تمنيت لو أن الفرصة متاحة هنا، لتحليل مناخنا الفكري القديم إلى أهم عناصره، ولكن حسبي أن أوجز القول في عبارة واحدة، فأقول إن طريقتنا في النظر لم تزل - كما كانت منذ قرون - هي البحث في الموروث عن «الشواهد» التي تبرر الجديد أو لا تبرره، فكأننا نمسك بين أيدينا قالبا من حديد؛ لنرغم الحياة المتدفقة الفوارة على الخلود فيه إلى سكينة النائم، تتغير حياتنا وذلك الإطار الحديدي لا يريد أن يتغير، وما لم تحدث في مناخنا الفكري تحولات، توائم بينه وبين صور الحياة الجديدة، فسيظل التنافر قائما بين الرأس والقدمين.
بين ماض وحاضر
عندما نقول إن حياتنا الفكرية في عصرنا، يجب أن تختلف اختلافا بعيدا عن الحياة الفكرية لأسلافنا في عصورهم، فلسنا بذلك نقول شيئا لنا فيه اختيار، أو قل: إن الاختيار الوحيد أمامنا في هذا المجال، هو أن نختار بين أن تكون لنا حياة فكرية أو لا تكون، فإذا كانت الأولى، أي إننا إذا اخترنا أن تكون لنا حياة فكرية، فعندئذ يصبح حتما علينا أن تجيء حياتنا الفكرية مختلفة عن حياة أسلافنا، رضينا ذلك أم كرهناه.
وأبسط برهان نسوقه على وجوب الاختلاف العميق بين ماض وحاضر، هو اختلاف معاني الكلمات الأساسية في كثير جدا من ميادين الفكر والأدب، فاللفظة المعنية تظل قائمة بيننا، كما كانت قائمة بين أسلافنا، وأما معناها عندنا ومعناها عندهم، فلم يعد بينهما إلا أوهى الصلات، حتى لأتصور أنه لو بعث اليوم سلف، وأراد التحدث إلى نظرائه من المعاصرين، لحدث بين الطرفين من استحالة التفاهم، ما حدث لأهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم الطويل، وأرادوا تعاملا وتبادلا مع أهل المدينة، وسأقدم هنا مثلين أختارهما من المعاني الوثيقة الصلة بدنيا الأدب والفكر.
المثل الأول خاص بالكتابة والكاتب والكتاب، فماذا نفهم اليوم من قول القائل عن رجل إنه: «كاتب»؟ ألسنا نفهم من هذه الكلمة معنى، كالذي نصف به رجلا مثل العقاد أو طه حسين؟ فالكاتب عندنا اليوم هو من يعالج «الأفكار» بسطا وتحليلا، أو يصور تفاعلات «السلوك» البشري متمثلا في أفراد، يخلقهم خلقا في قصصه ومسرحياته، أو يعيد خلقهم ابتعاثا من صفحات التاريخ، ومن العجب أننا نستخدم هذه الكلمة نفسها - كلمة «كاتب» - لندل بها على مهنة أخرى، لا نكاد نذكرها إذا ما كان حديثنا حديثا عن الفكر والأدب، وأعني بها المهنة الإدارية التي يناط بها كتابة الرسائل الحكومية أو حفظها، وهي المهنة التي يرتقي صاحبها من «كاتب» إلى «باش كاتب».
وعكس ذلك هو ما كان سائدا بين أسلافنا، فإذا قيل عن رجل إنه «كاتب»، لم يرد إلى أذهان السامعين قط أنه ذو علاقة بنقد «الأفكار» وتمحيصها، ولا بتصوير السلوك البشري في قصة ومسرحية، وإنما المعنى الذي يرد إلى الأذهان هو تهذيب المعنى الثاني في حياتنا، أي المعنى الذي نفهم به من الكاتب أنه رجل يعمل في دواوين الحكومة أو ما يشبهها؛ ليشرف على كتابة الرسائل الرسمية وحفظها، فلو طولب مؤرخ بأن يذكر أعلام الكتاب (بضم الكاف وتشديد التاء) في تاريخنا القديم، لما ذكر بينهم الجاحظ والتوحيدي وأبا العلاء؛ لأن هؤلاء كتاب بمعنى هذه الكلمة عندنا نحن اليوم، وكذلك لو طولب مؤرخ معاصر بأن يذكر أعلام الكتاب في حياتنا الحديثة، لما ذكر إلا رجالا من أمثال طه حسين والعقاد والحكيم، ومحال أن ينصرف ذهنه إلى من يعملون في دواوين الحكومة وغيرها بالمعنى الثاني الذي أشرنا إليه.
ففي دنيا الفكر والأدب، يمتنع التفاهم بين السلف والخلف، إذا ما دار الحديث حول «الكاتب» وما ينبغي له أن يفعل، فمن هو كاتب عندنا لم يكن كذلك عندهم، ومن هو كاتب عندهم ليس كذلك عندنا. إنهم إذا أرادوا وصف الكاتب الأمثل قالوا كلاما كهذا: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وكثافة اللحية، وملاحة الزي، حتى لقد أوصى والد والده أن يتخذ أسلوب الكاتب في حياته، فيكون نقي الملبس، نظيف المجلس، طاهر المروءة، عطر الرائحة. وقد يستطرد الواصفون عندهم للكاتب النابغ في دنيا الكتابة، فيذكرون طريقته في كتابة الحروف، وفي إعداده لأقلامه، «فيتخير من القصب أقله عقدا، وأكثره لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء، ويجعل لقرطاسه سكينا حادا؛ لتكون عونا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة، واعلم أن محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.»
قد نقول نحن اليوم هذه العبارة الأخيرة نفسها: «محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.» لكننا إذا قلناها، عنينا بها شيئا آخر غير الذي عناه بها قائلها القديم، فقد أراد بها حين قالها: عناية الكاتب بالقلم من حيث هو قطعة من قصبة، يجب أن يختارها على صفات معينة، وأن يبريها بسكينة على طريقة معينة، وأما نحن - إذا قلناها - فلا نعني بها إلا «الأفكار» أو «الصور السلوكية» التي يجري بها القلم، كيف يجب أن تسدد في الهجو وفي الدفاع، كما يحدث للرمح في يد الفارس.
ويطول بنا الحديث إذا استرسلنا في ذكر الفوارق بيننا وبين أسلافنا، عندما يرد في الحديث ذكر للكتابة والكاتب، فنكتفي بما أسلفناه، لننتقل إلى المثل الثاني: وهو خاص بلفظتي «الجمال» و«الجلال» ماذا فهم الأسلاف منهما؟ وماذا نفهم منهما نحن اليوم؟
أما نحن اليوم، فقد نختلف فيما بيننا على معنى «الجميل» و«الجليل» - في دنيا الفنون - اختلافات كثيرة، لكننا جميعا نقع في إطار فكري واحد، هو الإطار الذي يربط الفكرتين بآثار الفن أو بكائنات الطبيعة، وما قد يحدثانه في نفس المشاهد أو السامع من نشوة من طراز معين، نحاول تحديده، فنختلف في طريقة التحديد، لا في تلك النشوة نفسها وحدوثها، وقليلون منا هم الذين عنوا بالتفرقة في هذا المجال، بين نشوة يحسها الرائي للزهرة الرقيقة - مثلا - ونشوة أخرى يحسها المشاهد للجبل العظيم أو للمبنى الضخم، أو البحر الضخم، أو الصحراء الممتدة، وهكذا. والذين فرقوا بين الحالتين، اقترحوا أن يقتصر «الجمال» على الحالة الأولى، وأن يطلق «الجلال» على الحالة الثانية، وسواء فرقنا بين الجمال والجلال في دنيا الفنون وعالم الطبيعة أو لم نفرق، فللكلمتين عندنا معناهما التقريبي، إن لم نستطع لهما تحديدا حاسما في مجال النقد الفني، وفي الفلسفة الجمالية، كما يعرفها الدارسون.
Bilinmeyen sayfa