هذه الرغبة الحارقة عند الإنسان، في أن يعمل، وأن يظل عمله يزداد، فتزداد ثماره كثرة في الكم وتجويدا في الكيف؛ هي شرط التقدم الحضاري عند الفرد وعند الجماعة، قد تضاف إليها أمجاد التاريخ وقوة الجيوش، وغزارة الإنتاج الفني والأدبي، وقد لا تضاف؛ لأنها وحدها إذا وجدت تبعتها الوثبة الحضارية، ثم جاءت بالتالي تلك العوامل الإضافية الأخرى، كالأذناب تلحق بالرءوس.
أما المنهج الذي اتبعه الباحث في بحثه هذا، فهو منهج تجريبي يتلخص فيما يلي: اختار من عصور التاريخ - في شتى أقطار الحضارة الإنسانية - فترات ازداد فيها النشاط الحضاري، وأخرى هدأ فيها هذا النشاط أو خمد، واختار في كل حالة من الحالات، معيارا يقيس به ذلك النشاط الحضاري زيادة ونقصا، كأن يختار عنصرا معينا، كانت له أسبقية في ميدان التجارة، أو الصناعة أو الفكر والفن، وأخذ يحلل هذه النماذج المختارة، للصحوة الحضارية أو للخمول الحضاري، أخذ يحلل هذه النماذج تحليلا بلغ من الدقة أقصى درجاتها، لعله يقع على العامل الرئيسي، الذي إذا حضر، حضرت معه الصحوة، وإذا غاب غابت الصحوة وحل الخمول، فأوقعه التحليل على جوانب عجيبة:
منها المادة الدراسية التي يطالعها الناشئون في المدارس أو غيرها، في الفترة التي تسبق الازدهار، أو تسبق الخمول بنحو عشرين عاما، فوجد علامات مميزة لتلك المطالعات الدراسية في كلتا الحالتين؛ علامات خاصة في حالة الازدهار اللاحق، وعلامات أخرى في حالة الخمول اللاحق؛ وذلك لأن تلاميذ المدارس، وهم في مراحلها الأولى، هم الذين سيصبحون بعد عشرين عاما أو نحوها، رجال الحكم ورجال التجارة ورجال الصناعة، ورجال العلوم والفنون والآداب، وعلى نوع المادة التي تعبأ بها رءوسهم وهم أطفال، تكون وجهات أعمالهم وأنظارهم وهم كبار.
لماذا اشتد الازدهار الحضاري عند اليونان الأقدمين، إبان القرن السادس قبل الميلاد، بالقياس إلى الهبوط النسبي في القرن الخامس فنازلا ؟ لماذا ازدهرت إنجلترا في القرن السادس عشر، أكثر جدا مما حدث لمعاصرتها إسبانيا؟ ولقد اهتم الباحث بعصرنا الحديث بصفة خاصة، واختار لطائفة من البلاد سنوات ازدهار وسنوات انكماش، ثم تعقب الأمور على أصولها، فيما كان قد سبق من مادة دراسية، طالعها أبناء المدارس قبل الازدهار بمدة كافية، أو قبل الانكماش، ولقد أجرى بحثه هذا على أربعين بلدا من بلدان العالم المختلفة؛ ليصل إلى نتيجة مرجحة الصواب، وهي أنه كلما ازدادت مواد القراءة التي تبعث على الأمل والعمل، جاءت النتيجة بعد ذلك بنحو عشرين عاما زيادة في النمو الاقتصادي، والعكس كذلك صحيح، وكان من أهم ما لحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تقدمت بعد حين، أنها احتوت على العلاقات الاجتماعية، التي تجعل الفرد يعمل من أجل نفسه، ومن أجل سواه في آن معا، كما كان من أهم ما لحظه الباحث في مطالعات البلاد التي تدهورت بعدئذ، أو واصلت طريق التدهور، أنها بالغت في الإشادة بالطرائق التقليدية في الفكر والسلوك.
ولست أريد أن أضع في نفس القارئ العربي ذرة من تشاؤم، لكنني أدعوه دعوة مخلصة إلى النظر في كثير مما يطالعه أبناؤنا وبناتنا، إما خلال المواد الدراسية، وإما عن طريق ما تبثه وسائل الإعلام؛ ليرى كم من هذا المقروء والمسموع يؤدي إلى بناء الأفراد وبناء الأمة، على القيم الحضارية التي بثها في الناس، إذا أردنا حقا أن نصحو من سبات؛ لنعوض ما فات من تقصير ونلحق بالطلائع؟
أذكر منذ عهد قريب أن مجلة عربية، نشرت فيما تنشره من روائع التراث، عبارة يسأل فيها والد عن أحب بنيه إليه وأحب بناته، فقال عن أحب بناته إليه، إنها البنت التي تكون أسرع من أخواتها إلى القبر، ولعل موسيقى العبارة المذكورة، قد صادفت هوى لدى مذيع عندنا، فسمعته يذيعها في الراديو؛ ليشهد للسامعين على عظمة الكنوز الموروثة، فهل فكرت المجلة أو فكر المذيع، حين نشرت الأولى ما نشرته، وحين أذاع الثاني ما أذاعه، ما هي القيم التي يستهدف إقامتها بما ينشر أو يذاع؟
إنني ما زلت أذكر قطعة من محفوظاتنا الأدبية ونحن صغار، ومن يدري ؟ فلعلها ما تزال مما يفرض على الناشئة حفظه، خطبة الحجاج بن يوسف في أهل الكوفة، التي بدأها - بعد أن حسر اللثام عن وجهه، ونحى العمامة عن رأسه - بدأها بقوله:
أنا ابن جلا وطلائع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني!
إني والله لأرى أبصارا طامحة، وأعناقا متطاولة، ورءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني أنا صاحبها، كأني أنظر إلى الدماء، ترقرق بين العمائم واللحى ...
Bilinmeyen sayfa