من قبلهما، وهي الترات التي للمسلمين عند الروم، ومعلوم أن المسلمين لما فتحوا مصر وغيرها لم يحاربوا إلا أهل الدولة، وهم الروم، وذلك لأمرين؛ أولهما: إخراجهم من تلك البلاد، وذلك كان خيرا للمحكومين، وقد كان أهل مصر والشام يساعدون العرب على الروم، وكذلك أهل العراق على الفرس، وثانيهما: انتفاع العرب بالبلدان التي فتحوها انتفاعهم في الحضارة والمعايش والعلوم وغيرها.
لأجل ذلك يمكننا أن نقول إن حروبهم كانت استعمارية، ويتضح ذلك بأجلى وضوح في حروب من بعد عمر من الخلفاء والأمراء، يظهر ذلك لمن ينظر نظرا سطحيا إلى أسباب هذه الحروب، وما جرته من الفتوح التي أوجبت نشر الدين وتعميمه بالمخالطة ومظاهر الفضيلة والكمالات التي امتاز بها المسلمون في أيام السلف الصالح والصدر الأول، وقد دون المسلمون في تلك الأيام الخوالي كل دقيقة وكبيرة مما يتعلق بهذا الموضوع، ولا نرى فيها أمرا واحدا يدعونا إلى القول بخلاف مذهبنا، وهو أن الحروب كانت حروب مسلمين، لا حروب إسلام، وأنها كانت حروب توسع في الملك واستعمار للبلدان.
المحاضرة الثامنة: الكتابة والخط، والحفظ والتدوين
الكتابة هي الأساس الأول للعمران، وهي محور الارتقاء ومناط التقدم في كل الحضارات التي ظهرت قبل الإسلام وبعد الإسلام؛ ذلك لأنها جرثومة المعارف وينبوع العلم في كل زمان ومكان، والكتابة هي التي حفظت علوم الأقدمين، ومهدت سبيل التوسع والتبسط للمتأخرين، وهي التي أوقفتنا على ما اتصل إليه الأوائل من ثمار العلوم واتساع دائرة الأفكار بالتدريج؛ فإن النقل بالمشافهة قد يعتريه الغلو والتحريف والزيادة والنقص، غير أن الكتابة التي كانت للناس كنبراس في كل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية لم تكتب لنا شيئا عن مبدئها وأول ظهورها، أو تاريخ وضعها، أو كيفيات تدرجها.
ولما لم يكتب تاريخ أصل فن الكتابة، واسم مستنبطه، ومكان إنشائه، والتقلبات التي طرأت عليه، سدل الدهر عليه برقع الخفاء، فغمض عنا أصله وضاعت منا معرفة تاريخه، فأمسى أصل حافظ كل المعارف التي حملها إلينا مفقودا، وكاشف الغوامض غامضا محجوبا، قد اكتنفته ظلمات الدهور، وسترته براقع الإهمال، ولم يبق حوله ضوء يهدي العقل إليه إلا ضوء نار الحباحب، يستضيء به أبناء هذا الزمان؛ فكشفوا بعض الحجب، وأظهروا بعض الغوامض.
وقبل الخوض في هذا الموضوع ينبغي لنا أن نجري على سنة السلف الصالح من علماء الإسلام، فنعرف الكتابة من طريق اللغة ثم من طريق الاصطلاح.
فأما من حيث اللغة: فهي مصدر كتب يكتب كتبا وكتابا وكتابة ومكتبة وكتبة، فهو كاتب، ومعناها الجمع، يقال: تكتب القوم إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل: كتيبة؛ ولذلك سمي الخط كتابة لضم بعض الحروف إلى بعض.
والخط لغة: هو الطريق المستطيلة في الشيء، وعند المهندسين أقرب بعد بين نقطتين، وفي الاصطلاح: هو الكتب بالقلم أو بغيره؛ لأن جميع الحروف تتألف من نقط على أشكال مختلفة، ويتصل بعض النقط ببعض بخطوط فتتألف منها الحروف.
والخط في الاصطلاح: هو رسوم وأشكال حرفية، تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، والكتاب المخطوط في اللغة هو المكتوب فيه، وفي اصطلاح المتأخرين هو خلاف المطبوع بالوسائل المطبعية المعروفة في أيامنا هذه، وقد استعمله المتأخرون تفسيرا لقول الفرنسيين
Manuserit .
Bilinmeyen sayfa