شكل 3-1: أعراب من بادية الشام (من صورة فوتوغرافية).
هنالك رأى ديميتريوس أن يقبل هدية الأنباط، وأن يرضى بالمآب خاتما بالسلم حربا أبصرها مملوءة بالمصاعب.
وكانت قبائل البدو، حتى التاريخ الميلادي، تنضم في الحروب الكثيرة، التي تهلك الحرث والنسل في تلك البقاع، إلى المصريين تارة وإلى السوريين تارة أخرى، ثم أثارت غاراتهم وقطعهم للسوابل غضب قياصرة الرومان الذين كان سلطانهم يمتد إلى الفرات، فجردوا على عرب بلاد الحجر (بطرا) حملات كثيرة لم تنتج غير حملهم على دفع الجزية أو وقف العداء إلى حين، وكانت طريقة أولئك الأعراب في الغزو مثل ما يفعلون اليوم، أي كانوا يغيرون على العدو بغتة ثم يفرون إلى البادية عند المطاردة.
وإذ كانت خيالات الأغارقة والرومان تتأجج طمعا في ثروة جزيرة العرب ساق أغسطس إلى اليمن جيشا لم يلاق غير الحبوط التام، وفي عهد طيباريوس وحده استطاع الرومان أن يفتحوا من بلاد العرب جزيرة سيناء التي كان سكانها من الأعراب تقريبا، فأضحت مدينة الحجر (بطرا) بذلك بلدة رومانية زاهية كما تدل عليه بقاياها.
وكان للعرب أثر في الحروب التي تقع بين الرومان والفرس، وبلغ نفوذ العرب في الدولة الرومانية شأوا بعيدا، حتى إن أحدهم فليب العربي نصب قيصرا رومانيا في سنة 244م، وكان العرب يهددون سلامة آسية الصغرى ذات حين، ولم يقص العرب عن مجاورة آسية الصغرى إلا بهدم تدمر في عهد أوريليانوس سنة 272م، وتحويل سورية إلى ولاية رومانية، واتباع بعض سكانها ملوك الغساسنة العرب الذين كانوا تحت حماية القياصرة.
ولما صارت القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية نازع العرب الفرس والأغارقة سيادة الفرات، وسبق ذلك أن توطنت قبائل من عرب اليمن تلك البقاع وأنشأت، سنة 195م، في جنوبها، وعلى ضفتي الفرات وبالقرب من المكان الذي أقيمت عليه مدينة الكوفة فيما بعد، مدينة الحيرة الشهيرة التي انقلب ملوكها العرب ينافسون أكاسرة الفرس وقياصرة الروم في الترف والعظمة، «وكانت قصور الحيرة مؤثثة بأثمن الأثاث، وكانت حدائقها مكسوة بأعز الأزهار، وكانت قواربها الأنيقة الساطعة الأنوار تشق الفرات ليلا حاملة أغنى الأمراء وأمهر الموسيقيين، وأطلق العرب لأنفسهم عنن الخيال؛ فقصوا علينا أنباء القصور الساحرة العجيبة التي أضحت، لا ريب، أجمل مساكن الشرق وأطيبها.»
وعاشت دولة الحيرة أربعمائة سنة، أي مدة تعد طويلة لدولة، ولم ينته إلينا من أنبائها إلا الشيء القليل، وخضعت في سنة 605م للدولة الساسانية، وظلت مرزبة فارسية إلى أن جاء محمد بعد قليل زمن، ودك خلفاؤه دولة الأكاسرة، واستولوا على بلاد فارس.
ظهر مما تقدم أن جزيرة العرب نجت من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، وأن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم ينالوا شيئا من جزيرة العرب التي أوصدت دونهم أبوابها.
نعم، إن جزيرة العرب كانت حين ظهور محمد تحت خطر الغزو الأجنبي المرهوب، وإن الأحباش استولوا في سنة 525م على اليمن التي لم تدن لغير ملوك العرب فيما مضى، وإن الأحباش حاولوا أن يحملوا العرب على التنصر؛ فاستطاعوا تنصير بعض القبائل العربية، وإن الفرس طردوا الأحباش من اليمن في سنة 597م، أي قبل ظهور محمد بقليل؛ فأضحى للفرس مرازبة في اليمن وحضرموت وعمان، غير أن ذلك كله كان لأجل قصير، ولم يصب بلاد نجد والحجاز الواسعة منه شيء.
إذن، من الصواب قولنا: إن القسم الأكبر من جزيرة العرب هو القسم الوحيد الذي لم تطأه أرجل الفاتحين من بلاد العالم المتمدن على ما يحتمل. (3) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد
Bilinmeyen sayfa