بدأ القول بذكر ما يتمتع به الكاتب الأمريكي من ظروف مؤاتية، فهو مواطن في دولة غنية، وينتمي إلى أمة زالت الأمية عن أبنائها؛ مما يعني زيادة في عدد القارئين، ويعيش في بلد دستوره يحتم حرية الكلمة المنطوقة والكلمة المطبوعة، حتى ليتعذر على القانون أن يصل إلى الكاتب في الحالات، التي قد يظن أنها موضع مؤاخذة في بلاد أخرى، ومن حسن حظه كذلك أنه يكتب باللغة الإنجليزية الواسعة الانتشار، والتي تترجم منتجاتها إلى عدة لغات أخرى؛ إذ ليس على صاحب الموهبة الأدبية ما هو أقسى من أن يضعه حظه، في لغة لا هي مقروءة عند أهلها؛ لأنهم أميون لا يقرءون، ولا هي مما يقبل الناس على ترجمته، بدرجة تكفل لها الانتشار في الشعوب القارئة، أضف إلى ذلك كله من الظروف الحسنة المؤاتية للكاتب الأمريكي، أن تكون أمريكا نفسها موضوعا للكتابة؛ فهي قارة جديدة أنشأت حضارة جديدة، وبالتالي يكون فيها من الشباب حيويته وطموحه، مما يتسع معه المجال أمام الكاتب؛ لأن كل شيء حوله يحفزه إلى النشاط والإبداع، حتى إذا ما بلغ المتكلم (جون أبدايك) هذا المدى من حديثه عن الظروف السعيدة التي تحيط بالكاتب الأمريكي، بدأت معه كلمة: ولكن ... نعم ولكن الكاتب الأمريكي برغم ذلك كله، قد هبطت قيمته هبوطا ملحوظا في درجات المجتمع، فكل الظروف المساعدة التي ذكرناها، لا تتضمن بالضرورة أن يجيء الإنتاج الأدبي، على درجة عالية من الجودة، فلعل الكاتب المنحصر في بلد صغير، أو المحدود بقلة قارئه، يعوض بالإتقان والإجادة سعة الانتشار وكثرة القراء، إذ ماذا تجدي الكثرة، إذا هي لم تقرأ قراءة المتفهم المتمعن؟ وهكذا يفعل معظم القراء في أمريكا؛ مما انعكس على الكاتب نفسه، فأخذ يخاطب القوم بشيء من عدم العناية، يتناسب مع طريقتهم في القراءة.
وقارن الكاتب الأمريكي اليوم بسلفه منذ قرن مضى، تجد هذا السلف أعلى مكانة، وأجود إنتاجا وأشد ثقة بنفسه، فهو لا يتأثر بالجمهور من حوله، بقدر ما يحاول أن يغير ذلك الجمهور ليعلو به. إن من يظفر بالشهرة اليوم في عالم الكتابة، قد تبنى شهرته على الصياح الأجوف، أما منذ قرن مضى، فلم يكن يظفر بالمكانة الأدبية إلا صاحب الرسالة، الجاد، الواعي بما أوجبه عليه خالقه، الذي أودع الموهبة في قلبه. لقد ازدادت أمريكا اليوم قوة وسلطانا وثراء، لكن من ذا الذي قال إن جودة الإبداع الفني، تساير القوة والسلطان والثروة؟ كلا، فالتاريخ شاهد على أن الفن يزدهر في المرحلة السابقة، على بلوغ الأمة ذروتها من قوة وثراء وسلطان، هكذا كانت الحال في بريطانيا، عندما بلغ فيها الأدب قمته العالية أيام شكسبير وملتون، مع أنها كانت لم تزل بعد سائرة إلى القوة لا محققة لها، وهكذا كانت الحال أيضا في أمريكا منذ قرن مضى؛ أيام امرسون، وثورو، وملفيل.
إن للكاتب الأمريكي اليوم مشكلاته، التي قد تعرقل جودة الإنتاج؛ فالولايات المتحدة الأمريكية - كما قال «جون أبدايك» - هي أوسع غابة يعبث فيها أصحاب المغامرات، فترى الثراء يتراكم حيث لا ينبغي له، لينحسر عن رجال الأدب والفن إلا باستثناءات قليلة، ولقد كان الكاتب فيما مضى يجد متسعا أمامه في المجلات والصحف، حتى ليمكنك القول بأن المجلات والصحف، كانت هي التي تشق طريق المجد أمام من تعده الموهبة للكتابة، أما اليوم فقد سقطت كبرى المجلات صرعى، ومالت الصحف نحو أن تكون «صحافة» لا تخلي مكانا لقلم الأديب، وبات المصدر الرئيسي الذي يخرج للناس أدباءهم هو الجامعات، فبعد أن كان الكاتب ينصهر في لهب الحياة الجارية، أصبح وفي نفسه قيود الدراسة الأكاديمية، فذهب عن الأدب نبضه ليحل محله شيء من برودة الثلج.
إن أصحاب الحرف الأخرى كثيرا ما يستريحون إذا ما تقدمت بهم السن؛ لأن أعمالهم تستقر أركانها مع توالي السنين، وأما حرفة الأدب فلا تدع لصاحبها قرارا وثيرا، يريح جنبه عليه في شيخوخته، فهو من جهة مدفوع بقلقه الفطري، نحو أن يظل مجاهدا مغامرا، ومن جهة أخرى هو مدفوع بالحاجة إلى المال، ولو وقف به الأمر عند هذا الحد لهان الخطب، لكنه كثيرا ما يفرط في فنه الأدبي إرضاء لصاحب المال.
إن من سيئات الكاتب الأمريكي اليوم، انصياعه للمناخ السائد؛ فتراه يحاول الصعود إلى القمة، بمثل ما يحاول أصحاب المصانع والمتاجر أن يصعدوا، متناسيا أن له فنا من حقه أن يجود ويتقن، وسواء بعد ذلك أصعد مع الصاعدين أم قعد، ولا غرابة في أن نجد من أصحاب القلم، من يكاد يبيع نفسه بيعا في سبيل العظمة الكاذبة، فيختلط عليه الأمر بين الإبداع الفني الجيد، وبين كثرة الكلمات التي ترص على الصفحات رصا ليضخم حجم الكتاب، دون أن يقلق ضميره أنه يكرر نفسه في الكتاب الواحد عدة مرات، مع أن التاريخ الأدبي صارخ بالحقيقة الناصعة، وهي أن أصحاب الروائع الخالدة، لم يطف بأذهانهم ساعة الإبداع، أنهم يسعون إلى روعة أو خلود، فجاءهم الخلود وجاءتهم روعة العمل طائعة، دون أن تكون هدفا منشودا لذاته.
ماذا تكون صناعة الكاتب، إذا لم تكن مخاطبة القراء، بصور وأفكار ملئت بمضمونها الغزير، وصيغت فأحسنت صياغتها، ورتبت ترتيبا يجعل المقارنة ممكنة بينها وبين الواقع؟ ثم ماذا تكون الخبرة الأمريكية الخاصة، التي كان ينبغي أن تجد سبيلها إلى أقلام الكتاب، إذا لم تكن هي خبرة من قام بتطويع سريع لأرض فسيحة عذراء، كشف عنها الغطاء في اللحظة التاريخية، التي كانت العصور الوسطى عندها، تسلم الزمام إلى عصر جديد، تسوده التكنولوجيا وتسوده الصناعة؟
إن كل الظروف التاريخية كانت تستوجب أن يكون الكاتب الأمريكي مخلصا لنفسه، فهو فرد مسئول أمام ضميره وأمام ربه، ثم لا سائل له بعد ذلك، فلماذا لا يتفحص ذاته في صدق، ثم يكتب ما يكتبه في إطار يرضى عنه الفن، حتى ولو لم يرض عنه أصحاب الجاه وأصحاب الثراء؟ لكن كثرة من الكتاب في أمريكا قد شغلتها شواغل المال والشهرة عن الإخلاص الكامل لذواتهم؛ مما دعا أعلاما في دنيا الأدب من أمثال «باوند» و«همنجواي»، أن يقوموا بما يشبه الثورة الأدبية، عندما عبروا عن مقتهم الشديد لكل تعبير فاتر في وجدانه، ولكل قول مسطوح بلا أغوار.
الكاتب الأمريكي لا يحس بما يحس به زميله في بريطانيا - مثلا - من أنه صاحب صناعة لها وظيفتها في البناء الاجتماعي، وبذلك لا يكون من حقه أن يغرق في أوهامه وأحلامه، فللصناعة الأدبية تقليد يجب أن يصان، وأن يتم العمل في إطاره، لكن الكاتب الأمريكي يفقد هذا الإحساس؛ ومن ثم فهو كثيرا ما يتوهم أنه قسيس يعظ الناس، وليت وعظه كان كوعظ القساوسة مستندا إلى كتاب وعقيدة، بل هو وعظ بشخصه هو وكأنه إله على الأرض. إن القارئ يريد - وهو يقرأ - أن يطالع الواقع عن طريق عقل غير عقله، وهو عقل الكاتب الذي يفترض فيه سلامة الإدراك ودقة التعبير، أما أن يفر الكاتب من حقائق الواقع الذي مهمته تقتضيه أن يتابعها في أمانة وصدق، فتلك خيانة منه لفنه الأدبي، وما أكثر ما وقعت هذه الخيانة ، من كتاب هربوا إلى الغابات، أو إلى خارج بلادهم، أو إلى المخدرات، وأخيرا إلى عيادات العلاج النفسي!
ألم يكن يكفي حرفة الأدب ما أصابها من سوء، عن طريق السينما والراديو والتليفزيون، إنها أدوات قد أضلت الأدب الحق عن سبيله، أما الراديو والسينما فقد كانت السيئة منهما، أن حاولا تقديم حياة مصطنعة إلى أسماع الناس وأبصارهم، إن القائمين عليهما لا يحبون أن يقدموا الحقيقة كما هي واقعة، بل يطبخون طبخة من أوهامهم، ثم يقولون للناس هاكم الغذاء! ولما كانت السينما بصفة خاصة تعتمد على القصة، أصبح كتاب القصة هم الأبطال في ميدان الأدب، ولكن أي قصة؟ إنها القصة التي تصلح للسينما، لا القصة التي تصلح للخلود.
وجاءت النكبة التالية عن طريق التليفزيون، إنه هذه المرة لا يطلب صورة مصطنعة، كسابقيه الراديو والسينما، بل يلجأ إلى نقيض ذلك، ويريد أن يحول الجهد الأدبي إلى «الحادثة» وعرضها، فهناك ترى حوادث الرياضة، وترى حلقات المناقشة، وترى المتحدث وحيدا أو مع جماعة، وترى الألغاز المسلية، وأما الإنتاج الأدبي كما عرفه تاريخه، فقل إن عليه العفاء.
Bilinmeyen sayfa