ولكن التحولات التي تحدث بين دور وآخر لا تبدو بعيدة الغور إلا لأن التاريخ لا يبالي بغير الطبقات الاجتماعية العليا، فإذا ما نظرنا إلى الطبقات الوسطى أو الدنيا التي هي ركن كل أمة رأينا تحولها ضعيفا إلى الغاية، فالعلوم والآداب والفنون والصناعات التي تتألف من مجموعها حضارة أحد الأدوار لم تكن غير ذات تأثير ضئيل في المجموع مع انقضاء القرون؛ فالفرق بين صاحب لشارل مارتل وأحد حفدته في زمن لويس الرابع عشر عظيم لا ريب، وهو ضعيف بين حداد أو تاجر أو فلاح في عصر الأول وبنيه في عصر الثاني، واليوم قلما نجد فرقا بين الفلاح البريتاني الحاضر وأجداده الذين ظهروا منذ ألف سنة.
شكل 1-1: واحة بسكرة (الجزائر، من صورة فوتوغرافية).
ومهما يكن الفرق ضعيفا فإنه موجود بفعل البيئة على كل حال، فالفلاح البريتاني، وإن لم يفق أجداده في مزاجه النفسي، نراه، وهو محافظ على لهجته الإقليمية الخاصة، وهو قابع في قريته الغامض أمرها، يعيش في بيئة تختلف عن البيئة التي كان أجداده يعيشون فيها، أي يرى وميضا من حضارة تتحول باستمرار.
وترى أوربة أن أمم الشرق لا تتحول، ونحن نرى أن أمم الشرق تتحول قليلا في الوقت الحاضر لا ريب، وأن طبقاتها العليا، على الأقل، كانت تتحول كثيرا في غابر الأزمان، فالفرق عظيم بين أمير عربي من حاشية الملك أبي عبد الله الصغير وصاحب لعمر بن الخطاب، وهو أعظم من ذلك بين عالم في جامعة بغداد أو جامعة قرطبة وأحد رعاة بلاد العرب الأقدمين.
ولم يكن التحول ضعيفا في غير طبقات المجتمع الدنيا كما يشاهد مثل ذلك في كل مكان كما ذكرنا، والفرق، إذن، قليل بين سكان الأرياف من العرب في زمن محمد وبين ذراريهم في زماننا، وهو أقل بين أهل البدو في ذينك الدورين.
ولذا نرى فروقا في تحول أمم الشرق كالتي رأيناها في أمم الغرب، ونرى ألا يخلط، عند البحث، بين تطور طبقات الشعب الواحد الاجتماعية لما بينها من تفاوت.
ومع ذلك، يجب أن يعترف بأن العرب أقل تحولا من الأوربيين بين قرن وقرن، ولم ينشأ استقرارهم العتيد عن زوال حضارتهم فقط، بل نشأ، أيضا، عن كون القرآن دستور المسلمين الديني والسياسي والمدني على الخصوص، وعن أن ثبات أي أمر من هذه الأمور الثلاثة المتماسكة كان يوجب ثبات الأمرين الآخرين بحكم الضرورة، وهكذا لم يلبث المسلمون أن رأوا أنفسهم مقيدين بسلسلة من التقاليد والعادات التي تأصلت بحكم الوراثة، فأصبحت من الرسوخ بحيث لا تؤثر فيها الزعازع، وهكذا كادت طبائع أكثر العرب وعاداتهم تكون ثابتة لا تتبدل منذ قرون، وهكذا أصبح من الممكن تمثل حياتهم الماضية بدرس حياتهم الحاضرة.
وكان تحول أهل الأرياف والبدو من العرب، على الخصوص، ضئيلا، وكان تحول أهل المدن الذين انتابهم الفاتحون أظهر من ذلك، ولكن هؤلاء الفاتحين إذ اتخذوا القرآن دستورا لهم، وكان القرآن نافذا في أدق شؤون العرب لم تتغير طبائع العرب وعاداتهم إلا قليلا، وحاضر العرب، وإن لم يكن، لذلك التحول القليل، صورة تامة عن ماضيهم، يكفي لتمثله مع ذلك.
وبما أنه يوجد لحياة العرب الاجتماعية صور مختلفة باختلاف حياتهم البدوية أو الريفية أو الحضرية دائما، فقد رأينا أن ندرس كل واحد من هذه الوجوه على حدة. (2) حياة أهل البدو من العرب
لقد وصفنا سجايا أهل البدو من العرب بما فيه الكفاية، ولا نرى أن نعود على ذلك مرة أخرى، وإنما نتم الآن ما قلناه في فصل آخر بأن نصف معايشهم من الناحية المادية: إن بيان عادات أولئك الأعراب وطبائعهم أسهل من بيان عادات سكان الأرياف والأمصار وطبائعهم، وذلك أن حياة الأعراب بسيطة إلى الغاية، وأنها طليقة من تلك الزيادات المعقدة التي أوجبها الاستقرار والتوطن، وفي الوصف الآتي الذي أقتطفه من كتاب لكوست تصوير كاف لعادات الأعراب، أجل؛ إن كوست صور بهذا الوصف قبائل صحاري وادي النيل العربية منذ خمسين سنة، ولكن ما تسفر عنه حياة الصحراء من تبدل قليل في المعايش يجعل ذلك الوصف صالحا لتمثل الأعراب المعاصرين لسليمان، أو المعاصرين لمحمد، أو الذين سيولدون بتعاقب الأجيال إلى أن تبدل الأرض غير الأرض، وتكون آسية وإفريقية خاليتين من الصحاري، قال كوست: يمتطي الأعرابي صهوة فرسه وقت الفجر، ولا يرجع إلى خيمته إلا وقت الغروب، ويغتذي الأعرابي في النهار بالتمر وقليل من الذرة أو البر، ويرعي فرسه بالكلأ الذي يجده في طريقه، فإذا دخل خيمته عشاء ناولته زوجه كوب لبن وقليل تمر وعسلا.
Bilinmeyen sayfa