أما السيد «لجري»، فقد تملكته الحيرة الذاهلة، فتردد قليلا قبل أن يزأر قائلا: ماذا؟ أنت أيها البهيمة النجسة السوداء؟! أتقول لسيدك إنه لا يجوز لك أن تفعل ما أمرتك بفعله؟ ماذا تعرفون أنتم أيتها الماشية الملعونة، عن الصواب الذي يجوز أو الخطأ الذي لا يجوز؟ أظننت يا سيد توما أنك قد انقلبت، من عبد إلى سيد في لحظة واحدة؟ أأنت الذي تهدي سيدك إلى الخطأ والصواب؟ أتزعم لي أن ضرب هذه المرأة بالسوط عمل لا يجوز؟
أجابه توما: نعم يا سيدي، هذا هو في الحق ما أزعمه، إن المرأة المسكينة مريضة وضعيفة، ولو ضربت بالسوط لكان ذلك قسوة بالغة المدى، وهو ما لن أفعله أبدا، أبدا، سيدي! إذا أردت قتلي فدونك فاقتل، أما أن أرفع يدي بالسوط على أي واحد من هؤلاء، فذلك ما يستحيل علي أن أفعله أبدا، أبدا.
تحدث توما بصوت رزين هادئ، لكنه مشحون بعزيمة لا يخطئها أحد، فارتجف «لجري» من الغضب، وبرقت عيناه الخضراوان بريقا مخيفا، ثم انقض على فريسته كالحيوان الكاسر، صارخا يقول: «انظروا»، هذا هو كلب ورع وجدناه بيننا نحن الآثمين! هذا هو قديس - هو سيد ولا أقل من ذلك - جاء ليحدثنا نحن معشر الآثمين عن خطايانا! ألم تسمع أيها الوغد الدنيء بما جاء في الإنجيل: أيها الخدم أطيعوا سادتكم؟ ألست سيدك الذي اشتراك بماله؟ لقد اشتريتك بكل ما فيك، بكل ما تحتوي عليه هذه المحارة الملعونة السوداء! لقد أصبحت ملكي جسدا وروحا، أليس كذلك؟ ورفس بحذائه الثقيل العم توما، قائلا له: أجبني!
ومن أعماق الألم الذي نال هذا المسكين في جسده، وبرغم ما أخذ به جسده يتلوى وينحني ويستقيم من وطأة ما أصابه، فإن قول السيد له بأنه قد بات ملكا له جسدا وروحا بث فيه نشوة روحية عجيبة، تألق بها وكأنه قد أصاب نصرا، وفجأة استقام بجسده، وشخص ببصره إلى السماء، وقال في صرخة عالية، وقد اختلط على وجهه الدمع والدم:
لا! لا! لا! ليست روحي ملكا لك يا سيدي! إنك لم تشترها إذ اشتريت، كلا، ولا كان في وسعك أن تشتريها، لقد سبق لها أن اشتراها خالقها ودفع ثمنها، اشتراها ودفع ثمنها من في وسعه أن يصونها، افعل أيها السيد بجسدي ما تشاء، وأما روحي فلن يكون في وسعك قط أن تلحق بها الأذى.
تلك لمحة مما أملاه ضمير حي على كاتبة أديبة، في قضية رأتها ماسة بإنسانية الإنسان في صميمها. إن ضعاف النفوس قد يقترفون الإثم الذي يصيب جمهور الناس في أعز ما يملكون، وأعني أنه قد يصيبهم في آدميتهم نفسها، وعندئذ تقع تبعة البيان على من في وسعه، أن يفصح عن حقيقة الموقف ببيانه، فإذا لم يفعل، فقل عنه: إنه ضمير مات.
طريقنا إلى إحياء الدين
كيف السبيل إلى إحياء الدين، ليعود قوة دافعة كما كان أول عهده؟ سؤال طرحته على نفسي منذ أمد بعيد، ولم يزل يظهر في حياتي ويختفي إلى يومي هذا، وكثيرا ما كان يراودني الطموح - وكدت أقول الجموح - بأن أنكب على هذا السؤال ملتمسا له جوابا أقتنع بصوابه، لكنني كنت سرعان ما أجدني أمام موضوع لا قبل لي به، لا لعجز في الإرادة فحسب، بل - قبل ذلك وفوق ذلك - لقصور في المعرفة بخفايا هذا الميدان وثناياه، فكنت أنصرف عنه، لكن السؤال لم ينصرف قط عن ذهني، فلم يزل يلح ويريد أن نجد له الجواب.
إنني مؤمن أشد ما يكون الإيمان، بأن نهوضنا بعد الكبوة الحضارية التي طال بنا عهدها، وأعني نهوضنا الذي يتيح لنا، أن نسير مع سائر الدنيا سير الشركاء لا سير الأتباع، لن يتحقق إلا إذا جاءت الحوافز من الدين والوسائل من العلم، لماذا؟ لسبب ظاهر، وهو أن الحوافز في صميمها قيم، نريد لها أن تتحقق في دنيا الواقع، فمن أين نأتي بهذه القيم الحافزة؟ إنها ليست ملقاة على قارعة الطريق لنلتقطها كما نلتقط العصي! إنها ليست في الخزائن لنستخرجها، كما نستخرج قطع الثياب لنرتديها ثم نعيدها إلى خزائنها! إنها - اختصارا - ليست أشياء نعثر عليها بين سائر الأشياء، بل هي «صور» تتمثل أمام الذهن، نشعر بأننا مكلفون بتجسيدها في شئون الحياة الجارية! فما مصدر تلك الصور العقلية التي هي معايير السلوك؟ مصدرها الأول، وربما كان مصدرها الوحيد هو الدين.
ما سبيلنا إذن إلى إحياء الدين؟ كيف أضع في رءوس الناس مجموعة القيم التي يدعو إليها الدين، بحيث تتحول تلك القيم إلى حوافز، لا يستقر صاحبها إلا إذا أخرجها للناس، ولنفسه عملا مرئيا مثمرا؟ وبحيث لا تظل في رءوس أصحابها من قبيل المحفوظات التي نكتفي منها بأن نعيدها على الأسماع ميتة أو كالميتة، لا يهتز لها عصب ولا ينبض بها عرق؟
Bilinmeyen sayfa