسكر مدامة
ومتى يفيق فتى به سكران!
ويقصد المرأة في مكانها عند صاحب الحان وهو يتعثر في مشيته، ويجرر في عباءته فيقف بين يديها يستنجزها الوعد، فتغضي عنه، فيلح عليها، فتلج في الإعراض، فيخرج من جيبه كيس الدراهم ويبسط به راحته راجيا متضرعا، فتظهر له الجفوة، فتشتد به الصبوة، فيترامى عليها فتدفعه برجلها عنها فيقع على الأرض فينتثر ما في الكيس، فيعمد الخليع لالتقاطه فيسبقه إليه صاحب الحان، ويتماثل العمدة واقفا فيمد يده إلى المرأة فيأخذ بضفيرتيها يجذبها نحوه، فتسبه وتلعنه وتمسك بصاحب الحان، ويستمر العمدة في الشد والجذب فتخونه الصفيرتان فيرتمي على ظهره طريحا، وهما في يده والمرأة باقية في مكانها تصيح وتستغيث، فينقض من أقصى المكان رجل رث الهيئة قبيح الطلعة وسخ العمامة يرفع في يمينه هراوة ويتأبط في شماله صرة ثياب، فيقع على العمدة ضربا بالهراوة، ويدفع العمدة عن نفسه ضربا بالضفيرتين، ويتوسط بينهما التاجر فيسأل الرجل عما يعنيه في الأمر فيقول له: إنه زوج المرأة وإنه يدافع عن حريمه، ولا يرجع عن غريمه، فيتعرض له التاجر يمنعه عن الفتك بصاحبه ، فينصحه الخليع بالرجوع عنه؛ لأنه الرجل من أهل «الحماية» وفي التعرض له إلقاء باليد إلى التهلكة، فإنه فوق القانون يجني ولا عقوبة عليه، فما يسمع العمدة هذا القول حتى يستنجد بالخليع لينقذه من بلائه، فيتقدم الخليع فيكلم الزوج طورا والحليلة تارة وصاحب الحان أخرى، فينتهي النزاع بينهم على أن يترك العمدة ما التقطه صاحب الحان من دراهمه مرضاة للمرأة عن إهانتها وعوضا لها عن خسارة الضفيرتين، ثم يقوم صاحب الحان وينادي غلامه وهو مشتغل بإطفاء الأنوار، فيسأل عن حساب العمدة فيكونه له فيلتفت إلى العمدة قائلا:
صاحب الحان (للعمدة) :
والآن فادفع لنا ثلاثة عشر جنيها ثمن المشروب، وانظر ماذا تعطينا من العوض في تعطيل المحل بهذه الأفعال الصبيانية.
العمدة :
ما هذه الحسبة وما هذا الكلام؟
صاحب الحان :
أما الحسبة فصحيحة، وأما ما أتيته فإنه لا يليق بمقامك وأنت رجل من أهل الوجاهة والرفعة، ولكنها الخمر أم الشرور، وإن خالها الشارب أم السرور، وما كان لك أن تتعلق بهذه المرأة المشهورة بتمنعها عن أهل التنافس فيها، والنساء غيرها كثيرات في المحل، وإن كان لا بد لك منها فأنا أسعى في الصلح بينكما عند تشريفك المحل في الليلة الآتية، وأرجو أن لا تتوقف في دفع هذه الحسبة الصغيرة، فإني لا أرضى لك الإهانة ولا ترضى لنفسك الفضيحة.
العمدة (للتاجر) :
هل عندك ما نسدد به هذا المبلغ؟
التاجر :
لا وحق العشرة وحرمة الصحبة، فلم يبق معي من الدراهم لا قليل ولا كثير.
العمدة (للخليع) :
دبرني يا صديقي في أمري وانظر لي طريقة الخلاص.
الخليع :
يعز علي والله ما نحن فيه ولكن عزت الحيلة، ولو كان صاحب الحان يقبل مني ساعتي هذه رهنا على هذا المبلغ لرهنتها عنده، ولكنه ربما استضعف قيمتها عن قيمة المطلوب، ولو كان في الوقت سعة لذهبت لاستحضار النقود بأية طريقة كانت.
العمدة :
إن كان الأمر ينقضي بالرهن، فهذه ساعتي أثمن من ساعتك وهي عندي أعز علي من روحي؛ لأني أخذتها هدية من دائرة «البرنسيس» يوم بعت لها أطيانها، وعليها حروف اسمها منقوشة ، وقد قدرها لي الجوهري بخمسين جنيها.
الخليع :
إن كان الأمر كذلك فلا يليق رهنها، وعندك الخاتم ترهنه مكانها.
العمدة :
هذا هو الأصوب وإن كان الخاتم أغلى من الساعة قيمة، فخذه يا حضرة الخواجة رهنا عندك حتى أسدد لك المطلوب في الغد.
صاحب الحان :
أنا لا آمن لهذه الفصوص اللماعة، فقد غشوني فيها مرارا بإحكام التقليد في صناعتها، وليس هنا الآن من أثق به من أهل الصناعة ليكشف لي عن حقيقة هذا الفص.
التاجر (بعد أن يمعن في الفص) :
كيف تقول ذلك وهو من الماس القديم وقيمته لا تنقص عن مائة جنيه، وأنا مستعد لرهنه عندي على خمسين جنيها، فانتظروني ريثما أذهب إلى محل مبيتي وأرجع إليكم بالمبلغ.
صاحب الحان (مكفهرا) :
ليس عندي وقت للانتظار فقد مضى الميعاد المقرر لإغلاق المحل، وهذا جندي البوليس واقف أمامنا يتعجلني في مطاوعة أوامر الحكومة.
الجندي :
نعم مضى الميعاد ولا بد من الإغلاق حالا، فانظروا معكم شيئا آخر للرهن يفض به هذا المشكل.
الخليع (للعمدة) :
أعطه الساعة، فلا حول ولا، وليس هناك ما تخشاه عليها فإننا نستخلصها غدا بعد أن تقابلني في الصباح بقهوة الموسكي.
صاحب الحان (بعد التأمل في الساعة) :
هذه الساعة لا توفي قيمة المطلوب وحدها، فاترك الخاتم معها أيضا.
العمدة :
هذا لا يصح مطلقا، فإن المبلغ المطلوب لا يزيد عن ثلاثة عشر جنيها على فرض صحته.
الخليع :
ما دام العزم أكيدا على فك الرهن غدا، فسيان رهن قطعة أو قطعتين، وأنا أرجو الخواجة أن يتجاوز لنا عما يطلبه من العوض في تعطيل المحل.
صاحب الحان :
إني أتجاوز عنه لأجلك.
قال عيسى بن هشام: ويشدد جندي البوليس في طلب الإغلاق في الحال فلا يسع العمدة إلا التسليم في الخاتم والساعة، وبينا الجميع يتأهبون للخروج والمرأة واقفة تهزأ وتسخر؛ إذ دخل رجل قبيح الخلقة جهم الوجه عريض القفا جاحظ العينين واسع المنخرين أهرت الشدفين، فأخذ يجيل في الحاضرين نظره يمينا وشمالا، ثم تقدم إلى المرأة فسبها ولعنها ولطمها ولكمها وقال لها : قد فات الوقت ومضى الميعاد وأغلقت الحانات، وأنا قاعد في انتظارك بالبيت وأنت واقفة هنا تلعبين وتسخرين، فأين هذا الصيد الذي ألهاك عني وأنساك أمري يا عاهرة، فتجيبه مع الذل والانكسار بأنها أخطأت، ولكن لها العذر فقد وقعت حادثة مع بعض العمد يشهد بها الحاضرون، وتذكر له ما كان من هجوم العمدة عليها ونزع ضفيرتها، فيشهد زوجها مع خادمها بتفصيل الواقعة، فيزمجر الرجل ويتوعد ويعمد للحاق بالعمدة وهو يعدو نحو الباب، فتستعطفه الفاجرة وتطلب منه أن لا يكدر على نفسه صفاء الليلة بالوقوع في مخاصمة أخرى، وتطلب منه الإسراع إلى البيت في صحبتها.
وخرجنا مع الباشا نتعوذ من كيد النساء، ونتأسف على وقوع الرجال في أشراك المكر والدهاء، وكيف نزل العمى بهم والجهل، حتى يستسلموا لهذا الخدع والختل، ويخرجوا عن مثل هذا المكان الدنيء والموطن الرديء، وقد خرجوا من الثروة والشرف، ودخلوا في البؤس والتلف، ونزلت بهم أنواع المرض والسقم، وصب عليهم سوط الأحزان والنقم، ثم التفت الباشا إلى الصديق، يسائله في أثناء الطريق:
الباشا :
ألا تخبرني أيها الناقد الخبير كيف يصبر مثل هؤلاء الناس على الإقامة في هذا المكان، وكيف يترددون عليه ليالي متتابعات، ولا يدركون ما يدركهم فيه من الهلاك والوبال، وقد كاد يقضى علي للإقامة فيه بضع ساعات، فما وجار الضبع وما وكر الظربان
18
وما قبر الميت، يرحمنا الله وإياك، بأنتن رائحة ولا أقذر مكانا ولا أسوأ مقاما من هذا الذي كنا فيه.
الصديق :
يصبر الناس على الإقامة في هذا المكان ويكثرون من التردد عليه بحكم التدرج، وإلف العادة وقوة التمادي، وكأنما أبدانهم تتلقح شيئا فشيئا بسمه فلا تحس بضرره وألمه، كالمريض يذهله المرقد عن ألم الداء وبتر الأعضاء، وإن شئت فكالهندي يتدرج ويرتقي في تناول الأفيون وهو سم قاتل حتى ينتهي بجسمه إلى حال لو لسعته معها عقرب أو لسبته حية لم يؤثر سمها فيه.
19
الباشا :
أفدت بما شرحت، وقد بقي عليك أن تفسر لي ما أشكل علي من أمر الرجلين مع العاهرة، أحدهما الذي يقول : إنه زوجها، والثاني الذي أخذت بيده أمامه إلى بيتها.
الصديق :
أما الزوج فإنه رجل من سفلة المغاربة المنتمين إلى دولة أجنبية تحميه من سلطة القوانين المصرية أن تناله عند مخالفتها، وهذه المزية هي التي تؤهله عند العاهرة للتأهل به، فتدخل حينئذ في حمايته وتخرج ببركته عن دائرة المحاكمة والعقوبة إذا أتت في فسقها وفجورها ما يخالف أوامر الحكومة، ويعيش الرجل معها زوجا بالاسم وديوثا بالفعل، وذلك في مقابلة شيء من الدراهم يتناوله منها في كل ليلة، وهذه الطريقة قد تألفها الناس ولم تقتصر على العواهر، بل تعدتهن إلى أرباب القضايا وأصحاب الجرائد، فترى صاحب القضية يتنازل في الظاهر عن قضيته إلى أحد أولئك المسخرين من رعايا الدول الأجنبية؛ ليخرج بها من نظام المحاكم الأهلية إلى نظام المحاكم المختلطة إن ترجح لديه نجاح قضيته فيها، وترى صاحب الجريدة الذي يزعم أنه الواعظ المرشد بين الناس إلى محاسن الأخلاق وغرر الفضائل يضع على جريدته اسم الواحد منهم بأنه هو المسئول عما ينشر فيها ويطبع، يملؤها بما تسول له نفسه من الطعن على أولياء الأمور وأرباب الحكومة وأشراف الناس، ويسود صحيفته بكل فاحش من القول وبذيء من الكلام، فإذا عول أحد الناس على محاكمته يوما من الأيام وارى وجهه على المحاكم بوجه الأجنبي وقال لك: ما ذم الأمراء ولا هجا الأشراف ولا طعن في الناس إلا صاحب الاسم المسئول فعليك به، فإذا التمسته وجدته بائع نعال يصفق بها في عرض الطريق، وينتسب إلى دولة من أكبر الدول الأجنبية يمتنع بحمايتها من سلطة المحاكم والقوانين المصرية، ولا سبيل إلى محاكمته إلا في بيت القنصل.
وأما الرجل الذي سحبته العاهرة بيدها إلى بيتها فهو صاحب ودها وحبيب قلبها تفضله في آخر ليلها على كل رجل يتعلق بهواها، ويبذل نفسه في سبيل رضاها، ولا تعجب من سوء معاملته لها وسوء غطرسته عليها، فذلك مما يزيدها فيه حبا ويولعها به شغفا، والنفس الدنيئة الحقيرة لا تميل إلا لمن يبادرها بالإهانة والتحقير ولا تنقاد إلا لمن يتناولها بالضر والأذى، فهو يضربها ويؤذيها على ما شهدت ورأيت، ثم يتمتع بها دون المتهالكين عليها وينتفع بما تجمعه له من أموالهم لفضل هذا الوحش الضاري عندها على تلك الدواجن التي تدب حولها.
الباشا :
لا شك أن في هذا نوعا من الجزاء لهذه البغي على بغيها في الناس وسلبها للأموال وفتكها بالأرواح، وقل لمثل هذا الجزاء المعجل في الدنيا قبل العذاب المؤجل لها في الآخرة.
الصديق :
لا تستهينن أيها الأمير الجليل بما ينال مثل هذه العاهرة في دنياها من الجزاء، فإنهن جميعا في معيشة كلها هموم وأدواء، ومن تأمل في حقيقة أحوالهن خفف من سخطه عليهن ووجدهن أحق بالشفقة من القسوة، فإن هذه الأموال التي ينهبنها والأسلاب التي يسلبنها لا تلبث في أيديهن إلا ريثما ينفقنها في الحلي والحلل، والعاهرة لا تنتهي حاجتها من الزينة ولا تخلو من حبيب تكفله وخليل تقوم عليه، فهي على الدوام في عسر شديد ودين ثقيل، وإن جميع ما عليها من الحلي والجواهر وما يتألف في عنقها من القلائد وفي معصمها من الأساور وفي رجليها من الخلاخل إنما هي كلها في الحقيقة أغلال وقيود يسحبها بها الصائغ والجوهري في أسر لا فكاك لها منه طول الحياة، وهي كما رأيت تقضي ليلها إلى الصباح في شرب السموم من الخمور وفي تحريك الأعضاء والأحشاء بتلك الحركات المنهكة لقوى الأبدان، وفي اشتغال الفكر بمراقبة الناس وتكلف التحبب إليهم، وفي التفنن للتحايل عليهم، ثم التعرض لسوء المنازعات والمخاصمات مع دوام التذلل والخضوع لصاحب الحان، فإذا انتهت من ذلك كله وصلت إلى بيتها منحلة الأعضاء مفككة المفاصل فترتمي على فراشها كالرمة في مكان هو أقذر من ذلك الحان وأفسد منه هواء، وربما لم تذق في يومها طعاما ولم تتناول في ليلها غذاء، فإذا قامت من نومها بعد نصف النهار كالذي يتخبطه الشيطان مصدعة مخمورة لا تشتهي طعاما ولا تسيغ شرابا حتى إذا تماسكت قليلا بادرت إلى إصلاح الفاسد منها ومداراة القبيح فيها بأنواع الزينة واللباس، وقعدت لمقابلة زائريها إلى أن يدخل عليها المساء فتعود لما كانت عليه، لا تزال المسكينة هكذا دائرة في حلقة من التعب والوصب ولا خلاص لها منها إلا بحلول الأمراض والأوجاع، ثم يقضى عليها وهي في المعصية بعيدة عن ذوي الحنو والإشفاق من الأهل والأقارب، وذلك هو البلاء العظيم والعذاب الأليم.
قال عيسى بن هشام: وما راعنا في طريقنا إلا صوت الديك يؤذن بالصباح وصوت المؤذن يؤذن حي على الفلاح، فأسرعنا نطلب مأوانا، وندرك أم مثوانا، ونحن نسأل رب الأرض والسموات، أن يغفر من ذنوب المسلمين والمسلمات.
العمدة في الرهن
قال عيسى بن هشام: ولما ارتفع وجه النهار أو كاد، ومسحنا عن النواظر كحل الرقاد، بادرنا كل الإبدار، بالخروج من الدار، لنلحق بأولئك الرفقاء، في المكان المعين للقاء، فقصدنا «قهوة القزاز بالموسكي» فوجدناها تتموج بالداخلين، وتضطرب اضطرابا بالواقفين والقاعدين، فوقفنا هنيهة نرسل النظر إرسالا، ونتصفح الوجوه يمينا وشمالا، حتى اهتدينا إلى «الصديق» جالسا فجلسنا عن جانبيه، ورأينا العمدة جالسا بجانبنا مع صاحبيه، فإذا العمدة يئن تحت الهموم المتقاطرة، من سواد ليلته الغابرة، حيث ناله فيها من الهون ما ناله، وأضاع تحت أقدام الراقصات شرفه وماله، ورهن ما رهن من حلية ومتاع، من غير لذة ولا استمتاع، فهو متخاذل متضائل: «له شق مائل، ولون حائل، ولعاب سائل»، وسحنة مغبرة، وأنامل مصفرة، وجفون محمرة وأحداق جامدة، وأعضاء هامدة، ورأس متصدع، ونفس متقطع، يفتح تارة فاه، ويحك طورا في قفاه، فيخاله كل من يراه، نضو سفر
1
أضناه السرى وبراه، أو حلف تسخير أدمته العصا وألهبه السوط؛ ليبلغ من جهد «السخرة» منتهى الشوط، وإذا التاجر بجانبه يقلب حدقتيه ويتحلب بشفتيه، ويصعد أنفاسا كالحريق، في ميزاب من الريق
2
كأنه ذئب يهم بالعثيان، ويخشى صولة الرعيان، أو صائد يخاف أن يخونه كيده، ويفلت منه صيده، والخليع بينهما يطرق برأسه، ويكتم ما في نفسه، متفكرا ينكت الأرض بعصاه، ويحاول أن يبلغ من الغرض أقصاه، دائبا يبرم الخديعة ويهيئ العدة؛ ليسقطها على رأس التاجر ودماغ العمدة، ورأينا هنالك من دونهم نفرا لا يحولون عنهم نظرا، كأنهم الطيور الجارحة تترقب حمامة سانحة، فاستخبرنا من الصديق، عن شأن هذا الفريق، فقال: هم جماعة من الفئة الباغية الماكرة، والطائفة الرابحة الخاسرة، طائفة الوسطاء والسماسرة، وشاهدنا الخليع يوحي إليهم باللحظ والنظر، كأنه يعاهدهم على النجح والظفر، ثم سمعناه يقول للعمدة تهوينا لأمره، وتيسيرا عليه من عسره:
الخليع :
لا تهتم يا مولاي ولا تغتم، فالخطب أهون مما تظن والأمور بأمر الله ميسرة والحاجات بإذنه مقضية.
التاجر :
إن كان التيسير من جهة الاقتراض، فأنا لا أتصور أن أرباب الأموال يقرضون اليوم أحدا بدون التوثق من الرهن لزوال الثقة بين الناس في هذا العهد عهد المماكسة والمضاربة، وفي هذه الحالة أراني أولى الناس بتأدية هذه الخدمة لصاحبي، فإني له أرجح جانبا وأربح معاملة وأنقص في قدر «الفائدة» من سواي.
العمدة :
لا أرى في ذلك من بأس لو كان في الوقت سعة وفي الحالة مهلة تسمح بما يقتضيه إجراء الرهن من الكشف والمعاينة، والتحديد والتقويم والتقدير والتحرير، والتقييد والتسجيل إلى غير ذلك.
الخليع :
ولا تنس ما يكون وراء ذلك من سوء السمعة وقبح الشنعة بين الأهل والجيران، وصدق من قال: «بيع الشيء خير من رهنه، والرهن بيع وغبن.» وأنت بحمد الله لك صيت بالغنى وشهرة بالثروة، وأنا أضمن أن توقيعك وحده يكفيك مؤونة الرهن عند الاقتراض.
التاجر (للخليع) :
ما أحسن هذا لو أنه يتم، ولكن لا تنس أنت أيضا ما قيل: «إن الذي يقرضك على الشهرة والسمعة، لا بد أن يأخذ فائدة شهر في جمعة»، ولن يخاطر أحد من أرباب الأموال بماله من غير رهن إلا من ضمن الفائدة الجسيمة والربح الطائل.
الخليع (للتاجر) :
ما بالك تعسر علينا في الأمور مع إمكان تيسيرها، ولا يأخذك شك فيما أقول فأنا أضمن الحصول على القرض في هذه الساعة في هذه القهوة في هذه الجلسة، ولا محل للتخوف من جسامة الفائدة ما دام وقت الحصاد قريبا والتسديد عتيدا.
العمدة (للخليع) :
هكذا يكون التسهيل والتيسير بين الأصحاب والأصدقاء، وهكذا تكون محاسن الشيم، يا أبا المكارم والهمم.
التاجر :
قد قلت ما عندي ، وكل إنسان حر في عمله.
الخليع (للعمدة) :
قل لي كم تريد أن يكون مبلغ القرض؟
العمدة :
يكفيني على ما أظن مقدار مائة جنيه لسداد الحاجة في الحالة الراهنة.
الخليع :
هذا التقدير ضعيف، وماذا ينفع مثل هذا القدر القليل وبماذا يفيد؟ وعليك قبل كل شيء تسديد ما لصاحبنا هذا في ذمتك من الدين، ثم يتبعه ما لصاحب الحان لفك رهن الساعة والخاتم، وأضف إلى ذلك ما يلزم لك من المال لتأجير البيت الذي تريد سكناه في حلوان وما يتبعه من أثمان الفرش والأثاث، هذا غير ما يجب أن يكون في يدك للبذل والإنفاق في أوقات الأنس والطرب، وأنت بلا شك في حاجة عظيمة إليها بعد كل هذا التعب والكدر، فلا بد لك حينئذ من اقتراض مبلغ خمسمائة جنيه على الأقل، ولا سيما أن أرباب الأموال الذين أعرفهم لا يقرضون أقل من هذا المقدار إن كانت مدته قصيرة. (وهنا يومئ الخليع إلى جماعة السماسرة بالحضور فيتقاطرون عليه، فيهمس في أذن أحدهم كلاما ثم يجهر بالخطاب فيقول):
الخليع :
اعلموا أن سعادة البك هو العمدة فلان الفلاني من كبار المزارعين، الذين يمتلكون من الأطيان والعقار ما هو معروف مشهور، ولم يسبق له اقتراض مال قط، وليس عليه دين مطلقا وأطيانه وأملاكه خالصة له بلا منازع ولا مشارك، وقد حلت به ظروف استنفدت جميع ما كان يحمله معه للإنفاق في مدة وجوده بالقاهرة، وهو الآن في حاجة إلى اقتراض خمسمائة جنيه يقوم بتسديدها في أوان الحصاد الآتي، ولست أرضى له أن يقترض مثل هذا المبلغ الزهيد بالرهن من أرباب المصارف الكبيرة لما يجري عندهم من طول التحري والتنقيب، وتضييع الوقت جهلا منهم بحالة أعيان البلاد.
أحد السماسرة :
مرحبا بسعادته مرحبا، وما هو بالمجهول عندنا فإننا نعرفه كلنا وبما وصفته من شرف البيت وسعة المال زاده الله منه، كان للمرحوم والدي مع المرحوم والده معاملة قديمة وصحبة أكيدة، وطالما سمعت من والدي وأنا صغير السن أنه لا يوجد بين أعيان القطر مثل المرحوم في الصدق والأمانة وكرم الخلق وسماحة النفس، ولكنك تعلم أن الدراهم عزيزة المنال في هذه الأيام وقل من يخاطر بقرض هذا المبلغ من غير رهن يوازيه أضعافا مضاعفة، ولو كان الأمر لي وحدي لما تأخرت عن إجابة الطلب بدون ميثاق أو رهن أو فائدة إكراما للصحبة القديمة بين والدينا وتوثيقا لعرى المحبة بيننا، ولكن شريكي في الأشغال رجل متفرنج من أبناء هذا العصر لا يعرف حقوق المودة القديمة، ولا يرضى بقرض المال إلا إذا كان مستجمعا للشروط القانونية، ومع ذلك فأنا أعمل معه جهدي وأترضاه بضمانتي أولا و«بتشريف» مقدار «الفائدة» ثانيا، فإن اتفقتم معي على أن تكون الخمسمائة بثمانمئة إلى وقت الحصاد باشرت معه الأمر وقمت بالخدمة الواجبة علي لسعادة البك.
التاجر :
سلام قولا من رب رحيم، أيكون مقدار الربا فوق مقدار نصف القرض ... ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين؟
السمسار (للتاجر) :
لعل مولانا من المجاورين بالأزهر الشريف، فإنه لا يستعظم مثل هذه «الفائدة» في الأحوال الحاضرة إلا من يعتقد بتحريمها، على أن الربا محرم عندنا أيضا كما هو محرم عندكم، ولكن «الضرورات تبيح المحظورات».
العمدة :
حضرته ليس من المجاورين بل هو من التجار المشهورين.
السمسار :
إذا كان حضرته من التجار، فلا بد أن يكون واقفا على ضيق الحال وقلة المال وكساد السوق وعالما بمقدار «الفائدة» في قرض من غير رهن، ثم إنه لا يجهل في الأشغال تكاليف المشاركة ... والمساهمة ... والمقاسمة ... إن شاء الله.
التاجر :
نعم نعم ولكن يجب إنقاص مقدار «الفائدة» على كل حال، فإن أنت رضيت بأن يكون مبلغ الخمسمائة بسبعمائة وخمسين رضيت أنا لسعادة العمدة بالاقتراض منك وحكمت بذلك عليه.
السمسار :
ما أصعب المعاملة مع التجار! وما دمت حكمت حكمك فلا مرد له عندنا وما علينا إلا الطاعة والقبول إكراما لسعادة البك، فتفضلوا بالذهاب معي إلى المحل على بركة الله لإتمام الأمر مع شريكي.
الخليع :
لا حاجة إلى ذهابنا جميعا ويكفي أن يذهب معك سعادة البك وحده، فإن المسألة صارت بسيطة ونحن نمكث هنا في الانتظار .
قال عيسى بن هشام: وقام العمدة مع السمسار وأقمنا جالسين في مكاننا نتشاغل بالحديث مع الصديق، ونستفيد من واسع علمه أمورا شتى مدة من الزمن، وإذا بالعمدة عائدا وحده مقطب الوجه منقبض النفس، فأسرع الخليع والتاجر إلى لقائه واستخباره عما جرى له.
العمدة :
لعن الله الحاجة والاضطرار، وما كان أغنانا عن هذا الخراب والدمار.
الخليع :
وماذا وقع بك ودهمك، هل خاب الأمل في عقد القرض أم عقدته وسرقت منك الدراهم؟
العمدة :
لم تسرق كلها بل نصفها.
التاجر (شاهقا والخليع محملقا) :
وكيف كان ذلك؟
العمدة :
ركبت مع الرجل وذهبنا إلى محل شريكه، فأجلسني هناك ناحية وكتب الصك وختمته، ثم إنه انفرد بشريكه يناقشه ويجادله، ثم عاد إلي عابس الوجه يقول لي: إن الأمر متعذر متعسر وإنه بذل كل ما في وسعه من طرق الإقناع والرجاء؛ ليقبل شريكه بقرض المبلغ، فلم يقبل ولم يتحول عن رأيه، ثم أخذ يظهر لي أنواع التأسف والتوجع لخيبة مسعاه ويشير علي بالصبر أياما حتى تنفرج الشدة وتنقضي الأزمة، فأريته شدة ما بي من الحاجة إلى الدراهم في هذا الوقت، وليس في الاستطاعة تأجيل الاقتراض وهممت بالرجوع إليكما لترشداني إلى باب آخر يأتي بالتيسير المطلوب، فدنا مني شريكه عند ذلك، وقال لي يعز علي والله أن أردك خائبا وأرفض رجاء شريكي، ولكنك تعلم مقدار العسر والضيق الذي لحق بهذا القطر في هذا العام من كساد الموسم، وانخفاض النيل وانتشار الدودة وكثرة المضاربات، وظهور الأوبئة والطواعين، وأنا أقسم لك بشرفي وذمتي وأولادي أنه لا يوجد في محلنا من الدراهم الآن سوى أربعمائة جنيه هي أمانة عندي لطفل يتيم من أقاربنا نشتغل له في استثمارها بكل احتراس واحتياط، وأنا أضن بها وأحرص عليها أشد من حرصي على أموالي، ومع ذلك فقد فكرت طويلا وعولت على أن أضعها بين يديك لشرف مكانتك عندنا وحسن سيرتك، وجعلتها أول خدمة جليلة نقدمها إليك، فأسرعت إلى قبولها مع الشكر والامتنان، فأخرج صرة ووزن ما فيها من الذهب ثم سلمه إلي فعددته فوجدته أربعمائة تماما، ثم وضعتها في جيبي وطلبت منه تغيير الصك؛ لأن المبلغ المسمى فيه يزيد مائة جنيه عما قبضته من الذهب، فتلكأ في الإجابة واعتذر إلي بأن فرق ما بين المبلغين يبقى عنده بعضه لربح اليتيم وبعضه لنفقات القضية من رسوم وأتعاب محاماة إن وقع مني تقصير في التسديد عند الميعاد - لا سمح الله - كما هي العادة السائرة اليوم، فهالني الأمر ونبذت الدراهم وطلبت منه أن يرد لي الصك في الحال، فلم يلتفت لقولي واشتغل عني بالكلام مع بعض الوافدين إليه وأنا مقيم على مثل الجمر، وكلما أشرت إليه بإشارة من بعيد ليكلمني لوى وجهه عني وأظهر الاشمئزاز مني، فتفقدت السمسار الشريك داخل المكان وخارجه فلم أجد له أثرا، فاشتد بي الكرب وحرقني الغيظ فلم أتمالك نفسي وهجمت على صاحب المحل، فأمسكت بتلابيبه أطالبه برد الصك، فأظهر لي حينئذ من الملاينة والملاطفة ما حل خناقه من يدي، وقال لي: إنه لا يمنعه عن إجابة طلبي إلا غياب الشريك فإن الصك كتب بحضوره، ولا يجوز أن يسلمه إلي بدون علمه، فعلي أن أنتظر أوبته، وبينما نحن على هذه الحال وإذا بسعادة عمر بك صهر مديرنا قد دخل علينا فما وقع بصري عليه حتى تراخت مفاصلي خجلا منه، وحياء أن يسمع ما يجري بيننا ويراني في مثل هذا الموقف فتسقط منزلتي في عينه وعين صهره، فتقدمت إليه وسلمت فرد علي التحية بالتكريم والتعظيم، فلحظ اللئيم صاحب المحل ما أنا فيه فانتهز الفرصة وقص على سعادة البك قصتنا على حسب هواه، وطلب حكمه في الأمر، فقال له سعادة البك: لا يليق بك أن تتنازع مع حضرة العمدة فأنا أعرفه رجلا من عيون المديرية التي يديرها صهري وله شهرة عظيمة بحسن السيرة وسعة الثروة، ثم التفت إلي وقال: وأنت لا يجدر بك أن تخالف حضرة الخواجة وهو رجل مشهور بالأمانة وحسن المعاملة، وإذا كانت نقطة الخلاف في مائة الجنيه التي حجزها عنده لنفقات القضية، فأنا لا أشك في أنه سيردها إليك بتمامها عند إيفاء الدين في ميعاده، وأنت بحمد الله في ثروة لا يتصور معها التأخر عن التسديد، وإن كنت لم تتعامل مع الخواجة إلا في هذه الدفعة ولم تجرب مقدار أمانته وحسن عهده فإني أكفل لك صدقه ووفاءه، فاضطررت من كل الوجوه إلى التسليم والإذعان، وأخذت الدراهم وسلمت على سعادة البك وقلت له عند خروجه: لا يظنن سيدي أنني اقترضت هذه الدراهم للضرورة والعسر فإن الأمور ميسرة بفضل الله، ونعمة الله وافرة علي كما يعلمه سعادة صهركم المدير، ولكنني وجدت فرصة لا تعوض في أثناء إقامتي بالعاصمة وهي مشترى أطيان من أحد أولاد الذوات، وهو في حاجة الليلة إلى استلام العربون، ولا يمكنه أن يمهلني ريثما أستحضر له المبلغ من البلد، فاضطررت للاقتراض على هذه الصورة، فقال لي: نعم ما تفعل وبارك الله لك في البيع والشراء، ثم إنه حملني سلاما وكلاما لسعادة المدير، وانصرفت وخلفته مقيما مع الخواجة، وحضرت إليكما ولم يدخل في يدي من مبلغ الدين المسمى بسبعمائة وخمسين جنيها إلا أربعمائة جنيها فقط، فهذا معنى قولي لكما لم تسرق مني الدراهم كلها، ولكن سرق نصفها.
قال عيسى بن هشام: وكنا نشاهد في أثناء هذا الحديث رجلا واقفا على رأس العمدة ينتظر انتهاءه من الكلام، وهو يمد إليه يديه ويحرك شفتيه، فتبينا من هيئته أنه سائق المركبة يطالب العمدة بالزيادة في قيمة الأجرة، ولما فرغ العمدة من كلامه بادره السائق بقوله:
السائق :
خلصنا من فضلك يا سيدنا فقد طال وقوفي وعطلتني عن شغلي.
العمدة :
أنا لا أعطيك شيئا زيادة عما دفعته إليك ففيه الكفاية.
السائق :
من يقول يا حضرة الشيخ: إن خمسة قروش، تكفي في أجرة المركبة مدة ساعتين تنقلت في أثنائها من مكان إلى مكان، ثم عدت بك إلى هذه القهوة، وأنا لا أبرح مكاني حتى تعطيني الأجرة اللائقة بهذه المدة، وإن كان الذنب من جهتي؛ لأنني قبلت أن تركب معي ورفضت ركوب الخواجة الذي استوقفني قبل ركوبك ظنا مني أنك من كبار العمد الذين لهم تردد كثير على العاصمة، ويعرفون مقدار أجرة المركبات ، ولكن ظهر لي الآن أن هذه أول مرة لك في زيارة العاصمة، وفي ركوب المركبات وجعلتني أفضل «برنيطة» الخواجة على عمامة السيادة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، خلصنا يا سيدي.
الخليع (للسائق) :
اسكت عن هذا الكلام البارد، وهاك قرشا سادسا خذه وانصرف.
السائق :
كن محضر خير يا حضرة الأفندي، واعلم أنني لا أقبل زيادة قرش أو قرشين مطلقا، فإما الأجرة اللائقة وإما الذهاب معي إلى صاحب المركبة؟
العمدة :
دونك قرشا آخر فاتركنا واذهب لحالك.
السائق :
كيف أذهب وكيف أقبل سبعة قروش في أجرة هذه المسافات الطويلة مع طول الانتظار، فهل تحسبها أجرة ركوبك من هنا إلى محل الخواجة أو أجرة انتظاري هناك زيادة عن الساعة، أو أجرة ركوبك من محل الخواجة إلى دكان الكوارع، وانتظارك مدة الأكل، أو أجرة رجوعك إلى هنا ووقوفك في الطريق عند بائع الفاكهة؟
التاجر :
دكان الكوارع ...! وبائع الفاكهة ...! «واحر قلباه ممن قلبه شبم».
3
أهكذا يكون شرط الصحبة والوفاء تتركنا على الجوع، وتنفرد دوننا بالأكل ونحن معك لم نذق منذ أمس طعاما؟
العمدة :
ما ألجأني إلى ذلك وحق الصحبة إلا الجوع المفرط، واحتياج الجسم إلى ما يقيمه، فإني أحسست بالنور ظلاما في عيني من خلو البطن، وأشهد أن الجوع كافر.
السائق :
أدركوني برحمتكم فهذا جندي البوليس يأخذ نمرة المركبة؛ ليكتبها في المخالفات حيث خلفتها واشتغلت عنها بكم.
الخليع :
لقد صدعتنا وشغلتنا فخذ هذا القرش أيضا، وأنا أخلصك من جندي البوليس، وإلا فإني أقوم إلى «القسم» وأرفع الشكوى لاجترائك علينا، ولا تجد في «القسم» من يرحمك.
السائق :
ما باليد حيلة، أعطني ما تريد وقم اشهد عند جندي البوليس بأنني في انتظاركم حتى أخلص من المخالفات، والله يعوضني خيرا ولا يحكم علي بركوب أمثالكم مرة ثانية.
الخليع (للعمدة عائدا) :
قد انتهينا والحمد لله من جميع العقبات، فلننظر الآن في تدبير شئوننا، وهلم فادفع أولا مبلغ الصك المطلوب منك لصاحبنا هذا، ثم نثني بصاحب الحان لفك الرهن، ثم نثلث بمشتري المقتنيات اللازمة لك.
العمدة :
نعم لك ذلك وهذا هو المبلغ المطلوب لصاحبنا جزاه الله خيرا.
التاجر (بعد استلام المبلغ) :
أستغفر الله فالفضل والشكر لك على كل حال، ولكن يتعذر علي أن أرد إليك الصك في الحال؛ لأنني تركته بالمنزل فالأليق أن تبقي المبلغ حتى آتيك به غدا.
الخليع :
سبحان الله ما هذه المعاملة التجارية بين الأصدقاء الأوفياء، وهل يجوز بينهم ذكر الصكوك والخطوط في معاملتهم؟ فتقديم الصك وبقاؤه عندك سيان ما دام المبلغ تسدد لك ودخل في جيبك.
العمدة :
صدقت صدقت فليس بين الإخوان ما يدعو للتوقي والتحرس في مثل هذه الأمور، وقوموا بنا إلى صاحب الحان.
الخليع (للتاجر ضاحكا) :
انظر إليه فلا يزال قلبه يحن وهواه يميل إلى سكان تلك المعاهد والديار.
العمدة :
أقول لك الحق، إن غيظي من معاملة تلك المرأة القاسية شديد وحنقي عظيم، ولست أنسى ضروب تفننها في التدلل علي والتمنع مني، ولا أغفل عن تلك النظرات التي كانت ترسلها إلي بالتعطف والتلطف وأنا أسحبها من شعرها، وبودي لو أراها مرة ثانية فأوسعها عتابا وأشبعها تأنيبا.
الخليع (مبتسما) :
أنا فهمت غرضك وعرفت نيتك، تريد من العتاب أن ينتهي بك إلى العتبى وتخرج بها من التعنيف إلى التلطيف، وما ألذ الرضى بعد الغضب! وما أمتن الصداقة بعد العداوة! لكني أقول لك قول المشفق الناصح: إنك مهما حاولت مع هذه المرأة، فلا يمكن أن يخلو لك وجهها بالليل مطلقا لكثرة شغلها وازدحام الحائمين عليها، وإنما الرأي لك أن تلتمسها نهارا وتدعوها للغداء معك في بعض جهات النزهة، وأنا أفضل نزهة الأهرام على سواها، فإنها تكون هناك خالصة لك من دون الناس بمعزل عن العذال والرقباء.
التاجر :
ما أدق الحيلة وما ألطف الرأي!
العمدة (للخليع) :
لله درك فما حار من أنت حاديه، ولا ضل من أنت هاديه، وهيا بنا إلى الحان أولا لفك الرهن.
الخليع :
ولعلنا نصيب خادم المرأة هناك فنرسله إليها بعرض التماسنا، ولا شك عندي في إجابة سؤالنا.
العمدة :
نعم نعم وليكن الاجتماع بها غدا فخير البر عاجله.
الخليع :
لك ذلك بكل تأكيد إن شاء الله.
قال عيسى بن هشام: وقاموا ونحن نعجب من كيد الإنسان للإنسان بما لا يأتيه حيوان مع حيوان، ثم بادرنا نحن أيضا إلى القيام، على أن يكون الاجتماع غدا في الأهرام.
العمدة في الأهرام
قال عيسى بن هشام: ولما وقفت بنا الركاب في ساحة الأهرام، وقفنا هناك موقف الإجلال والإعظام، قبالة ذلك العلم الذي يطاول الروابي والأعلام، والهضبة التي تعلو الهضاب والآكام، والبنية التي تشرف على رضوى وشمام،
1
وتبلي ببقائها جدة الليالي والأيام، وتطوي تحت ظلالها أقواما بعد أقوام، وتفني بدوامها أعمار السنين والأعوام، خلقت ثياب الدهر وهي لا تزال في ثوبها القشيب، وشابت القرون وأخطأ قرنها وخط المشيب، ما برحت ثابتة تناطح مواقع النجوم، وتسخر بثواقب الشهب والرجوم، وتحدث حديث المشاهدة والعيان، ما تعاقب الفتيان،
2
وتناوب الملوان عن قدرة هذا الإنسان، في بدائع الصنع والإتقان، وتنبئ عن قوة هذا الضعيف الضئيل، في إقامة هذا الأثر الجليل، وكيف جاز لهذا الفاني البائد، أن يصدر عنه مثل هذا الباقي الخالد، وجل صنع القدير الخالق، في تصوير هذا الحيوان الناطق، حيث جعله مصدرا للأعمال المتناقضة، والأفعال المتغايرة المتعارضة، فبينا تراه يصعد إلى أجرام السماء وعوالمها، ويبحث بفكره في رسومها ومعالمها، ويسير بعلمه في أنحائها ومناكبها، ويهتدي لحساب أقمارها وكواكبها؛ إذ تراه يعثر عثرة برجله، فيكون فيها منتهى أجله، أو يكبو في طريقه، فيغص بريقه، ويهوي بإذن الله إلى مكامن الخلد،
3
وهو طامع في شجرة الخلد، فهو ذاك الذي كبر وصغر وعظم وحقر، وعز وذل، وكثر وقل، وصعد وهبط، وعلا وسقط، وصلح وفسد، وعرف وجحد، وسعد وشقي، وفني وبقي، وسبحان القاهر فوق عباده.
ثم انتقلنا من التفكير إلى التفسير، وانبرى الباشا يكشف عن ضميره ويقول لنا في تعبيره:
الباشا :
كنت أعتقد وأنا في سالف الأوان، أن هذه البنية لمصر تاجها الذي تفاخر به التيجان، وأعجوبتها التي تباهي بها الأقطار والبلدان، وشاهدها الذي يشهد لها بالمدنية والعمران، ولكني أراها اليوم بعد أن استضاءت بنور العلم واهتديت بهدى العقل، وبحثت في حقائق الأمور، أن لا مزية فيها ولا خير منها، سوى أنها أحجار مرصوفة، وجنادل مصفوفة، لا تمتاز عن جبل من الجبال، أو تل من التلال، فهل تعلمان لها من معنى غامض التوى علي فهمه، أو سر خفي عز علي علمه؟
الصديق :
ليس لها على الحقيقة من سر خفي ولا من فائدة بادية سوى أن بعض القدماء من أغبياء الملوك وطغاة الولاة كانوا يعتقدون بالرجعة في هذه الدنيا بعد الممات، وأن أرواحهم تعود ثانية إلى أجسادهم بعد أن تتنقل مدة من الدهر في أجسام أخرى، فكان همهم في حياتهم مصروفا إلى حفظ أجسادهم من البلى بعد موتهم في قبور مشيدة قائمة على الدهر؛ لتعود إليها الأرواح بعد طول التنقل والتطور مثل هذه الأهرام وخلافها، والناظر في الآثار المصرية يحكم حكما قاطعا أن التقدم والتفنن في البنيان والتصوير عند المصريين ينتهي أغلبه إلى المعابد والمقابر، وكانت قصورهم وبيوت ملكهم مبنية بلبن الطين كأدنى الأكواخ، قانعين بذلك في جانب تسخير الأمة بأسرها في نقل الصخور ورفع الأثقال لابتناء مثل هذا البنيان، واتخاذه قبرا لهم تحفظ في جوفه أجسادهم بعد تحنيطها سالمة من البلى إلى الرجعة - ولكن إلى المتحف متحف الجيزة - فتسخير الأمة المصرية وتعطيل أعمالها وتمزيق أبدانها وإهراق دمائها وإزهاق أرواحها في بناء هذه الصخور إنما كان لفكر ساقط، واعتقاد سخيف من ملك جاهل لفائدة له موهومة، أو من عمل كاهن ماكر لمنفعة له معلومة، ومثل هذا لا يكون فيه من فخر لمفتخر، ولا من عزة لمعتز، وما هو إلا الظلم والغشم والضلال والجهل، وما لهذين الهرمين من معنى اليوم غير أنهما قائمان على الدهر شاهدي عدل على سابق الشقاء في الأمة المصرية، وما كانت تقاسيه من فظاعة الظلم والهوان ومرارة الاسترقاق والاستعباد، ولو كان لأولئك الملوك أدنى لمحة في ارتقاء المدنية والعمران لكانت هذه الأحجار والصخور مرتفعة في بناء القناطر والجسور، وتالله لباني القناطر الخيرية مثلا في نظر الباحث المدقق أحق بالعزة والفخر من أولئك الملوك عباد الأوهام، ومستعبدي الأنام، وما أعلم لهذا الهرم من معني آخر يذكر سوى أنه صار يوما من الأيام منبرا من المنابر اعتلاه جبار آخر فرنسي اسمه نابليون، فخطب من فوقه على جنوده بكلام يهز فيهم أريحية التفاخر والتباهي، ويخدعهم به ليظلوا على العمى في طاعته يمارسون الحروب ويعانون أهوال الوقائع، ويصبرون على الموت والقتل في هواه، وما لهذا البنيان اليوم من فائدة حاضرة إلا كونه صار مورد رزق لجماعة من العربان التهوا به عن ابتغاء الرزق من قطع الطريق على السابلة، ومما يحضرني الآن من كلام بعض المؤرخين في شأنه: أن الملك الذي شيده أمر أن يكتب على جدرانه عقب الفراغ منه هذه العبارة عن لسانه على جهة التحدي: «إني ابتنيت هذا البناء في ثلاثين عاما، فإن جاء بعدي من الملوك من يدعي القوة والقدرة فليهدمه في ثلاثمائة عام.» ولو عقل المسكين أنه سيأتي عصر من العصور يمكن فيه لأحقر صعلوك أن ينسف هذا البناء في لمحة واحدة، فيجعله كالعهن المنفوش والهباء المنثور بمقدار قبضة اليد من بعض الأجزاء الكيميائية لما اغتر بسعة القوة والسلطان، ولما تحدى بشيء سلمه ليد الحدثان، وليس للحدثان من أمان، اللهم إنك تعلم أنه عمل ضائع، من جهل شائع، لا ينبغي للمصري أن يراه إلا بدمع منهمر، وقلب منفطر؛ لأنه الشاهد الأكبر على كبرياء كبرائه، وهوان أجداده وآبائه.
قال عيسى بن هشام: وهنا رأينا أصحابنا قد أقبلوا وبينهم تلك العاهرة الفاجرة، فأشارت عليهم بالجلوس، فاتخذوا لهم مجلسا في ظل من ظلال الأهرام، وانبسطوا على بساط الشرب والنقل، فقطعنا من بيننا حديثنا وانتهينا إلى جوارهم لنسمع ونرى من أخبارهم وأحوالهم، فإذا العمدة يقول للتاجر متظاهرا أمام المرأة بمظهر الباحث المدقق والعالم المحقق:
العمدة :
هل لك علم أيها الصاحب بشيء عن أصل الأهرام، وسبب وضعها وتاريخ تشييدها؟
التاجر :
كيف لا يكون لي علم بذلك، وقد وقفت على قصتها تماما، وقرأتها مرارا في كتاب «قصص الأنبياء» عند الكلام عن سيدنا نوح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - بحيث يمكنني أن أقصها عليك حرفا بحرف: «ذلك أن الملك «سودون» كان ملكا على مصر قبل الطوفان، فرأى في منامه رؤيا أفزعته فاستدعى السحرة والكهنة والمنجمين، وقص عليهم أنه رأى النجوم تناثرت والقمر هاويا إلى الأرض، فقالوا له: إن هذه الرؤيا تدل على حدوث طوفان عظيم يغمر الأرض قريبا، ولا يبقي على شيء فيها، فارتاع الملك واستشارهم ماذا يفعل للنجاة من هذا الحادث العظيم، فأشاروا عليه بابتناء هذه الأهرام حتى إذا حل الخطب انتقل إليها، واستعصم بها مع أهله وحاشيته وذخائره وكنوزه، فحشد الملك الألوف المؤلفة من الخلق وسخرهم لهذا العمل، فأتموا له هذا البناء في مائتين وخمسين عاما، ثم كساها بالديباج وفرشها بالحرير، ونقل إليها من نفائس الجواهر وذخائر الكنوز ما تعب الناس في حمله ونقله شهورا كثيرة، ثم إنه جمع السحرة فحصنوها له بالأرصاد والطلاسم، ولما قرب وقت الطوفان لجأ إليها بأهله وحاشيته وطغى الطوفان فلم ينج منه إلا أهل السفينة وعوج بن عنق وهذه الأهرام، وعوج بن عنق هذا هو حفيد آدم - عليه السلام - ولد في زمن جده وأدرك موسى - صلوات الله عليه - وذكروا أن ذلك الطوفان الذي علا الهضاب والجبال لم يبلغ حد ركبتيه، فكان يخوض فيه مع السفينة فإذا أحس بالجوع مد يده إلى قاع البحر، فأخذ الواحدة من السمك فيدنيها من عين الشمس ويأكلها مشوية، ولما انقضى الطوفان وعاد العمران إلى الدنيا أخذ يعيث في الأرض فسادا دهرا طويلا، حتى بعث الله موسى - عليه الصلاة - فشكا الناس إليه ما يفعله عوج بن عنق، فدعا الله أن يكفيهم شره، وكان عوج بن عنق قد حمل صخرة فوق رأسه؛ ليلقيها على أهل بلدة حل بهم غضبه، فأرسل الله تعالى طيرا له منقار من الفولاذ فما زال ينقر الصخرة من وسطها حتى ثقبها فسقطت في رقبة حاملها، وصارت غلا له يمنعه عن الحركة والانتقال، فجاء موسى بعصاه وكان طوله - عليه السلام - أربعين ذراعا وطول العصا أربعين ذراعا، ثم إنه وثب في الهواء أربعين ذراعا، وضرب عوج بن عنق ضربة فلم تتجاوز كعبيه، ولكن قوة سيدنا موسى ألقته إلى الأرض ؛ لأنه من أولي العزم، فوقع عوج بن عنق في النيل فحسره عن أرض مصر سنة كاملة ووقعت الوحوش الضارية تنهش من رجليه، فكان إذا مر عليه مار عند رأسه قال له: «إذا وصلت بسلامة الله إلى قدمي فامنع عني ما يؤلمني من هذا الذباب.» يعني الوحوش المفترسة، وبقي على هذه الحال إلى أن مات فاتخذوا من أضلاعه قناطر للنيل، واتخذت الوحوش من عينيه وأذنيه ومنخريه كهوفا ومغائر تسكنها، وكفى الله العباد شره وفساده».
العمدة :
سبحان الخلاق العظيم، أرجوك بالله يا أخي أن تشتري لي نسخة من هذا الكتاب أحملها معي إلى البلد؛ ليقرأها لنا إمام المسجد أو مأذون الناحية عند خلونا من الأشغال.
قال عيسى بن هشام: وكان الخليع في هذه الأثناء مشتغلا بمحادثة المرأة متفرغا لها، يضاحكها وتضاحكه ويشاربها وتشاربه، فلما انتهى التاجر من قصته أقبل الخليع على العمدة يلاطفه ويؤانسه ويقول له:
الخليع :
هل رأيت بالله عليك يوما أعظم أنسا وأتم سرورا، وأجمع لأسباب الهناء والصفاء من يومنا هذا؟
العمدة :
حقا إنه يوم سعد وأنس غير أني كنت أود أن يكون هذا المجلس في البيت لا في الخلاء، وتحت السقف لا تحت السماء، فإنك ترى كثرة السياح والعربان من حولنا، وفي ذلك من التضييق على حريتنا ما لا يخفى عليك.
الخليع :
لا تخش الناس ولا تشغل نفسك بالخلق، واغتنم اللذات بكل جسارة وإقدام، وليس للإنسان سوى ساعة الصفو إن لم يغتنمها ترك الدنيا بصفقة المغبون، وأنا أقترح عليك الآن أن نعمل مثل عمل السياح في الصعود إلى الأهرام حتى لا يفوتنا شيء من أسباب التنزه.
التاجر :
دعنا من هذا الاقتراح فليس هو من شأننا، وأية لذة بالله عندك في صعود الجبل، واحتمال المشقة والتعب مع التعرض للخطر في كل خطوة؟
الخليع :
هذا أمر سهل جدا وقل من يزور الأهرام إلا ويصعد فيها مسافة على قدر جهده، وانظر إلى هذه النسوة الأمريكيات الصاعدات النازلات في أيدي العربان أمام عينك، هل تراها تخشى خطرا أو ترهب تعبا ، وهل يليق بنا معشر الفحول من الرجال أن نكون أدنى من النساء جرأة وإقداما، وعلى كل حال فلا بد لنا من الصعود قليلا ليعلم من حولنا أننا جئنا مثلهم لزيارة الآثار لا للهو والخلاعة، والسيدة توافقني على هذا الرأي.
العمدة :
وأنا أوافق عليه أيضا، أرجو الله أن نعثر في صعودنا على فص من الفصوص العتيقة التي طالما عثرت على مثلها في التل الكفري بناحية بلدتنا، ولكن كيف نترك سيدتنا وحدها؟
التاجر :
أنا أنتظركما معها.
الخليع :
لا بل تصعد هي معنا أيضا اقتداء بهذه السيدات.
قال عيسى بن هشام: ويقومون للصعود ويتلكأ التاجر في أخرياتهم ويحاول التخلف عنهم فيدفعه العمدة بكل قواه ممازحا له وساخرا منه لشدة تخوفه وحذره، والخليع والمرأة يغريانه به ويضحكان لضحكه وما كادوا يصعدون قليلا حتى حانت من العمدة التفاتة إلى الأرض، فهاله ما بينه وبينها من الفضاء فامتقع لونه وارتعدت فرائصه، ومال على الدليل البدوي مستغيثا به أن ينزله إلى الأرض معتذرا أن الصفراء لعبت برأسه فلا يقوى على متابعة الصعود، فيدركه الخليع فيسنده مع البدوي فيسقط من أيديهما فيحمله البدوي على ظهره وينزل به، فما يبلغ الأرض إلا ونسمع من المرأة صياحا وعويلا من فوق الهرم وهي تناديهم جميعا أن يبحثوا لها عن فص الخاتم الذي وقع من إصبعها، فيلحق بها الخليع فيبحث فلا يجد شيئا فينزل معها فيتلقاها العمدة بالتخفيض والتهوين عندما تتلقاه بالبكاء والعويل، ويغلب على ظن التاجر أن الفص ربما لم يسقط في حال الصعود بل في حال الجلوس، ويطلب من العربان أن يدركوه بغربال يغربل به الرمل عساه يجده فيه، هذا والمرأة لا ينخفض لها صوت، ولا يرقأ لها دمع ولا تنتهي لها شكوى، والخليع يطيب من خاطرها تارة، ويميل على العمدة طورا يظهر له الأسف من الحادث الذي كدر عليهم الصفو وأبدلهم بالأنس حزنا، وأن هذه شيمة الدهر قلما يتم فيه صفاء أو يكمل فيه سرور، وما من لذة إلا وهي مشوبة بالألم:
فسد الزمان فما لذيذ خالص
مما يشوب ولا سرور كامل
على أن المصيبة هينة ما دامت في المال دون النفس، ومن ذا الذي يدري بما هو مخبأ له في الغيب، والحمد لله على اللطف في القضاء، ولا يزال الخليع بالعمدة حتى يتقدم إلى المرأة، ويقسم لها أنها لا تبيت الليلة إلا ولديها فص مثل الفص الضائع، فتشكره وتقول له: أنى لها بمثل ذلك الفص وهو من الياقوت النادر المثال في لونه وصفائه، فيعيد عليها القسم بأنه سيأتيها في الغد بفص أثمن منه وأجمل، ثم إنه يشد على يدها توثيقا للوعد فتشد على يده للتقبيل فيعز عليه حينئذ أن يرى إصبعها بخاتم من غير فص، فيخلع خاتمه الذي استخلصه من الرهن ويلبسها إياه حتى يأتيها بغيره، ويعودون إلى مجالسهم ويأخذون فيما كانوا عليه من المسامرة والأنس، ويقول العمدة بعد استقرار المجلس بهم:
العمدة :
ما أحسن المجلس وما أضيق الوقت وحبذا لو واصلنا الليل بالنهار!
التاجر :
لعلك تريد أن نقضي ليلتنا مثل تلك الليلة الماضية في ذلك الحان المنحوس.
الخليع :
وهل تظن أنه يمكن لنا التمتع بصاحبتنا في الحان مثل ما نتمتع بها الآن، وقد شاهدنا بأعيننا ما حولها هناك من المزاحمة والمخاصمة؟
العمدة :
وما العمل حينئذ.
الخليع :
العمل أنني أكلفها أن تتمارض هذه الليلة، وترسل إلى صاحب الحان بتعذر حضورها عنده.
العمدة :
نعم الرأي ما ترى.
قال عيسى بن هشام: ويأخذ الخليع في استعطاف المرأة لقبول هذا الطلب، فتمتنع أولا معتذرة بما بينها وبين صاحب الحان من الشروط التي تقضي عليها بدفع عشرة جنيهات إليه تعويضا عن كل ليلة تتأخر عن الحضور فيها، فيلتفت الخليع إلى العمدة ينتظر رأيه، فيميل العمدة على المرأة متعهدا لها بدفع هذا التعويض، ثم يتساءلون فيما بينهم كيف يقضون ليلتهم في الأنس والسرور، فيرى العمدة قضاءها في البيت، ويرى التاجر قضاءها في التنقل بالمرأة في «البارات» ويرى الخليع قضاء جانب منها أولا في مشاهدة الرواية البديعة الجديدة التي تمثل في «التياترو» العربي، فيقع اتفاقهم على هذا الرأي الأخير فيسرعون بالقيام ليدركوا فسحة الجزيرة أولا، وينصرفون على هذا العزم المؤكد، والميعاد المحدد، ويعن «للصديق» أن نتخلف عنهم، ريثما تنقضي فسحة الجزيرة بهم، وأن نقضي هذه المدة الوجيزة، في زيارة قصر الجيزة، ثم نلحق بهم عند المساء في دار التمثيل والتشخيص، وديوان الروايات والأقاصيص.
قصر الجيزة والمتحف
قال عيسى بن هشام: ووصلنا إلى قصر الجيزة ومتحف الآثار، وملتقى السيارة من سائر الأقطار،
1
فدخلنا روضة تجري الأنهار من بينها، كأنها الجنة بعينها، ولما رأى الباشا مسالك الروض منضدة وطرقه مرصعة مزردة، حسبها أرضا مفروشة، ببسط منقوشة، وأشكل الأمر عليه، فهم بخلع نعليه، فقلت: طريق معبد
2
لا فرش منجد، وحصباء ومرو
3
لا بساط وفرو، ثم شاهدنا قصرا يكل عنه الطرف، ويقصر دونه الوصف، فسرنا نرتاد خلاله، ونتفيأ ظلاله، فإذا الأسود مقصورات في المقاصير، والأساود مكفوفات في القوارير،
4
ورأينا النمور في الخدور، والرئال في الحجال،
5
والذئاب في القباب، والظباء في الخباء، فقال الباشا: لمن هذه الجنان؟ وكيف يسكنها الحيوان؟ وما علمت من قبل أن الليوث الضواري، تسكن مغاني الجواري، وأن أوابد
6
البيد
7
تتحجب في خدور الغيد. فقلت له: سبحان القادر العظيم، هذا بيت إسماعيل بن إبراهيم، طالما كانت حجراته مطالع للأقمار، ودرجاته منازل للأقدار، كان إذا نادى صاحبه فيه «يا غلام» شقيت أقوام وسعدت أقوام، ولبى نداءه البؤس والندى، بأسرع من رجع الصدى، وكان من احتمى بظل هذا الجدار، تحامته غوائل الأزمان والأدهار، هنا كان يفصل الأمر ويحكم، وينقض الحكم ويبرم، هنا كانت تنفرط فرائد القلائد، من أجياد الخرائد، فتختلط بمنثور أزهاره، وترصع لحين أنهاره، هنا كانت تتناثر الحلي من قدود الحسان، فتشتبه بأثمار الأغصان، هنا كانت تصدح القيان على المزاهر والأعواد، فتجيبها ذوات الأطواق فوق الأفنان والأعواد، فأصبح اليوم حديقة مبتذلة عامة، وموطئا لأقدام الخاصة والعامة، وأصبحت أرضه تكترى، وجنى أشجاره يباع ويشترى، ودوى فيه صياح النسور وزئير الأسود، وامتلأت أرجاؤه بعواء الذئاب وهمهمة الفهود، وزال ما كان فيه من عز وطول، ومجد وصول وأيد وحول،
8
وصدق الكتاب فحق عليه القول:
في هذا الدار، في هذا المكان ، على
هذا السرير ، رأيت الملك قد سقطا
وذكرت للباشا ما كان لصاحب هذا القصر، ومليك ذلك العصر، من الجد الصاعد، والبخت المساعد، وما صار إليه بعد ذلك من أفول السعد، وما دهاه في الغربة إلى أن سكن اللحد.
نالوا قليلا من اللذات وارتحلوا
برغمهم فإذا النعماء بأساء
ثم وقف الباشا هنيهة فكر فيها واعتبر، وتلا:
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر .
ثم إننا سرنا في وسط الحديقة حتى انتهينا إلى دار التحف العتيقة، فدخلنا نشاهد ما أبرزته يد البحث من الخفاء إلى الظهور، وما أعادته قوة التنقيب من البلى إلى النشور، وما صانته ألحاد القبور من يد الفناء والدثور، وجمعته أحشاء الرموس من العفاء والدروس، وما أجنته أرحام المعابد والهياكل من بقايا المواضي وخفايا الأوائل، وما انسدلت عليه سجوف الأحقاب من ودائع الأسلاف للأعقاب، وما انشقت عنه الأرض من مكنون الدفائن، ومكنوز الخزائن، وعجائب الفن الدقيق، وبدائع الصنع الأنيق، بليت في اصطحابها جدة الأيام والليالي، وانحنت على احتضانها ظهور العصور الخوالي، ومضت دول بعد دول، وذهبت أول في إثر أول، واندثرت مدائن ونشأت مدائن، وبادت مواطن وقامت مواطن، وانقلبت الأغوار أنجادا، والأبحار أطوادا، وغدا العمار خرابا، والغمار سرابا،
9
والسراب غمارا، والخراب عمارا، وهي هي مصون شكلها كما تركها أهلها، لسان صادق وخبر ناطق، تنطق بالعبر، وتحدث عمن غبر:
مضت غبرات العيش وهي غوابر
10
على الدهر مكتوب عليها حبائس
وأقمنا هناك نتنقل بين الأصنام والتماثيل، ونتأمل في التصاوير والتهاويل،
11
ونتفكر في هذه العظام المنشرة، والرفات المنظرة، بما عليها من الحلي والزينة، وتلك الأحجار الثمينة، كيف كانت ملوكا للأمم.
ثم بقيت على بلى الرمم، وتوالي القدم، في حال الوجود مع العدم.
ورأينا بجانبنا رجلا من ذوي العمائم، مع فتى من الطرز المتحاذق المتعالم، ظهر لنا من أمرهما، وتبين من شكلهما أن الرجل عين من أعيان المدينة، وأن الفتى ابن له وزينة، وإذا هما يتناظران ويتحاوران، فيما يريان ويبصران، فدنونا منهما وأنصتنا إليهما:
الابن :
أشهدت مشاهد عزنا ورأيت معاهد فخرنا ، وعلمت كيف كان مقدار مجدنا، وإلى أية رتبة بلغت بنا صناعة أجدادنا؟ فلله درهم ما كان أرقاهم في الفكر وأبدعهم في العمل! ولو أن نوابغ الأمم اجتمعوا اليوم اجتماع مفاخرة، ونزلوا إلى ميدان المناضلة والمناظرة، لما سبق المصري منهم سابق، ولا تعلق بأثره لاحق، ولكان له من بينهم الكعب الأعلى، والقدح المعلى، وهذه الآثار في يده يفاضل بها ويفاخر، وينشد عليهم قول الشاعر:
هذه آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
الوالد :
ما أرى شيئا في هذه الآثار التي تماجد بها، وتفاخر يفوق ما يكون في السوق من البضاعة الكاسدة والسلع البائرة، وما يتخرج عن بيوت الناس من الأعراض الواهية والأمتعة البالية.
الابن :
كيف يكون منك هذا القول وهي بشهادة العالم أجمع أثمن من كل ثمين، وأنفس من كل نفيس، لا تقويم لها ولا تقدير إلا بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وكيف غاب عنك تهافت هؤلاء الغربيين أهل المدنية الحاضرة على اقتناء شيء منها بالمال الجم تنافسهم في التمتع بمشاهدتها يتحملون لذلك الأسفار البعيدة، والمتاعب الشديدة، ولا يعقل وهم هم، أهل الهدى والعلم، أن يشتغلوا بباطل، أو يجهدوا أنفسهم على غير طائل.
الوالد :
لكم دينكم ولي دين، وما أزال أكرر القول لك بأنني لا أجد في نفسي شيئا مما تشعرون به في هذا الباب، وما أراه من هذه الأحجار والتماثيل لا يساوي في نظري إلا أنقاض بيوت عفت، أو طلول درست، وإن صح ما يقال عن هذه التماثيل إنها أشخاص قديمة نزل بها السخط والمسخ، كان التعلق بها والتمجيد لها مما يغضب الخالق ولا يرضي المخلوق، وأما قولك: إن فيها منتهى فخرنا ومجدنا؛ لأنها من صنع آبائنا وأجدادنا، وإن آباءنا وأجدادنا هم من نسل هذه الرمم الفرعونية، فإنه إثم ونكر أستعيد بالله منه
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا
ما كان أجدادنا وآباؤنا إلا أولئك العرب الكرام، أهل الدين والإسلام، لا نفاخر إلا بمفاخرهم، ولا ننتسب لغير أصلهم، وأما من جهة الصنعة في كل ما أراه هنا ، فإن صبيان الفلاحين اليوم يشتغلون بصنع مثل هذه الآثار والأحجار، ويتفننون في تقليدها فتخرج من أيديهم وهم بين الروث والطين أتقن صنعا من هذه المحجبة في القصور المصونة في البلور.
الابن :
علم الله لو كان في لغتنا العربية من الكتب المؤلفة في مزايا هذه الآثار مثل ما في اللغات الأجنبية لعلمت منها ما لم تكن تعلم، على أن مجرد النظر يكفي وحده لإثبات هذه الآيات والمعجزات في حسن الصنعة والدقة، أفلا تنظر إلى هذا التمثال البديع تمثال شيخ البلد وهو قطعة واحدة من خشب الجميز، فما أدق الصنع، وأتقن العمل وما أكمل الشبه وأجمل الصورة!
الوالد :
نحن في كل يوم نشاهد مائة شيخ بلد من لحم ودم لا من خشب وحجر، فدعني على غباوتي وجهلي وبارك الله لك في علمك وعقلك.
الابن (بصوت خفي) :
واغفر لأبي إنه كان من الضالين ، (ثم يجهر بالقول) - لا لزوم حينئذ لطول إقامتنا هنا وهلم بنا فقد حل الميعاد المضروب بيني وبين ذلك السائح الذي زارنا بالأمس؛ لتناول العشاء معه في «أوتيل شبرد».
الباشا (للصديق بعد انصرافهما) :
ماذا تقول في هذه المناقشة وما دار من الكلام بين الولد والوالد؟
الصديق :
ما عساي أن أقول غير ما قاله الله عز وجل:
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، وماذا نرى هنا غير الذي رآه هذا الوالد الساذج، قبور مقلوبة، ورموس معكوسة وأجداث منبوشة، فإن كان الغرض من عرضها العبرة أو الموعظة فإن فيما هو أمامنا كل يوم من هبوط الملوك عن ذهب العرش، إلى خشب النعش، ومن وسائد الحبر، إلى مساند الحجر، ومن ظهور الصافنات الجياد، إلى بطون الديدان في الأكفان والألحاد، لنعم الموعظة الحاضرة للنظر والحس، والحكمة البالغة للعقل والنفس.
الباشا :
هذه هي الحقيقة بعينها في نظري الآن، وقد كنت أحسب أن لهذه الآثار شأنا عظيما فيما مضى من دهري، عندما كنت أرى تهافت الغربيين عليها في زمن الولاة السابقين، ولكن لعل شأنها عندهم وعلو قيمتها لديهم هو لأجل توغلها في البلى والقدم ومحلها من التاريخ، وما تحمله منقوشا عليها من أساطير الأولين.
الصديق :
نعم إن كان من وراء هذه الآثار والأشلاء قيمة عند الغربيين، فإنما هي كما تقول لتعلقها بمباحثهم في أخبار الأوائل وفلسفة التاريخ، وزد على ذلك حبهم للاقتناء وولوعهم بالاختصاص بالنادر، ولذلك علت قيمتها عندهم وارتفع قدرها بينهم، وليس للمصريين منها أقل فائدة سوى الشهرة بأن في مصر آثارا تفوق في القدم مثلها من بقية المتاحف، ولو أنك عرضت أهل مصر على هذه الآثار واحدا واحدا لما استفادوا منها شيئا، ولا أفادوك عنها شيئا، ولما وجدوا لها قيمة تذكر سوى النزر اليسير من المقلدين للغربيين، ولم تجد بين عشرة الملايين اليوم سوى شخص واحد يفقه لغة «الهيروغليف» أعني لغة آبائهم وأجدادهم كما يزعم الزاعمون مع كثرة الخبيرين بها من الأمم الغربية، والله أعلم بمقدار علمه بها، ولو تمنيت الأماني لقلت: عسى الله أن يخفف بقيمتها العالية بعض ما على الحكومة المصرية من أثقال الديون، وما على المصريين من أعباء الضرائب والمكوس، ويا ليت المصريين يخرجون عنها لا عليهم ولا لهم، فإنها تكلف الأمة المصرية نفقات على البحث عنها في خبايا الأرض وجمعها والتحفظ عليها، ونقلها من أماكنها إلى المتحف، وناهيك بنفقات المتحف التي أنفقتها الحكومة أولا على متحف بولاق، وثانيا على متحف الجيزة، وما تنفقه ثالثا على المتحف الجديد بقصر النيل، فإنها تعد بالملايين.
الباشا :
كنت أرى رأيك هذا وأتمنى أمنيتك لولا أن يقال: إن المحافظة على هذه الآثار والحرص على بقائها بمصر مزية أدبية لها قدر عظيم يعرفه من عرف مقدار حرص أهل الممالك الأخرى على الآثار والتحف، وشدة ضنهم بها، فلا يرغبون البتة في بيعها والتخلي عنها ويرون فيها فخرهم ومجدهم، فلا يليق بمصر أن تشذ عن هذا السبيل.
الصديق :
إن حرص أهل الممالك على ما في متاحفهم من الآثار وتفاخرهم بها هو؛ لأنها عندهم علامة من علامات التغلب والانتصار، وإشارة إلى المجد القديم والعز التليد، ولكن أين علامة التغلب والانتصار عند المصريين ، وما هي إشارة المجد والشرف في هذه الرمم البالية، رمم أهل الجهل والظلم من أغبياء الملوك الأقدمين، ولأن الغربيين في غير حاجة إلى قيمة أثمانها فهي عندهم من الكماليات، أما عندنا فالأمر بالعكس، ولم تأتنا هذه الآثار من جهة الفتح والنصر، وإنما جاءتنا من طريق النبش والحفر، والمصريون في حاجة إلى المال لإنفاقه في ضروريات المعايش، وقلما يمر عام إلا ويكشف المكشفون في مصر من هذه الآثار الشيء الكثير، بحيث يوجد لكل نوع منها أشباه كثيرة، فما ضر المصريين لو تخلوا عن بعض هذا الكثير الزائد، وعن تلك الأشباه المتعددة، وانتفعوا بقيمة أثمانها في بعض شئونهم العامة، ويبقى في المتحف مع ذلك من الآثار ما يكفي للفخفخة والمباهاة ومباراة الأمم في تشييد المتاحف، وإن كان قد جاز لحكام مصر السابقين أن يهادوا ملوك أوروبا وأميركا بالجانب العظيم والقدر الجليل من هذه الآثار القائمة اليوم في الأنحاء المختلفة من أقطارهم، وأن يغضوا النظر عن الوافدين على الديار المصرية لسببها أو ابتياعها من أيدي الفلاحين بدرهم أو دينار، فلم لا يجوز التخلي عن بعضها للانتفاع بأثمانها وهي على ما تراه - ما لا يباع فإنه يتقسم - وجملة القول: إن الانتفاع بها اليوم قاصر على الأجانب وحدهم إما بمشاهدتهم لها في ديارنا أو بانتقالها مسلوبة إلى ديارهم، وأي عار على الأمة المصرية أن تتصرف في بعض الآثار المتشابهة التي تنبتها لها الكهوف والتلال في كل يوم؛ لتنتفع بأثمانها في ترقية شأن المعارف وبث الأدب بطبع تلك الكتب المخزونة للأرضة بدار الكتب المصرية في المطبعة الأميرية، التي طالما أفادت الناس بطبع الكتب النافعة في أيام الحكومة السابقة حكومة الجهل والظلم، وخبروني - ناشدتكم الله - أي نفع وفائدة للأمة المصرية الإسلامية في أن تنشر بين يديها رمم الفراعنة في الانتكخانة، وتقبر أرواح العلماء والحكماء في الكتبخانة؟ وأي الأمرين أعظم نفعا وأكثر ربحا، أن يعرض على أعيننا تمثال «إيبيس» وصورة «إيزيس» وذراع «رعمسيس» وفخذ «امينوفيس» أو أن تتداول الأيدي كتابا للرازي ومقالة للفارابي وفصلا لابن رشد ورسالة للجاحظ وقصيدة لابن الرومي ؟ وما تجري الأمور عندنا شهد الله إلا على التناقض، وما تسير إلا على خلاف المصلحة.
قال عيسى بن هشام: وجاء أوان الخروج، فقمنا نسعى لنلحق بأصحابنا في الملهى، ونشاهد ما يتم عليه حالهم، وينتهي إليه مآلهم.
العمدة في الملهى
قال عيسى بن هشام: وعدنا إلى المدينة وقد مد الغروب حبالته؛ ليقتنص من الأصيل غزالته، فطارت نفسها شعاعا،
1
واضمحل قرصها شعاعا، وجدت نافرة إلى كناسها، وهي تصعد الشفق من أنفاسها، ثم اختفت شقائق الشفق، تحت أكمام الأفق، ولما أن اخضر من الليل جانبه، وطر شاربه، وتوقدت مصابيح السماء، في قباب الظلماء، قصدنا دار التشخيص والتمثيل، وبيت التصوير والتخييل، فدخلنا مع الداخلين نساء ورجالا، أجناسا وأشكالا، واخترنا لجلوسنا الكراسي دون الغرف لتتيسر لنا المشاهدة من كل طرف، ثم جلسنا نحدد النظر، في من حضر، وإذا نحن بين أخلاط من الطبقات اختلفت أزياؤهم، واتفقت أذواقهم وأهواؤهم، وعلا ضجيجهم وصياحهم، وكثر لعبهم ومزاحهم، سبا وشتما، ولكزا ولكما، ثم يتمايل بعضهم على بعض، ويضربون بعصيهم وأرجلهم ظهر الأرض، رجالا وغلمانا، شيبا وولدانا، متظاهرين بملل الاصطبار، ومطالبين برفع الستار، ثم حولنا النظر إلى أعالي الشرف، وجوانب الغرف، فرأينا من بينها مقاصير عليها رقائق الستائر، تشف عن لوامع اللآلئ والجواهر، في نحور الحور، من مكنونات القصور، وبيضات الخدور، ولولا التأدب لتخيلناها من بنات الفجور، فهن يزحزحن من الوشي والحبر، ويكشفن عن الطرر، تضيء بالغرر، ضوء الليل تحت القمر، ويتراءين ترائي الكواكب والنجوم، من خلل السحب والغيوم:
وتنقبت بخفيف غيم أبيض
هي فيه بين تخفر وتبرج
كتنفس الحسناء في مرآتها
كملت محاسنها ولم تتزوج
والرجال من تحتها ينظرون ويتشوفون، ويتشوقون ويتلهفون لا تنثني أبصارهم عن وجهتها، ولا يحولون الوجوه عن قبلتها فهم قائمون على عبادتها عاكفون، لا ينفكون عنها ولا هم يستنكفون، وهن يوالين الضحكات، ويتالين الحركات، ويتبادلن معهم الغمز، ويتبادلون معهن الرمز، ويتراسلون بمراوح تثير مكنون الهوى والغرام، ويشيرون بمناديل تغني عن فصيح اللفظ والكلام، وقد خرقت الأصابع نسيج الأستار؛ لتنفذ منها رسل الأزهار ، وتقابلت بينهم المناظير بالمناظير، تدني البعيد وتكبر الصغير، وكل فتى يرى أنه المرمي دون سواه بالنظرات، وأنه المعني بتلك الإشارات، فيتصنع التجمل والتظرف، ويتكلف التأنق والتلطف، وفوق أعلى الشرفات أقوام وأي أقوام متزاحمين أكواما على أكوام، كأنهم في سوق من أسواق الأنعام، لا ينتهون فيه عن الشجار والخصام، وتفقدنا أصحابنا في أنحاء الملهى، فوجدناهم في غرفة والعاهرة في أخرى، وقد تزيت بزي الأجنبيات فنبذت الخمار والإزار، وتبدت في القبعة والزنار، وهي تغامز العمدة بعينيها، وتشير إليه بيديها، والخليع يكون تارة في الغرفة عندها وأخرى يظهر في غرفة بعدها، إلى أن دق الجرس بالدخول، وارتفع عن الملعب ستره المسدول، وظهر فيه أمامنا طائفة من الممثلات والممثلين، ما بين ملحنين ومرتلين، على طريقة يمجها السمع، ويعافها الطبع، وبكلام مبهم، وألفاظ لا تفهم، كأنهم حداة في مفازة،
2
أو سعاة في جنازة، وهم في أزياء متعاكسة، وأشكال غير متجانسة وثياب تنافرت ألوانها، على أشخاص تباينت أوطانها، وظلوا يعبثون بالأناشيد والتلاحين، ثم انصرفوا عنا بعد حين ثم ظهر من بعدهم رجل مكتهل، مزجج الحواجب مكتحل، مصبغ الخد والجبين، بأحمر كالورد وأبيض كالياسمين، فأخذ يخطر ويتثنى ويهتف ويتغنى، وبجانبه امرأة نصف، تتمايل وتنعطف، لا تقل عنه شيئا في باب التصبغ والتدهين، والتصنع والتلون، يقول لها في شكوى الغرام، وشرح الوجد بها والهيام: «يا حبيبة الفؤاد، وغاية المراد، ما ألطف هذا الشكل! فهيا بنا نغتنم الوصل».
فتجيبه: «قد يكون ذلك أيها الخل الوسيم، إذا ساعدتنا أمي نسيم، فدبر أنت ما عليك، وها أنا ذاهبة لأرسلها إليك».
ثم تنصرف الفتاة ويبقى الفتى في انتظار حضور الأم فتدخل عليه، وإذا هي عجوز شوهاء، وجلبانة ورهاء،
3
فيتصل بينهما الكلام وينتهي بالقبول والاتفاق، ويضع الفتى في يدها كيسا من الدراهم عند مفارقتها إياه، ثم ينفرد متجولا ينشد ويغنى مدة من الزمن، ثم يذهب لسبيله، وتأتي الأم ومعها زوجها وإذا هو رجل قد أثقلت ظهره السنون ولم تفده التجارب شيئا، فتحتال عليه ليقبل زيارة الفتى وتردده على ابنته في بيته فيمتنع ويتعلل بقوله: «حقا إن ذلك الشاب، هو ألح من الذباب، وهو عندي أفسق من الشياطين، وأخبث من البراذين، لا يترك من النساء الدون، ولا العجوز الحيزبون».
فتجيبه بقولها: «لا تخف أيها الزوج الأفضل، فما كل الطيور تؤكل، وابنتنا العاقلة الحلوة لا يخشى عليها منه في الاجتماع ولا الخلوة»، ثم يطول الكلام بينهما وينتهي بقبول الوالد ما دبره له كيد الوالدة، ثم يذهبان ويجتمع العاشق بالفتاة فيتعانقان ويتلاثمان وتقول له في حديثها: «الحمد لله أيها الشاب الأنيق، على التيسير والتوفيق، فقد سهلت أمي لنا الطريق، ولم يبق أمامنا إلا استرضاء الخادمة، حتى تكون لأسرارنا كاتمة» فيجيبها: «نعم وإن لم تطاوعنا فإنها تصبح حزينة نادمة؛ لأني أقسم يا بنت الكرام بما بيننا من الحب والغرام أنني أذيقها كأس الحمام بحد هذا الصمصام، إن امتنعت عن تسهيل الأرب بقبول ما في هذا الكيس من الذهب».
فتقول له: «آه حبيبي ما أطرب الجلوة، وما أطيب الخلوة، حيث نصبح في بحر النشوة، وهيا بنا أيها الهمام، فإني أسمع صوت أقدام، وعندي الآن أن أحسن طريقة، أن نتنشق نسيم الصبا في زوايا الحديقة، فيقول لها: «حفظت يا سيدتي ومولاتي، ومنبع حياتي ومماتي، فالآن قد بزغت شمس سعودي، وعطر الأكوان عرف ندي وعودي».
ثم يذهبان ويحضر بعدهما غيرهما فيتداول الكلام بينهم مرة عن سرقة واحتيال، وخيانة واغتيال، وأخرى عن اجترام واقتراف، واختلاس واختطاف، ثم يعلو بينهم الضجيج ويصيحون بغناء كأنه ندب وعويل.
وعلى هذا ينتهي الفصل الأول ويرخى عليه الستار ويجد الحاضرون حينئذ في الصفير والتصفيق، والتأوه والشهيق، كأنهم جميعا في نوبة من الصرع أو المس، ثم إنهم يتناثلون إلى الخروج لشرب الخمر والتدخين ونقيم نحن جلوسا في مكاننا فيلتفت إلي الباشا ويقول:
الباشا :
لقد سئمت - علم الله - ومللت من منظر هذه المراقص والملاعب، فما أشبه بعضها ببعض وما أجمعها لأشتات النقائص والرذائل على اختلاف أوضاعها!
عيسى بن هشام :
ليس هذا المكان في أصل وضعه بمرقص ولا بملعب، هذا هو «التياترو» المعروف عند الغربيين بأنه أصل التثقيف والتأديب ومنبع الفضائل ومحاسن الأخلاق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهو عندهم توأم الجرائد، هذه تعظ بالخبر، وهذا يعظ بالنظر؛ فيغرس في النفوس صورة الفضيلة مجسمة للأبصار بما يعرضه على الناظرين والسامعين من تاريخ أهل الفضائل في الأزمان الغابرة أو الحاضرة، ويفعل في النفوس ما لا تفعله الرواية والخبر، وهي في بطون القصص والسير، فيمثل لك محاسن الفعال، ومحامد الخصال، وما تأتي به عواقبها من الظفر بالمرغوب والحصول على المقصود، وإن اعترضتك معها المصاعب، ونالتك المتاعب، ويشرح لك شناعة الرذيلة ويصور فظاعة النقيصة وما يكون في عاقبتها من السوء، وفي أثرها من المكروه وإن خلبتك بمنظرها ساعة وخدعتك ببهرجها لحظة، فيجتمع لديك من الموعظة والعبرة ما عساه يردعك عن القبيح إن هممت به، ويردك إلى الحسن إن تقاعدت عنه، ويهديك إلى الطريقة المثلى ويخرجها لك من الغيبة إلى الشهود، ومن القول إلى الفعل، فتنجذب نفسك إلى أنواع الفضيلة من شجاعة وشهامة، وكرم ومروءة، وأمانة ووفاء، وسماحة وسجاحة، وصبر وحلم. وينفر طبعك عما تجمعه الرذيلة من دناءة وجبن، وخيانة وغدر، وجهل وحمق، وفحش وفسق.
الباشا :
إن كان الأمر كما تقول فكيف تسنى للمصريين أن يقبلوا وضعه ويشينوا شكله، ويجعلوا هذا المكان على مثل حال الحان؟ فلا فرق عندي فيما أنظره هنا الآن، وما رأيته في الحانات الأخرى من الرقص والعزف ومعاقرة الخمر ومغازلة النساء، وتمثيل أحوال العشق بأعظم شكل يغري به ويهيج من شهوات النفوس إليه، فإذا كان التشخيص على هذا النمط معدودا بينهم بابا من أبواب الآداب، وهم يحضرونه ويشاهدونه على هذا الاعتقاد فإن شره عندي أعظم من شر الملاعب والمراقص الأخرى؛ لأن الداخل إليه لا يرى على نفسه من لائمة يتقيها في دخوله، ولا ينكر على أدبه منكر فيه، ولا يخشى انتقادا عنده فتسترسل النفس في غيها، ولا تجد منها لها رادعا ولا وازعا، بخلاف الحال في الداخل إلى تلك الحانات، فإنه يدخلها وهو واثق بأنه قادم على ما يلام عليه ويعاب، فيأتيه وفي نفسه من الخجل والحياء ما عساه يصرفه يوما عن غيه وجهله، والإقدام على المحرم الصراح فيه من تأنيب النفس ما يزجر وينهى، لكن الإقدام على تحليل الحرام وإباحة المنكر هو الداهية الدهياء، والمصيبة العامة فلا وازع من الخجل والحياء، ولا زاجر من خوف الهلاك والعقاب.
عيسى بن هشام :
لا تأخذن ما تراه هنا من التقصير دليلا على أن هذا الفن غير مفيد للآداب، فقد قدمت لك أنه فن غربي، ووصفته لك بمقدار ما وصل إليه من الإتقان لدى الغربيين، وهو لا يزال هنا على حال القصور والانحطاط لم يلتفت المصريون إلى إتقانه وحسن وضعه، وجهل الناس أصل الغرض المقصود منه، فحسبوه نوعا من أنواع اللهو والخلاعة على ما ترى، وعذر الذين يشتغلون بهذا الفن في تقصيرهم أنه لا بد من مساعدة أهله بالمال؛ ليتمكنوا من السعي في ارتقائه وإتقانه، وهم يلومون الحكومة المصرية في كل يوم حيث تبذل المال لمعاونة الممارسين له من جماعة الغربيين أسوة ببقية الحكومات الغربية، ثم إنها تحرم أهل بلادها كل مساعدة من هذا القبيل.
الصديق :
قد سمعت مقالك وعندي أنه يجب على الباحث في الأمور المتعلقة بتربية الأخلاق، وتهذيب الطباع أن ينظر أولا إلى تأثير التربية، والإقليم وإلى تركيب الغرائز والفطر وإلى العادة والعرف، ولا يتحتم أن ما يكون ذا نفع عند الغربيين يكون له نفع عند الشرقيين؛ لاختلاف ذلك كله فيهم وتفاوته بينهم، والشواهد كثيرة جمة على أن ما يكون في باريس حسنا يكون في برلين قبيحا، وأن ما يكون في لوندرة حميدا يكون في الخرطوم ذميما، وما يكون في رومية حقا يكون في مكة باطلا، وما يكون عند الغربيين جدا يكون عند الشرقيين هزلا، ولست أرى أن هذا الفن لو تم لأصحابه ما يبغونه من وفرة المال ومعاونة الحكومة أن يصلوا به إلى حد الإتقان المطلوب، ولا أن يكون له النفع المقصود في تربية الأخلاق وحسن الآداب لما فيه من المنافرة البينة لطبائع أهل المشرق، وأخص بالذكر منهم أهل الإسلام لا بل ربما كان منه الضرر البحت، ولا يغيب عنك أن هذا التشخيص والتمثيل قائم على أساس العشق يدور فيه بكل أدوار، ولا تخلو قصة من قصصهم التي يمثلونها عن ذكر العشق والغرام، وما من رواية لهم إلا والعاشقان يكونان فيها كالفاتحة والخاتمة لها، هو إن كان مقبولا عند الغربيين مسموحا به لموافقة العادة عندهم، ولكونه شيئا لا عيب فيه يجهر به فتيانهم وفتياتهم، بل هو أصل من أصول التزاوج بينهم لكنه غير مقبول عند الشرقيين، ولا مسموح به في عاداتهم ولا يدخلونه في أبواب الفضيلة ومحاسن الآداب، ولذلك كان شأنه الكتمان والتستر لا التجاهر به والتظاهر، ولقد جرى العشق في بعض البلاد الشرقية مجرى العيب المحض والعار الفاضح، وكان عند بعض قبائل العرب إذا اشتهر أحد فتيانهم بعشق فتاة منهم منعوه عن التزوج بها لهذا السبب، وربما رفعوا أمره إلى السلطان إن شهر بها في شعره فيهدر دمه، فهذا العشق الذي هو الركن الأكبر والسبب الأعظم في حصول التزاوج عند الغربيين هو من أكبر الموانع في التزاوج لدى الشرقيين.
ثم إن تهذيب الأخلاق بهذا الفن لا يأتي إلا من الطريق المألوف والمسلك المعروف عند أهل كل بلد، فتشخيص هذه الأقاصيص والروايات الغربية الموضوعة على أخلاق أمة بذاتها لا يؤثر في أمة أخرى، ولا بد أن يكون التشخيص والتمثيل بين الشرقيين مطابقا لأحوالهم وظروفهم جاريا على مقتضى عرفهم وتاريخهم، وليس من المقبول عندهم حصول هذا التشهير والتمثيل في معيشة الأهل والولد، وما تنسدل عليه الحجب والستور في البيوت والدور، وليس في الدين الإسلامي ما يسمح باشتراك النساء مع الرجال في تأدية هذا الفن؛ لأنه ينهى النساء عن التبرج بالزينة فضلا عن الاختلاط بالرجال، ويأمرهن بغض البصر فضلا عن طموحه، ولا من أدب المسلمين أن يمثل بينهم تاريخ الإسلام وتاريخ خلفائه وصلحائه على أسلوب يبتدئ بالعشق والغناء، وماذا ترى في أبي جعفر عاشقا، وأبي مسلم مغنيا، وأبي الفوارس راقصا، كما يجترئ عليه الآن أهل هذا الفن، وذلك أكبر إهانة للأسلاف وأعظم خرف في التاريخ، وإن أردت أن أكاشفك بكل ما يجول في خاطري قلت لك: إن هذا الفن الذي تغالى الغربيون في إتقانه وارتقائه لم يفدهم أدنى فائدة في باب الآداب، وضرره بينهم اليوم ظاهر ونفعه غير باد؛ لأن المعول عليه عندهم في هذا الفن أن يظهروا الفضيلة من خلال تمثيل الرذيلة، ويبينوا عن العفاف بتصوير الشهوات إلى حد المبالغة التي يذهب إليها خيال الشاعر، فتوضيح الرذائل وتبيين الشهوات وعرضها على أصحاب الرذائل في القوالب المختلفة بما تنطوي عليه من وجوه الحيل والمكر والخداع والختل مدرجة إلى تعمق صاحب الرذيلة في رذيلته، واقتناعه فيها بتلك الوجوه المنوعة فلا يسبقه إليها سابق، وكم تدرب اللصوص ومهرة الأشقياء وبرز أهل الفسق والفجور بحضورهم تمثيل الروايات فاكتسبوا منها ما كان ينقصهم، وأخذوا عنها ما كان يعجزهم، ومن تأمل قليلا وجد أن الشرح والإسهاب في خفايا الرذائل التي يندر حدوثها ويقل وقوعها كان من الأسباب في انتشارها، ولذلك قالوا: إن توضيح الجرائم التي من هذا القبيل في القوانين مما لا يؤمن معه تيقظ المجرم إليها، وقد سئل الشارع الحكيم اليوناني عن سبب إغفاله عقوبة القاتل لأبيه في شريعته فقال: ما كنت لأتصور أن يونانيا في الوجود يقدم على قتل أبيه، فكان قوله هذا أنفى لوقوع هذه الجريمة من تدوينه شدة العقوبة عليها، واكتساب صاحب الفضيلة من كشف الرذيلة لا يقوم بمقدار الضرر الذي يلحق بأهل الشر منها.
قال عيسى بن هشام: ودق الجرس وعاد الناس إلى مقاعدهم واشتدت بينهم الجلبة وعلا الصياح، وزين السكر لأحدهم أن يقوم فيهم واعظا خطيبا، فما زال يهذي في القول حتى سقط على الأرض يتخبط في قيئه ورجيعه، لا في دمه ونجيعه، ثم ارتفع الستار عن منظر غابة يدور فيها ذلك الفتى ويتغنى بغناء يشبه أذان المؤذن ومن ورائه عشيقته تتلفت وتتعثر، ثم رأيناه قد ترك الغناء مرة واحد وتقدم نحو الحاضرين يخاطبهم بالزجر والتأنيب على جلبتهم وصياحهم، ويشكو مر الشكوى من الانصراف عنه في غنائه.
ثم إنه يعود إلى ما كان فيه من الغناء، ويأخذ بيد خليلته للهروب فيدخل والدها عليه في تلك الحال فيحول بينها وبين عشيقها، فينبري له الفتى بضربة حسام تلقيه على الأرض صريعا، ويدركه قومه فيصوب الفتى عليهم أسهمه ونصاله، فيلجأون إلى الفرار، وتقع المرأة مغشيا عليها ويقع العاشق باكيا تحت أقدامها، وعلى هذا يسدل الستار وينتهي الفصل ويعود الناس إلى مكان الشرب والتدخين، فنتبع أثرهم ونجلس ناحية في بعض زوايا الحان، وإذا بالعمدة وصاحبيه وعاهرته جالسون جانبا أمام إحدى المنافذ وأمامهم الراح والكئوس مترعة، وإذا برجل عابس الوجه بين الغلظة قد وقف أمامهم يقول للمرأة في كلامه: «أتظنين أن الهرب وخلف الميعاد يمنعك مني ويؤجل وفاء القسط المطلوب لي منك، وأنا لا أزال أقتفي أثرك منذ الصباح إلى الساعة، وتحملت في البحث عنك تعبا عظيما، والحمد لله؛ إذ عثرت عليك في هذا المكان ولست أبرح من هنا حتى تعطيني مبلغ القسط أو تردي إلي هذه الحلي التي يتزين بها صدرك أمام عشاقك وخلانك، ويمد يده ينتزع الحلي من صدرها فيمنعه الخليع متوسطا بينهما، ويقول له: ليس هذا وقته وليس هنا محل المطالبة وأمامك المحاكم، فلا يرجع الرجل عن عزمه بل يقول: «أنا لا أطالب بحقي أمام المحاكم وأمامي مالي في صدرها.»، ثم يمد يده ثانية فتقبض العاهرة على حليها وتميل على العمدة تستغيث به وتستجير، فتأخذه الحمية والنخوة فيدفع عنها الصائغ بيده فيقول له: «إن كان قد عز عليك يا حضرة العمدة مطالبة صاحبتك، فالشهامة تقضي عليك بأن تدفع لي المبلغ من عندك لا أن تدفعني عن حقي بيدك.» فيسأله العمدة عن مقدار المطلوب له فتقول له المرأة: إنه لا يزيد عن عشرين جنيها، فينقد الصائغ الدراهم في الحال ويطلب منه ورقة الاستلام، ثم يقدمها إلى المرأة بيد والكأس بيد أخرى فتقبل حافة الكأس شكرا له وحمدا، وينصرف الصائغ ضاحك السن قرير العين، ويعودون إلى شربهم وحديثهم، فيقترح العمدة عليهم أن يغادروا هذا المكان إلى سواه، وأنه يفضل الذهاب إلى منزل صاحبته، ويطلب من الخليع أن ينظم له مجلسا هناك فوق سطح المنزل في ضوء القمر .
وبينما هم في أخذ ورد إذا بصاحب الحان الذي تشتغل فيه المرأة واقف على رأسها واضع يديه في خاصرتيه يبكتها بقوله: «أهذا هو المرض الذي تعتذرين به عن تأخيرك في هذه الليلة عن الشغل، وهذا هو المستشفى الذي تتعالجين فيه؟ وأظن أن حضرة العمدة هو الطبيب الماهر في هذا العصر الحاضر.» ثم يجرها بيده لتذهب معه إلى مباشرة الشغل في الحان، فيمسكها العمدة من أذيالها ويقول له: «ما هذه الوقاحة، وما هذا التهجم بعد أن أخذت منها عشرة جنيهات في نظير تأخرها عن الشغل في الحان، ورضيت بهذا العوض لتكون على حريتها في هذه الليلة؟» فيقول له: «إن كانت أخذت منك هذا المبلغ لدفعه إلي فقد كذبت في دعواها وادخرت الدراهم لنفسها، فإما أن ترد إلي المبلغ وتتعهد لي بأنك لا تجتمع بهذه المرأة في غير محلي، وإما أن تستعد للقضية التي أقيمها عليك بطلب التعويض الذي لا يكفيني فيه دخل أطيانك.» ويشتد بينهم اللجاج والخصام فتنبري إحدى الممثلات الجالسات في الحان ممن انتهى دورهن، فتستصرخ البوليس لإخراجهم، فيأتي البوليس ويصمم أن يسوقهم إلى «القسم» جميعا، ونخرج وراءهم لاتباعهم، فيأبى الباشا ذلك كل الإباء وينفر عنه كل النفور، ويقول: أنا لا أتوجه إلى «القسم» لا شاكيا ولا شاهدا ولا مراقبا ولا مستخبرا، فقد جربت ما يقع فيه، وكفاني ما علمته من ظواهره وخوافيه، وقد شعرت بسأم في النفس، وصداع في الرأس، فلنذهب إلى البيت لنتمتع بشيء من الراحة، ونخلص من رؤية هذه الحرمات المباحة، فأجيبه بالطاعة والانقياد، ونترك الصديق على ميعاد.
المدنية الغربية
قال عيسى بن هشام: وما وصلنا إلى البيت حتى عمد الباشا إلى غرفة نومه، يحاول أن يشتفي بالرقاد من غمه وهمه، فتركته في غرفته، ورغبت في النوم كرغبته، وبينا أنا غريق في المنام، أسبح في بحر الأحلام؛ إذ سمعت الباشا يناديني نداء متتاليا، فقمت إليه مسرعا وملبيا، فأخبرني أن طول التفكر نفى عنه الرقاد، وأورثه الأرق والسهاد، وطلب مني أن نحيي الليلة بالسمر، وأن أقتلها معه بالسهر ، فجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، من قديم في الزمن وحديث، إلى أن صارت الليلة في أخريات الشباب فاستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في فودها
1
وبان أثر الوضح في جلدها،
2
فعبثت بالعقود والقلائد، من الجواهر والفرائد، ونزعت من صدرها كل منثور ومنظوم، من درر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من يديها.
ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها، وبرزت للناظرين عجوزا شمطاء، ترتعد متوكئة على عصا الجوزاء، وتردد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء، وقامت عليها بنات هديل،
3
نائحة بالتسجيع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتغير النحيب بالغناء، لإشراق عروس النهار، وإسفار مليكة البدور والأقمار، وما نشعر إلا وقد طلع الصديق علينا مع الشمس للموعد الذي كان بيننا من أمس، فسألنا كيف أصبحنا، وهل نعمنا واسترحنا، فأخبرته بما كان من اتصال السهر إلى الآن، وما كانت تجري عليه المسامرة، وتدور به المذاكرة، وجملتها أن الباشا لا يزال يدهش مما يراه في رحلته، ولم يكن له أثر في أيام دولته، ويستخبرني عن سرعة هذا الانتقال من حال إلى حال، وما الأسباب والعلل في انتشار هذا الفساد والخلل، فذكرت له بعض ما حضرني منها، وما علمته عنها، وإنك لخليق أيها الصديق أن تكشف لنا عن وجه الحق الصريح، وتخبرنا بما عندك من السبب الصحيح.
الصديق :
السبب الصحيح في ذلك هو دخول المدنية الغربية بغتة في البلاد الشرقية، وتقليد الشرقيين للغربيين في جميع أحوال معايشهم كالعميان لا يستنيرون ببحث ولا يأخذون بقياس، ولا يتبصرون بحسن نظر ولا يلتفتون إلى ما هنالك من تنافر الطباع وتباين الأذواق، واختلاف الأقاليم والعادات، ولم ينتقوا منها الصحيح من الزائف، والحسن من القبيح، بل أخذوها قضية مسلمة، وظنوا أن فيها السعادة والهناء، وتوهموا أن يكون لهم بها القوة والغلبة، وتركوا لذلك جميع ما كان لديهم من الأصول القويمة، والعادات السليمة، والآداب الطاهرة، ونبذوا ما كان عليه أسلافهم من الحق ظهريا، فانهدم الأساس، ووهت الأركان، وانقض البنيان، وتقطعت بهم الأسباب، فأصبحوا في الضلال يعمهون، وفي البهتان يتسكعون،
4
واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية، واستسلموا لحكم الأجانب يرونه أمرا مقضيا وقضاء مرضيا، وخربنا بيوتنا بأيدينا، وصرنا في الشرق كأننا من أهل الغرب، وإن بيننا وبينهم في المعايش لبعد المشرق من المغرب.
الباشا :
قد يكون ذلك، ولكن لست أدري لأية علة أخذ الشرقيون بباطل المدنية الغربية وارتدوا بلباسها، ولم يلتفتوا يوما للرجوع إلى سابق مدنيتهم الصحيحة وعمرانهم القويم، فهم أهل السبق في ذلك كله، وعنهم أخذ الآخذون وقلد المقلدون في كل زمان ومكان.
الصديق :
لا أعلم لذلك من علة إلا ما أعقب العزة السابقة من البطر والأشر، وما يتولد عنهما من طول التواني والتواكل، وسوء التراخي والتخاذل، فغفلوا عن ماضيهم، وذهلوا عن حاضرهم، ولم يكترثوا لمستقبلهم، وقعدت بهم هماتهم عن مشقة التكاليف التي كان يتباهى أسلافهم باحتمالها، ويتفاخرون بممارستها، وراقهم أن يأخذوا بهذا الطلاء الحاضر من مدنية الغربيين بلا مشقة ولا تعب ولا جد ولا كد، فعظم مقدار أهل الغرب في أنظارهم وتوهموا أنهم من طبقة عالية فوقهم، فخضعوا وذلوا، وقهر الغربيون وغلبوا.
الباشا :
ألا ليت شعري كيف يمكنني الوصول إلى البحث والنظر في أصول المدنية الغربية ظاهرها وباطنها، وأن أقف على خافيها وباديها في أرضها وديارها، ولكن بعدت الشقة وعز المطلب.
عيسى بن هشام :
لا تستبعد أيها الأمير حصول الغرض ونيل المطلب في يوم من الأيام، فإنه لا يزال يدور في خاطري أن أرحل معك رحلة إلى البلاد الغربية تجتني منها ثمرات العلم والبحث، فإن كان هذا العزم من غرضك أيضا فأنا أجهز له أمرنا.
الصديق :
وأنا إن شاء الله معكما.
قال عيسى بن هشام: ثم قمنا وعقدنا النية على تحقيق هذه الأمنية، ونسأل الله أن يسلك بنا سبيل الهداية في المبدأ والنهاية.
باريس
قال عيسى بن هشام: سبحان من لا تجري الأمور إلا بتقديره، ولا تنفذ العزمات إلا بتيسيره، فقد يسر الله لنا الرحلة إلى الديار الأوروبية، لنشهد مظاهر المدنية الغربية ، وبلغنا من سفرنا المدى، فألقينا بباريس العصا، وشرعنا نجوب منها الطرقات الجامعة، والساحات الواسعة، فلا القبائل تدعى وتهرع، ولا الجيوش تحشد وتجمع، ولا الموتى وهم ينشرون، ولا الخلق وهم يحشرون، يضاهئ ما القوم فيه من ازدحام واقتحام، واصطدام والتحام، متدفقين في سيرهم تدفق السيل تحت أضواء محت آية الليل فلا ليل، يخشى فيها على الأبصار أن تعشو من شدة الأنوار، وربما انخدعت بها الديكة فأخذت في الصياح، إيذانا بانبلاج الصباح.
فإذا نظرت إلى الشارع من العلو، لم تبال بالغلو، إن قلت: بحر مسجور
1
قام عليه شاطئان من نور، وإذا أبصرته من أسفله عند أوله، قلت: أسراب الدو
2
تصعد إلى الجو، بين الكواكب الزهراء، من كرات الكهرباء، والبيوت عن حافتيه تشارف جو السحاب، وتحاول أن تعلق من السماء بأسباب؛ فارعة باسقة، متلاصقة متناسقة كأنها في انتساقها سطور الخط، والأزهار على جدرانها شكل ونقط، فأين منه ما بناه لفرعون هامان، وشاده جن سليمان لسليمان، ورفعه سنمار للنعمان؟ وأين شماريخ ثبير
3
من سنام البعير، ومعارج الجبال، من مدارج النمال؟ لا بل أين البحر العباب، من لامع السراب، وأجرام الكواكب، من بيوت العناكب؟
وشاهدنا المارة يتسابقون في هذا الموقف المتلاطم، والمأزق المتزاحم من كل شيخ وكهل، وصبي وطفل، وفتى وفتاة، بين ركبان ومشاة، والألوف من صنوف العجل تخترق صنوف الناس، وتنفذ بينهم نفاذ السهام عن الأقواس، طائرة بقوة الكهرباء أو البخار أو الأفراس.
ولما لم يسابقهن شيء
من الحيوان سابقن الظلالا
وكل سائر منهم في اضطراب العصفور، وتلفت القطا المذعور، إن خانته لفتته، أدركته منيته، وإن عثرت قدمه، هريق دمه، وإن شمخ شامخ بأنفه، وقع في حتفه، فهم يتلمسون شاكلتي الطريق
4
كما يتلمس الشاطئ الغريق، والحوانيت على الجانبين متبرجة ببدائع البضائع، ونفائس الصنائع تغوي الزاهد فيشتهيها، وتغري الشحيح فيشتريها، والحانات من بينها ممتلئة بالنفوس، مشحونة بالجلوس، في يد كل واحد منهم كأس الصهباء، وفي الأخرى جريدة المساء، ونحن في هذا الموقف تكاد تطيش منا العقول، من هول الدهش والذهول، وتطير منا الألباب، من شدة الوجل والاضطراب.
في ساحة لو أن لقمانا بها
وهو الحكيم لكان غير حكيم
ومال بنا طلب الراحة، إلى حان في تلك الساحة، فلم نجد به مكانا خاليا من الزحام، فعكفنا مدة واقفين على الأقدام، وكدنا نذهب عنه آيسين، لولا أن تحرك بعض الجالسين، فذهبوا لشأنهم، وخلفناهم في مكانهم، وجلسنا في هذا المأمن نتصفح وجوه الحاضرين، وأجناس المارين، فإذا عدد ربات الحجال، يربو على عدد الرجال، من كل ذات حسن وجمال، وتيه ودلال، وقد متأود، وخد متورد.
تختال في مفوف الألوان
من فاقع وناصع وقان
وهن يرفلن في الوشي، ويسرعن في المشي، ويتبارين في رفع الفضول من الأطراف والذيول ويضربن الأرض بأرجلهن، ويزحزحن ما استطعن من حللهن.
ويبسمن عن در تقلدن مثله
كأن التراقي وشحت بالمباسم
وينشرن من الأرج والطيب، مثل نشر الزهر في الغصن الرطيب، ويرسلن سهام العيون، فيحركن سواكن الشجون، ويسلطن من اللحاظ القواتل، ما يدمي حبات القلوب الغوافل.
إشارة أفواه وغمز حواجب
وتكسير أجفان وكف تسلم
وأصناف الباعة يكثرون من الغدو والرواح، ويهيجون في النداء والصياح، بمثل العواء والنباح، دائبين في الإلحاف والإلحاح.
ولما أفقنا هنيهة أخذ الباشا كعاده في السؤال
5
يستجلي منا واقعة الحال، ويقول: ما أشك في أن هذا اليوم يوم عيد، عند أهل هذا العالم الجديد، أو هم في نظري سكان مهاجرون، أو جند قافلون، انتهوا من حومة المنايا، بالغنائم والسبايا. فأقول له: لا بل هي كما يصفها الواصفون، ويعرفها العارفون، تلك المدينة الفاضلة، أم المدنية الكاملة، مهبط العمران والحضارة، ومظهر الزينة والنضارة، وموطن العز والمجد، ومصدر النحس والسعد، بل هي تلك عندهم إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، لو رآها صاحب الإيوان، كسرى أنو شروان، لم يفخر على الدهر، بإيوان ولا قصر، ولحكم بأن «المدائن» لديها سبسب قفر،
6
ولو نظرها قيصر الرومان لأقسم أن رومية وهي عنده عاصمة الدنيا، قرية لديها من الطبقة الدنيا، مثل التي ذكرها في كشفه عن طماعيته، قبل ولايته؛ إذ قال: أفضل أن أكون الأول في أدنى قرية، ولا أكون الثاني في مدينة رومية، ولو شاهدها أفلاطون حكيم اليونان، لم يقل فيما دبر من الزمان: أحمد الله على نعم ثلاث يعجز عن حمدها اللسان، ولا يقوم بحقها شكران: أن خلقني من نوع الإنسان، لا من نوع الحيوان، ومن جنس الرجال، لا من جنس النساء، ثم جعل نسبتي إلى «أثينا» عاصمة اليونان، دون سائر البلدان، ولو اطلع عليها هاروت وماروت، لم يماريا في أن بابل عندها فلاة سبروت.
7
كجنة الخلد تسر من رأى
فتزدري «الخلد» و«سر من رأى»
8
هذه هي اليوم بيت العلم والفضل، ودار السلام والعدل، ومعهد الحق والإنصاف، ومهد الاتحاد والائتلاف، هذه هي المدرسة التي يشرق منها على العالم شمس الهدى والعرفان، ويتلقى الإنسان عنها حقوق الإنسان، ويعرف منها وجوه الخير والإحسان، ولكل إنسان وطن وهي لكل وطني وطن ثان، لولاها لم يدرك الإنسان لنفسه من قدر، ولم يأمن في دياره من اغتيال أو غدر، فقد كفت عن الناس عاديات المظالم، وكفتهم بائقات المغارم،
9
وعلمتهم كيف تؤتى المكارم، وتجتنب الأوزار والمحارم، وكيف يعيش البشر في دار الشقاء عيش السعادة والهناء، تحت ظل «الحرية» و«المساواة» و«الإخاء»، إذا نادها المظلوم من أي جنس وأي قوم، أجابته: لبيك مات الظلم فلا ظلم اليوم.
وهؤلاء أهلها كما تراهم يهجرون الرقاد، ويواصلون السهاد، ويصرفون الحياة في الجد والعمل، ولا ينتهي بهم أمل إلا إلى أمل، فليس على هممهم شيء بمحال، في كل حال، يذيبون بعزائمهم صلب الحديد، وتلين لإشارتهم صم الجلاميد، ويذيبون الهواء، ويكتبون على الماء، ويفتلون الحبال من الرمال، ويزلون راسيات الجبال، برائشات النبال، وينضبون الدأماء
10
بمتح الدلاء ويمحون آية الليل فلا تبلغ فيهم أمدا، ويجعلون النهار دائما عليهم سرمدا.
أولئك الناس إن عدوا بأجمعهم
ومن سواهم فلغو غير معدود
والفرق بين الورى جمعا وبينهم
كالفرق ما بين معدوم وموجود
أقول قولي هذا والباشا ينصت ويتأمل، و«الصديق» يتبرم ويتململ، فالتفت إليه أستخبره الخبر، عن سبب هذا الضجر، فما أتممت عليه أحرف السؤال، حتى انهال علينا في المقال، انهيال السيل من مشرف عال:
الصديق :
تالله لقد سئمنا ومللنا من سماع مثل هذه المبالغات وتردادها على آذاننا في وصف هذه الديار، ونحن في ديارنا السنين والأعوام، وأولى ما يوصف هذا الوصف للغائب عنها لا للحاضر فيها، وأنت رجل بحاث نباث
11
من دأبك استنباط الغوامض واستجلاء الدخائل، وألزم ما يكون لنا الآن أن نجعل فكرنا مجردا عن مثل هذه الأوصاف والأخبار التي شحنت خيالنا زمنا طويلا، فننساها ولا نذكرها ليكون حكمنا على المشاهدة والعيان خاليا من مقدمات سبقت على الغيب ورسخت في أذهاننا بالخبر، وقد علمت أن ذهن الإنسان يغلب عليه الانقباض عن الفحص والتمحيص، ولا يباشرهما في الغالب إلا مضطرا مقسورا لما في التسليم المطلق والتصديق المعجل من راحة الفكر وسكون البال، وربما ارتسم في خياله أمر استحسنه بالخبر، فيركن إليه ويرد كل ما يرد عليه من قبيله إلى صحيفة الاستحسان والقبول في نفسه؛ والأذن تعشق قبل العين أحيانا، كما أنه إذا هو استقبح أمرا كان الأمر على هذا القياس، ولذلك ترى العاشق يرد كل ما يصدر عن معشوقه إلى الحسن، وإن كان غير حسن في الواقع عند الفحص والتأمل، للميل الأول والاستحسان السالف، واستعداد لوح الرضا والقبول في نفسه لانتقاشه فيه، ومن هنا جاء قولهم:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولقد ترى الرجل الشاعر الأديب إذا أنت أنشدته بيتا من الشعر لم يكن يعرفه ولم تسم له قائله ربما استهجنه ولم يستملحه، فإذا سميت له أبا تمام مثلا أو أبا الطيب، ارتد إلى الاستحسان وأخذ يتمحل لقائل البيت عذرا إن كان في البيت ما يستهجن حقيقة، وما كان ذلك إلا لما اطمأنت عليه نفسه وتعودته من القبول والاستحسان لكل ما يصدر عن هذين الشاعرين.
ويمكن من هذا كله أن نستخرج معنى الحظ والسعد والإقبال الذي يناله الإنسان في دنياه إن صادف عمله في النفوس صحيفة الاستحسان بين الناس، ومعنى النحس والتعس والإدبار إن صادف ما يأتيه عندهم لوح الاستقباح، والشاعر يقول:
إذا أقبل الإنسان في الدهر صدقت
أحاديثه عن نفسه وهو كاذب
فما بالك بأحاديث الرواة عنه وحسن القالة فيه، وقد عهدنا الغربيين عموما وهؤلاء الفرنسيين خصوصا لا نتصفح لهم كتابا ولا نسمع منهم حديثا إلا بتمجيد مدنيتهم، ومباهاة الناس طرا بنظام معيشتهم، وأنهم هم أرباب الخلق وسادة البشر، وأن الهدى هداهم، والضلال فيمن عداهم، وأنه أوحي إليهم من سماء مدنيتهم أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فإما الإيمان بها وإما الحسام، وقد ذاعت فينا دعوتهم، وأعانهم منا على نشرها من أعانهم، فقبلنا مبالغاتهم بالتصديق والتسليم من غير بحث ولا نظر، وصرفنا كل ما يأتونه إلى وجوه الحكمة والصواب، وبسطنا لهم صحيفة الاستحسان من النفس يرتسم فيها كل ما يتخيلونه لنا ويموهون به علينا.
فالرأي لنا حينئذ أن نطرح عنا ما قالوا وما وصفوا، وننظر اليوم إلى الأمور في حقائقها، ونحكم عليها بحسب قيمتها في ذاتها لا على حسب ما رسمه الوهم، وسوله الخيال في نفوسنا، ومعنا الباشا يمتاز علينا والحمد لله بأنه كان بعيدا عن هذا العالم محتجبا عن هذه الدنيا الدهر الطويل، فبقي خالي الذهن مما شحن رءوسنا من هذه المدنية، فحكمه اليوم على ما يشاهده بالعيان دون الخبر والرواية، يكون أصح حكم ونظره أصدق نظر، وما علينا إلا أن نشاركه في صحة النظر مجردين عن الهوى حتى نقف على كنه الحق والباطل في نظام هذه المدنية وقوفا تاما.
عيسى بن هشام :
لك الله فيما تبدئ وتعيد! كأنك تريد أن نخالف الإجماع، ونقابل الناس بغير ما ألفوه فننتقد لهم ما هو خال عندهم من كل انتقاد بعيد من الذام والعار فيرمونا بغلظة الطبع وجفاء الفهم وسخف الرأي! ولا يفوتنك أن كثيرا من ذوي الرأي يرون أنه ليس من أدب الدنيا أن كل حقيقة تقال وكل صحيح يروى.
أوليس من صواب الرأي حينئذ أن نسير على أسلوب الذين سبقونا إلى زيارة هذه البلاد، فنرجع على أهل الشرق باللائمة عليهم في انخفاضهم وارتفاع أهل الغرب فوقهم ، وأن نصف ما القوم فيه من القوة والمنعة ومظاهر العز والعظمة في النعيم المقيم، وأننا لا نزال راقدين رقادنا الطويل في كهوف التراخي والخمول، يقولون فنسمع ويأمرون فنصدع، ويقتسمون أرزاقنا فنشكر، وينقصون من أرضنا فنحمد، ويحتلون ديارنا فنقبل؟ أفلا أقل من أن نسهب في بيان الأسباب التي ارتقت بهم إلى مرتبتهم في الوجود، ونطنب في شرح القواعد والأصول التي أسسوا عليها بنيانهم لنحذو حذوهم ونعمل على شاكلتهم؟ أوليس الأليق بنا أن نحض قومنا لينفضوا عنهم غبار الكسل، ويخلعوا عنهم لباس الخمول، ويهبوا إلى تقليد هؤلاء المجتهدين في أنواع الكمالات؟ أولست ترى من أفضل الأبواب في الحث والتحريض أن نفخم ما استطعنا في وصف هذه المدنية، ونعظمها في أعينهم ونكبرها في صدرهم، ونبكتهم بأحاديثها ونرفع من قدرها بقدر ما نحط من قدرنا، ونعيرهم بالمقارنة ليكون الحث والتحريض على المباراة أشد، والإثارة إلى اللحاق بهم أبلغ؟ ولو سكت الأستاذ عن تلميذه ولم يعيره بسبق غيره عليه، أكنت تراه يجد في الأخذ ويجتهد في التحصيل؟
الصديق :
لا يعزب عن فطنتك بادئ الأمر أن جل هؤلاء الذين تحكي عن طريقتهم ممن زار هذه البلاد من أقوامنا، وعادوا إلى بلادهم فحدثوا عنها وكتبوا وقرروا وحكموا، ينقسمون إلى أقسام:
القسم الأول منهم:
الطلبة الذين تلقوا في هذه البلاد دروسهم، وهؤلاء لما هم فيه من غلواء الشباب والافتتان بكل رائع يغلب عليهم الأخذ بالظواهر، ولا متسع ثمت عندهم للبحث والفحص ودقة التمييز فيما هو داخل تحت حكم الفضيلة وداخل تحت حكم الرذيلة عند النظر في معيشة أهل هذه المدنية الغربية، بل هي تتجلى لهم في صورة معظمة فيأخذونها على الجملة زاهية زاهرة حتى إذا انقلبوا إلى أهليهم رووا لنا عنها مثل حديث المغرم عن معشوقه في أوقات نشوته، وكان همهم أن يظهر عليهم أثر من آثار تلك المدنية العظيمة مما تخف مؤونته وتهون تكاليفه؛ ليلحقوا بأنفسهم شيئا من تلك العظمة التي بهرت خيالهم، وبهروا بها أعين الناس، ولسنا من أهل هذه الطبقة.
والقسم الثاني:
جماعة منا قصدوا هذه البلاد للنزهة والاسترواح لا سواهما، فهم لا ينظرون إلى هذه المدنية إلا من وجه تطبيق العيان على الخبر، ومن بحث منهم فانكشف له فيها عيب، كره تغيير الرأي ومخالفة المعهود لما فيه من المشقة والكلفة، ثم أضف إلى ذلك ما يكون للاختصاص بمشاهدة المحاسن دون المعايب والتبسط في الحكاية عنه من الفضل عن السامعين والمستخبرين، ولسنا من هذا الصنف.
والقسم الثالث:
طائفة من أرباب الوظائف في الحكومة يفرون إلى هذه البلاد من أسر الخدمة مسافة الشهر أو الشهرين فرار الأسير من القد، ومنهم من تلقى دروسه فيها، وحكمه حكم الذين ذكرناهم في القسم الأول، وفيهم من لم يتعلم في أوروبا فهم يسيرون على نهج المباراة للمتعلمين فيها سائرين على نمطهم؛ ليلتحقوا بهم ويحشروا في زمرتهم ويرتفع عنهم بعض امتيازهم عليهم، وحكمهم حكم واحد أيضا، على أنهم ليس عندهم جميعا من سعة الوقت ما يفسح لهم مجال البحث والتدقيق فيما يرونه، فإن كل موظف منهم لا ينفك مدة زيارته مشتغل الفكر، مقسم النظر، بين أمرين: عين تنظر إلى ما بقي في صحيفة إجازته من الأيام، وعين ترمق ما بقي في كيسه من الدراهم، ولسنا من هذه الرتبة أيضا.
وجميع هذه الأقسام كما تراهم مولعون بالمبالغة في الوصف والغلو في القول، ولا غرو فالناس لا يرون لهم فضلا في الرواية والنقل ما لم يضيفوا إليهما الكثير المفترى من عندهم، ولحكاية الغريب ورواية العجيب لذة في نفس الراوي وحلاوة في أذن السامع، على هذا درج الخلق منذ خلق الله آدم إلى اليوم، ومنذ جرت أساطير الأولين عن الجن والعفاريت والأغوال والسعالي إلى قصة «ألف ليلة وليلة» و«سيرة عنترة» و«خريدة العجائب»، وهناك قسم رابع ربما فحص ودقق ووقف وعلم، ولكن له هوى خاصا به يمنعه من كشف الحقائق، ويدفعه إلى المبالغة على القصد والغلو على العمد فلا يروي ما يرويه عن هذه المدنية إلا بالتشييد والتمجيد باطلا كان أم حقا؛ لينصر مذهبا له معينا وغرضا مضمرا، فيدأب بيننا كالأجير للأجنبي يرفع لنا من شأن مدنيته وقوة حضارته؛ ليرتفع معه بارتفاعه، ويتسلط علينا بسلطانه وينتفع منه بتمكين جاهه فينا وقدرته علينا، وفي هذا القسم من يرى أن في استيلاء المدنية الغربية على الشرق وتغييرها لقديم عاداته وأخلاقه انتصارا لمذهب بعينه، فهم في إشادتهم بأمرها وتشيعهم لها وتبشيرهم بها كالمتشيعين لمذهب والمبشرين بدين.
فقد تبين لك إذن أننا لسنا بمعدودين في قسم من هذه الأقسام، وقد خرجنا من ديارنا واصطحبنا في سفرنا على شريطة الفحص والتنقيب والاعتراض والانتقاد، وأن نتحدث عن هذه المدنية بما فيها من ضار ونافع ومعوج ومستقيم على المشاهدة في منبت أرضها وتربة نشأتها، وأنا رجل أميل إلى أن كل حقيقة تقال وكل صحيح يروى، فدعنا حينئذ من الغلو والإغراق واتركنا من التخيل في النعت وتعمل الشعر في الوصف، وخد بنا فيما عهدناه على أنفسنا، وقد آن أن نسأل الباشا، وهو ينظر إلى الأمور بنظر صادق مجرد عن الهوى، عما وقع عليه من التأثير في نظرته الأولى عن هذا العالم الحديث عنده، وعن جملة ما حصل منه في نفسه.
الباشا :
ما أراني أميز شيئا فيما رأيته من هذا الخلق المزدحم، وهذه الحركة المشابهة لحركة الأسواق في هذا الدوي المماثل لدوي الخلايا، وهذه الأضواء التي يتأذى منها البصر، وجملة ما أنا فيه الدهشة والحيرة، ولعل هذا هو الذي يمنعني من التمييز، وكنت أود أن يقع اختيارنا على ناحية ساكنة من المدينة خالية من مثل هذا الزحام حتى نألف الديار وساكنيها.
عيسى بن هشام :
ليس ما توده من هذا القبيل بميسور؛ لأن الزحام منتشر في جميع أرجاء المدينة، وهذه الحركة لا تنتهي الليل والنهار، ولا جرم فإن عدد سكانها يقدر ببضعة ملايين، ولك أن تقول فيها: إنها جملة بلاد متجمعة متشابكة يعدونها مدينة واحدة.
الصديق :
وفي هذا من عظمة الملك ما لا يخفى على أحد!
الباشا :
إن كان الأمر كذلك فلا بد لنا من مرشد يرشدنا وهاد يهدينا، فنقف منه على ما يخفى علينا فيها، وما يغمض من حقائق الأمور.
الصديق :
ما إخالك واجدا لطلبتك ، فقل أن تجد في أهلها من لا يسلك السبيل المعروف في تشييد مجد قومه، ونشر مفاخرهم بما نحن في غنى عنه، ولسنا نستفيد منه إلا كثرة اللغو وقلة المحصول.
قال عيسى بن هشام: وجاء وقت الطعام، فقمنا إلى المطعم، ولما أخذنا مقاعدنا على المائدة تبصرنا أمامنا ثلاثة أشخاص من أهل المدينة يتجادلون بينهم، فأنصتنا إليهم نتلقف من أفواههم ما يخوضون فيه؛ أحدهم: شاب ضئيل الجسم، حسن الشارة محلوق اللحية والشارب، ظاهر التكلف في زيه، ينم شكله وحديثه على أنه أديب من كتاب العصر. وثانيهم: رجل بدين، منتفخ البطن، أحمر اللون، ينبئك وجهه وقوله أنه من طائفة التجار. وثالثهم: شيخ جميل المنظر في وقار السن ورزانة العلم، ما يشك رائيه والسامع له في أنه رجل من أهل الفلسفة والحكمة. ولذ لنا أن نجعل التفرغ لاستماع كلامهم سمر المائدة، فوجدناهم ينتقلون فيه من باب إلى باب ومن شأن إلى شأن، حتى انتهى القول بهم في الأحوال الحاضرة إلى حرب الصين، فسمعنا «الكاتب» يقول وهو يضرب المائدة بيديه والأرض برجليه:
الكاتب :
لقد آن للمدنية أن تزيل الهمجية وتمحو الوحشية من الوجود، وأن نقوم بنشر الرسالة التي سخرنا أنفسنا لتبليغها إلى الناس، فتصلح من شأن الإنسان في أي مكان كان، وتغرس فيه أصول المدنية، ونأخذه بتعاليمها لنصل بالعالم الإنساني إلى الراحة الدائمة والسعادة المطلقة في هذه الحياة، وإلا فما مزية جهادنا في فنون الترقي والتقدم والتسابق في العلوم والفنون؟ وما فائدة هذا الاختراع والابتداع في أبواب الصناعات والآلات؟ فإن كان المقصود من المدنية أن نتقن هذه الآلات الحربية، ونعد هذه القوى العسكرية ليقتل بها بعضنا بعضا ونخرب بيوتنا بأيدينا، فبئست العلوم والفنون، وبئس ما سخرنا له أنفسنا وأضعنا فيه أعمارنا؛ إذ تنقلب الغاية من تهذيب المدنية إلى فظاعة الوحشية.
ولقد كان الواجب على دول الغرب وأممه أن يتحد بعضها ببعض فتنصرف بكليتها، وتندفع بجميع قواها التي شيدتها لها أفكار العلماء وذوي المعارف منا إلى تهذيب بقية أهل هذا العالم المقيمين على الجهالة إلى اليوم ؛ لتنتزعها من حضيض الهمجية إلى مقام الرفعة الإنسانية، فيحق لكل واحد منا بعد ذلك أن يفتخر على الطبيعة بأنه أصلح فسادها وسد نقصانها.
التاجر :
نعم هكذا يجب أن تكون سيرتنا، وإلا فكيف يتسنى لنا تصريف بضاعتنا وترويج صناعتنا التي تقوم عليها معايشنا وتضيق بها أرضنا إذا اجترأ أهل الصين على أن يقوموا في وجوهنا ويعطلوا مصالحنا؟ وكيف نجهد أفهامنا في العلوم ونشقى ونتعب، وفي العالم أقوام نيام على أرض من الذهب كالأرصاد فوق الكنوز لا ينتفعون بها، ولا يتركون الانتفاع بخيرات الطبيعة وطيباتها للذين استحقوها بكشف أسرارها ورفع أستارها؟
الحكيم :
إن كان الكلام بينكما عن المدنية الصحيحة التي تقوم على الحرية والمساواة والإخاء حقيقة، وتعم الخلق من غير استثناء بالعدل والإحسان، وتوفر لهم أسباب السلم والأمن في السعة والرخاء؛ فلسنا منها في شيء إن كنا نظنها مقصورة على إتقان الآلات وحشد الجنود والتفنن في تشييد قوى الحرب، وإنفاق ثروة الأمة في سبيل ذلك حتى تضيق بنا الأرزاق في أرضنا، فنعمل على طلبها في أنحاء المسكونة، ونسلط على أهلها هذه القوى الحربية، ولسنا من المدنية في شيء أيضا إذا كنا نعتبر أنفسنا ملائكة الأرض وصفوة البشر وأرباب الخلق فنحتقر بقية العالم، ولا نرضى منهم إلا بتغيير أخلاقهم ونسخ عاداتهم، وأن يفوضوا إلينا أمورهم، ويسلموا إلينا مقاليدهم ونكون فوقهم كالأوصياء، نصرفهم إلى ما نحب ونسوقهم إلى ما نهوى، وليست المدنية أن نذهب إلى الصيني في أقصى الأرض، وهو آمن مطمئن بين أهله وولده في عيش يرتضيه ونظام يألفه فنقول له: قم فقد جئناك بالهدى والحق، فهلم فكسر أصنامك واهدم مناسكك واحرق كتابك وغير ثيابك وبدل طعامك وارفع حجابك، وكن أوروبيا في الصين القديم، وغربيا في الشرق الأقصى، فإذا قال لنا: لست أفقه شيئا مما تدعونني إليه، ولا أدري ما هذا الدين الذي تبلغونني رسالته، قلنا له: ليس هذا بدين ولا بمذهب، وإنما هو دعوة المدنية الغربية ندعوك إليها لتقرها وتتلبس بها، فيقول لنا: إن كانت لكم مدنية غربية فلنا مدنية شرقية أسستها فينا تجارب القرون المتراكمة، وبقيت فينا نقية خالصة هذبتها الدهور وأخلصتها يد الزمان، وليس يبقى على الزمن من الأخلاق والعادات إلا ما كان له أصل ثابت وجوهر نقي، وأنتم إن كنتم تؤرخون وجودكم في العالم بسبعة آلاف من السنين فنحن نؤرخ وجودنا بمئات الألوف، وإن كانت مدنيتكم بنت قرن أو اثنين فإن مدنيتنا بنت عشرات القرون اصطلحنا عليها وألفناها، وطاب لنا العيش بها طول هاتيك الدهور، ومن دلائل المدنية الصحيحة أن تعيش فيها بأمن وسلام، لا يطمع أحد فيما ليس له ولا يغير على حق لغيره، وقد علمتم أننا عشنا دهرنا الطويل لم نطمع في أرضكم ولم نثر حربا لفتح، ومن دلائلها أنها لا تنتهي بأصحابها إلى مفاسد الترف والنعيم فتضعف الأجسام ويقل النسل، وقد علمتم أن بلادنا هي أكثر البقاع سكانا وأعظمها عمرانا، فنقول له: ما أضل أحلامكم يا معشر الصينيين! ألم تعلموا بأن مدنيتنا هي مدنية العالم كله لا سواها؛ قامت على العلوم والمعارف، واستوت على أساس متين كان ينشده الخلق منذ القدم، فما زالوا يتخبطون دون الوصول إليها حتى سمحت الطبيعة آخر الدهر، فأنجبتنا لها فأخرجناها للناس هدى ورحمة، وعهدنا على أنفسنا دعوة الخلق إليها ليسعدوا بها مدى الحياة؟ بهذا وصانا أئمة المدنية فينا ورجال الدعوة منا. إن كانت هذه هي المدنية التي نفاخر بها ونساجل، فلا بدع أن يعتقد أهل الشرق أنها ليست إلا وسيلة من وسائل الفتوحات لنيل المطامع وبلوغ المآرب.
قال عيسى بن هشام: وتأتي غادة هيفاء تتثنى بقوامها وتتكسر في مشيئتها، فتخاطب «الكاتب» بالعتاب؛ لأنه أهملها في الانتظار وجلس للكلام والجدال، وتسوقه أمامها بعصا المظلة، ويتبعها التاجر، ويبقى الحكيم يرمي ثلاثتهم بالنظر الشرر، وينعي عليهم سوء رأيهم وفساد نظرهم.
ويلتفت إلي «الصديق» فيقول لي: ما أغرب ما نرى من هذا الشيخ الفرنسي فما أصلبه في قول الحق، وما أجرأه على الجهر بالصدق، وما أولانا بمعاشرة مثله نستبصر به ونسترشد! فأرفع ببصري إلى الشيخ، فإذا هو يرمي بنظره إلينا، ويستمع لحديثنا بالعربية ويظهر نحونا البشر، فقابلته بابتسامة أخطب بها وده، فبادرنا بالحديث واتصل بيننا حبل الكلام، فسألنا عن أمرنا، وسألناه عن أمره، فتبين لنا أنه رجل من أساتذة الفلسفة والحكمة ومن المستشرقين الذين يشتغلون بالشرق وأهله، وكشفنا له حقيقة أمرنا والغرض الذي رمينا إليه، فاتفق معنا على المخالطة والمصاحبة نحكي له عن الشرق ويحكي لنا عن الغرب، ودعانا لزيارة المعرض العام معه في الغد، فقابلناه على ذلك بالشكر والحمد.
المعرض
قال عيسى بن هشام: وانطلقنا نقصد عكاظ الممالك والأمم، وسوق الأقدار والهمم، ومشهد النفائس والعظائم، ومظهر القوى والعزائم، وحلبة الابتكار والابتداع، وميدان الإنشاء والاختراع، ومعروض التبصر والاهتداء، في حسن التقليد والاقتداء، ولهذا المعرض خمسون بابا، تختلف ابتعادا واقترابا، فبلغناه من ناحية الباب المعظم، والمدخل المقدم، فإذا الباب قبة تقوم على ثلاث قوائم، تلامس بعلوها الغمائم، كأنها اليفاع
1
في الاتساع والارتفاع، ينحدر من تحتها الجيش المتراكب، فلا تتماس فيه المناكب، وعلى كلا الجانبين سارية
2
تقارن السحب غادية وسارية يدور في رأس كل واحدة منهما نبراس وأي نبراس، إذا اشتعل جعل فحمة الليل قبسا من الأقباس، فكلتاهما علم في رأسه نار، يستوي عندهما الليل والنهار، ومن لصخر الخنساء أن يأتم بهما في ظلمة البيداء، وهو المؤتم به في أبيات الرثاء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
فهما عمودا فجر، لا عمودا صخر، يكتنفان تمثال غانية غيداء، قائمة على رأس تلك القبة الشماء، رشيقة القد، بارزة النهد، ممكورة لفاء
3
مجدولة عجزاء، قد خلعت الإزار والوشاح، وتبدت في «قميص الصباح»، وهي تضمه بيديها إلى صدرها، خشية أن يحاول النسيم هتك سترها، إذا عارض وجهها القمر، علا وجهه الكدر، ثم بان فيه الكلف والنمش، فاحتجب بالغمام وانكمش، وغارت منها الزهرة، غيرة الضرة من الضرة، فغارت في الدجون، وغابت عن العيون، لو قام نابغة بني ذبيان من قبره، لشهد أنها الدمية التي وصف بها المتجردة في شعره:
أو دمية من مرمر مرفوعة
بنيت بآجر يشاد وقرمد
4
أو درة صدفية غواصها
بهج متى يرها يهل ويسجد
لو أنها عرضت لأشمط
5
راهب
عبد الإله صرورة متعبد
6
لرنا لرؤيتها وحسن قوامها
ولخاله رشدا وإن لم يرشد
فقد أقامها الصناع آية الفن في التصوير والتشكيل، وشاردة الشوارد في الرسم والتمثيل، يخيلون بها «فرنسا» في ترحيبها بالزائرين والقاصدين، تحيتها للواردين على المعرض والوافدين، والباب كله مرصع بحقاق من البلور،
7
إذا تلألأ فيها شعاع النور، خلتها أنوار الأزهار في أغصانها، أو أذيال الطواويس في اختلاف ألوانها، بل قلائد منظومة من در وجوهر، وعقود ياقوت من أحمر وأزرق وأصفر، لا بل فصوصا منضدة من الماس، يتراءى فيها طيف الشمس بالانعكاس.
ولما تجاوزنا الباب انتهينا إلى سهل رحيب، وواد عشيب، نبتت أرضه بالقصور المنيفة، كما ينبت الروض بالأغصان الوريفة، تضل فيه الحداة، وتحار الهداة، ولا بدع فالمدينة في اتساعها قطر من الأقطار، وهذا المعرض في سرتها مصر من الأمصار، وما زلنا سائرين على أرض تزهو فيها أغراس الجنان والبساتين، وأزهار الأغصان والرياحين، يتخللها من الدمى والتماثيل، ما يعرب عن الدقيق من المعاني والجليل، فتكاد تبادرك بالخطاب، أو ترد رجع الجواب، ولما امتلأت العين من هذه المحاسن الشائعة، وجن اللب من هاتيك المناظر الرائعة، التفت إلى أصحابي أتلمس ما يجري في خواطرهم، وأتحسس ما يدور في ضمائرهم، فرأيت الباشا يتأمل ويحدق، ويمعن ثم يطرق، وإذا هو يقول في همسه، وحديثه لنفسه: لله أبوهم ما أبعد شأوهم في التشييد، وأجل شأنهم في الإنشاء والتجديد، وما أسبقهم في الجد والاجتهاد، إلى التوسع وحب الازدياد، وما أشغلهم بما يكفي الإنسان أقله وأدونه، ويكفل راحته أصغره وأهونه، ولو تيقن ابن آدم أن القبر غايته، لم تخفق على القصور رايته، ولكان همه بحفر القبر أعظم من همه بتشييد القصر، فمقامه هناك طويل، وبقاؤه هنا قليل، ولو علم أن هذه الأحجار المذهبة في الشرفات العالية لا تلبث أن تنتقل صفائح في القبور البالية، لم يعمل عمل المخلدين، وهو بين أظفار المنايا رهين.
تبني المنازل أعمار مهدمة
من الزمان بأنفاس وساعات
ووجدت «الصديق» في هذا الموقف على حال لا تتغير، وهيئة لا تتأثر، ينظر إلى ما نستعظمه نظرة الفلاح إلى قريته، والبدوي إلى دمنته، لا يعجبه شيء ولا يزدهيه، مما تحار أحلام الورى فيه.
لا معنى بكل شيء ولا
كل عجيب عنده بعجيب
إلا أنه مع ذلك غير هادئ البال، ولا ساكن البلبال، كأنما هو يغوص على معنى يدق في الفهم، ويبحث في أمر يجل عن الوهم، ويستجمع لديه حواشي التفكير، ويلم أشتات التذكير، فاستخبرته عما يشغله، وسألته عما يذهله، فلم يسعف بالجواب ولم يسعد غير أني سمعته يترنم وينشد:
ما أقل اعتبارنا بالزمان
وأشد اغترارنا بالأماني!
وقفات على غرور وإقدا
م على مزلق من الحدثان
التفاتا إلى القرون الخوالي
هل ترى اليوم غير قرن فان؟
أين رب السدير فالحيرة البي
ضاء أم أين صاحب الإيوان؟
8
والسيوف الحداد من آل بدر
والقنا الصم من بني الريان
يكرعون العقار في فلق الإب
ريز كرع الظماء في الغدران
9
من أباة اللعن الذين يحيو
ن بها في معاقد التيجان
10
تتراءاهم الوفود بعيدا
ضاربين الصدور للأذقان
في رياض من السماح حوال
وجبال من الحلوم رزان
وهم الماء لذ للعطشا
ن بردا والنار للحيران
ما ثنت عنهم المنون يد شو
كاء أطرافها من المران
11
عطف الدهر فرعهم فرآه
بعد بعد الذرا قريب المجاني
وثنتهم بعد الجماح المنايا
في عنان التسليم والإذعان
ليس يبقى على الزمان جريء
في إباء أو عاجز في هوان
ورأيت الشيخ «الحكيم» يهز كتفيه، وينظر في عطفيه، ويقول في التفاته إلينا، وانعطافه علينا: ما أشبه الأواخر بالأوائل، في التفاخر بالباطل الزائل! لا يظن ظان أن كل ما يراه من هذا المشهد الفخم، ويستعظمه من البناء الضخم، بما أنفق عليه من الأموال الطائلة، وما اقتضاه من المشاق الهائلة، سيدوم السنين والأعوام على الدهر، وإنما يعد بقاؤه باليوم والشهر، وليس يمكث من كل هذا البناء والعمران، إلا هذان القصران، وأشار بيده إلى قصرين متقابلين كأنهما في ارتفاعهما ذروتا جبلين، وهنا أخذ الباشا يستفهم منه ويستعلم وأنا أنقل له وأترجم:
الباشا :
وما مقدار الأموال التي أنفقت في تشييد هذا المعرض؟
الحكيم :
اشتركت الحكومة في الإنفاق عليه بعشرين مليونا من الفرنكات، وبلدية باريس بعشرين مليونا، وتألفت جمعية اشتركت فيه بستين مليونا؛ أصدرت بها خمسة وستين مليونا من التذاكر لأيدي الناس تحت ضمانة البنك العقاري.
الباشا :
وما الغرض منه؟
الحكيم :
الأصل فيه الكسب والربح، والغرض منه عرض الأعمال والصناعات بما يظهر مقدار المسافة التي تقطعها الأمة من حين لآخر في باب الإجادة والإتقان؛ ليتضاعف الجد والاجتهاد وتتسابق الهمم في أسباب التقدم والارتقاء في مدارج المدنية.
الباشا :
وهل تظنه يأتي بربح عظيم؟
الحكيم :
كان أمل الربح منه عظيما، ولكن خاب الظن فيه؛ فإن الشركة قدرت عدد الزائرين والمترددين عليه بخمسة وستين مليونا في مدة وجوده وهي مائتان وأربعة أيام، ولكن لم يتردد عليه إلى الآن سوى عشرة ملايين وقد مضى من المدة نصفها، وقد بلغ عدد الشركات التي اشتهر إفلاسها فيه سبعين شركة إلى اليوم، وآخر شركة شاهدت إفلاسها أمس شركة «شارع القاهرة» ورأيتهم يبيعون «معروضاتها» وأثاثها بحكم المحكمة في ناحية من نواحي المعرض كانت الشركة أقامت لها فيه مكانا فسيحا، جمعت فيه ما يكون في شوارع مدينتكم من لعب القرود، والتواء الثعابين، ورقص الزنوج، وتسريح الجمال، وسوق الحمير، فرأيت الجمال وهي ثلاثة تباع بمائتين وخمسين فرنكا، وبيع الحمار من الأربعين حمارا بتسعة عشر فرنكا، وكان من ينظر إلى هذه الدواب وهي تعرض للبيع بهذه الأثمان في غير بلادها يتخيل من أعينها كأنها تندب نحس طالعهما وبخس قيمتها في غربتها، ولا تسل عن سوء الحال التي كان عليها النساء والرجال المصاحبون لهذه الحيوانات، وقد تداركهم «مأمور التفليسة» فخصص لهم مقدارا من الدراهم ينفق عليهم لإعادتهم إلى وطنهم، وعلى الجملة فالخسارة في هذا المعرض عظيمة، وأرى أنهم أخطأوا كل الخطأ بالتوسع فيه وتكبير ساحته حتى لا تكاد تدرك الدورة الواحدة فيه إلا بقطع مسافة لا تقل عن عشرة كيلومترات، فوزعوه وشتتوه مع قلة الزائرين والواردين، ولو أنهم اختصروا فيه لكان خيرا لهم.
الصديق :
أهذه الشركة التي تذكرها في كلامك هي «شركة المعرض المصري» الذي سمعنا به؟
الحكيم :
لا ولكنها شركة أخرى فرنسية، وليس من الضروري أن يكون أصحاب الشركة من أبناء مصر.
الباشا :
ولماذا لم تقدروا في هذا المعرض حسابكم بما لكم في مختلف الأمور من الدقة وصحة النظر؟
الحكيم :
كانوا يحسبون أن أمم العالم ستهرع إليه من كل فج، وكانوا يعتقدون أن أكثر ملوكها يغدون على المعرض، فينفقون فيه خزائن أموالهم ودفائن كنوزهم؛ فلم يحضره إلا ملك السويد من ملوك الغرب، ولم يزره إلا شاه العجم من ملوك الشرق، وكانوا قد دعوا إليه ستا وخمسين مملكة للاشتراك فيه فلم يجبهم سوى ثلاثين منها.
قال عيسى بن هشام: وكنا وصلنا في هذه الأثناء إلى باب أحد القصرين المشار إليهما بالبنان المعدودين لعرض ما يسمونه بالفنون الجميلة، وهو المعروف بالقصر الصغير، فعولنا على البدء بزيارته فدخلنا فإذا هو ببنائه وتشييده وزينته وزخرفه ونقشه ورسمه يفوق كثيرا من قصور الملوك والقياصرة، وناهيك أنهم أنفقوا في إقامته اثني عشر مليونا من الفرنكات، وقد عرضوا فيه نفائس المصنوعات مما حفظ عن الأوائل منذ العصر الروماني إلى القرن الثامن عشر؛ من قطعة المعدن المضروبة إلى نقوش أبواب الكنائس، ومن أواني الفخار إلى الحلي والجواهر، ومن النعل المطرزة إلى التاج المرصع، وهنا يعجز القلم عن الوصف والنعت، والإحاطة بمثل هذه النفائس لا تأتي من طريق الخبر والنقل بل من جهة المشاهدة والعيان، ولا يمكن أن يتجلى أثرها في نفس القارئ مثل أثرها في نفس الرائي، ولما فرغنا من دورتنا الأولى في القصر استوقف الصديق الباشا يسأله عما شاهد من التحف، ورأى من الطرف:
الباشا :
ما أرى إلا كثيرا مما كان يوجد عندنا بعضه في الأسواق القديمة وبعضه في البيوت العظيمة.
الحكيم :
اعلموا أن ما ترونه هنا هو أنفس الأشياء وأغلاها قيمة في العالم لا تتناول كنهها الظنون، مثال ذلك أن هذه الساعة التي بجانبنا، ولم تلتفتوا إليها في وقوفكم عندها، قد رغب في شرائها بعض الأغنياء فساومها بثلاثة ملايين فرنك، فلم يسمح صاحبها بالبيع لقلة الثمن، وما هي إلا كرة محمولة على أيدي ثلاثة هياكل من الرخام، ولكن دقة الصنعة وقدم العهد أورثاها هذه القيمة العجيبة في الثمن.
الصديق :
حقا إن التحفظ على التحف القديمة والآثار العتيقة حسنة من حسنات أهل الغرب يغبطون عليها، فإن النظر إليها يورث إحساسا جليلا في النفس، وذكرا جميلا بمجد الأمم الغابرة ودرسا مفيدا في التاريخ، كما أن في ذلك من حفظ السلسلة في الصناعات ما يفيد الفكر، ويساعد على الترقي في العمل، وقد أهمل أهل الشرق هذا الباب إهمالا لا يغتفر لهم حتى اندثرت المآثر واندرست، ولم نعد نعلم من كيفيات المعايش عند المتقدمين إلا الأسماء التي غابت عنا مسمياتها، وقل لي بالله: أي شيء يكون اليوم أجمل في العين نظرا وأجل في القلب وقعا لو حفظنا ما ضيعه التفريط مثلا من «درة عمر» و«صمصامة معدي كرب» و«قميص عثمان» و«درع علي» و«تاج الرشيد» و«راية المعز»؟ ولكنني أرى مع ذلك أن الغربيين تجاوزوا الحد، وتغالوا في هذا الباب غلوا كبيرا، وذهب بهم حب التنافس في اقتناء العتيق مذهبا يلامون عليه لحبسهم الأموال الطائلة على أثمان هذه المقتنيات التي لولاها لكانت من قسمة الأرزاق بين العباد، وكم في هذا العالم المتمدين من الألوف الذين لا يجد أحدهم فرنكا واحدا لقوت يومه، بينا نرى أحد المولعين بالمقتنيات يعرض ثلاثة ملايين لاقتناء مثل هذه القطعة من الرخام.
الحكيم :
نعم لك الحق فيما تعتب به علينا من هذه المغالاة لمجرد التباهي والتفاخر، مع حرمان الناس من أرزاقهم، ولكن ليس عندنا من الوقت الآن ما يكفينا لبسط القول في نصرة المذهب الاشتراكي.
قال عيسى بن هشام: وأدركنا التعب والكلال، وإن لم يكن يدركنا السأم والملال، واحتاج الجسم إلى الراحة والسكون، فغادرنا القصر وفي النفس منه بلابل وشجون.
القصر الكبير
قال عيسى بن هشام: وزرنا القصر الكبير، بعد القصر الصغير، أعني الآية الكبرى، بعد المعجزة الصغرى، ناطقة بما لا يتصور من جمال الوضع، وحسن الصنع، فيما احتواه هذان البناءان من الكنوز التي لم تجتمع لأحد من قبل، ولم يظفر بمثلها ملك في الدهر، ولا قيل ما كنوز قارون عندها إلا من الترب والحصى، ولا قرط «مارية» إلا من الخرز أو النوى، وما طوق «عمرو» إلا طوق أسر، وما أسلاب الإسكندر لديها إلا من أطمار «المجاذيب» و«الأولياء»، ولا وشي «دارا» إلا من فراء «العرفاء» والفقهاء، وما أقلام البلغاء إلا مغازل النساء، إذا هي حاولت في وصفها تسطيرا، ورامت لنعتها تحبيرا.
وماذا تقول في خزائن المسكونة تسكن في دارين، وأفلاذ البسيطة مبسوطة بين جدارين، لو توزع بعض ما اختزناه على الخلق، لم يكد أحد بعدها في طلب الرزق، ولم يشك شاك من عيش الحرمان، ولم يبك باك من بؤس الزمان، ولأصبح المحروم بين الورى غنيا، وغدا اسم الفقر في الدنيا خبرا مطويا، ولتساوى الناس في الرتبة والقدر، ولم يسلكوا فيما بينهم سبل الختل والغدر، نعم ولم يغر سالب على مسلوب، ولم يفتك غالب بمغلوب، ولم تقترف في العيش المآثم والذنوب، ولم يبق للنفوس في الدنيا من مشتهى ولا مطلوب، فالقصران قائمان يفخران على الدهر، لما ليس له به عهد من الثراء والوفر، وسرنا في أنحاء الغرف، نتأمل التحف والطرف، ومن أبدع ما اجتلاه النظر بين تلك الدرر والغرر، معرض التماثيل والصور، فكم هناك من صور براها الإتقان والإحكام، تمثل للعقول والأفهام، ما لا يمثله تأليف الكلام، وتشخص لك حوادث التاريخ ومناظره، كأنك كنت حاضره وناظره، ويوضح لك قلم الرسم والتصوير، ما يعجز عنه قلم الخط والتحرير، من مكنون الأهواء والأشجان بلفظ مبين من النقوش والألوان:
أراك المنى فتمنيتها
وصاغ لك الطيف حتى انبرى
فما شئت فيها من أثر يجلو صدأ الحس، ويرقق حواشي النفس، فتتولاك هزة الطرب لرؤيتها، وتعتريك نفخة السحر من هيئتها، فتكاد تئن للفارس المقتول وتعطف على الواله المتبول، فتترحم على قتيل الرمح والحسام كما تستغفر لشهيد الهوى والغرام، وتستبيك الفتاة الحسناء، والكاعب العذراء، فتصبو إلى محبتها، وتطمع في مودتها، لولا عيون الرقباء من أهلها، وهم ضاربون من حولها .
وترى هناك صورة غادة باهرة الخلق، عريقة الحسن والعتق
1
يتألق على وجهها نور العفاف والصيانة، ويبدو على محياها خصال الرزانة والركانة
2
مع قوة الشكيمة، وثبات العزيمة، قد وطئت تحت أقدامها غولا من الأغوال، لها مائة فم للنهش والاغتيال وطعنتها بالرمح في أحشائها فأوردتها مورد فنائها، وعلى رأس الغادة فوج من ملائكة النصر، يتوجونها تاج العز والفخر، وتلك هي صورة «الفضيلة»، في مصارعتها «للرذيلة»، وعن يمينها حرة بارعة الجمال، بادية المهابة والجلال، ترمقها بعين المستبشر بظفر حزبه، والمغتبط بنيل سؤله وإربه، وتلك هي «الحكمة» التي لا تنال الفضيلة إلا بها، ولا تدرك إلا بخالصها ولبابها، وعن شمالها حرة أخرى يتلألأ في غرتها نور المعرفة واليقين، وقوة الإدراك والتمكين، تحمل على كتفها طفلا في سن الرضاع، وتمسكه في يده شبه القلم أو اليراع، وهي تنظر إلى «الفضيلة» نظر التوقير والتعظيم، في موقف التبجيل والتكريم، وتلك صورة «العلم» وفضله، وذلك الطفل صورة الإنسان في جهله.
وترى امرأة نصفا وضعت على كل ثدي لها طفلا ترضعه وتضمه، وكأنها تقبله وتشمه، ومن حولها أطفال عراة تجذبهم إلى حجرها، وتسترها بفضل إزارها، وعلى محياها سمات الغبطة والارتياح، وعلامات الرضا والانشراح، فيكاد يلوح فيها ما طوته يد الزمان، من براعة الحسن والافتتان، وتلك صورة «الخير والإحسان».
ثم ترى صورة وليدة من حسان الولائد، وخريدة من أبهى الخرائد، كأنها المهاة في المخائل، والظبية في الشمائل، يطول شعرها فضل الإزار، ويريك الليل في وضح النهار.
بفرع يعيد الليل والصبح نير
ووجه يعيد الصبح والليل مظلم
تبدت في ملتف غابة أغصانها من العود والند، وأغراسها من البنفسج والورد، فالأرض مفروشة بمنثور الأزهار، والسقف معروشة من أغصان الأشجار.
فهي تختال في زبر جدة خض
راء تغذى بلؤلؤ منثور
وغدت كل ربوة تشتهي الرق
ص بثوب من النبات قصير
وقد نثرت الشمس عليها مثل نثار العرائس، بدنانير تعيي أيدي اللوامس، كما عيي المتنبي بمثلها من قبلها، وهو يجتاز شعب بوان، ويصف فيه التفاف الأغصان:
فسرت وقد حجبن الحر عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
والأطيار واقفة من حولها على هيئة التغريد، وترديد النشيد، كأنها تجاوب الفتاة في سؤالها، عن أوبة خلها، بأن لكل حمامة منا شوقا ينازعها، إلى إلف يضيعها، فيشتد بالفتاة الولع والهيام، وتشترك في الهديل مع الحمام، وتلك هي «الطبيعة» في جمال الفطرة، وجلال القدرة.
وترى «هوميروس» آدم الشعر اليوناني وهو أعمى البصر، ملتفعا بالوشي والحبر، تضيء لحيته بنور المشيب، ويملأ العين بالمنظر المهيب، متربعا على سرير الملك، ملك الأشعار، لا ملك الأقطار، وسلطان الأوزان، لا سلطان البلدان، وشعراء الجن يكللونه بأكاليل الانتصار، وشعراء الإنس بين يديه في موقف الإعظام والإكبار، من «هبرنون» و«إسكيل» و«هوراس» و«فيرجيل»، وعن يمينه أبطال الشجعان وفرسان الزمان، ممن روى الشعر أنباءهم وخلد النظم أسماءهم، وهم على سمة الخضوع وهيئة الخشوع، من «أشيل» و«إسكندر»، و«إينيه» و«قيصر» وعند رأسه كاعبان، كأنهما اللؤلؤ والمرجان، متفقتان في جمال الوجه والجسم، وإن اختلفتا في الشكل والرسم، هما الفنان اللذان ابتكرهما في الشعر، منذ شبيبة الدهر، والشعراء في وقوفهم كأنهم يتأدبون بأدبهما، وينعمون بقربهما، والقيان من حولهما صفوف، يضربن بالمزاهر والدفوف، ويوقعن النغم واللحن، على ذلك النظم والوزن.
ومن لنا بهذا الشاعر وأمثاله من الأولين الأقدمين، والسابقين المقدمين، يصورون بأشعارهم ما بين أيدينا من صور هذه الألواح المهارق، فالتصوير شعر صامت والشعر تصوير ناطق.
ولما أفقنا قليلا من نشوة الإعجاب والازدهاء، واقتربت زيارتنا من الانتهاء؛ إذ نحن برجل أمامنا رث الثياب، خلق الجلباب، كأنه المعني بقول القائل من شعراء الأوائل:
أخو سفر، جواب أرض، تقاذفت
به فلوات، فهو أشعث أغبر
وقد اختلط شعر جبهته بشعر لحيته، فاختفت بينهما مقاطعه وملامحه، وغمضت أساريره ولوائحه، ونحل جسمه نحول الشاة بالأجادب،
3
وطالت أظافره فتقوست كالمخالب، واختزن فيها الوسخ فصارت كالمكاحل علقت بها المراود، أو كخطوط الحداد على صفحات الجرائد، وهو يلحظ الداخلين والخارجين لحظة المزدري المحتقر، ويذهب بنفسه ذهاب المبتدع المبتكر، والناس يقابلونه مع ذلك بالاحترام، ويواجهونه بالإكرام، فالتفت الباشا إلى صاحبنا «الحكيم» يستخبره عن هذه الكتلة من الدمامة، والكومة من القمامة، وكيف راق لهم الجمع بين هذه المناظر الحسان، وبين منظر هذا الشيطان، فاشتبك بينهما الخطاب، وأخذت أترجم لهما في السؤال والجواب:
الباشا :
أفما كان ينبغي منع هذا الرجل وأمثاله عن هذه الأماكن النفيسة؛ ليحفظوا لها رونقها، ولئلا يضيعوا بهجتها في نفوس الزائرين؟ ولكن لعلهم أرادوا بذلك صرف عين الكمال.
الحكيم :
هذا الرجل هو من كبار المصورين الذين نفتخر على العالم بصنع أيديهم، مما ابتهج به نظرك في هذا القصر الذي أقيم لتفخيم هذه الصناعة، وأنفق على تشييده أربعة وعشرون مليونا من الفرنكات، ولا تعجب من تفاوت المنظرين؛ فالذهب من التراب والماس من الفحم.
الباشا :
وكيف جاز لكم أن تتركوهم على مثل هذه الحالة من الفاقة وشظف العيش، وتضنوا عليهم بما يصلح أحوالهم وينقذهم من هذه الرثاثة التي يرثي لها الناظر؟ وإن كانت هذه الصناعة لا تدر الرزق على أربابها فلم هذا التشييد لها وشدة العناية بها؟
الحكيم :
إن هؤلاء الذين تعطف عليهم هم بيننا أوسع الناس رزقا، وأكثرهم بضاعة رائجة، واللوح الواحد من صنعتهم يقدر بالمئات من الألوف وبالملايين، وليست هيئتهم هذه عن حاجة أو فاقة، وإنما هي ناشئة عن إهمال أنفسهم وذهول عقولهم، وعذرهم فيها أن أرباب الأعمال الدقيقة التي يغوص فيها الفكر، وتجهد القريحة ويتوزع لها الذهن في عالم الخيال قل أن تتوازن فيهم قوى الدماغ، فما تنمو قوة إلا بضعف أخرى، فيصيبهم من الفتور والذهول ما يقصر بهم عن النظر في نظام الملبس والمطعم، ولا يميزون في المعيشة الطيب من الخبيث، فتختل أجسامهم وتسوء أخلاقهم إلى أن ينتهوا إلى حال من الطيش والحماقة، لا تطاق معها المعاشرة مع الأقارب والأجانب، ومنهم من يتصنع ذلك كما يتصنع بعض أهل الدين التقشف والزهد، وقد ألف الناس ذلك منهم فإذا قيل لك: هذا فلان الشاعر أو فلان الصانع أو فلان المتفنن، غفرت له ما ساءك من منظره لما يسرك من مخبره، وربما لم يكن عند بعضهم من حسن الصناعة سوى قبح الهيئة ورثاثة المرأى.
الصديق :
إني لأعجب لقوم يعتمدون في أعمالهم على رءوسهم ثم يذهلون عن أبدانهم، وقد علموا أن القريحة السليمة لا تسكن إلا الجسم السليم، وكيف يصح البدن إذا لم تتعهده النظافة وطيب الغذاء وحسن الرياضة وقضاء الفروض الطبيعية له، ولقد يعرض للرجل المتفكر وهو في تجلي قريحته أن يشم رائحة كريهة أو يبصر منظرا رثيثا، فيضيق في الحال صدره وينقبض فكره، فكيف بمن يجد ذلك في نفسه ويحس به في جسمه، وأحر بمن ينقطع في عمله للفنون النفيسة أن يكون نفيسا في ذاته، فلا يعرف عجرفة الطبع ولا شراسة الخلق بما تولده فيه من صفاء الحس ولطف الشعور، وبما تورثه من حلاوة الشيم ورقة الطبع، وعلى الوجه الأعم، لست أدري ما فائدة العلوم والمعارف والفنون إذا لم تكسب صاحبها بادئ الأمر محاسن الأخلاق ومكارم الصفات، فيكون القدوة الحسنة لمن يقتدي بعلمه ويتأدب بأدبه، وإلا فكيف تنبت الزهرة من السبخة، ويسطع النور من مهجور القبور؟
الحكيم :
صدقت وأجدت، ومن قصر في تربية نفسه فكيف يطمع في تربية غيره!
الباشا :
وماذا يصنع هؤلاء الصناع بهذا الرزق الواسع والثراء الوافر، وحالهم في سوء المعيشة على ما أسمع وأرى؟
الحكيم :
يصنعون به ما يصنعه أهل الطيش والنزق من أرباب المواريث في الإسراف والتبذير، وهم لشغفهم بالجمال الذي تستمد صناعتهم منه حسنها ورونقها لا يفترون عن التولع بالنساء والافتتان بمحاسنهن، فترى ثمن اللوح الثمين يخرج من خزانة الغني المتباهي إلى يد الصانع المفتون، إلى كيس الفاجرة الهلوك، إلى صندوق التاجر والصائغ، وعندهم أيضا باب إنفاق عظيم على طائفة من النساء التي يطلقون عليها اسم «المثال».
الباشا :
وما «المثال»؟
الحكيم : «المثال» هو المرأة التي يتخيرها المصور؛ ليأخذ في التصوير على مثالها لجمال وجهها أو لحسن تركيبها وتناسب أعضائها، فهذه لزندها، وهذه لنهدها، وتلك لقوامها، والأخرى لشكل ابتسامها، وهلم جرا، فترى غرف المصورين ممتلئة بهاته «الأمثلة» التي تختلف أجورها باختلاف أقدارها، وقلما تدخل على مصور في مصنعه إلا ترى أمامه امرأة مكشوفة البدن، عارية الجسم، يقلبها كيف شاء ذات اليمين وذات الشمال حتى تصير على الشكل الذي يريد أن يملأ عينه منه، ويحصره في ذهنه ليخرج الصورة على مثاله.
الباشا :
ما هذا الذي تحكيه من التبذل والتفضح؟
الحكيم :
ليس هذا عندنا بعيب ولا نقص، ولا غضاضة على النساء منه؛ فالأمر معدود بينهن كأنه صنعة من الصناعات الجليلة، لا عار في مزاولتها، ولا بأس على السمعة منها، وعندنا اليوم خلاف قائم: هل يجوز للمصور أن يمارس صناعته على هذا الشكل في طريق الناس، وفي مسالك السابلة كما يفعل ذلك في داخل مصنعه؟ فإن أحد المصورين عن له بالأمس أن يصور صورة انبعاث القبور، فقصد إحدى المقابر وجلس هناك بأدوات صناعته وفيها امرأتان للمثال، وأقامهما أمامه وهما عاريتا الجسد، وكان يقيم هناك في كل يوم الساعة والساعتين على هذه الحال يمعن بنظره في الفتاتين، ثم يخطط ويصور، وكان بجانب المقبرة دار تبنى قام على حائطها البناءون فاشمأزوا من هذا المنظر، ودفعهم دافع الحياء إلى مخاطبة المصور ليعدل عن قبح ما هو فيه، فلم يعبأ بهم ولم يبال بتأنيبهم واستمر على ذلك أياما، فرفعوا الأمر إلى رجال الشرطة ثم إلى قضاة المحاكم لمنع الرجل عن هذا الفعل السيئ، ولا تزال الجرائد تتجادل في المسألة أيجوز المنع أم لا يجوز، فبعضها يذهب إلى وجوبه ارتكانا على نص القانون الذي يعاقب من ينتهك حرمة الآداب العامة في الطرق، وبعضها يرى الإباحة؛ لأن كل إنسان حر في صناعته، ولا يجوز لأحد أن يحول بينه وبين ما فيه إتقان صناعته وإجادة فنه.
الباشا :
نعوذ بالله من هذه البدع.
قال عيسى بن هشام: وانتهينا بالخروج من القصر بعد أن كدنا نضل فيه لاتساع أطرافه ونواحيه، وتعدد غرفاته وحجراته، وهي كلها غاصة بالصور والتماثيل، ثم وقفنا في الخارج وقفة الإجلال والإعظام أمام هذين القصرين اللذين هما تاجا المعرض وإكليلا الصناعة، وعاد الباشا إلى «الحكيم» يسأله:
الباشا :
وماذا يكون شأن هذين القصرين بعد انتهاء المعرض؟
الحكيم :
يبقيان على حالهما دون أبنية المعرض لعرض أعمال أهل الصناعة والتصوير في كل عام.
الصديق :
إنني كلما نظرت إلى هذه العناية الكبرى عندكم بفن التصوير والغلو فيه إلى هذا الحد، ثم نظرت إلى قلة العناية به عندنا حرت في معرفة السبب، فإن كان ذلك ناشئا عن الترقي في المدنية، فإنني أراه فيكم قديما منذ جاهليتكم الأولى كما أراه والمدنية مسفرة بينكم، وربما كان القديم أبدع من الحديث، مع أن أهل الشرق على ما تعلمون أوسع مجالا في الخيال وأبعد شأوا في التصور، فكيف نما هذا الفن فيكم دون أن ينمو فينا؟
الحكيم :
إن أهل الغرب كانوا قبل الدين المسيحي أهل عبادة للأوثان والأصنام، فقضى الاعتقاد الديني بإتقان الرسم والتصوير، واتسع نطاقه على الأخص في الدولة اليونانية والدولة الرومانية حتى تعدى التصوير تماثيل الآلهة إلى تماثيل الخلق، فأقيمت التماثيل لكبراء الرجال وعظماء الأبطال، ووصل الغلو في ذلك أيام الدولة اليونانية أنهم أحصوا ثلثمائة تمثال لشخص واحد في شوارع «أثينا» في حال حياته، فلم تمكث بعد وفاته ثلثمائة يوم؛ لأنه كان ممن نال الشهرة بالباطل، وعلو الصيت على غير استحقاق، ومن ملح ما يروى في هذا الباب أن بعض الناس قال لعظيم من عظمائهم جليل القدر كبير الخطر: إني لأعجب لأهل «أثينا» يقيمون لمثل هذا الرجل ثلثمائة تمثال بغير حق ولا يقيمون لك تمثالا واحدا، وأنت المقدم المفضل فيهم؟ فقال له: لأن يتعجب الناس مثلك من أنهم لم يقيموا لي تمثالا واحدا أفضل عندي من أن يتعجبوا لماذا أقيمت لي التماثيل، ولما دخل الدين المسيحي على هذه الحال لم يحظرها ولم يحرمها، فاستمر الناس على ما ألفوه، وتناولوا الدين المسيحي نفسه بفن النقش والتصوير وصوروا المسيح وأمه في كثير من أطوار حياتهما، ودونوا به ما شاءوا من روايات التاريخ المقدس، فبقيت العناية بذلك متصلة قائمة إلى اليوم بخلاف الدين الإسلامي عندكم فإنه حظر التصوير؛ فكان هذا سبب تقلص هذا الفن بين الأمم الإسلامية، وإلا فهو منتشر في الشرق انتشاره في الغرب بين الأمم الوثنية كالصينيين واليابانيين والمجوس من أهل الهند .
قال عيسى بن هشام: وسرنا عن هذين القصرين نقصد سواهما من المعاهد، ونقف على ما اشتهر في المعرض من المرائي والمشاهد.
الأشجار والأزهار
قال عيسى بن هشام: ودخلنا معرض الأشجار، وبستان الأزهار، في قصر لم يبن بناء القصور والديار، ولم تشد أركانه بالشيد فوق الأحجار،
1
ولم ترتفع بالآجر حجره وغرفه، ولم تتخذ من الخشب أبوابه وسقفه، بل عقدت له القباب والأبراج، من صقيل البلور وسبيك الزجاج، فهو صرح ممرد من قوارير،
2
كأنه لجة يم أو صفحة غدير، لو دخلته «بلقيس» صاحبة العرش في الأيام الخالية، لكشفت عن ساقيها مرة ثانية، جمعوا فيه أشتات النبات الغض، من كل بقعة وناحية في الأرض، مما ينبت بين ثنيات الجليد، وتنشق عنه صم الجلاميد، وما اخضر في ربا الصحراء، وأورق في وهاد البيداء، وأزهر في الجمد، وأينع في الومد،
3
ومن حيث تجري الأنهار والجداول، إلى حيث تعتصم الأراوي والأجادل،
4
ومن حيث تشدو الحمامة الورقاء، تحت الظلال والأفناء، إلى حيث تدور الحرباء، حول الغزالة في كبد السماء،
5
ومن أدنى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن طرف القطب إلى طرف القطب، فما أردت هناك من جميع الأنواع، في متفرق البقاع، ما بين ملتف ومنتشب،
6
ومتسلق منه ومتشعب، يفتر بكل محمر ومبيض ومذهب ومفضض، ومشرق ومومض، وأين ابن الرومي يتأملها فيخلع عنه رداء الفخر والتيه، ويقر بعجزه في الوصف والتشبيه، ويحرق ديوانه بكبريته المذكور، في تشبيهه المشهور:
ولازرودية تزهو بزرقتها
بين الرياض على حمر اليواقيت
7
كأنها وضعاف القضب تحملها
أوائل النار في أطراف كبريت
هنالك تستبيك ألوان الأزاهر، بما يزري بلمعان الجواهر، فما الياقوت عندها والزبرجد، وما الفيروز والزمرد، وما العقيق والجمان وما الدر والمرجان! وكيف يقاس الحجر بالشجر، وتستوي الحصباء اليابسة بأكمام الأغصان المائسة، وكيف يقدم الجامد الثابت على النامي النابت، وأين الحركة من السكون، والمنشور من المدفون، وأين المنثور على ظهر الروضة الزهراء من الملحود في بطن الغبراء! ولئن انتظمت القلائد، بجواهر تلك الفرائد، في لبات الخرائد، وكان مكانها من الحور في المعاصم والنحور، لكانت هذه الزهور، بيت الرئات والصدور، وكم أنعشت خامد النفوس والأرواح بطيب الأنفاس وشذى الأرواح، فوقفنا نستنشق الأريج والنشر، من أصناف ذلك الطيب والعطر، لو كان معنا ضرير المعرة رهن المحبسين لانقلب منشرح الصدر قرير العين، ولأنس من وحشته، وذهل عن فاقته وخلته،
8
وعلم أن من المسكر ما هو طلق حلال، ولم يتلهف على شرب المعتقة حيث قال:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأجهل أني بالعراق على شفا
رزي الأماني لا أنيس ولا مال
وما زلنا في هذه الروضة الغناء، والجنة الفيحاء، نردد قول العبد الصالح الأواه:
ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله .
ونكرر النشيد، لبيت التوحيد:
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
حتى إذا آن أوان الانصراف، خرجنا من بين هذه الجنة الألفاف
9
خروج أبينا من دار الخلود والبقاء، إلى دار الهموم والشقاء، ولما تركناها إلى نواحي المعروض ضؤل في أعيننا، ما كان يروقنا ويزدهينا، وصغر في أنفسنا، ما كان يخلبنا ويشجينا، وذبل أمامنا ما كان من المناظر ناضرا، وذال ما كان فخما نادرا،
10
وغلب ذلك المنظر على كل بديع رائع، من مختلف الفنون والصنائع، وأين قدرة الحيوان الناطق، من قدرة المبدع الخالق، وما تسويه آلات المصانع، مما تصوره يد البارئ الصانع، وكاد الباشا يهم بالرجوع من حيث أتينا، ويقتصر في يومه على ما رأينا، لولا أن استوقفنا قول «الحكيم» للصديق في عرض كلامه، عن ترتيب المعرض ونظامه:
الحكيم :
نعم تنقسم أماكن المعرض إلى قسمين: هذا القسم الذي شاهدناه من نفائس الصناعة والطبيعة، وهو مباح للزائرين بغير أجر، وقسم آخر أقاموه لترويح النفس، واستجلاب الأنس بالمشاهدات الغريبة والمناظر البديعة يدخله الداخلون بأجر معين.
الصديق :
لقد قرأت في الجرائد عن هذا القسم الأخير ما يعجب ويدهش، وأشد ما تشتاق نفسي لزيارته تلك «النظارة المعظمة» الهائلة، التي اخترعوها لمشاهدة القمر على بعد متر واحد، فتحيط به العين في زعمهم كما يحيط الجالس في الغرفة بأجزاء جدرانها ، فأين ذلك المكان منا الآن؟
الحكيم :
ليس هو ببعيد، وهم يسمونه «قصر الأضواء والمرايا» ولطالما أسهبت الجرائد كما قلت في وصفه بما يهيج الرغبة إلى زيارته، ولم أزره بعد، فهلم بنا نقصد قصده.
الباشا :
البدار! البدار إلى زيارته، فلو كان ما يقولونه عنه صحيحا لكان إحدى المعجزات.
قال عيسى بن هشام: وسرنا جميعا نلتمس هذا المكان حتى وصلنا إلى قصر مشيد قل أن يكون مثله لكبار الأمراء والملوك في فخامته وضخامته، ووجدنا مكتوبا على بابه بين صور الكواكب والنجوم هذه العبارة باللغة اللاتينية: «من هنا يصعد الإنسان إلى أجرام الكواكب ويتصل باللا نهائية»، ولما دخلناه رأيناه مزدحما بالجموع، فبدأنا معهم بالدخول في حجرة واسعة تبلغ خمسة عشر مترا في الطول وعشرة في العرض، وهي مقسمة بالمثلثات والأضلاع من زجاج المرايا القائمة يبلغ علو الواحدة منها مترين ونصفا في عرض متر ونصف، وقد تخللتها مصابيح الكهرباء، فإذا نظر الإنسان بين تلك الأضلاع والمثلثات رأى صورته تتعدد بالمئين، وإذا مشى بضع خطوات ضل الطريق ولم يهتد السبيل، وكلما ظن أنه وجد منفذا للخروج منه اندفع إليه، فيصطدم وجهه بزجاج المرايا فتعلو أصوات الضاحكين وهم في حيرتهم وضلالهم، ولا يزال على هذه الحال مدة من الزمن حتى يصل إلى نهج الطريق من طريق الاتفاق، وما أوسع مجال الخيال هنا للشعراء في وصف أشكال الزائرات، وانطباع صورة الواحدة منهن على صفحات المرايا ألف مرة كما تنطبع محبتها، وهي واحدة، على صفحات قلوب الرجال وهم ألوف.
ولما اهتدينا للخروج من هذه الغرفة التي يضل الداخل فيها كما يضل الراكب في الفيافي والقفار، سرنا نقصد غيرها، و«الحكيم» يقول «للصديق» في حديثه:
الحكيم :
إن الفكرة في إقامة الأماكن والأبنية على أوضاع وأشكال، يضل الداخل فيها ولا يهتدي للخروج سبيلا شيء قديم في الوجود، وقد علمنا أن قدماء المصريين هم أول من شيد الأبنية للضلال والتيه، منها الهيكل الذي رآه «هيرودوتس» في زمانه ووصفه في تاريخه، وكان يحتوي على ثلاثة آلاف حجرة بعضها متداخل في بعض، فمن دخل هذا المعبد ولم يكن معه دليله ضل فيه حتى يهلك جوعا، ولا يزال أثره باقيا عندكم إلى اليوم بقرب بحيرة «موريس» أمام المدينة القديمة المعروفة بمدينة «التمساح»، وقد حذا قدماء اليونانيين حذو المصريين، فأقاموا في مدينة «كريد» معبدا يماثله، ومما يذكر عنه في أساطيرهم أن غولا من الغيلان كانت تفسد في الأرض وتعبث ثم تلجأ إليه فلا يدركها أحد، وصمم أحد المشهورين من شجعانهم على اتباع أثرها والفتك بها، فلم يتوصل إلى ذلك إلا بالحصول على خيط معلوم دلته عليه عشيقته، فربط طرفه عند الباب قبل دخوله وسار به في طريقه فأدرك غايته وفتك بالغول واهتدى به في رجوعه، والفرق بين ما صنع القدماء في السالف وما صنعه المحدثون في الحاضر كما ترى أن بناء المتقدمين من الحجر وبناء المتأخرين من الزجاج.
قال عيسى بن هشام: ودخلنا بعد ذلك غرفة في إثر أخرى، وكلها على هذا النمط من انعكاس الأضواء في المرايا وتعدد الصور، فتتخيل هنا بئرا وهناك بحرا إلى غير ذلك من وجوه التخييل، ثم انتهينا إلى تلك الغرفة المنشودة التي يرصد فيها القمر على بعد متر واحد، فما جاوزنا بابها حتى أطفئت في وجوهنا المصابيح وتخبطنا الظلام الدامس، ثم سلطوا أشعة الكهرباء على قسم من الحائط فأضاءت عليها خريطة القمر مصنوعة بكيفية تتبين فيها مرتفعات كرة القمر ومنخفضاته، فتتراءى لك الأولى بمقدار قلامة الظفر والأخرى بمقدار خروق الغربال، ووقف هناك رجل كالمرشد يشرح للناس ما يشرحه عن هذا الرسم، ويزعم أنه صورة القمر بعينه على بعد سبعين كيلومترا كما يرى في «النظارة» التي انتشر الإعلان عنها بأنها تريكه على بعد متر واحد، وأسهبت فيها مقالات الجرائد العلمية والسياسية مدة من الزمن قبل افتتاح المعرض، ثم خرجنا و«الصديق» يقلب كفا على كف من شدة الدهش والعجب، ويسأل صاحبنا «الحكيم» عن كنه هذا الغش والكذب:
الحكيم :
خفض عليك، فإن أكثر ما تقرأ من التفخيم والتهويل لمثل هذه المسائل في الجرائد لا يعول عليه، فإنها تتعمد ذلك لمصلحتها الخاصة لما تتناوله عليها من الأجور، ولمصلحة أبناء البلاد في ترغيب الناس إلى زيارة المعرض، وهي تستحل الغش والكذب في سبيلهما، ولا تعجب إن قلت لك: إن الذي باشر هذا المشروع هو أحد مشاهير المستعمرين من النواب عندنا؛ فقد قام في المجلس خطيبا وطلب منه الموافقة على إقامة المعرض العام، وأعلن أنه وجد عنقاء المعرض والآية الكبرى في ارتقاء الصناعة بإنشاء «نظارة معظمة» يرى الناظر فيها القمر عن بعد متر، وما زال يحكي والجرائد تكتب حتى أنشأ شركة من بعض الفلكيين لعمل هذه «النظارة»، التي يقولون عنها: إنها تري القمر على بعد سبعين كيلومترا، وأقاموا هذا القصر بمناظره لاجتناء الربح من تهافت الزائرين وإقبالهم عليه لرؤية المعجزة الكبرى، وعلى هذا تدور أكثر الأمور بين الناس في العالم من التهويل الباطل في أقوالهم، والغلو الفاضح في وصف أعمالهم بمقدار الفرق ما بين المتر الواحد والسبعين كيلومترا، والرابح فيهم من كان ماهرا في الغش والخداع، والفائز فيهم من كان سباقا في المكر والاحتيال.
قال عيسى بن هشام: وانصرفنا ونحن نعجب من هذا النائب الذي لم يكفه الغش من طريق السياسة والاستعمار، حتى ترقى فيه إلى طريق الكواكب والأقمار.
المرائي والمشاهد
قال عيسى بن هشام: وسرنا في قسم المرائي والمشاهد، ندخل واحدا منها في إثر واحد، فلا نجد فيه، عندما نوافيه، مصداق ما سمعنا من وصف واصفيه، بل ربما وجدنا ما يخالفه وينافيه، إلى أن وصلنا إلى قصر مشرف منيف، يزهو على القصور بحسن الترصيص والتصنيف، أعدوه هناك لأنواع الرقص والعزف، وفنون القفز والقصف، منذ عهد البداوة الغابرة، إلى عهد الحضارة الحاضرة، ومن عيش الخشونة والشظف إلى عصر النعومة والترف، فما شئت من رقص الحماسة والشجاعة إلى رقص الخلابة والخلاعة، فترى رجال البداوة يرقصون بالسيوف في مواقف الحتوف، وترى العذارى من ورائهم يضربن بالدفوف ويصفقن بالكفوف، تحريضا لهم على الحرب وإلهابا، وإثارة لهم على العدو وإغضابا، فتحلو لهم مضاضة الإقدام كما تحلو لشاربها غضاضة المدام، ويرتشفون كئوس المنايا، كما يرتشف سواهم رضاب الثنايا.
ثم ترى رقص الآيبين من السفر، والقافلين بالنصر والظفر، بين عذارى الحي وجواريه، وسبايا العدو ومأسوريه، بإشارات تبين أيما بيان، عن مكنون الهوى والأشجان، في صدور ملؤها الغيرة والشمم، وقلوب حشوها الشهامة والكرم، ونفوس تفزع لصولتها الوحوش الكواسر، وتفرق من هيبتها الأسود الكواشر، لكنها تخضع لربات القدود والنهود، خضوع العابد للمعبود، فتتفرق لديها أوزاعا، وتطير أمامها شعاعا،
1
إن خشيت منها بادرة صد وجفاء، أو حركة نفور وإباء، وهن يقابلن حركات التذلل والتزلف بحركات التدلل والتعفف، ويجزين على التولع بالترفع والتمنع، ويبدين لطيف التجني ببديع التثني، ويغضضن من أبصارهن في جلائهن وإسفارهن، ثم يسرعن إلى الالتفاف، ويسترن ما انحسر من الأطراف؛ فيرتد طرف الواله حسيرا، وقلب الهائم كسيرا، وما أبدع الحياء في الوجه الجميل، كماء الفرند في السيف الصقيل، إذا عارض حياء الشجاعة في الفارس المغوار، فل غربه عن ربة الحجل والسوار، وكأنما الشجاع منهم في يد الغادة لا يفتأ ينشد قول أبي عبادة:
نحن قوم تذيبنا الأعين النج
ل على أننا نذيب الحديدا
طوع أيدي الغرام تقتادنا البي
ض ونقتاد بالطعان الأسودا
ثم رأينا أشكالا متفرعة من الرقص والحجلان، وأنواعا متعددة من الدوران والخطران، مما هو شائع عند عبدة الأوثان، وسائغ مباح في بعض الأديان، حتى يجد المشاهد لحركة تلك الأبدان، ما يجده راكب السفينة من الهيضة والغثيان، وكأن الأصل في ذلك إنهاك القوى الجسمانية لإضعاف الجواذب الشهوانية.
ثم شاهدنا بعد ذلك ما في رقص المدنية والحضارة، من الفضاحة والدعارة فترى أفواج النساء، كأسراب الظباء، لا يستر أجسامهن إلا غلالة كالقشرة، في لون البشرة، تنطبق على أعضائهن انطباق الغرقئ على ترائك الرئال،
2
وتلتصق التصاق القميص بأجساد الصلال،
3
فهن عاريات للناظر، كاسيات في الخاطر، فيأتين في رقصهن أشكالا تشرح في ساطع الضياء مذاهب الأعصاب ومفاصل الأعضاء؛ فتارة ينثنين، وطورا ينحنين، وآونة يدرن على أطراف أصابعهن، غير متنقلات من مواضعهن، وفيهن من ترفع ساقها حتى تلطم في الخد سواد الخال بذهب الخلخال، وتلمس الجبين الوضاء بطرف الحذاء، والنظارة من أنحاء المكان يستعذبون ويستجيدون ، ويصفقون ويستعيدون، ثم ما لبثن أن عدن بنوع آخر من أحدث الأنواع في ضروب التفنن والإبداع، فتوشحت كل واحدة منهن بملاءة بيضاء، متسعة الأطراف والأنحاء، إذا استدارت فيها خلتها قطعة غمام أطل منها بدر التمام، أو زفة حمائم بيضاء
4
ترفرف ظمأ حول الماء، وفي قبالتهن مصباح الكهرباء يرسل أشعته من أعلى المكان بمختلف الأضواء والألوان، فتبدو الراقصة بانعكاسها فيها كأنها طاقة أزاهر، أو قلائد جواهر، وكأنها في سرعة تلونها واهتزازها زبد اللج هاجته السفينة في اجتيازها، فانعكست فيها أشعة الشمس المشرقة، بألوانها السبعة المتفرقة، وفي يد كل راقصة منهن عصا جرداء؛ إذا هزتها في الهواء، وقابلت بها شعاع الكهرباء، أزهرت بأزهار من نور، وأينعت بأثمار من البلور، يخالها كل من يرى «كعنقود ملاحية حين نورا»
5
لو رآها سحرة فرعون وهامان لأقروا بفضل العصا في كل زمان ومكان.
ولما توارت عن أعيننا هذه الأدوار، وانسدل عليها الستار، خرجنا ونحن في دهش وذهول، والتفت الباشا إلى «الحكيم» يخاطبه ويقول:
الباشا :
أرى أن للرقص عندكم معشر الغربيين شأنا فخما كأنه من نفائس الفنون وطرائف الآداب، وأنه لا بأس لديكم بهذه المناظر والأشكال التي يأبى الأدب انتشارها، واشتهارها على أعين الناس بهذه الكيفية الفاضحة.
الحكيم :
إن شأنه عندكم أعظم وشكله فيكم أفضح، ولا يزال كتابنا وأهل النقد منا يعيرونكم به، ويستفظعون ذلك الشكل الذي يسمونه «رقص البطن»، وهذا المعرض المصري هنا كل من دخل فيه وشاهد النساء المصريات حاسرات النهود عاريات البطون يحركن طياتها خرج يقطر وجهه خجلا، وتكاد تجيش نفسه غثيانا من شناعة هذا المنظر في عينه، فيحكم عليكم بخسة الآداب وقلة الاحتشام، ومن شاهد مواضع اللهو في بلادكم لم يجدها حافلة بسواه، فإذا عرضتم علينا آثاركم في ديارنا كانت هذه الراقصات في أوائل ما تعرضونه، لنفاسة قدرها بينكم وجمال موضعها فيكم.
الصديق :
إن الأمر على غير ما تتوهمه أيها الحكيم، فإن هذا الرقص ليس بمنتشر في عاداتنا ولا معروف في بيوتنا، وإنما هو من عمل المواخير وبيوت الفاحشة يباشره العواهر فيما يباشرنه من أبواب الإثم والفجور في بيوتهن، ولم يظهرن به على الملأ في الملاهي العامة إلا بفضل أصحاب الحانات من الأجانب الذين يرون وجوه الربح متساوية لا حطة فيها ولا نقيصة، والجمهور عندنا على استقباحه والنفور منه كما تنفرون، ولا يشهده عندنا سوى أهل البطالة والخلاعة، ولا يأتيه من النساء إلا الفواجر العواهر، وكلما حاولت الحكومة، في محافظتها على الآداب، حظره ومنعه اعترضتها امتيازات الأجانب وحريتهم الطلقة فيما يأتون ويذرون، أما الرقص عندكم فهو متأصل في عاداتكم وسنة متبعة بينكم لا يقتصر على الملاهي والأماكن العامة، ولا ينفرد به النساء دون الرجال، ولا يخلو منه بيت من بيوت السوقة ولا قصر من قصور الملوك، ولا تقام عندكم وليمة من الولائم ولا يتم لكم احتفال في المواسم إلا والرقص ركن من أكبر أركانه ومظهر من أفخر مظاهره، والرقص عندكم من الفنون النفيسة يدرسه الرجال كما يدرسون العلوم، ويتعلمه النساء كما يتعلمن الغزل والتطريز.
الحكيم :
ليس الرقص في أصله من المنكرات ولا مما يعاب شأنه كما تذهب إليه، وهو حركة طبيعية في الإنسان يقتضيها تركيب الجسد لرد الأعصاب إلى ميزانها ونظامها عندما تلحقها خفة الطرب وهزة التأثر، وهو قديم في الفطرة، وربما تجاوز نوع الإنسان إلى بعض الحيوانات والطيور، وقلما خلت أمة من أنواعه منذ البداوة إلى اليوم، وهو ينقسم إلى أربعة أنواع: نوع يستعمل في الحرب، ونوع يستعمل في الصيد، ونوع يستعمل في حكاية الهوى من طريق الإشارة والإيماء، والنوع الرابع في الشعائر الدينية، وقد اعتنى بأمره كثير من أمم الحضارة الغابرة، وبلغ عند قدماء اليونانيين مرتبة عالية، وكان كبراؤهم وأمراؤهم يمتازون بإتقانه ويتباهون بالتبريز فيه، وفيهم من انقطع له واشتهر به، ولقد كان السفير بين أهل «أثينا» وبين الملك «فيلبس» والد الإسكندر المكدوني رجلا اسمه «توستديموس» من أكبر الأساتذة في هذا الفن، ثم إن هذا الملك نفسه تزوج براقصة معروفة اسمها «لاريسا» وكان سقراط أبو الحكماء يهوى الرقص ولا يستنكره، وكان «إيبامينونداس» وهو أشهر الفلاسفة راقصا مبرزا في الفن، والأمر على ذلك أيضا من جهة الرقص الديني في الدولة الرومانية عند نشأتها، ثم انتشرت فيها أنواعه انتشارا عاما، إلى أن دخل الدين المسيحي على الوثنية الرومانية، فلم يستنكره في بادئ الأمر بأشكاله التي تفنن فيها الرومانيون على ما هو معهود فيهم من التناهي في الملاذ الفاضحة في أواخر دولتهم، ثم دخل في عادات الأمم الغربية فتمسكت به ولم يصدها عنه بعد ذلك استنكار الرؤساء الدينيين له تارة بعد أخرى؛ إذ كانت النفوس ألفته واعتادت أن لا ترى فيه عيبا أو شينا، وإنما الذي شانه في نظركم اجتماع الرجال والنساء عليه في حفلاتهم، وذلك ناشئ عن ارتفاع الحجاب عندنا ووجوده فيكم.
قال عيسى بن هشام: وقطع الحديث بيننا أن رأينا في طريقنا مكانا يتزاحم عليه الناس، وعلمنا أنه أحد المرائي الشهيرة الذي قرأنا عنه فصولا متعددة في الجرائد العالية مثل «الديبا» و«الفيجارو»، ووصفته بأن الداخل يركب فيه سفينة عظيمة تسير به في مياه البحر المتوسط، فتمر به على الثغور فيرى ما فيها من البنيان ويشاهد حركة السكان، فدخلناه بعد أن دفعنا الأجرة وصعدنا السلم حيث انتهينا إلى هيئة سفينة كبيرة فركبناها، فإذا هي تميل بجانبيها كما تميل كفة الميزان بالصعود والهبوط في حركة مثل حركة السفينة عند اضطراب الأمواج، ويحف بها من الجانبين حائط من قماش نقشت فيه أمواج البحر وأشكال الثغور الكبيرة مثل «نابولي» و«فينسيا» وغيرهما، فتخيل للراكب عند ذلك أن السفينة تسير به في عرض الأمواج المرسومة والرسم متصل بآلة السفينة تديره بسرعة كبيرة، والسفينة في تمايلها كالأرجوحة لا تتحول عن مكانها، فلم نر في الأمر ما يستغرب له.
ثم زرنا بعد ذلك العدد الكثير من قسم المرائي، فرأيناها كلها على هذا النسق من التمويه، وما برح «الصديق» يظهر التذمر لشدة الفرق بين ما رآه من هذه المناظر التافهة وبين ما انتشر عنها في أنحاء العالم من المبالغة في الوصف والغلو في البيان، ولم يخالفه «الحكيم» في ذلك، وإنما أشار علينا بأن نزور المنظر الوحيد الذي أعجبه حسنه من قسم المرائي كله، وهو منظر القرية التي أقامها أهل سويسرا في المعرض يمثلون بها جبالهم وأنهارهم ومعيشة الأهالي فيها على حالة الفطرة، ولما دخلناها تملكنا الطرب وتولانا الابتهاج من جلاء المنظر وبهاء الهيئة، وشاهدنا الجبال شامخة تسيل من قممها السيول إلى قرار الوادي، فتتشعب منها الجداول والأنهار وتتخلل البيوت والجدران، وشاهدنا هناك الأبقار المشهورة في تلك البلاد واقفة على مذاودها ومن حولها الولائد والجواري تتألق فيهن نضرة الشباب، وتبرق أسرتهن سن البداوة.
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
وهن يحتلبن ألبانها في قعوب من البلور، ويقدمنها برغوتها لمن يرغب في استقائها من الزائرين، ورأينا الرجال في حوانيتهم يملئون العين حسنا وبهاء واقفين وقفة التأدب يعرضون ما طاب وحلا من أثمار بلادهم وأزهار جبالهم، ولقد علمنا أنهم أقاموا في تشييدها ثلاث سنوات، وأنفقوا عليها ثلاثين مليونا من الفرنكات، فأعجبنا المقام وقضينا هناك زمنا نتناقل ونتفاكه، ونتذاكر في حديثنا فضل المعيشة الطبيعية في سذاجتها، على المعيشة المدنية في تصنعها وكلفتها.
الافتراء على الوطن
قال عيسى بن هشام: وفيما نحن ندور بين أقسام المعروض ونجول؛ إذ سمعنا صوت مزمار وطبول، فهاج منا الذكرى والشجن، وأذكى فينا الحنين إلى الوطن، حنين أنضاء النوق
1
بلامعات البروق، تنبعث من أفق بلادها، وتنازعها الأشواق في أغوارها وأنجادها. فشخصت إليه الأحداق، ومالت نحوه الأعناق، فقصدنا منبعه، وأممنا مطلعه، عسانا نجد عنده من آثار مصر فضلا، ومن أشكال بلادنا شكلا، يملأ العين جمالا، والصدر جلالا، ويؤنسنا في وحشة الفراق، بما يخفف من لواعج الأشواق، ويكون لنا في المعرض موضعا للفخر والمباهاة، في باب المسابقة والمباراة، فوجدنا أخلاطا من الزمر والجماهير، حول الطبول والمزامير.
ورأينا في وسطهم رجلا يعلوهم فظا في هيئته، كظا في طلعته.
2
لو استزاد من الغلاظة لم يجد له من مزيد، كأنه جلمود صخر أو قطعة جليد، بوجه تثور منه السماجة ثوران العجاجة، «وطربوش» عليه طوق مثل الدهن من العرق والوضر، لو لج فيه شعاع الشمس لاحتدم واستعر، وهو يعج مثل عجيج الإبل في الفلوات، ويصيح بصوت من أنكر الأصوات، دونه صوت الحمر الناهقة، أو الرعد بالصاعقة، وفي يده مروحة يتزود بها هواء للتنفس، خشية الاختناق من التهيج والتحمس، وهو يتمايل عجبا واختيالا، ويذهب في الحلقة يمينا وشمالا، مناديا في الجمع بألفاظ مكروهة في السمع، ترغيبا للرائح والغادي في دخول ذلك النادي؛ ليروا من أسباب الأنس، ومستمتع الحواس الخمس، ما ينفي بلابل الصدور، ويجلي بواعث السرور، من كل منظر ليس له نظير، لا يحيط به التخمين والتقدير، مما بذت به مصر سائر الأمم، وحلت به في الفخر محل الذرا والقمم، ولا غرو فهي لا تزال في مضمارها منذ القدم، عالية الكعب راسخة القدم، وأن هذه فرصة سانحة لا بد أن تلتمس، وخلسة من الدهر يعقبها الندم إن لم تختلس، فمن لم يبادر إليها فقد أساء الاختيار، وأوقع نفسه في الخسار، ولم يقف من المعرض على موضع حسنه وجماله، بعد أن يفقد النفيسين من وقته وماله، ومن لم يشاهد صنعة «زهرة» و«معتوقة»، لم يشاهد في الدهر معشوقة ولا موموقة، ولم يحصل إلا على الخيبة، في السفر والأوبة، فدخلنا نستكشف الأثر، ونستشف الخبر، فتلقانا بالباب رجل حسن الثوب والعمامة، في زي أهل التشيخ والإمامة، مشغول اللسان بالترحيب واليد بالتسبيح كأنه إمام مصلى أو سادن ضريح، لولا أن تأملته فعرفته رجلا من ذوي الرتب بين التجار، مشهورا بتجارة الطيب والأعطار.
ذئب تراه مصليا
فإذا مررت به ركع
يدعو وجل دعائه
ما للفريسة لا تقع
فهنأنا بالسلامة، وبالغ في الحفاوة والكرامة، وتقدم بنا إلى ساحة من ساحات اللهو واللعب، و«مرسح» من مراسح الرقص والطرب، وانكشف لأعيننا الستر عن بنات الفجور والعهر، فأخذن في «رقص البطن» بتلك الحركات الشنيعة، والأشكال الفظيعة، حتى تخيلنا أننا عدنا إلى أدوار تلك المدة، في مصاحبة «الخليع» و«العمدة»، فلوينا أعناقنا نحو الباب، ونحن في حزن واكتئاب، وخرجنا نستر وجوهنا بأيدينا خجلا، وتمنينا أن لا ننسب إلى بلادنا أصلا، لنخلص من وصمة هذا العار، وما يجره علينا من الازدراء والاحتقار، ورجعنا مهرولين ابتعادا عن هذا «المعرض المصري» وما يحويه، من مثل هذا المشهد المعيب والمنظر الكريه، وأقسمنا على أن لا نمر من هذه الناحية مرة ثانية، فأخذ «الحكيم» يهون علينا من وقع المصاب، ويخاطبنا في معرض العتاب:
الحكيم :
لم هذا التسرع والتعجل؟ أما علمتم أن المعرض ينقسم إلى قسمين: قسم الصناعات والآثار، وقسم المشاهد والمرائي، وقد رأيتم من «المعرض المصري» القسم الثاني فدعوه إلى سوء أدبه وقبح أثره، ولا يمنعنا ذلك من زيارة القسم الأول منه الذي هو قسم الجد والعمل، ولعلنا نجد فيه من محاسن الأعمال والآثار ما يصرف عنكم هذا الذي اعتراكم من الهم والكدر.
الباشا :
ما أظن هذا القسم إلا عنوانا للقسم الآخر، ومن أساء الاختيار في قسم المشاهدات، فجدير به أن لا يحسن الاختيار في قسم الصناعات، ومن بلغ به الانحطاط في انتخاب مشاهد بلاده ومرائيها إلى عرض بطون النساء وفحش العاهرات للرائح والغادي من أطراف المسكونة في هذا المعرض، فلا يرجى منه حسن الاختيار في آثار البلاد وأعمال صناعها.
الصديق :
لقد أعمى الطمع في الربح مثل هؤلاء التجار عن قبح هذه المشاهد، وغرهم ولع السفهاء بها في مصر فحسدوا عليها أصحاب الحانات، ولم يكن من اللائق بهم أن يزاحموهم فيها ببلادهم فانتهزوا هذه الفرصة للتفرد بها في بلاد الغربة، وظنوا أن الغربيين يقبلون عليها إقبال الشبان في بلادهم، فيفوزون بالربح، وليس من يعير بقبيح وجهه في بلاد لا يعرفهم بها أحد، فإن فيهم مثل هذا التاجر الوجيه ذي الرتبة الثانية الذي لو دعوته لرؤية الرقص في مصر لغطى وجهه بجبته، ولوى عنقه يستعيذ ويستغفر من الإثم الذي ينهاه عنه دينه وأدبه، ولكن جاء الأمر على خلاف ما قدروه فلم ينالوا ربحا ولم يستروا قبحا، فإن أدب زوار المعرض على اختلاف أجناسهم ينهاهم عن مشاهدة هذه الفضائح، فلم يقبل عليها أحد، ولم يبق لأصحابها إلا سخط المصريين عليهم جزاء تعيير الأمم لنا بسوء رأيهم وقبح اختيارهم.
قال عيسى بن هشام: ولما جاوزنا باب الملهى قليلا انثنينا إلى القسم الأول من هذا المعرض المصري مطاوعة لرأي صاحبنا، فوجدنا بناء مشيدا مثل أبنية الجوامع والمساجد يفاجئك مدخله بحانة للخمر ذات اليمين تتخطر فيها شمطاء من عجائز باريس ومن حولها بناتها وحفدتها، وعن ذات الشمال رجل معمم قد جلس متربعا، عريق في القبح والدمامة تنطبق عليه القبعة دون العمامة، وأمامه منضدة عليها دواة وقرطاس، وقد التف عليه جماعة من أجناس الناس، يتقدم إليه الواحد بعد الآخر فينقده بعض الدراهم فيسأله عن اسمه واسم أبيه وأمه، ثم يخط له بالعربية في ورقة معصفرة مزعفرة بعض الدعوات الصالحات، وسمعنا بعض النظارة من الغربيين يقولون في انكبابهم عليه: هلم إلى شيخ المسلمين ليكتب لنا شيئا من «قرآن محمد»، فحزبنا الأمر وانتظرنا قليلا حتى انفض الجمع عنه، وأقبلنا عليه نسائله فانفضح لنا أمره عن لهجة سورية، فزجرناه قياما بواجب الدين الإسلامي الذي ينكر مثل هذه البدع السافلة على أبنائه، فأخبرنا أنه استأجر هذا المكان من «شركة المعرض المصري» للارتزاق بهذه الوسيلة التي دفعته إليها ضرورة العيش، فتركناه وتوغلنا في داخل المكان، وإذا برجل آخر معمم ومن حوله صبيان في أزياء المصريين التفوا حلقة على الأرض كحلقة أولاد الكتاب حول الفقيه، وهو يقرئهم آيات الكتاب بصوت عال، ويروضهم على اهتزاز الجسم في أثناء التلاوة، وفي يده قطعة من جريد النخل يهددهم بها ويؤدبهم، والجمع من حولهم يسخرون ويضحكون من شكل التدريس في مصر، وتعليم الدين بين المسلمين، ولما سألنا هذا الفقيه عن أمره أيضا وما فيه من المنكر تبين لنا أنه رجل مسلم من عامة المصريين اجتلبه أعضاء الشركة مع صبيانه؛ ليمثلوا به هذا المنظر، ولم يستنكروه وفيهم بضعة من صلحاء المسلمين، وأن طمع الربح سهل عليهم هذا الموقف، فكان إنكارنا لأمر هذا المسلم المتعبد، أعظم من إنكارنا لحال ذلك المسيحي المتصيد.
ولما توسطنا ساحة البناء وجدنا بها سوقا تشبه أسواق الموالد وحوانيتها، فعن اليمين بائع «لب وحمص» و«فول وترمس»، وعن الشمال بائع «عرقسوس وسحلب»، وفي هذا الجانب بائع «حراير شامية»، وفي الجانب الآخر بائع «حلوى استامبولية » ومن دونهما بائع «أحذية صفراء وطرابيش حمراء»، ولما استخبرنا: أهذه كلها آثار مصر والمصريين؟ قالوا: نعم ويزيد عليها «معروضات المصنوعات والمزروعات» في داخل هذا المكان، وأشاروا إليه، فدخلناه فإذا هو مكان متسع على شكل معابد القدماء من المصريين، ووجدنا حوانيته أشبه شيء بحوانيت العطارين انتقلوا منها إلى سواها، وتركوا في أنحائها وزواياها بقايا من صنوف تجارتهم، فهنا صرة فيها بذرة قطن، وهناك قطعة بها حبوب حلبة وذرة، وفي صدر المكان صوان
3
من زجاجة به كسوة مطرزة بالذهب مما يلبسه العداءون «القمشجية» أمام الخيول بمصر، فانقلبنا خارجين من «قسم المزروعات والمصنوعات» على حال من الغم والحزن أشد وأدهى من الحال التي خرجنا عليها من ملعب المغنيات والراقصات.
وفزعنا إلى الهرب من هذا المعرض المصري وسيئاته، فعارضنا أحد المروجين له، واستحلفنا ألا نتركه من غير أن نشاهد أعجوبة العجائب فيه، فطاوعناه فدخل بنا غرفة محجبة وانكشف لنا الستار عن فتاة مقطوعة الذراعين تغزل برجليها، وتستعملها استعمال اليدين في كثير من الشئون، فخرجنا لا نلتفت وراءنا وقد حان وقت الغروب حتى صرنا في الشارع، فرأينا مثل القطيع من النساء المصريات وبأيديهن الدفوف والشموع وفي وسطهن امرأة عليها زينة العرائس، وهن ينشدن حولها أناشيد الأعراس في زفاف المصريات، فعجبنا من تركهن لمكان اللعب والرقص إلى خارجه في وسط الشارع، وبينا نحن كذلك؛ إذ بصر «الصديق» بأحد المصريين من أصحابه، فاستوقفه يطارحه الحديث عن خبث ما رأى وسمع، وينعى على المصريين سوء سمعتهم بين الأمم بهذا «المعرض المصري»:
الصديق :
ألا تخبرني عن سر هذا التفضح، فإنهم لم يكفهم ما يدور في داخل المعرض من كل مخجل معيب حتى انتشروا به في الشوارع على نحو ما تراه، لو قلنا: إن جماعة من أعداء المصريين تألبوا على النكاية بهم؛ ليظهروهم بأسوأ المظاهر بين الأمم فانتهزوا هذه الفرصة لتنفيذ مكيدتهم لما أخطأنا الصواب.
المصري :
ليس الأمر كما ذهبت إليه، وإنما دفع أهل الشركة الشره والطمع، واستجلاب الربح بكل سبيل كما تراه في تسيير موكب الزفاف في أنحاء الشوارع للإعلان والترغيب في زيارة المعرض بقطع النظر عما يجلبه من العار على أهل مصر جميعا، ولكن الذي يقف على حقيقة هذا المعرض وتأليف شركته لا يلبث أن يهون عليه الأمر شيئا ما؛ لأنه لا ينتسب للمصريين بنسبة رسمية، فقد امتنعت الحكومة المصرية عن إجابة الدعوة التي أرسلتها الحكومة الفرنسية إليها، ولم تشترك فيه رسميا، كما أعلنته الجرائد، وليست شركة المعرض بالشركة المصرية؛ لأن الجانب الأعظم فيها من الشرقيين المقيمين بمصر مع بعض من لا خلاق لهم من المصريين.
الصديق :
وهل تظن أنهم يربحون الشيء الكثير من هذا المعرض، وهو على ما تراه من حال الكساد والبوار؟
المصري :
ما أظن الربح على هذه الحال بميسور، ولكن الشركة لا تخسر شيئا وإنما الخسارة على الذين اكتتبوا فيها، وهم يقدرون الخسارة إلى اليوم بثمانين ألف فرنك، وعسى أن يستمروا على هذه الخسارة عبرة لهم وتأديبا؛ حتى لا يقدموا مرة أخرى على مثل هذه المشروعات التي لا يسلمون فيها من الخسارة، ولا يسلم المصري فيها من وصمة العار.
قال عيسى بن هشام: وزودنا الرجل بالتحية والسلام، بعد أن خفف علينا بعض ما بنا من الآلام.
خبز المدنية
قال عيسى بن هشام: وانتهى بنا التجوال في المعرض إلى «أقسام الدول»، فرأينا فيها من مفاخر الأواخر ومآثر الأول، ما يشهد لهن بالعلو والارتقاء في أبواب الإبداع والإنشاء، وقد تبارين في ميدان المناضلة، وتسامين في مضمار المفاضلة، بما لا يشق لهن فيه غبار، وتقصر دونه الأنباء والأخبار، وكانت الدولة الألمانية من بينهن أسبقهن قدما، وأرفعن علما وأعز مكانا، وأعظم شأنا، كأنها لم تقنع بالسبق عليهن في ميادين الحرب والطعان، فأرادت أن تسبقهن أيضا في حلبة العلوم والعرفان، وأن تبذهن في حالتي الحرب والسلم، بشدة البأس وقوة العلم.
وبينا نحن نمتع النظر بحسن الصنع، وجمال الوضع؛ إذ شعرنا بضجة والناس يتقاذفون بعضهم على بعض كالبحر اللجي، في الليل الدجوجي
1
قد ركبوا رءوسهم من شدة الفزع، وطارت عقولهم من الهلع والجزع، وانتشر بينهم الصراخ والصياح، واشتد فيهم العويل والنواح .
فسألنا عن الخبر فقيل لنا: إن القنطرة القائمة على رأس المعرض هوت بمن فوقها على من تحتها، فتوجهنا ناحيتها، فوجدنا من المنظر الشنيع ما تنقبض له النفوس وتذرف العيون، فمن جثث هامدة وأجساد دامية؛ ما بين فتاة وصبي وشاب وكهل من زوار المعرض يزيدون على المائة، والدماء تجري كالسيل والناس يترامون على الأرض؛ ليتعرفوا بمن عسى أن يكون بين المصابين من أقربائهم وأصدقائهم، وما فيهم إلا كل متوقع للمصيبة ومترقب للمكروه، فالبكاء شامل والأنين عام، والأطباء يضمدون ورجال الصحة يحملون.
واشتد علينا الحال باشتداد الهول، وتكاثر الزحام فضاق علينا التنفس كما ضاقت النفس عن احتمال هذا المشهد الفظيع، فجذبني «الباشا» إليه لنخرج من هذا المأزق، فأسرعنا إلى مطاوعته وسار بنا وهو يقول:
الباشا :
تالله ما يفي كل ما رأيناه في هذا المعرض من بهجة وسناء في ترويح النفس بمقدار ما اعترانا من الضيق والكرب أمام هذا الموقف الهائل، حتى لقد تخيلت أنني أشاهد يوما من أيام الحرب تتمزق فيها الأعضاء وتتناثر الأشلاء.
الصديق :
صدقت ويزيد على ذلك أن هول الوقائع الحربية قد يكون أقل في النفس وقعا؛ لأن للحروب رجالا استعدوا لها واستأنسوا بها وغلظت أكبادهم، ولست ترى من حولهم مثل هؤلاء الصبية والأطفال وهاته النسوة اللواتي رقق النعيم أديمهن، ورفه الرغد أجسادهن، يفزعن من مس الإبرة، ويذعرن من لمس الوبرة، فأصبحت الأوصال ممزقة تحت الردم والأعضاء، مدكوكة في الأنقاض، وهكذا صارت وقائع المدنية في سلمها أشد من الوقائع في حربها.
الباشا :
لقد آن لنا أن نغادر هذا المعرض ولا نعود إليه مرة أخرى، فقد قطعناه طولا وعرضا واستوفيناه بحثا وتدقيقا، وبدأ فينا الملل من طول التردد عليه.
الحكيم :
إن كنتم عقدتم العزم على الانتهاء من زيارات المعرض بعد اليوم، فلا يفوتنكم أن تختموها فيه برؤية العجيبة التي هي في الحقيقة أم العجائب، ومصدر هذه الطرائف والغرائب، والأصل الذي تتفرع منه الفنون والصنائع، والمنبع الذي تسيل منه مظاهر المدنية، والمطلع الذي تشرق منه شمس الرفاهة والحضارة.
قال عيسى بن هشام : فشوقنا بكلامه إلى متابعته، وسرنا وراءه إلى حيث يريد، فانتهى بنا إلى بناء فخم من أبنية المعرض لم يكن وصلنا إليه من قبل، ولما دخلناه وقف بنا عند فوهة هاوية عميقة مظلمة يضطرب البصر عند رؤيتها، وتختلج النفس من هيئتها، فدعانا للنزول فيها ودفعنا لركوب آلة هناك للهبوط والصعود كأعظم ما يكون من الدلاء، فهوت بنا إلى قرار بئر عميق، وجب سحيق، فتولاني من الهلع والذهول ما أنساني كل شيء في ذاكرتي مما يحفظه أهل الدنيا إلا ثلاثة أبيات، لم يبق لي سواها ما أنا فيه من هذا الانحدار والهوي في ظلمات بعضها فوق بعض، قالها الفرزدق لما تعلق بحبال الغواني من أعلى الجدران، فرارا من صولة الثائر والغيران:
فلما استوت رجلاي في الأرض نادتا
أحي يرجى أم قتيل نحاذره
فقلت: ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا
ووليت في أعجاز ليل أبادره
هما دلتاني من ثمانين قامة
كما انقض باز أقتم الريش كاسره
ولولا أن حسن العشرة وطول الخلطة مكن الثقة من نفوسنا بالحكيم الفرنسي، لقلنا: إنه كاد لنا وأراد أن يجدد في عصرنا الحاضر ما فعله أبناء يعقوب بأخيهم في عصرهم الغابر، ولما أفقنا من الإغماء في بطن الأرض سألناه أين نحن من الآخرة، أو في أي طبقة من الطباق السبع، فعلمنا أننا في مكان صوروه على نمط معادن الفحم الحجري تحت الأرض، وكيف يستخرجه العمال في غياهب الجب، فأخذنا نحدق العيون في حنادس الظلماء عسانا نبصر شيئا، فتمثل أمامنا العمال يدأبون في عملهم على ضوء سراج معقود بناحية كل عامل، كأنه نار الحباحب تنقدح بين الأشجار في ظلمات الليل البهيم، وأنى لأضواء السرج الكهربائية أن تشق عباب هذا الظلام الدامس، وهو يكاد من تكاثفه يمسك باليد ويقبض بالراحة، وحسبك أنها لا تفيد في كشف الظلام وإضاءته، وإنما تزيد في بيانه وإراءته، ثم خطونا قليلا وعثرنا كثيرا، فرأينا من السرادب والكهوف ومن الأخاديد
2
ما تضل فيه الصلال بالتوائها وتنكمش دون انسيابها، ونظرنا في كل فجوة أشباحا يتشكلون بأجسامهم على كل أشكال الصراع الذي يتفنن فيها المصارعون للتمكن من العمل في ثنايا الفجوات والمنعطفات، وفي أيديهم ما ثقل ودق من أدوات القطع والحفر وأخشاب الإسناد يقيمون بها ما يريد أن ينقض من جدران المغائر والكهوف، فمنهم الواقف في عمله على أصابعه والمضطجع على جنبه والجاثي على ركبتيه والمنكب على وجهه، والمياه تسيل عليهم من الثنايا والشقوق، هذا بعض ما تقاسيه الأجسام من المتاعب والمشاق، والله العليم بما يدور في القلوب والرءوس من توقع الخطر، وترقب الهلاك بما شئت من أنواعه المتعددة انهيالا واندفاقا، وانفجارا وانبثاقا، وغرقا واحتراقا، وارتداما واختناقا، وهمهم الأكبر أن يراقبوا ما على نواصيهم من السرج خشية أن تصاب برضة تنثلم فيها ثلمة، فتتصل بغاز الفحم المتسرب في المعدن تسرب الهواء، فتميد الجدران وتندك الأحجار وتخسف بهم الأرض.
واهتدينا آخر الأمر إلى منفذ فخرجنا منه، وتركناهم يعملون في ظلمات ثلاث بعضها فوق بعض:
فالفحم ظلام جامد، والظلام فحم سائل، وعيشهم أسود حالك، وكفانا الله شر المهالك.
ثم درنا قليلا في «معدن الذهب» بعد أن انتهينا إليه من «معدن الفحم»، فلم نجد أرباب العمل فيه أسعد حالا، ولا متاعبه أهون احتمالا، لا نصيب لهم من الأصفر الرنان، مما يجلو عنهم صدأ الكروب والأحزان، سوى أنهم صفر الأيدي من الفضة والذهب، صفر الوجوه من النصب والتعب.
والعيس أقتل ما يكون لها الصدى
والماء فوق ظهورها محمول
وكادت الرطوبة في المعدن تعقد دماءنا في مجاريها، فأسرعنا إلى مكان الصعود فانتشرنا من بطن الأرض إلى ظهرها، وأقمنا هنيهة نعالج بأيدينا غشاوة الظلماء عن الأبصار، عند مفاجأة ضوء النهار، وسرنا نتمتع بفضاء الأرض لا ننطق حرفا ولا نحسن خطابا، وإذا بصاحبنا «الحكيم» يستوقف أنظارنا إلى «مسبك المدافع» الذي يمثل أعظم المسابك في فرنسا تطل منه أعظم أسطوانة للمدفع في العالم، ويخاطبنا بقوله:
الحكيم :
وهذا هو الثالث من أمهات المدنية وأقانيم الحضارة، فقد رأيتم الأقنوم الأول وهو الفحم،
3
والأقنوم الثاني وهو الذهب، وهذا الأقنوم الثالث وهو الحديد.
الصديق :
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس .
الحكيم :
نعم إنهم يستخرجون الذهب ليشتروا به الفحم؛ ليصهروا به الحديد، فيصنعوا منه ما شاءوا من آلات السلاح وأدوات الصناعة، فيخرجوا للناس ما تشاهدونه من عجائب الصنع، وإن كل ما ترونه مما يبهر الأنظار ويستهوي القلوب راجع في الأصل إلى ذلك الفحم الأسود الذي هو اليوم الخبز الثاني للإنسان في عالم المدنية، منه نعيمها ورفاهتها، وبه بأسها وقوتها، تبا للإنسان فما أعق عمله وأقبح صنعه! يهوي بالملايين من العمال إلى أسفل طبقات الأرض، فيخربون باطنها ليستخرجوا منه ما يخربون به ظاهرها، وتعسا له يزعم أنه يعمل لسعادة الحياة وراحة العيش، وهو يقضي عمره في الشقاء والبلاء حتى يأتيه حمامه، فيخرج من الدنيا باكيا كما دخلها باكيا، بعد أن قضى فيها لحظة العمر على حال تفضلها حال الحيوانات والحشرات، وهو بزعمه أفضل المخلوقات!
الباشا :
كم يكون عدد العمال الذين يستخرجون الفحم في فرنسا، وما مقدار أجرة العامل في اليوم؟
الحكيم :
يشتغل في معادن الفحم مائة ألف عامل، ويبلغ ما يستخرجونه منه سبعة وعشرين مليونا من الأطنان تباع بمائتين وستين مليونا من الفرنكات، ويعمل العامل منهم في جوف الأرض على عمق المئات من الأمتار، وفي وسط الأخطار التي لا تقل حوادثها في العام عن ألف وخمسمائة حادثة، فتذهب بالعدد الجم من القتلى والجرحى، هذا غير ما يصيب العمال من الأدواء الصدرية والأمراض الرئوية لاستنشاق «الكربون» وفاسد الهواء، ومنهم من يشتغل بالليل ومنهم من يشتغل بالنهار، ومعهم أولادهم ونساؤهم، كل هذا بأجرة تختلف من اثنين إلى خمسة فرنكات في اليوم!
الباشا :
وأين تذهب هذه المئات من الملايين من أثمان الفحم التي هي ثمرة كدهم ونتيجة تعبهم؟
الحكيم :
تذهب إلى فئة معينة من أرباب الشركات والامتيازات، فينفقونها على شهواتهم أو يدخرونها في صناديقهم، ولا تظنن أن هذه الفرنكات التي يأخذها العامل أجرا له في اليوم تصل إلى يده، فإن أكثر الشركات تبتني بيوت السكنى للعمال في أحياء بجوار المعدن، وتقيم بجانبها الأسواق، فيشتغل العامل في معدن الشركة، ويسكن في بيت الشركة ، ويشتري طعامه ولباسه من سوق الشركة، والشركة تحسبه عليه من أجرته، فإذا خرج آخر الشهر لا عليه ولا له كان رضي الحال، رخي البال!
الصديق :
من هنا نشأت المذاهب الاشتراكية ونحوها، فإنه كيف يصبر الإنسان على هذه الحال يعمل عمل الحشرات في باطن الغبراء؛ ليغني المقعدين في قصور العز والهناء.
قال عيسى بن هشام: ووصلنا في مسيرنا إلى البرج الشهير، برج «إيفل» المهندس القدير، فأسندنا إليه ظهورنا نتفكر في أعمال الإنسان، وما يأتيه من فنون الجنون في كل زمان، وهو يدعي أنه المخلوق الكامل، والحكيم العاقل.
المعجزة الثامنة
قال عيسى بن هشام: ووقفنا نشاهد ذلك البرج المنيع، والعماد الرفيع، فهالتنا رفعته، وأدهشتنا صنعته، فهو في باب المشاهدة الفريدة العصماء، والغرة الشهباء، والهضبة العلياء، والقلة الشماء، أعجوبة الصنائع وضعا وإتقانا، وبكر هذا المعرض وإن كان فيه عوانا،
1
تنحني أمامه الآطام والآكام،
2
وتخر له الربا والأعلام، فأين من ارتفاعه الهرمان، ومن علوه صرح هامان، لما أمره فرعون بقوله في كفره وعناده، وجحوده وإلحاده:
يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا .
ولو رآه فرعون لهدم ما شاد وأعلى، ولم يقل: أنا ربكم الأعلى، ولأنحى على هامانه فجلده ألفا، وعلقه على الجذع شنفا،
3
وأين «برج بابل» من برج يشافه بروج السماء، ويشارف الشعرى الغميصاء، إذا حوم عليه نسر الجو صار ثالث النسرين، واتخذ وكره في منازل الفرقدين، وأنى لخيال الشاعر أن يعلو في وصفه علوه، ويسمو سموه، لا جرم أنه يضيق عليه نطاق الوصف، فيلجأ إلى تشبيه الأكبر بالأصغر، والأعظم بالأحقر، كما شبهوا شمس النهار بكأس العقار، والثريا بعنقود، والجوزاء بعود، ودراري النجوم بالودع المنظوم، والليل الدجوجي بالعبد الزنجي، والأشفاق بالدم المهراق، فلعله يقول إذا: إنه ألف الهجاء، في كتاب التقدم والارتقاء، همزته رايته التي تخفق في صفحة الأفق، أو أول العدد المرقوم، في جدول الفنون والعلوم، أو الإبرة التي تغرز في خريطة الكرة الأرضية، لتعيين مواضع المدنية، أو هو القلم الذي يخط في أديم البدر، ما بلغته أمم الغرب من علو الشأن والقدر، أو هو قرن الثور في زعم البعض، نفذ إلى ظهر الأرض.
ولما فرغنا من الطواف حوله مرارا، وامتلأت له نفوسنا إعظاما وإكبارا، سمعنا «الصديق» يتنهد ويصعد، ويعيد في قوله ويردد:
الصديق :
هذه سنة الدهر منذ القدم وعادة الزمن في أبنائه، كلما ترقت أمة من الأمم في معارج المدنية شيدت لها أثرا يفوق سواه من بديع الصنعة، يقوم لها شاهدا بين الورى على ما بلغته من السمو والقدرة في زمنها، ثم لا يلبث أن يمحوه الدهر من صحيفته ليقوم مقامه آخر ينتهي إلى مثل نهايته، لا يزال الدهر هكذا في محو وإثبات، ولا يزال ابن آدم عن العبر في غفلة وسبات، اللهم إنه عمل باطل، وظل زائل.
الحكيم :
لا تعل بنا في أفكارك علو البرج قبل أن نصعد فيه، ولا تشغلنا بأقوال الحكمة عن مشاهدته، وهلم بنا إلى الارتقاء.
قال عيسى بن هشام: ودخلنا من أحد جوانبه في غرفة للصعود، فارتفعت بنا من سطح الأرض إلى عنان السماء في لحظة كلمح بالبصر، فرست بنا في الدور الثاني منه وإذا هو سوق من أكبر الأسواق اصفطت فيه حوانيت التجار بأنواع البضائع، والحانات بأصناف الخمور، وفي وسطه مطعم فخم يزري بمطاعم الأرض، فأخذنا مجلسنا في بعض حافاته، وجعل «الباشا» يسأل «الحكيم» إجمالا وتفصيلا:
الحكيم :
يرتفع هذا البرج عن سطح الأرض بثلثمائة متر، وهو من الحديد الخالص، ويبلغ وزنه تسعة ملايين كيلوجرام، وعدد قطعه التي يتركب منها اثنا عشر ألف قطعة، والخطاطيف فيه مليونان ونصف، وله من العمر عدة سنوات، وبلغ دخله من الصاعدين فيه في أثناء المعرض الماضي سبعة ملايين فرنك، ولو تم لأهل العصور الماضية بناء مثله لكان الثامن للآيات السبع.
الباشا :
وما الآيات السبع؟
الحكيم :
إن ذكرها ليطول.
الصديق :
نحن في مجلسنا هذا، وفي علونا عن الأرض، وتفرغنا عن العالم ما يبعثنا على جولان الفكر في تاريخ البشر للمطابقة بين أعمال الإنسان في ماضيه وحاضره، وإن اختلاف العصور ومرور الدهور لم يغير شيئا من جبلته، فهو هو على عهده في غرامه بالمعجب المدهش، يبيع نعيم الدنيا بشقائها في سبيل ذلك، ويشتغل بما لا تقضي به الحاجة لمجرد الزهو والعجب والتباهي والتفاخر.
الحكيم :
نعم يحق لك هنا أن تذهب مذاهبك الحكيمة في تعليل أعمال البشر وطباع الخلق، وأنت تنظر إلى أهل العالم السفلي من هذا العالم العلوي، كأنهم جموع النمل تغدو وتروح في سبل أرزاقها، ولكن الفرق بين الجنسين أن النمل في تآزر وتعاون، والناس في تضارب وتقاتل، والمصير واحد والفناء شامل، وعمل النمل حق وعمل الإنسان باطل.
وإن أبيتم إلا أن أحدثكم حديث المعجزات من أعمال البشر فهي: الأهرام، والحدائق المعلقة، وسور بابل، وتمثال جوبيتير، وصنم رودس، وهيكل إيفيز، ومدفن الملك موزول.
أما أهرام مصر فأمره مشاهد معلوم.
وأما «الحدائق المعلقة» في أرض العراق فقد أقامها «بختنصر» فوق الربوة التي تعرف الآن بربوة «عمران بن علي»، وهي في اتساع أربعين فدانا شيدت بالبناء على أشكال الجبال، وعقدت فيها القباب على عمد وأساطين أفرغوها وملأوها بالطين وغرسوا فيها الأشجار تنساق جذورها في أصولها، وتورق في رءوسها، ووضعوا فيها الدرج يصعد منها الصاعد إلى مثل رءوس الجبال؛ حيث تثمر الأثمار، وتزهر الأزهار، وتعشب الأعشاب، وتدور الدواليب لرفع الماء من مجرى الفرات إلى أعلى القباب، ويقال: إن السبب في إقامتها على هذا الشكل أن امرأة الملك كانت تحن دائما إلى مناظر بلادها التي نشأت فيها، فأنشأ لها الملك بالصناعة ما يعوضها به عن الطبيعة.
وأما «سور بابل» فهو عدة أسوار متداخلة بعضها في بعض يتسع محيطها للإحاطة بسبع مدائن مثل مدينة باريس، وكان ارتفاعه ثمانية وأربعين مترا، وعرضه سبعة وعشرين مترا، ومن حوله خندق عميق، وعليه أبراج متعددة، وله مائة باب من حديد.
وأما «تمثال جوبيتير» الإله الأكبر عند اليونانيين، فقد صنعه لهم «فيدياس» النحات الشهير، وطول قامته أربعة عشر مترا وهو جالس على العرش، مكلل بورق الغار وفي يمناه تمثال «إله النصر» مصنوع من الذهب الخالص وسن الفيل، وفي يسراه الصولجان منضد بكرائم الأحجار، وفي طرفه نسر من الذهب، والطيلسان والحذاء من الذهب أيضا، أما العرش فكان من الرخام وسن الفيل والأبنوس، وكان موطئ قدميه من العرش أسدين من الذهب، وقد أجاد صانعه وأتقن في تناسب الأعضاء في هذا الحجم العظيم حتى عده القدماء أنفس ما في الوجود من الصنع، وكان كل يوناني يعد نفسه ناقص الإيمان إن مات ولم يحجج إليه.
وأما «صنم رودس» فهو تمثال «أبو لون» إله الفنون عند اليونانيين أيضا أقاموه تجاه المرفأ، وكان ارتفاعه اثنين وثلاثين مترا وهو أكبر ارتفاع بلغته تماثيل القدماء، وانتهى بأن أسقطته الزلازل وهشمته، ونقلت العرب كثيرا من بقاياه في القرن السابع.
وأما «هيكل إيفيز» (وهي مدينة من مدن اليونان)، فهو معبد «ديان» إلهة الصيد والقنص، ولم يكن له مثيل في البناء والنقش والزخرف والتصوير بين معابد القدماء على الإطلاق، ومما يذكر للدلالة على أنه أعظم أثر عندهم أن أحد أهل الشقاوة من المولعين بحب الشهرة، على كل حال، واسمه «إيروسطراط» بحث عن أكبر عمل يمتاز به في الوجود، ويخلد ذكره على مدى الدهور، فاحتال لإحراق المعبد، فأكله النار، وأعلن الجاني عن نفسه أنه هو الفاعل لتلك الفعلة الشنعاء، فحكم عليه القضاة بالتعذيب حتى يموت، وأدركوا غرضه من إحراقه، فأمروا أن يلحق به كل من ذكر اسمه، فكان ذلك داعية انتشاره؛ لأن الناس أخذوا يهمسون به بينهم حتى اشتهر وخلد ذكره بسوء فعلته إلى اليوم، وكان حرقه في الليلة التي ولد فيها الإسكندر، فلما بلغ من الملك ما بلغه، عرض على أهل «إيفيز» أن يعيد لهم بناءه من ماله بشرط أن ينقشوا عليه اسمه، فأبوا ذلك حتى لا يكون لأجنبي عنهم فضل عليهم في معبدهم، وباشروا هم أنفسهم تجديد بنائه وزخرفته حتى تم لهم في مائتين وعشرين عاما، وما زال قائما حتى جاء «نيرون» القيصر الروماني، فنهب ما فيه من الذخائر والكنوز، ونقل الفسيفساء من أرضه فوضعها في قصوره بمدينة «رومية»، ثم انتهى الأمر بأن خربه «الجرمانيون» في حروبهم.
وأما «مدفن الملك موزول» فهو مدفن أقامته له امرأته (كانت أخته) بعد موته جمعت له مهرة الصناع من سائر البقاع، وخصت كل طائفة منهم بجانب من العمل، وكان ارتفاعه اثنين وأربعين مترا وأساطينه من المرمر النقي، نقشت عليها صور الحوادث التاريخية، وكان غطاؤه صخرة من المرمر صورت فيه وقائعه الحربية، وبقي هذا المدفن سليما إلى القرن الرابع عشر، ثم اندثر أثره في القرون الوسطى، ونقل جانب من أجزائه قريبا منه لبناء قلعة «بودرون» بالأناضول في القرن السادس عشر، وبقي منه قطع من الرخام المنقوش لاصقة بأرضه إلى أواسط هذا القرن، فاشترتها إنكلترا ووضعتها في متحف لوندره.
الصديق :
ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أبعد ابن آدم من العبرة والتذكرة!
تراكمت القرون وشاب فود الدهر، وتغيرت الأرض واندثرت المعالم في كل زمان ومكان، والإنسان هو هو لا يزال على غيه يعتقد لأعماله البقاء ولآثاره الخلود، لا فرق في هذا الاعتقاد بين الآشوري عند برج بابل، والفرنسي اليوم تحت «برج إيفيل»، كلاهما يتعب ويشقى، وكلا العملين لا يدوم ولا يبقى، وما تبقى إلا الأحاديث والذكر.
كل بيت إلى الهدم ما تبتني ال
ورقاء والسيد الرفيع العماد
والفتى ظاعن ويكفيه ظل السد
ر ضرب الأطناب والأوتاد
الحكيم :
نعم صدقت ويحضرني في هذا الباب محاورة ابتكرها أحد قدماء العلماء، وأجراها في عالم الأموات على لسان «ديوجين» الفيلسوف الزاهد القديم والملك «موزول» صاحب ذلك المدفن الشهير، وأذكر منها:
دوجين :
ما لي أراك أيها الرجل الآسيوي مختالا تياها في أكفانك! كأنك تريد أن تنزل هنا أيضا بين الأموات منزلة أشرف منزلتهم، وتحل تحت طبقات الأرض فوقهم مكانا عليا.
الملك :
وهل من شك في ذلك أو ارتياب! ومتى تساوت الملوك بالسوقة! وأنا أكبر الملوك ملكا وسلطانا، وأحسن الخلق بهاء وجمالا، وأعظم الفاتحين نصرة وجلالا، وقد كنت في الحياة أرفع ذوي التيجان عرشا وقدرا، وأنا اليوم في الممات أعظمهم مدفنا وقبرا، وإن افترى مفتر منهم أنه كان يساويني في فخامة الملك، فقد انقطعت ألسنتهم أن يكون لهم مثل هذا القبر، فهو معجزة البشر في النقش والحفر، وآية الدهر في المجد والفخر، فما ترى بعد ذلك أيها المتقشف في الدنيا والمندثر في الآخرة أن ليس من حقي التخايل والترفع!
ديوجين :
ولكني أراك أيها الملك العظيم الجليل لم يبق لك من سلطانك وجلالك أكثر مما بقي لي، وهذه جمجمتك لا تمتاز عن جمجمتي بشيء، فكلتاهما مثقوبتا العينين، مفحورتا الأنف، بارزة الأسنان، وأما ذلك المدفن الفخم والصخور المزخرفة فوق رأسك، فلا فائدة لك اليوم منها بعد أن تساويت فيه بمن دفن في بلقع من الأرض، وإنما أصبحت فائدته للأحياء من أهل بلدكم يتباهون به على الوافدين إليه من الأقطار حينا من الدهر، ثم لا يلبث أن تندك أحجاره، وتزول آثاره.
الملك :
ما هذا الذي أسمعه، يا رب الصواعق والرواعد! أيذهب كل ما أوتيته من أسباب العز والمجد متاعا باطلا، وأصبح مساويا لديوجين فيوسعني تأنيبا وتبكيتا؟
ديوجين :
لا تقل أيها المخلوق: إنك أصبحت مساويا لي، فشتان ما بيني وبينك، فإنك لا تنفك تتحسر على ما كان لك في الدنيا من الملك والسلطان وزخرف الحياة، وأما أنا فلا يحزنني شيء ولا يكدرني الآن مكدر، ولم أترك في الحياة شيئا آسف عليه ويوجعني فراقه، ولئن خطر الزنبيل الذي كنت أسكنه في الدنيا على بالي يوما لكان للاغتباط بأن مسكني الآن في بطن الأرض أوسع لي مجالا وأحسن منزلا، ولكن لي في قلوب أهل الدنيا ذكرا حسنا، وأثرا من الفضائل خالدا لا تمحوه الأيام ولا يبلى ببلاء الزمن، فأين مكانك أيها المغرور من مكاني، وأين ذكرك أيها المفتون من ذكري؟
الباشا :
ما أحكم الموعظة وأجل العبرة!
الحكيم :
ولو علمتم أن «المسيو إيفيل» صاحب هذا البرج العظيم قد انتهى أمره بتهمة السرقة والاختلاس وسجن في قضية «بناما» الشهيرة لاشتد بكم العجب في نتيجة هذه الآثار، وذهاب أصحابها بسوء السمعة والأخبار.
والآن فقد أحطتم بمشاهد المدينة ومناظرها في صنائعها بآلاتها وأدواتها، من بطن الأرض إلى سطح البرج، متجلية لكم في هذا المعرض بأجلى مظاهرها وأسنى مراتبها، فإن كان من عزمكم العودة متعجلين إلى بلادكم، فقد كفاكم ما شاهدتموه مما يملأ الصدر مهابة والعيون حسنا، وأودعكم مع الأسف الشديد لفراقكم، فقد رأيت فيكم من حسن العشرة ولطف الخلطة وذكاء القريحة، ودقة الفكر ما لم أكن أتوسمه من قبل في كثير من أهل الشرق، وإن كان في نيتكم الإقامة زمنا بيننا، وكان الميل فيكم شديدا لاستطلاع العالم الأدبي بعد العالم المادي في هذه الحضارة الغربية، وأحببتم الوقوف على ما تجري عليه أحوال الجمعية البشرية، وما تدور به المعاملات في المعايش والمرافق، وما تنطوي عليه من الأخلاق والصفات، ويتسلط عليها من الطباع والعادات، فأنا حاضر بين أيديكم لمصاحبتكم ومرافقتكم، والفضل كل الفضل لكم فيما أجده من الأنس بكم ولذة النفس في مباحثتكم ومناقشتكم.
قال عيسى بن هشام: فحبب إلينا البقاء بكلامه، وحمدناه على حسن صنعه وإكرامه، وصادف رأيه لدينا حسن القبول، ففضلنا الإقامة على القفول، وبهذا انتهينا من زيارة معرض النفائس والأعلاق، لنبدأ بالنظر في معرض الأطوار والأخلاق.
من الغرب إلى الشرق
قال عيسى بن هشام: وأقمنا مع صاحبنا «الحكيم» نهتدي في سيرنا بهديه، ونستضيء بنور فكره ورأيه، ونتبعه اتباع الإبل لحاديها، والرفقة لهاديها، ونحمد القدر الذي ساقه لمرافقتنا، وأنزله على موافقتنا، وقضينا معه الليالي والأيام، منذ انتهينا من المعرض العام وكأنها حلم من الأحلام، يتنقل بنا في الأندية الحافلة، والمجالس الآهلة، ويدور بنا في اختبار الأخلاق والصفات، بين مختلف أهل الطبقات، فيعلو بنا تارة إلى مراتب الخاصة والحامة،
1
ونسفل معه أخرى إلى أدنى منازل السوقة والعامة، فاليوم مع كبار الرجال والأمراء، وغدا بين شراذم الصناع والأجراء، ثم نتحول من محادثة أرباب القصور العالية، إلى محاورة أصحاب الأكواخ البالية، ومن منابر الوعظ والخطابة، إلى مجامع ذوي الدعارة والدعابة، ومن أروقة العلماء والفضلاء، إلى أزقة الأوباش والسفهاء، ومن جمعيات العلوم والمعارف، إلى حانات المراقص والمعازف، حتى لم يبق مجتمع تختبر فيه الفضائل والرذائل، وتسبر فيه الطباع بين الأعالي والأسافل، إلا لدينا طرف من خبره، وعلم من أثره، باحثين في العلل والأسباب، مستشفين لما وراء الحجاب، إلى أن أدركنا الشتاء بخيله ورجله، وجليده ووحله، ورعوده وبوارقه، وعواصفه وصواعقه، وتوارت الشمس عنا الأيام بعد الأيام، وانسدل على العالم ستر الظلام، وأصبحنا نستضيء بمصابيح الكهرباء، من الصباح إلى المساء، وانطلقت في الجو مداخن المعامل ومداخن الاصطلاء، فعقدت سحبا أخرى تحت سحب السماء.
وتدفقت السيول والأمطار، طول كل ليلة وكل نهار، حتى أغرقت الغدران والأنهار، فطغى الماء بمثل الطوفان وسال في الأودية والبلدان، وامتد نهر المدينة فوصل إلى أرض المنازل والمساكن، وقد يعلو إلى الأدوار والأماكن، فانزوينا في الغرف والحجرات، نقضي بها جميع الأوقات، وكأنما نحن في العذاب نعذب تارة بنار الاستدفاء، وتارة بزمهرير الشتاء، وأقمنا عاكفين على الحديث والسمر، بما وعيناه عن هذه المدنية من كل خبر وأثر، وكان «الصديق» بيننا كعهده يرسل علينا القول إرسالا، ويذهب في حدة انتقاده يمينا وشمالا.
ويذكر من أسواء المدنية الغربية ما يهول السمع، ويذرف الدمع، حتى استفز «الحكيم» للرد عليه، وتهوين ما ذهب إليه:
الحكيم (للصديق) :
لقد أسرفت أيها «الصديق» في القول، وغاليت في الوصف وإن كان في بعضه الجانب الصحيح والحق الصريح، ولكن لهذه المدنية الكثير من المحاسن كما أن لها الكثير من المساوئ، فلا تغمطوها حقها ولا تبخسوها قدرها، وخذوا منها معشر الشرقيين ما ينفعكم ويلتئم بكم، واتركوا ما يضركم وينافي طباعكم، واعملوا على الاستفادة من جيل صناعاتها، وعظيم آلاتها، واتخذوا منها قوة تصد عنكم أذى الطامعين، وشره المستعمرين، وانقلوا محاسن الغرب إلى الشرق، وتمسكوا بفضائل أخلاقكم وجميل عاداتكم، فأنتم بها في غنى عن التخلق بأخلاق غيركم، وتمتعوا في رخاء بلادكم، وسعة أرزاقكم، واحمدوا الله على ما آتاكم.
قال عيسى بن هشام: ولم يبق لنا بد في هذه الحال، من السفر والانتقال، فاستخرنا الله في العودة إلى ديارنا، والأوبة إلى أوطاننا، والحمد لله باطنا وظاهرا، أولا وآخرا.
خاتمة
بدأت هذا الكتاب بخير ما يبدأ به كتاب بعد اسم الله وذكر رسوله: رسالة الحكيم جمال الدين.
لم أرم في ذلك - علم الله - إلى التنبيه من ذكري والتنويه بقدري، وأستغفره ثم أتوب إليه أن يكون الدافع إلى نشرها هذا الغرض دون سواه، وأنا أعلم أن مثل هذه الرسائل من كبار العلماء إلى تلاميذهم إنما يكون مصدرها حث المتعلم على العلم، والإغراء بالتعمق فيه، كالطفل توضع في يده قطعة العاج المنقشة علالة يتعلل بها لتنبت أسنانه، بل كان نشرها لأنها أثر من الآثار يجب عرضه على النظار، ونفاسة بما يخطه ذلك القلم الجليل في أي قصد من المقاصد، ومطلب من المطالب أن يبقى مطويا في أدراج الأوراق وحقه أن ينشر على سائر الآفاق.
وأختتمه على مثل هذه النية بخير ما يختم به القول بعد حمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين: هذه الرسالة التي شرفني بها مولانا الأستاذ الشيخ سالم بوحاجب شيخ العلماء وصحاب الإفتاء بالمملكة التونسية بعد أن قرأ هذا الكتاب في طبعته الأولى، وناهيك بقدر هذه الرسالة بركة ويمنا وشرفا وجلالا ممن يمثل لك بالفعل، ما يروى عن السلف الصالح بالقول، ويشهد لك بسيرته في هذه الأيام، كيف كان العالم العامل في صدر الإسلام، ويعيد لنا ذكرى البصري في الزهد والتقى، والكوفي في الرأي والحجى، والمكي في الفقه والدين، والمدني في العلم علم اليقين، هذا إلى سعة في الاطلاع وتصرف في الأفكار، ودقة في البحث واستنباط للأمور، يؤلف الغابر بالحاضر ويطابق بين أحكام ما قضت به الحكمة في سالف الأوان وما تقضي به قواعد هذا الزمان.
أنفق العمر ناسكا يطلب العل
م بكشف عن أصله وانتقاد
فهو المثال التام الذي ينشده الإسلام، منذ السنين والأعوام، من بين العلماء الأعلام؛ ليعود إليه مجده ويرتد إليه حقه ويعرف بهم قدره، ولو من الله بمن يأخذ بقدوته في سائر الأقطار، ولو جرى العلماء على مثاله في كل مصر من الأمصار، لاستوى الأواخر بالأوائل في العلم والدين، ولعاد الإسلام إلى ذلك العز القديم والنصر المبين.
وهذا نص الرسالة الكريمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أيها الجهبذ النحرير، المتصرف في أحرار الألباب، ورقيق الآداب بالاسترقاق والتحرير، البالغ من رتب التهذيب أقاصيها، المالك من بدائع التربية نواصيها ، أما بعد: تقديم التحية اللائقة بعزة تلك الحضرة المحمدية المويلحية، فقد وصل إلي - واصل الله في مدارج الإجادة ارتقاءكم، وأدام لحسن الإفادة إتقانكم وانتقاءكم - كتابكم الجليل الذي يقوم به على تقدمكم في حلبة العرفان، وبراعة البيان، وكمال تربية الإنسان، أوضح دليل، فوالذي علم بالقلم، ومنح خير خلقه جوامع الكلم، إن لقلمكم من السحر المبين ما تخر له سحرة البيان ساجدين، وإنه ليحقق اللطيفة الموسوية التي لمح لتأهلكم لها كتاب الأستاذ جمال الدين، كما يتحقق ما يتفاءل به عن إسناد مروياتكم لاسم عيسى، وإحياء موتى الأفكار المؤسسة على حياة من كان في اللحد رميسا، فيا له من معلم قد علم منه كل أناس مشربهم، ووجد فيه الباحثون عن وسائل الاستقامة مأربهم، فرجال الحكم مثلا سواء أكانوا من الأمة الإسلامية أم غيرها، يتعرفون منه ملاك عز الأمة ونمو خيرها، بإسناد الوظائف إلى أهل المعرفة والفضل، والضن بها عن غير الأهل، وإقامة منار العلم والعدل؛ لتدارك ما تخرب بيد الجور والجهل، والعلماء يدركون به طرق النصح في التعليم، وعدم النفرة من الحديث لمجرد كونه لم يعهد في القديم، ومع ما يلزم لهم في اقتياد ذوي الجهالة والعناد من الملاطفات، والتحذير مما يدنس الشريعة المصونة من مختلق الخرافات، والحاكم الغاشم ينتهي بمطالعته بالكف والإعراض عن كل ما يمس المروءة ويدنس الأعراض، والمنشئ يتعلم منه كيف يسحر العقول بهيمنة لفظه، ويستلب القلوب بحسن إرشاده ووعظه، وكيف ينتحل الأديب مهارة الطبيب، فيشرح النصائح بأسلوب عجيب، لا يتطرقه إنكار أو تكذيب، وقد يجد المريض من حذق الطبيب عذوبة التعذيب، ثم يسترشد به الوالد في تربية أبنائه، ويدعوهم إلى حفظ مجد البيت والثروة بعد فنائه، ويعينهم على استثمار دوحة البذور، وينقذهم مما يفضي إليه سوء السيرة من الأسواء والشرور.
ملأ الله أوقات الجميع بالسرور، ولا زال يرينا من أعمالكم كل أثر مشكور، وإذا كان لا يتيسر لغيركم رعاكم الله أن يصل بقلمه إلى منتهى آماله، فحسبنا أن نقنع في أداء الواجب بإجماله.
هذا ما حملت عليه محاولة القيام ببعض الواجب، من متيم ودكم وأدبكم.
سالم بو حاجب
Bilinmeyen sayfa