وأما الخلافة الأندلسية، وهي «الأموية»، فقد تجلت على أوروبا بمظهر رائع، ونشرت رايات الحضارة، وساعدت على ترقية المعارف، وأخذ عنها الفرنج مبادئ العلوم وأساليب الفنون والفلسفة، التي كانت السبب الحقيقي لما هم فيه الآن من حضارة أذلت لإرادتهم العناصر، وأخضعت لهم الطبيعة، وسخرت لهم كل ما في هذا الكون، وحسبها ذلك فخرا، ولا تزال آثارها بديار الأندلس ناطقة بما بلغته من علو الكعب في كل مضمار، غير أنها قد انتهى أمرها مثل غيرها من الدول الفخيمة، التي وصلت إلى نهاية الغايات ؛ فأدركها الهرم قبل الأوان، وأفل نجمها؛ إذ تسللت إليها جراثيم الفساد، وتداخلت فيها الأطماع الشخصية، حتى انقسمت على نفسها، بينما كان أهل إسبانيا وملوك الفرنجة لها بالمرصاد، يتحينون لها الفرص للإيقاع بها والقضاء عليها، فانفرط عقد الخلافة وانتثرت، واستقل الولاة والعمال بهذه الأجزاء المتفرقة، ثم لم يكتفوا بتسمية أنفسهم بملوك الطوائف، بل تنافسوا في التشبه بالخلفاء في أبهة الملك وفخامة الألقاب، حتى قال شاعرهم:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
فما عتموا أن تطرقت إليهم أسباب الضعف والسقوط بعد هذا التفرق، فكان بعضهم يحارب بعضا، ويتناصرون على أنفسهم بعدوهم، ويتقربون إليه بالقلاع والحصون لتشفي بعضهم من بعض، وتمادوا في ذلك الضلال إلى أن آل الأمر بهم إلى خروج الأمر من أيديهم، ودخلوا جميعا في قبضة عدوهم؛ فانزوت بقية الأمة الأندلسية المجيدة في غرناطة، وأفرادها مع ذلك في شقاق مستديم، فكانوا لعدوهم خير معاون على انتزاع ملك الصمامة الباقية لهم، ولكنهم، والحق يقال، قد دافعوا بما بقي فيهم من بأس قديم، وما تولاهم من يأس مقيم إلى أن أبى القدر المحتوم، فوقعت هذه الأمة في مخالب عدوها فريسة كريمة، بعد أن أخذت عليه العهود التي رأتها ضامنة لبقائها، ولكنه نكث بالعهد، ولم يف بالشرط، فصبر الباقون على الخسف والهوان تعلقا بأذيال الوطن العزيز، بيد أن السيف والنار أفنيا معظمهم، وطرد الإسبانيون القليل الباقي منهم إلى الخارج، فذهب بعضهم إلى جنوب فرنسا وإلى سويسرا، وبعض آخر إلى إيتاليا، ودخل في غمار أهلها على طول الزمان، وتناسى أصله العربي ودينه الإسلامي، ولكنه حفظ رغم أنفه عادات وأخلاقا شرقية، وبقيت فيه بقية من الملامح العربية التي تتجلى فيه للناظرين، وذهب آخرون إلى مراكش، والجزائر، وتونس، وكان لهم فيها شأن مذكور، وأثر في الحضارة محمود، وجاء فريق منهم إلى مصر في دولة المماليك، فغمروهم بالإحسان، وجعلوا لهم الرواتب، وأرصدوا عليهم بعض الأوقاف، وذهب نزر يسير ومعهم جمهور من اليهود إلى القسطنطينية، وسلانيك ، وأزمير، وغيرها من مدائن الدولة العلية، التي كانت قد ظهرت في ذلك الزمان، فنشر الأندلسيون بانتشارهم هذه الحضارة في ربوع أوروبا، وشمال أفريقيا.
وبهذا أصبحت إسبانيا ليس فيها منهم إلا من تنصر، وأبناؤهم فيها إلى اليوم، ولا تزال أسماء بعضهم عربية شابتها العجمة أو تطرق إليها التحريف، ومنهم من يفتخر بانتسابه إلى العنصر العربي الكريم، ولم يبق في الأندلس من هذه الخلافة التي كانت صاحبة القول الفصل في الشئون العمومية السياسية، وفي الأمور الداخلية لبعض الممالك الإفرنجية، سوى آثارها الفخيمة ومآثرها الخالدة التي تدل على ما كان لها من التأثير الكبير في ارتقاء الحضارة ونشر العلوم، والله وارث الأرض ومن عليها.
وحينما اضمحلت أركان الخلافة، كانت بالمغرب الأقصى
2 (مراكش) دول بلغت درجة عظيمة من القوة والبأس، فتسمى أصحابها في أول الأمر بأمراء المسلمين احتراما لمقام الخلافة بالمشرق،
3
Bilinmeyen sayfa