وفي اليوم الرابع عشر من شهر رمضان، عزمنا على التوجه بقصد زيارة خليل الرحمن، فوافينا دخوله آخر ذلك النهار، وشاهدنا ما تحير فيه العقول من باهر تلك النوار. وأتينا إلى زيارة ذلك المقام الشريف بقلب سليم، وتلونا دعائه " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " وزرنا ما جاور مقامه الشريف من قبور أولاده الأنبياء الكرام، وجميع آله عليهم الصلاة والسلام، وأقمنا في جواره يومين وفي وسط صبيحة الثالث عزمنا نحو غزة قاصدين وتلونا قوله تعالى " فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " وودعنا من كان جاء في خدمة مولانا رفع الله تعالى مناره، وصحبه من علماء القدس الشريف للزيارة. وخرجنا في يوم مطر، وفتحت فيه أبواب السماء بماءٍ منهمر. ثم وافينا غزة المحمية في ثمان عشر شهر الصوم، وأقمنا بها يومًا بعد يوم، وتشرفنا بملاقاة عالمها فخر العلماء المدققين، شمس الملة والدنيا والدين. وكنا في غاية التشوف إلى مشاهدة ذاته، والتشوق إلى الإجتماع به وملاقاته فدعانا إلى منزله ثاني ليلة الوصول ومد لنا الموائد، وأغتنمنا تلك الليلة مصاحبته العلمية وحصلنا منها على كثيرٍ من الفوائد. وذكر لنا أن معرفة الفضائل صارت منكورة وعفت معالمها من البلدة المذكورة، وشكا لنا كثيرًا من عدم فاضل في البلد يباحثه ويناظره، بل طالب يحادثه في العلم ويسامره:
ما في البلاد أخو وجدٍ نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وتألم أيضًا من عدم معرفة اهلها بقيمة العلم والعلماء، وما يقاسيه بسبب ذلك من الشدة، وأنشدنا:
كفى حزنًا أني مقيم ببلدة
فقلت له يا مولانا حيث كان الأمر كذلك فما الداعي لتحمل موجبات السآمة، وأنشدناه قول الطغرائي: فيم الإقامة.
وتلونا عليه آية المهاجرة وما فيها من وجدان المراغم الكثير والسعة، وموجبات الحبور والدعة، وقلنا: عجبًا للقلب المصاحب للهموم، كيف يبدي الفضائل والفهوم، فإن الشمس لا تبدو إذ يحول غيم، ولا يخفاكم: " يقيم على ضيم "، وبالجملة:
إذا كنت في أرضٍ يسوءك حالها ... ولم تك محبوسًا بها فتغرب
فإن رسول الله لم يستقم له ... بمكة حال وأستقامبيثربٍ
فذكر لنا حديث حب الوطن، وتنفس الصعداء وأنشد من شدة الكمد والحزن:
بلاد ألفناها على كل حالة ... وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هواؤها ... ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
ثم أتسعت معه دائرة المخاطبة، وأستطرد القول بطريق المناسبة، إلى ذكر رحلته إلى بلدتنا حماة المحمية المحروسة، وتغزل لنا بوصف ما فيها من تلك الأماكن المأنوسة، فتحرك ما عندنا من السواكن، والأشواق إلى تلك المعاهد والأماكن، فعند ذلك تأوه هذا الصب عند ذكر الحمى، وتذكر قول ابن خطيب داريا:
تذكر بالأوطان عيشًا تصرما ... ففاضت على خديه أدمعه دما
وحن إلى أحبابه فتصاعدت ... له زفرات لا تسل عن جهنما
كيف لا وهو كما قيل:
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها
ثم سألني عمن يعهده فيها من أفاضل الأصحاب فكان سائل دمع مقلتي الجواب، وأنشدت:
إذا هبت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهل ميّ هاج قلبي هبوبها
هوىً تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفسٍ أين حل حبيبها
وقال: والله يا مولانا أن رونقها في الحقيقة يشرح الصدور ويبهج نفوس، ويعجز عن حصر محاسنها سطور الطروس. ولكن لله درك حيث وفيت حب الوطن حقه، وأديته واجبه ومستحقه، ولعمري لم تشهد العين محبا للأوطان مثلك ولا أشواق، ولم نعهد من قيده الغرام نحوك فيجري الدموع عند ذكر الربوع كالماء المطلق، ولا شاهدنا بأضيع من عينيك للدمع كلما تذكرت ربعًا أو توهمت منزلا فقلت له: يا مولانا كيف لا أكون كذلك وهو:
بلد صحبت له الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العز وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير وجدته ... وعليه أغصان الشباب تميد
1 / 7