Cennet Bahçelerinde Muz Dalı
غصن البان في رياض الجنان
Türler
ثم لقد كنت لا أكلمها ولا تكلمني، بل أشعر بوقر جسمها متكئا على ذراعي، وأحس بيديها الباردتين حول يدي وهي تنفخ فيها أحيانا كأنها تريد أن تدفئها، وما أحسب أن سكوتا يكون فيه مثل هذا الغرام ولا أن سعادة قرن تحويها ساعة! ولما وصلنا إلى المنزل حالت الناس بيني وبينها فنزعت يدي من يديها كأنني تركت بينهما قلبي، فوجدت عليها قطرات دموع فمسحتها بشفتي وشعري كأنه طيب أحرص عليه أن يضيع، ثم ذهبت فانطرحت على سريري بثيابي.
ولقد حاولت كثيرا أن أنام وأنا أتقلب على فراشي فأجد النوم ينفر مني؛ لأن الأمور التي صادفتها في ذينك اليومين كانت تتعاقب على مخيلتي متواترة شديدة التأثير كأني لا أزال أرى ما رأيته وأسمع ما سمعته، أو كأن اليومين لم ينقضيا، وكنت كأن حرارة قلبي صعدت إلي رأسي، فجعلت أقوم وأقعد مرارا وأنا لا أجد راحة في الحالتين، فقطعت آمالي من النوم. وحاولت أن أغالب أفكاري بخفق أقدامي، ففتحت النافذة ثم قفلتها، ثم كنت أقلب صفحات كتبي فلا أفهمها وأتراوح في حجرتي لا أستقر في مكان، وأنقل مقعدي في الزوايا عساني أجد له وضعا أرتاح عليه فأقضي ليلتي ساهرا.
وكان هذا الصوت قد بلغ إلى حجرة المريضة فصيرها في مثل حالي من السهد والقلق، فسمعت خفق أقدامها يدنو من الباب الذي بيني وبينها، فوضعت أذني على قفله فسمعت تنهدا متقطعا وحفيف ثوب على الحائط، فعلمت أنها واقفة مثل وقفتي تكاد تسمع خفقان قلبي، ثم سمعت صوتا يقول لي همسا: هل أنت مريض؟ فأجبتها: لا، ولكني سعيد، وإن للسعادة حرارة تفوق حرارة الحمى، ولكنها حمى الحياة التي لا أخافها ولا أريد الشفاء منها، بل أنا أسهر لأتمتع بها. فقالت لي: أيها الصبي، اذهب ونم وأنا أسهر، فقد آن أواني لأن أسهر عليك. قلت: بل لماذا لا تنامين؟ قالت: لأني لا أريد أن أضيع في سبات النوم دقيقة من دقائق هذا السرور الجديد، فإن زماني أقصر من أن أتمتع به، فأنا لذلك أحرص على كل قطرة منه أن تذهب سدى في بحر الرقاد، ولقد أتيت فجلست هنا لعلي أسمعك أو أجد نفسي على مقربة منك. قلت: إذن فلماذا البعد؟ ولم هذا الباب بيننا؟ قالت: ألا يحول بيننا سوى هذا الباب من سابق أقسامك؟ وإلا فإذا كان لا يمنعك سواه فها أنا أفتحه لك فتعال. ثم انتزعت مزلاجه وهى تقول: لا شيء يمنعك عن الدخول إذا كان حبك يدفعك إليه ... ولكن لا، لا تدخل لأنك قد تجد فيه ما تدعوه سعادة وهو ذلة عليك وعلي، أنزل بها من رفيع مقام نزلته في فؤادك.
فأثر بي هذا الكلام تأثيرا نازع ميل قلبي إلى الدخول، فسقطت سقطة رجل جريح على عتبة ذلك الباب المقفول، ثم عادت فجلست وراءه، وصرفنا قطعة من ذلك الليل بكلام خفي يقطعه السكوت فترات تتكلم بها القلوب لغة لا يعرفها اللسان والشفتان، ثم أخذت فترات السكوت تطول والصوت ينخفض حتى غلبني النعاس، فنمت وأنا ملصق خدي بالجدار وعاقد يدي على ركبتي.
وما انتبهت إلا وقد تعالى النهار وحميت حرارة الشمس، فبدلت ثيابي وغسلت عيني من تأثير السهر، ولبست عدة صيدي وأخذت بندقيتي، ونزلت إلى قاعة المائدة حيث وجدت أسرة الطبيب وضيوفه، فسمعتهم يتحدثون عن عاصفة أول أمس والخطر الذي خلصت منه الفتاة وإغمائها على أثره واتفاق مقابلتي لها وإتياني بها، فتقدمت إلى الطبيب أن يذهب إليها عني فيستخبرها عن صحتها ويستأذنها في أن أرافقها إلى نزهتها، فلم يغب إلا قليلا حتى عاد بها ولها رونق جمال لم يكن عليها من قبل بهرت به أعين الجميع، ولم تكن تنظر إلا إلي نظرات لم يفهم معناها سواي، ثم ركبت بغلة أدنيت لها وسرت في أثرها ماشيا حتى بلغنا أعلى ذروات تلك الجبال، فقضينا نهارنا لا نكاد نتكلم بسوى القلوب والأبصار، فكنا ننظر تارة إلى ذلك الوادي فنراه ينفرج أمامنا كلما ارتفعنا، ونقف تارة على شفا الشلالات تنثر دقائق مائها فتنسج عليها الشمس قوس السحاب، ونتهادى طورا بما نقطفه من أزاهر الحقول كأنها رسائل غرام خطتها يد الطبيعة عنا، ونجلس طورا على جذوع الأشجار ومقاعد الصخور، ونقول: ما أسعد مخلوقين مثلنا ينفردان عن الناس ويلهوان بمناظر الطبيعة وحفيف الريح والشجر ولا يكدرهما إنسان!
ثم دنت الشمس من مغربها، فعدنا ننحدر بقدم بطيئة وسكون شامل ونحن نلتفت إلى حيث كنا لفتة من ترك ملكه وسعادته وراءه حتى بلغنا المنزل، فصعدت إلى حجرتها، وتعشيت مع أهل الطبيب ثم صعدت فطرقت الباب بيني وبينها، فتلقتني لقاء من مضى عليه دهر في غيابه عنها، وأخذت من عهدئذ أقضي ليالي عندها، فكنت أجدها في غالب الأحيان متكئة على مقعدها وأمامها منضدة عليها مصباح وكتب ورسائل وعلبة للشاي - أهدتها إلي، وهي لا تزال عندي إلى الآن - وكان الطبيب يصعد أحيانا فيجلس إلينا يحادثنا ساعة، ثم يرى أن انفرادي بها أنفع لها من طبه وعلاجه فينصرف ويتركنا بين الدفاتر والحديث، حتى إذا انتصف الليل أقوم فأقبل يدها وأنصرف إلى حجرتي فلا أنام إلا بعد أن لا أعود أسمع حركة من حجرتها.
واستمر أمرنا كذلك بضعة أسابيع طويلة إذا عددت بها خفقات قلبي، وقصيرة بما كان فيها من السعادة والغبطة. وكانت الطبيعة كأنها قد ساعدتنا فمدت فصل خريفها فلاح كأنه الربيع المعتدل لولا تجرد أغصانه وقصر أيامه التي كنا نستعيضها بطول لياليه، وكأن ريحها صوت يقول لنا: اغنما فرصة الحديث وكشف السرائر قبل الفراق فإنما أنا طائره ونذيره.
وقد زرنا في خلال تلك المدة كل الشواطئ والقمم والمضايق والوديان والكهوف والشلالات والصخور، وتمتعنا بمناظر الأشجار والقرى والغيوم والأمواج والجبال والماء والغابات، وكنا لا نمر في مكان حتى نترك فيه أثرا من أنفاسنا أو كلامنا أو نظراتنا أو تعاهدنا أو خفقان قلوبنا ونحن نسأله أن يحفظ ذكرى الساعات التي صرفناها والأفكار التي خطرت لنا والهواء الذي تنشقناه والماء الذي كنا نتساقاه في تجاويف أكفنا والزهور التي كنا نقطفها ونتهاداها وآثار أقدامنا على العشب الندي، وأن يرد لنا كل ذلك عند عودتنا حتى لا تضيع ذرة من سعادتنا في خزانة تلك الطبيعة التي لا يضيع فيها شيء حتى النسمة ولا زمان حتى الدقيقة. وما أظن أنه ورد على تلك البحيرة والجبال من يوم نشأتها قلبان عاشقان كقلبينا، ونفسان فيهما من الحياة والحب ما يكفي لإحياء كل تلك الطبيعة من مائها وسمائها وأرضها وصخورها وأشجارها، ومنحها أنفاس الحب وصبابته وحراراته وصوته وطيبه بما يكفي لأن يملأ طبيعة أعظم من طبيعة العالم بأسره، حتى لأقسم إنه لو خلق الله لنا كرة أرضية خالية لقمنا بإنمائها وإحيائها إلى الأبد.
فمن ينكر بعد ذلك أن نفس الإنسان خالدة لا نهاية لها، إلا إذا كان يقدر أن يدرك حد السعادة في عاشق مثلي أو يدرك حد النجم في تناهي بعاده؟ وعندي أن الحب إنما هو إمام الدنيا وهاديها، ولولاه لما خطر للمرء أن يعتقد في أبدية أو خلود.
وكانت تلك الأيام المعدودة قد أخلصت سبك قلبي ومحصت معدن نفسي حتى أخلصتها من كل ما علق بها من الدنايا إلى ذلك الحين، ووجدت أن الحب شعلة نار أنارت لي الطبيعة والعالم ونفسي والسماء، فلاح لي عند ذلك عبث الدنيا وباطلها حين رأيتها تصغر في عيني لدى شعلة من تلك الحياة الحقة، فكنت أحمر خجلا من نفسي؛ إذ ألتفت إلى ما مر من حياتي وأقابله بما أراه من الطهارة والعفاف في تلك الفتاة حتى كأنني دخلت منها في بحر من الجمال والرقة والصيانة والآداب والغرام كان يتسع أمامي وينفسح في عيني كلما نظرت إليها وسمعت صوتها وحادثتها.
Bilinmeyen sayfa