2
لم يكن العرب، على رأي لوبون، من الأجلاف قبل الإسلام، وقد رأى أن السجايا الخلقية للعرق العربي هي التي عينت اتجاهه، وأنه، وإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ، لا يكون هذا إلا نتيجة نضج بطيء، وأن تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات لا يتم إلا بالتدريج، وأن درجة التطور العالية التي تبدو للعيان لا تبلغ إلا بعد الصعود في درجات أخر، فإذا ما ظهرت أمة ذات حضارة راقية كانت هذه الحضارة ثمرة ماض طويل، ورأى لوبون، أيضا، أن جهل الناس لهذا الماضي الطويل لا يعني عدم وجوده، وأن الحضارة التي أقامها العرب في أقل من مائة سنة، وهي من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ، ليس مما يأتي عفوا، وأنه كان للعرب قبل الإسلام حضارة لم تكن دون حضارة الآشوريين والبابليين تقدما، وكان للعرب، عدا الآثار القليلة التي كشف عنها، لغة ناضجة وآداب راقية، وكان العرب ذوي صلات تجارية بأرقى أمم العالم عالمين بما يتم خارج جزيرتهم، فالعرب الذين هذا شأنهم كانوا، لا ريب، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة وبثقافة سابقة مستمرة، والعرب الذين صقلت أدمغتهم على هذا الوجه استطاعوا أن يبدعوا حضارتهم الزاهرة بعد خروجهم من جزيرتهم في مدة قصيرة.
ثم أيد لوبون وجهة نظره بقوله: «إن البرابرة الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية قاموا بجهود عظيمة دامت قرونا كثيرة قبل أن يقيموا حضارة على أنقاض الحضارة اللاتينية، ويخرجوا من ظلمات القرون الوسطى.»
ثم ذهب لوبون إلى أن المعتقدات القديمة في جزيرة العرب كانت قد ضعفت، وفقدت الأصنام قوتها ودب الهرم في آلهتها، وأنه كان في الجزيرة العربية، خلا النصارى واليهود، من كانوا يعبدون إلها واحدا، وهم الحنفاء.
ولكن لوبون، الذي ذكر استعداد العرب للقيام برسالتهم العظمى، أشاد بفضل الرسول الأعظم على العرب، وزعامته الكبرى لهم، فالرسول في نظره «كان يبدو رابط الجأش إذا ما هزم، ومعتدلا إذا ما نصر»، وذهب لوبون إلى أن الرسول الأعظم «كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير، صموتا حازما، سليم الطوية ... صبورا قادرا على احتمال المشاق، ثابتا بعيد الهمة، لين الطبع وديعا ... وكان مقاتلا ماهرا، فكان لا يهرب أمام المخاطر، ولا يلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في الطاقة لإنماء خلق الشجاعة والإقدام في بني قومه ... وكان عظيم الفطنة.»
ورأى لوبون أن السيد الرسول الذي كانت تلك صفاته أتى العرب، الذين لا عهد لهم بالمثل العليا، بمثل عال اهتدوا به، فاكتسب العرب بهذا المثل العالي آمالا متماثلة، وتوجهت به جهودهم إلى غرض واحد، وصاروا مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل نشره في أنحاء الدنيا، ثم قال: «إن محمدا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيما ... وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ ... والتعصب الديني هو الذي أعمى بصائر مؤرخي الغرب عن الاعتراف بفضل محمد.»
3
قامت عظمة الرومان على عبادة رومة، وكانت رومة سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل عظمتها، ثم فقدت الأمم الإغريقية والرومانية والآسيوية مثلها العليا، ولم يبق لحب الوطن والدين والاستقلال والأمة والمدينة أثر في نفوس أبنائها، وصارت الأثرة كل ما في قلوب هؤلاء، «والأثرة إذا كانت دليل قوم عجزوا عن مقاومة قوم آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم.»
وصار العرب أمة واحدة بفضل الإسلام، وأصبح الإسلام مثل العرب الأعلى، واكتسب العرب به من الحمية ما استعدوا معه لفتح العالم إعلاء لشأنه بقيادة زعمائهم الماهرين.
ولم تكن جزيرة العرب قبل الإسلام سوى ميدان حرب دائم واسع لما تأصل في العرب من الطبائع الحربية، فقد جاء الإسلام وألف بين قلوب العرب ووجهوا جميع قواتهم إلى البلاد الأجنبية، وهم الذين ورثوا الشجاعة أبا عن جد، صرعوا الأغارقة والفرس بفضل يقينهم، وصار الناس يدخلون في الإسلام، وينتحلون لغة العرب أفواجا.
Bilinmeyen sayfa