وفي تلك الخلوة، وضع التلميذ بين يدي الملك تلك الأوراق التي كان أمره أستاذه المشعوذ بحرقها، ولكنه لم يكن ليحرقها، وإنما موه على أستاذه بإحراق غيرها برشاقة ماهر نجيب حسب للأمور حسابها، وما اطلع الملك على تلك الأوراق وهي تثبت الجرائم التي ارتكبها كل من وزير الميمنة والمشعوذ حتى أظهر دهشته، فأعلمه الشاب عن كل شيء وعن العهد المشترك في خداعه، فأرسل الملك حالا من يكشف عن نسختي العهد في قصر الوزير وفي دار الساحر الدجال، ويا لشدة ثورته، عندما اطلع على نص العهد وهو يعرف خط كل من المتعاهدين وإمضاءه، فأمسك بالجرم بيديه وعينيه وأذنيه، ولم يعد ثمة أي وجه للارتياب.
خرج الملك من الخلوة كالأسد المكلوم، فإذا الشعب وقد عرف كل شيء بتدبير من الشابين، يصخب ويصرخ مطالبا برءوس الخونة المضللين والمجرمين المستغلين والدجلة المشعوذين، فاستجاب الملك لمطالب الشعب، وأصدر أوامره - كما يقول الرواة - بالقضاء على جميع السحرة، وبتحريم السحر والشعوذة في جميع أرجاء المملكة، وفي مقدمتهم ذلك المشعوذ الأكبر، وقد أفسد البلاد، وكاد يهلك العباد؛ لكثرة ما استغل ولوفرة ما هيأ من وسائل الاستغلال.
ولكن هل انتهى السحر بشعوذاته ودجله مع تلك الحادثة؟ وهل قضي بإنفاذ حكم الملك على جميع السحرة والمشعوذين؟
خاتمة وعبرة
قال الراوي: ما كادت تلك الليلة - ليلة التاج - تتنفس عن فجرها - وقد كانت لجلالته ليلة بيضاء، كتلك الليلة التي استعاد فيها في نفسه تاريخ حياته - حتى كان الملك قد دبر كل شيء، فكان نهارها انقلابا داويا، تغيرت معه وجوه المسئولين في المملكة، وكان تبدلا جذريا، استقر به الاتصال الوثيق بين الدولة في حكومتها وبين الشعب في آماله ومثله، وأصبح الأستاذ الحكيم الثائر مستشارا أول للملك وموجها للحكومة، وراعيا لمصالح الأمة في جماهيرها، وقد عبرت زينة الأنوار المتلألئة على السطوح والشرفات والمندفعة في الأجواء، عن فرح الناس واغتباطهم وعما استعادته الحياة في تلك البلاد من بهجة ومرح، كما عبرت الهتافات والزغاريد المتصاعدة من أفواه الناس وقلوبهم عن حبور الشعب واطمئنانه وسعادته.
استمرت تلك الأعياد، وقد دعيت بأعياد النصر، أياما متواصلة، اتصلت فيها أفراح الليل بأفراح النهار، والناس يهنئ بعضهم بعضا، فتتسامى أرواحهم إلى العلاء، في أجواء المثل الوطنية والقيم الاجتماعية والمناقب الإنسانية، فيلتقون عندها جميعا ملكا وحكومة وشعبا ، وليست الأفراح والأتراح - يشترك فيها الشعب والحكومة معا اشتراكا عفويا يصدر عن طبيعة الذات وعن تحسسها الأصيل تلقائيا، لا اصطناع فيه ولا افتعال، ولا استعارة ولا استئجار، دون تكلف أو محاولة تغطية - إلا وسائل قوة وعزة وبناء صروح للأمجاد، تتباهى بها الأمم وتتفاخر الحكومات ويزهو الملوك، وتكون النتيجة انتصارا على الذات وانتصارا على الأعداء، والحوادث تتوالى، هي الدليل الصادق على صحة هذه النظرات.
فما سمع شداد بما جرى، وما اتصل به نبأ العواقب الوخيمة تبلغ أعناق أنصاره من الخونة في رجال الدولة وأركانها، حتى استشاط غضبا، فقرر اقتحام المملكة بهجومه الصاعق.
إنه قد سبق، وهيأ شداد جنده لهذا الهجوم بالاتفاق مع الخونة المارقين والسحرة المشعوذين من رجال الدولة وقادة الشعب، فهل يضيع الفرصة والدولة هناك - على ما كان يعلم - منهوكة القوى بفعل الترف، والشعب في تلك المملكة متفككة أوصاله بفعل إفساد من أغرى من الخونة المارقين، يخلصون لمن يستأجرهم ويغريهم من أعداء البلاد الطامعين في مرافقها وثرواتها، ويحسنون خداع شعوبهم في خدمته؟ إنه النصر الأكيد ما دامت الأمة في تخاذل وانقسام، وما دام الشعب مع حكومته على خلاف، وأولئك الأنصار والأصدقاء ممن خانوا بلادهم في سبيل تحقيق مطامعي في أطماعهم، ألم يرحني منهم ملكهم الملقب بالعادل، فلم أعد مطالبا بوفاء في إبان النصر، عندما تستحق وعودي لهم الاستيفاء؟ وهل كنت حقا مصمما على الوفاء إلا بمقدار ما تقتضيه مصلحتي من تجدد الخدمات، أو يتعذر علي - وأنا المنتصر - أن أجد في غيرهم أطماعا تغريهم بالخيانة وبأبخس الأجور والأثمان، ما دامت الأمة في حكومتها وفي شعبها لا ترى في غير المال والزهو والترف أي معنى للوجود أو أية قيمة للحياة؟
وفي خضم تموجات هذه الخواطر السوانح البوارح، أصدر شداد أمره بالهجوم غادرا ليفاجئ الخصم، فيربح المعركة على أهون سبيل وبسرعة برق الصاعقة، ولكن ساء فأله وخاب أمله، وكان برق صاعقته خلبا، إنها روح الثورة تأتي في مقاومتها بالأعاجيب وتفعل المعجزات، فتتفجر بها ذرات الضعف قوة، إذ يتحول الانقسام تماسكا والتخاذل تناصرا، والتعدد في التفرق والاختلاف وحدة في التجمع والاتفاق.
انتصر الملك العادل، وانهزمت جيوش شداد، وطابت لملك عرف كيف ينسجم مع شعبه الحياة، فلانت للشعب، يعرف كيف يعيد إلى مليكه صوابه، واستحالت رغدا وعزة ومجدا وسعادة، فاطمأنت النفوس وسكنت الأعصاب، واعترف الجميع بأن الفضل للشباب في وثبات الثورة في نفسه وفي استقرار المقاومة فيها، يعبر عنها باستمرار خفقان القلوب ودوران الدماء، نعم، الدماء.
Bilinmeyen sayfa