40
وأرجو أن نعالج مثل هذا الاضطراب الذي امتد إلى أبسط كتب النحو بعدما زلزل كيان اللغة، وفرق أمرها كله، أرجو أن نعالجه كما فعلنا في الصعوبة الأولى، فنلتزم أصول النحاة التي أصلوها هم أنفسهم ونقوم بأمرين:
الأول:
محاولة الاحتفاظ باطراد القواعد ما أمكن، فإذا ما أدى هذا الاطراد إلى التسوية بين وجه لغوي قوي ووجه لغوي أقوى، أو الجري على ما هو الأقل قوة، فقد سمعنا ما تجيزه أصولهم من عدم اللوم في ذلك بمحلل هو السجع، وراحتنا من هذه الآلام أمتع لنفوسنا آلاف المرات من سمج السجع.
الثاني:
اختيار ما هو أيسر إعرابا، أو أقرب فهما، أو أكثر رواجا في حياتنا اللغوية الحاضرة، حينما نريد طرد القاعدة وإقلال التفريع والأحوال والصور فيها.
وأسوق لهذا التدبير مثلا من علاج مسألة في الاستثناء الذي سبق ذكر صعوباته، فأقول: إن في هذا الكتاب المدرسي الصغير أنه يستثنى ب «خلا، وعدا، وحاشا»، فيجوز في المستثنى بها النصب، ويجوز فيه الجر، هذا إذا لم يسبق «خلا وعدا» كلمة «ما»، فيجب نصب ما بعدها، ومن ذلك نرى أن النصب مشترك في الأحوال كلها، مع «ما» وبدونها، فلو قلنا: إن الاستثناء «بخلا وعدا وحاشا» له حكم واحد دائما هو نصب المستثنى، وقد تدخل «ما» على «خلا وعدا»، فإنا بهذا الطرد للقاعدة نضبط الأمر ونيسره، ولا نرتكب أكثر من أننا جعلنا بعض الأحوال المختلف في قوتها أو المرجحة قوة الجر فيها أو النصب مثلا جعلناها مرجوحة، أو سوينا فيها بين الحالتين، وقد رأينا جواز هذا، وأنه عربي صحيح لا شيء فيه.
بمثل هذه الخطة نستطيع أن نمنع الكثير من اضطراب القواعد واختلافها المتعب، وبذلك نمكن للفصحى من ألسنة الناس وقلوبهم. وإنما أعني من الناس - كما كررت - هؤلاء الذين لا يشتغلون في الحياة باللغة وأبحاثها وآدابها، بل تعنيهم اللغة بقدر ما تكون أداة عملية تسعف على عملهم أو علمهم أو فنهم أو منافعهم، فتمكنهم من أن يترجموا عما في أنفسهم منه، وينقلوه إلى المتعلمين عنهم، أو إلى معامليهم أو معاشريهم.
فإذا ما مكنا للفصحى في ألسنة هؤلاء وقلوبهم، فقد أمددناها في صراعها للعامية بقوة تهيئ لها شيئا من الثبات والمقاومة إن لم يكن التغلب والانتصار.
أما أولئك الذين عملهم في الحياة هو الاشتغال باللغة وعلومها وآدابها، فمنذ يبدءون تخصصهم في ذلك، ويفصلون عن التعليم المشترك إلى أقسامهم الخاصة، لهم أن يرددوا من هذه الاستثناءات التي تربك الإعراب ما يشاءون، وأن يتتبعوا من أوجه الاختلاف ما يعرفون به الفصيح والأفصح، والأقل والأكثر، ما دامت الدنيا حولهم تمكنهم من ذلك وتجيزه لهم. (14) هو الاعتدال الجامد
Bilinmeyen sayfa