والملك شاهجهان أقام المزار الرائع تاج محل من أجل أحب زوجاته لديه وأعزهن عليه، فعد هذا المزار من أعجب ما اشتمل عليه العالم من المباني.
وسار المغول على غرار المسلمين الآخرين فأداموا حضارة هؤلاء محبين للآداب والعلوم والفنون حبا جما، فرحبوا بالشعراء والعلماء ورجال الفن مهما كان جنسهم، ولا تزال المباني التي شادوها - فلم يصنع الغرب ما هو أروع منها - تثير العجب، ولم تكن العلوم دون الفنون حظوة في دولتهم فأنشئوا المدارس وأقاموا المراصد، وحب المغول لعلم الفلك ورثوه كابرا عن كابر، فقد جلب خان المغول هولاكو إلى بلاطه أشهر علماء العرب وأقام في مراغة مرصدا كبيرا سنة 1259، ولما اتخذ تيمور لنك مدينة سمرقند عاصمة لدولته العظمى أحاط نفسه فيها بالعلماء، ولما حلت أواسط القرن الخامس عشر بنى حفيده أولوغ بك مرصدا مجهزا بآلات رصد رائعة نذكر منها ربع الدائرة التي بلغ نصف قطرها ارتفاع كنيسة أيا صوفيا في القسطنطينية على ما يروى، فأسفر ذلك عن نتائج ذات قيمة في الفلك، فنشر أولوغ بك هذه النتائج في كتاب مهم مشتمل على أهم مسائل الفلك وعلى مواضع صحيحة للنجوم.
7
ولم يبد ملوك المغول حماة للآداب والعلوم وحدها، بل ترى الكثيرين منهم قد حذقوها أيضا، فالحق أن حب الآداب، ولا سيما الشعر، كان ناميا عندهم، فألف بعضهم كتبا مهمة فيها، ونذكر من بين ملوك المغول تيمور لنك الشهير الذي أقام في بغداد، كما يروى، هرما من مائة ألف رأس إنسان فأنشأ المدارس وشمل العلوم بعين رعايته وألف كتبا ذات قيمة، وكان لحفدته بابر وجهانكير وغيرهما مثل ميله فعدت مذكرات بابر، التي شبهت بتفاسير يوليوس قيصر، نموذجا حسنا في الآداب، ومن هذه المذكرات نعلم جمع المغولي بين الوحشية والمدنية علما أحسن مما في جميع كتب المؤرخين، ولا شيء يشمل النظر أكثر من تجلي حقيقة مؤسس الدولة المغولية بالهند بابر في مذكراته تلك، فبابر، هذا الجبار الذي هو سليل جنكيز خان وتيمور لنك، سار على سنة أجداده فأقام أهراما من الرءوس المقصولة، وتبصره، مع جبروته هذا، أديبا رقيقا، وكان بابر هذا يتكلم المغولية والعربية والفارسية، وله قصائد باللغة الفارسية، وكان بابر هذا صبورا على مطالعة كتب العلوم والآداب والتاريخ، وكان حبه للقراءة لا يمنعه من أن يكون مقامرا كبيرا وشاربا مفرطا ورفيقا أنيسا وباسلا وفيا لأصحابه مع استخفاف وتهكم، وبابر هذا، مع علمه كيف يبدو ملكا كبيرا عند الاقتضاء، كان يدعو السفراء، الذين يفدون على بلاطه، إلى طرح الكلف الرسمية جانبا في بعض الأحيان ليقضوا معه ساعة لهو ومرح، وبابر هذا ما كان ليرى حرجا في الجدل حول مسألة علمية أو منطقية أو لاهوتية عند انهماكه في السكر ليلا، وفي كل صفحة من كتاب بابر المملوء بأدق ضروب النقد والنوادر تجد سعة اطلاع من غير تنطع، وفي هذا الكتاب تجد أنه كان يتمسك بالنكتة أو الكلمة الطيبة أينما وجدها، ومما حدث ذات يوم أن أدركه ثلاثة فرسان بعد سير يومين على أثر معركة خسرها فوقف فالتفت فقال لهم ساخرا متكبرا: «أريد أن أرى، أيها الشجعان، أيكم يجرؤ على مسي قبل الآخر»، فارتبك هؤلاء الفرسان الثلاثة بفعل سخريته فقاتلوا مرتدين حالا.
حقا أن بابر، المقدام الموهوب العالم الذي يعد من أقوى الفاتحين في العالم، كان يجمع في شخصه مغامرة عرقه ورقته وهمجيته، فكان، حينما مات، وهو ابن خمسين سنة، ملك الهند التي دوخها باثني عشر ألف جندي بعد أن ظهر زعيم قرية وهو في السنة الثانية عشرة من عمره.
وكل مقابلة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب إذ كانت خادعة على الدوام غدا من الصعب أن تقايس بين العصر المغولي وأي دور جاوزته أوروبا كالدور الإقطاعي مثلا، فالفارس المغولي والبارون النصراني، وإن تماثلا ذوقا وسفكا، كان الأول منهما أفضل من الآخر ثقافة وحبا للآداب والعلوم والفنون بدرجات، وأرى، مع ذلك، أن المقابلة ممكنة بين العصر المغولي وعصر النهضة، فالأمير المغولي والأمير الفرنسي كانا متماثلين، لا ريب، في حبهما للمخاطر الدامية والمبارزة بالسيف وأمور الشرف والجواهر الثمينة والملابس الزاهية والأشعار الدقيقة وفي احتقار ذلك الحيوان الذي كان يدعى في أوروبا بالفداد وفي الهند بالشودري.
هوامش
الباب الخامس
آثار حضارات الهند
الفصل الأول
Bilinmeyen sayfa