وقال ديڨرجه: «قد يكون أظهر ما في الأعراب هو أنهم جماع الأضداد، فالنهب والكرم، والسلب والجود، والقسوة والنبل ... وغير ذلك من الصفات التي تدعو إلى المقت والإعجاب في وقت واحد مما نراه في الأعراب، وليس في هذا ما يعذر به الأعراب لو لم نلاحظ أنهم محكوم عليهم بالاكتفاء بما تنتجه بلادهم المعتزلة التي هي أكثر أراضي العالم جدوبة، ويعتذر الأعراب عن النهب بأنهم محرومون ، لفقر بلادهم، طيب العيش ووفرة الغلات والكلأ مما لم تعرفه أمة أخرى، وبأنهم يزيلون هذا الحيف المقدر بأسنة رماحهم معتقدين أن من الحلال دهم القوافل وسلب ما بأيديها تعويضا لهم مما لم تقدر أن تجود عليهم به أراضيهم القاحلة، وبأنهم يعدون قطع السابلة، وسلب ما بأيدي الناس ضربا من حقوق الفتح والفخر كتدويخ مدينة أو ولاية، وذلك لعدم تفريقهم بين الحرب والكمون.
ومساوئ مثل هذه لا تغتفر لو لم يكن عند الأعراب من الفضائل ما يشفع لهم به، ومن هذه الفضائل أن الأعرابي المحارب، المتعطش للنهب والانتقام، والذي يفعل عند مس كرامته ما لم تسمع به أذن من ضروب القسوة، مضياف كريم أنيس في مضربه، ومنها أن الهضيم الذي يضع نفسه تحت حماية الأعرابي، ولو كان من أعدائه، أو الذي يصبح في جواره، يعد من أفراد أسرته، فلا يستطيع أحد بعدئذ أن يعتدي على حياته المقدسة التي يدافع عنها ذلك الأعرابي أكثر من أن يدافع عن نفسه، وإن ظهر أن هذا الغريب من أعدائه الذين تمنى زوالهم مائة مرة.
وليس بمستبعد أن يأخذ الأعرابي المضياف جمل جاره طوعا أو كرها ويصنع منه طعاما؛ ليمعن في إكرام ضيوفه، والكرم أفضل فضائل الأعراب، ويعده الأعراب أخص ما اتصفت به أمتهم.»
وأضيف إلى ما تقدم أن الأعراب من سكان جزيرة العرب وسورية وإفريقية يحبون الحرية حبا جما لا يقدر الأوربي أن يتصوره، وهم يزدرون أبناء المدن ويعدونهم من الأرقاء لذلك، ويتضمن الارتباط في الأرض عندهم معنى توديع الحرية والخضوع لسيد، ويرى الأعراب الذين لا يملكون سوى حريتهم أن هذه الحرية أغلى شيء، وقد حافظوا عليها بتوالي الأجيال، ولم يقدر جميع الفاتحين من الأغارقة والرومان والفرس وغيرهم من الأمم التي دوخت العالم أن يعبدوهم، وكل قهر للأعراب لا محالة زائل، والقهر إذا ما وقع كان على أيدي أعراب آخرين، فلا يفل الأعراب إلا الأعراب.
ويرجع حب الأعراب للحرية إلى أقدم عصور تاريخهم، فقد روى ديودورس الصقلي أن الأنباط، وهم من أعراب بلاد الحجر العربية (بطرا)، كانوا ممنوعين من بذر القمح وغرس الأشجار المثمرة، وبناء البيوت لما في هذه الأعمال من التضحية بالحرية طوعا، ولذا لم يستذل الأعراب أحد، وهم الذين لم يعطوا ملوك فارس الجزية، وقد أعطاها أهل فنيقية وفلسطين كما ذكر هيرودتس.
ويلقي الأعراب الرعب في قلوب جيرانهم المتمدنين؛ لما فطروا عليه من الرغبة في النهب وحب القتال، ويعد هؤلاء المتمدنون الأعراب من قطاع الطرق، وينظر الأعراب إلى المسألة من ناحية أخرى، أي يفخر الأعراب بسلب القوافل فخر الأوربيين بضرب المدن بالقنابل أو افتتاح الأقطار أو ما إلى ذلك، ويحترم الأعراب رؤساءهم احترام الأوربيين لأعاظم القادة، وإن لم يقيموا لهم تماثيل.
وأصبح أعراب جزيرة العرب، بما كان عندهم من غرائز النهب والقتال، محاربين أشداء أيام خلفاء محمد فدوخوا العالم بسرعة، ولم تتغير غرائزهم بتغير ما لاقوا من الأحوال الجديدة، بل تجلت على صور أخرى ما كان الثبات من الغرائز، فأصبح حبهم للنهب حبا للفتح، وتحول كرمهم إلى ما أخدته أوربة عنهم مؤخرا من طبائع الفروسية، ثم إن ما بينهم من التفاخر والمنافسة لم يلبث أن جاوز الحدود المعقولة فكان سببا في خسرانهم بعد أن كان حافزا لهم على العمل الصالح في البداءة.
وكان يتألف من الأعراب قسم كبير من جيوش خلفاء محمد، وقام الأعراب الفاتحون بأجل الخدم لأولئك الخلفاء، وإن كان العلماء وأرباب الفن الذين ازدهرت بهم حضارة أتباع النبي لم يظهروا من بين الأعراب.
ويستخف الأعراب بسلطان الحضارة، ويفضلون عليها عيش البادية، وهذه من المشاعر الموروثة التي ترى مثلها عند هنود أمريكة ولا يؤثر فيها أي دليل، ورفض الأعراب، في سورية على الخصوص، كل أرض عرضت عليهم ليستقروا بها، ويعرف هؤلاء الأعراب، الذين يستوقف نبلهم وبأسهم نظر كل سائح، كيف يستغنون عن نعم الحضارة المصنوعة، وعن جبروت كل أمير إقطاعي كأمراء القرون الوسطى، ولا تخلو حياة البادية من السحر والجمال مع ذلك، ولا أتردد ثانية في ترجيحها على حياة المصانع التي يقضي العامل فيها اثنتي عشرة ساعة من كل يوم.
شكل 2-6: عربيتان من جوار القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
Bilinmeyen sayfa