ثبت الكتب
الغناء للأطفال عند العرب
ثبت الكتب
الغناء للأطفال عند العرب
الغناء للأطفال عند العرب
الغناء للأطفال عند العرب
تأليف
أحمد عيسى
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه العون
ترقيص الصبيان بالغناء والكلام الموزون من طبائع الإنسان أنى وجد، حتى لتجدنه في الحيوان الأعجم؛ إذ تراه يهارش ولده ويداعبه في صوت لين وحنو كحنو الإنسان على ولده، والترقيص للإنسان من أقوم الوسائل لتربية الطفل وتنشئته، وغرس جميل الخصال وحميد الفعال في ذهنه قبل أن يشتد، حتى تتمكن من أخلاقه وتنقش في مخيلته نقش القلم في الحجر؛ فيشب الطفل وقد انطبعت في جسده وامتزجت بلحمه ودمه فلا يمكن بعد ذلك محوها من ذهنه، وقد كان للعرب نصيب وافر من ذلك الكلام اشتهر عنهم، وحل بينهم أعلى مكان من مجالسهم ومنتدياتهم ومنازلهم الخاصة؛ وكان من الخصال الحميدة التي يتوخونها لتربية الطفل وتهذيبه وغرس بذورها في عقولهم الفخر والشجاعة والإقدام والحماسة والمباهاة والكرم وإغاثة الملهوف، وغير ذلك من الخصال الحسنة، ثم توسعوا في ذلك واتخذوا من ترقيص الطفل بالمقاطيع الشعرية بث أغراض أخرى تلوح لهم يقصدون بها مآرب يسترونها به كالمدح واللوم والعتاب والتبكيت والتقريع والاعتذار والتعريض والذم ... إلخ، حتى لا تجبه أقوالهم منازعيهم رأسا، فيستترون وراء الترقيص ويعتذرون به، ولهذه الأقوال من حسن الأداء وجمال التركيب وسبك الألفاظ وسمو الفكر ما جعل اللغويين يستشهدون بها على فصاحة الحروف ونقاوة اللغة.
وقد كان لي من الحظ أن عثرت في أثناء مطالعاتي على الكثير من تلك المقاطيع فاهتممت بتقييده وشرحه وتفسير ألفاظه وترجمة أصحابه؛ لعلو قدرهم في بيئاتهم، حتى يكون قدوة لنا في عصرنا ننشئ به أطفالنا ونجني من ورائه خير ما يجني كل من أحسن الغرس.
وقصدت بتأليف هذا الكتاب إلى خدمة الأمم العربية عامة والأمة المصرية منها خاصة؛ لاستصلاح بعض الأخلاق التي طرأ عليها شيء كثير من التغيير من فقد الرجولة وقلة الشجاعة وضياع النجدة وضعف الإقدام والتغالي في التجمل والتزين وهما من خلال الأنوثة.
وهذا كتاب الترقيص الذي أقدمه لشباب الأمة هو على ما تحققت الثاني من نوعه في الأدب العربي؛ فإنه لم يؤلف في الترقيص سوى كتاب واحد في أواخر القرن الرابع الهجري، ثم انقطع التأليف فيه إلى هذا التاريخ، وإنما ذكرت مقاطيع متفرقة في شتى الكتب وأكثرها مقتبس من هذا الكتاب.
والكتاب الأول كتاب الترقيص لمحمد بن المعلى الأزدي النحوي اللغوي أبو عبد الله، قال في كشف الظنون: «كتاب الترقيص لمحمد بن المعلى وذكره البغدادي في خزانة الأدب لمناسبة بيت للترقيص قال: رواه الأزدي في كتاب الترقيص، وأشار الثعالبي كذلك في كتابه ثمار القلوب إلى كتاب الترقيص.» وجاء في بغية الوعاة: «محمد بن المعلى بن عبد الله الأسدي.» وقال ياقوت في معجم الأدباء: «أبو عبد الله محمد بن المعلى الأزدي النحوي اللغوي.» ولم يأت في كشف الظنون ولا في خزانة الأدب ولا في بغية الوعاة ولا في معجم الأدباء ذكر للزمن الذي كان يعيش فيه محمد بن المعلى، وإنما جاء في ابن خلكان في ترجمة المبرد ما يأتي: «وقريب من هذه الأبيات ما أنشده أبو عبد الله الحسين بن علي اللغوي البصري النمري لما مات أبو عبد الله محمد بن المعلى الأزدي وكان بينهما تنافس وهي:
مضى الأزدي والنمري يمضي
وبعض الكل مقرون ببعض ... إلخ.»
وبالرجوع إلى بغية الوعاة نجد أن الحسين بن علي أبا عبد الله النمري كان بالبصرة ومات سنة 385ه، ولما كان هو الذي رثى محمد بن المعلى عند وفاته، وكان بينهما تنافس في الحياة، والتنافس بين اثنين يكاد يدل على تقارب الأسنان فتكون وفاة محمد بن المعلى قد حصلت قبل سنة 385ه بقليل، فهو من أهل القرن الرابع الهجري.
وقد جمعت هذا الكتاب بعد مطالعات طويلة، والآن أقدمه هدية للأمهات لا أبغي من ورائها غير خير الأمة، والله يهدي إلى سبيل الرشاد.
الدكتور أحمد عيسى
شارع البحر الأعمى الغربي
في يوم السبت غرة رمضان سنة 1353ه
الموافق 8 ديسمبر سنة 1934
ثبت الكتب
هذا ثبت الكتب التي اقتبسنا منها مواد هذا الكتيب: (1)
كتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري طبع ليون سنة 1898م. (2)
كتاب إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب أو معجم الأدباء لياقوت الرومي طبع هندية بالقاهرة سنة 1908م وما يليها. (3)
كتاب الاشتقاق للشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي طبع جوتنجن سنة1854م. (4)
كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد الكتاني المعروف بابن حجر العسقلاني طبع القاهرة سنة 1323ه. (5)
كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني طبع بولاق. (6)
كتاب الأمالي لأبي علي القالي طبع بولاق سنة 1324ه. (7)
كتاب أنباء نجباء الأبناء لمحمد بن ظفر الصقلي المتوفى سنة 567 طبع مصر. (8)
كتاب إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون لعلي بن برهان الحلبي طبع بولاق سنة 1292ه. (9)
كتاب بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين السيوطي طبع مصر سنة 1326ه. (10)
كتاب البلدان لابن الفقيه الهمداني طبع ليدن. (11)
كتاب بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للسيد محمد شكري الألوسي طبع مصر سنة 1343ه. (12)
كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ طبع مصر سنة 1332ه. (13)
كتاب تاج العروس من شرح القاموس للسيد محمد مرتضى الزبيدي طبع مصر سنة 1307ه. (14)
كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي طبع مصر سنة 1349ه وما بعدها. (15)
كتاب تهذيب الأسماء واللغات لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي طبع جوتنجن سنة 1842م. (16)
كتاب الدراري في الذراري للشيخ كمال الدين عمر بن هبة الله بن العديم الحلبي طبع اسطنبول سنة 1298ه. (17)
كتاب سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون لجمال الدين محمد بن نباتة المصري طبع بولاق سنة 1278ه. (18)
كتاب السيرة النبوية لأبي محمد عبد الملك بن هشام طبع جوتنجن سنة 1859م. (19)
كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد كاتب الواقدي طبع ليدن سنة 1904-1921م. (20)
كتاب العقد الفريد لشهاب الدين أحمد المعروف بابن عبد ربه طبع بولاق. (21)
كتاب عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي مخطوط. (22)
كتاب الفهرست لمحمد بن إسحاق المعروف بابن النديم الوراق طبع ليبزج سنة 1872م. (23)
كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري طبع ليدن سنة 1869م. (24)
كتاب المعارف لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكاتب الدينوري طبع مصر. (25)
كتاب لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري طبع بولاق سنة 1303ه. (26)
كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصفهاني طبع مصر سنة 1326ه. (27)
كتاب معجم البلدان للشيخ الإمام أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي طبع ليبزج سنة 1866م وما بعدها ... إلخ.
الغناء للأطفال عند العرب
الدعاء
عن حليمة مرضعة النبي
صلى الله عليه وسلم
أنها كانت بعد رجوعها بسيدنا محمد من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا عنها، فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه فوجدته مع أخته من الرضاعة وهي الشيماء وكانت تحضنه
1
مع أمها؛ ولذلك تدعى أم النبي أيضا وكانت ترقصه بقولها:
2
هذا أخ لي لم تلده أمي
وليس من نسل أبي وعمي
فأنمه اللهم فيما تنمي
فقالت حليمة: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع.
التفسير:
قوله: «فأنمه»: النماء الزيادة، نمى ينمي نميا ونميا ونماء؛ زاد وكثر وأنماه الله إنماء.
حليمة
هي حليمة - رضي الله عنها - بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، واسم أبيه - أي زوج مرضعته حليمة - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن،
3
وإخوة النبي
صلى الله عليه وسلم
من الرضاعة - أي أولاد حليمة - هم: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وجذامة بنت الحارث، وهي الشيماء. •••
قال أبو علي القالي: «حدثنا أبو بكر قال: حدثني عمي عن أبيه عن هشام بن محمد قال حدثني رافع بن بكار ونوح بن دراج قالا: دخل النبي
صلى الله عليه وسلم
على عمه الزبير بن عبد المطلب وهو صبي فأقعده في حجره وقال:
4
محمد بن عبدم
عشت بعيش أنعم
ودولة ومغنم
في فرع عز أسنم
مكرم معظم
دام سجيس الأزلم»
تفسير الكلمات : «عبدم»: منحوتة من عبد المطلب مثل عبشم في عبد شمس، وعبدر في عبد الدار، وعبقس في عبد القيس، فعمه الزبير ينسبه
صلى الله عليه وسلم
إلى جده عبد المطلب، وهو أبو الزبير، أو تكون الميم زائدة للوصل لا فائدة لها أكثر من ذلك. «أنعم»: من النعمة وهي المسرة والفرح والترفه. «دولة»: الدولة والدولة؛ العقبة في المال والحرب سواء. «مغنم»: الغنم، والغنيمة: الفيء وهو كذلك ما أصيب من أموال الحرب وأوجف
5
عليه المسلمون الخيل والركاب. «فرع عز»: فرع كل شيء أعلاه، والعز: خلاف الذل، والعز في الأصل: القوة والشدة والغلبة والرفعة. «أسنم»: سنام كل شيء أعلاه أي أعلى العز. «سجيس الأزلم»: معناه أبد الدهر، وسجيس بمعنى امتداد، فيقال: سجيس الليالي.
محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو قريش، ابن مالك بن النضر واسمه قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هذا هو المتفق على صحته بإجماع الأمة، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي إلى آخر نسب الرسول، وللنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
أسماء كثيرة: منها محمد وأحمد والحاشر والعاقب والمقفي والماحي وخاتم الأنبياء ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والفاتح وطه ويس وعبد الله ... إلخ، تزوج والد النبي وهو عبد الله بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، ابن هاشم، آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فمشى إليه عبد المطلب بن هاشم بابنه عبد الله فخطب عليه آمنة بنت وهب فزوجها عبد الله فأقام عبد الله عندها ثلاثا، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها أقام عندها ثلاث سنين، فحملت آمنة بنت وهب برسول الله، وكانت تقول: ما شعرت أني حملت به ولا وجدت له ثقلة
6
كما تجد النساء وذلك في يوم الإثنين، وخرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجارتهم، ثم انصرفوا فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال: أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده وهو الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن النجار، فرجع إلى أبيه فأخبره فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله يومئذ حمل على الصحيح، وقيل: ابن شهرين، وقيل: غير ذلك، ولعبد الله بن عبد المطلب والد الرسول يوم توفي خمس وعشرون سنة، وترك أيمن واسمها بركة، وخمسة أجمال أوارك؛ أي تأكل الأراك،
7
وقطعة غنم، فورث ذلك رسول الله.
ولد النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم الإثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول، وقيل: لاثنتي عشرة ليلة، وقيل غير ذلك، وكان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم، فبين الفيل ومولد رسول الله خمس وخمسون ليلة، وختن عبد المطلب حفيده يوم سابعه وسماه محمدا.
وأول من أرضع النبي
صلى الله عليه وسلم
ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له: مسروح، فأرضعته أياما قبل أن تقدم حليمة، وأرضعت أبا سلمة بن عبد الأسد معه، فكان أخاه من الرضاعة، وقدم مكة عشر نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن الرضاع، فأصبن الرضاع كلهن إلا حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث السعدية، وكان معها زوجها الحارث بن عبد العزى بن رفاعة، وولده منها: عبد الله بن الحارث، والشيماء وهي التي كانت تحضن رسول الله مع أمها، فعرض رسول الله على حليمة، فجعلت تقول: يتيم ولا مال له، وما عست أم أن تفعل، فخرج النسوة وخلفنها، فقالت حليمة لزوجها: أما ترى قد خرج صواحبي وليس بمكة مسترضع إلا هذا الغلام اليتيم، فلو أخذناه فإني أكره أن أرجع إلى بلادنا ولم نأخذ شيئا، فقال لها زوجها: خذيه عسى الله أن يجعل لنا فيه خيرا، فجاءت إلى أمه فأخذته منها فوضعته في حجرها فأقبل عليه ثدياها حتى تقطرا لبنا فشرب رسول الله حتى روي، وشرب أخوه، ولقد كان أخوه لا ينام من الغوث،
8
فطابت نفس حليمة وسرت بذلك، ثم خرجت به إلى بلادها وكان يشب في اليوم شباب الصبي في الشهر، فمكث عندها سنتين حتى فطم وكأنه ابن أربع سنين، فقدموا به على أمه زائرين لها، فأخبرتها حليمة خبره، وما رأت من بركته، فقالت أمه لحليمة: ارجعي بابني فإني أخاف عليه وباء مكة، فرجعت به حليمة إلى ديارها فكان عندها سنة أو نحوها لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، ثم ذهبت به إلى أمه لترده وهو ابن خمس سنين، وفي تلك السنة من مولده حينما قدمت به حليمة إلى عبد المطلب قدم مكة كاهن فنظر إليه مع عبد المطلب وقال: يا معشر قريش، اقتلوا هذا الصبي فإنه يفرقكم
9
ويقتلكم، فهرب به عبد المطلب، فلم تزل قريش تخشى من أمره ما كان الكاهن حذرهم منه، ولما بلغ رسول الله ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه، وهم على بعيرين فنزلت به في دار النابغة، فأقامت به عندهم شهرا، فكان رسول الله يذكر أمورا كانت في مقامه ذلك، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه، قالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك من كلامه، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء - مكان بين مكة والمدينة - توفيت أمه آمنة بنت وهب وقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن إلى مكة، ولما مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عمرة الحديبية بالأبواء قال: «إن الله تعالى قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه.» فأتاه رسول الله فأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكائه، فقيل لرسول الله، فقال: «أدركتني رحمتها فبكيت.»
ولما توفيت أمه
صلى الله عليه وسلم
آمنة بنت وهب قبضه جده عبد المطلب وضمه إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وقال قوم لعبد المطلب: احتفظ به فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم الذي في المقام منه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به، وقال عبد المطلب لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله: لا تغفلي عن ابني؛ فإني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة،
10
وإن أهل الكتاب ليزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وفي السنة السابعة من مولده خرج عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن في أرض اليمن، فأنبأه بنبيء يبعث من عقبه ورسول من فرعه اسمه محمد وأحمد، وحذره من أعدائه، فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله وحياطته، ومات عبد المطلب وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل غير ذلك، وكان عمر رسول الله ثمان سنين، فلما توفي عبد المطلب ضمه أبو طالب، وكان أبو طالب فقيرا لا مال له، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله شبعوا، فكان إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم قال: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول الله فيأكل معهم فيفضل من طعامهم، وفي السنة التاسعة من عمره خرج أبو طالب برسول الله إلى بصرى من أرض الشام، وفي سنة عشر من مولده كان الفجار الأول، وإنما سمي الفجار؛ لما استحلوا فيه من المحارم، ومن حملهم السلاح في الأشهر الحرام، وكان الحرب فيه ثلاثة أيام، ولما صار له اثنتا عشرة سنة وشهران ارتحل به أبو طالب إلى الشام، فنزلوا بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرا في صومعة وكان ذا علم في النصرانية، فنزلوا منزلا قريبا من صومعته، ثم دعاهم إلى طعام فجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، وقال لأبي طالب: ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود؛ فإن لابن أخيك شأنا عظيما، فرجع به أبو طالب بعد ما فرغوا من تجارتهم، وما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه.
وفي سنة أربع عشرة من مولده كان حرب الفجار الثاني، وكان بين هوازن وقريش، وحضره رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقال: «كنت أنبل
11
على أعمامي.»
وفي سنة خمس عشرة من مولده كان قيام قس بن ساعدة الإيادي بسوق عكاظ خطيبا، فلما وفد إياد على رسول الله قال لهم: ما فعل قس بن ساعدة؟ قالوا: مات، قال: كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل أروق
12
يتكلم بكلام له حلاوة وما أجدني أحفظه، فقال رجل من القوم: أنا أحفظه، سمعته يقول: أيها الناس، احفظوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحار تزخر، ونجوم تزهر، وضوء وظلام، وبر وآثام، ومطعم ومشرب، وملبس ومركب، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ وآل قس ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه وأدرككم أمانه، فطوبى لمن أدركه فاتبعه، وويل لمن خالفه، ثم أنشأ يقول شعرا، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «يرحم الله قسا إني لأرجو أن يبعثه الله تعالى يوم القيامة أمة وحده.»
وفي سنة تسع عشرة من مولده كان حلف الفضول وحضره رسول الله، وسببه أن قريشا كانت تتظالم في الحرم، فاجتمعت قريش في دار عبد الله بن جدعان، وتحالفوا على رد المظالم بمكة، وألا يظلم أحد إلا منعوه، قال رسول الله: «لقد شهدت حلفا في دار جدعان ما أحب أن لي بها حمر النعم،
13
ولو دعيت به لأجبت.» فقال قوم من قريش: هذا والله فضل من الحلف فسمي: «حلف الفضول».
وفي سنة خمس وعشرين من مولده كان خروجه في تجارة خديجة بنت خويلد بن أسد إلى الشام وتزوجه بها، فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به العير،
14
وسار حتى وصل بصرى من أرض الشام ، فباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون ورجعوا، فخبرها بما ربحوا فسرت بذلك، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة النفس من أوسط
15
نساء قريش نسبا وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا، فرغبت في أن تتزوج منه؛ فقدم رسول الله ومعه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وغيرهم من عمومته حتى دخلوا على خويلد بن أسد، وقيل: عمرو بن أسد، وإن أباها خويلد مات قبل الفجار، فخطبها إليه فزوجها منه وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة، فولدت له أولاده كلهم إلا إبراهيم، وهم أربع بنات بلا خلاف: زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى وهو ابن خالتها وأمه هالة بنت خويلد، وفاطمة تزوجها علي بن أبي طالب، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان؛ رقية أولا ثم أم كلثوم وتوفيتا عنده، وتوفيت رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وتوفيت أم كلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة. والبنون من أولاده ثلاثة على الصحيح: القاسم وبه كان يكنى، مات في الجاهلية، وعبد الله وسمي الطيب والطاهر مات في الجاهلية، والثالث إبراهيم ولد بالمدينة سنة ثمان ومات بها سنة عشر وهو ابن سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر. وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن، وأول من ولد له القاسم ثم زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة وكلهم من خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، وكلهم توفوا قبله إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر، وكان الرسول بين خديجة والنبي
صلى الله عليه وسلم
في الزواج نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية، أسلمت يوم الفتح فبرها رسول الله وأكرمها.
وفي سنة خمس وثلاثين من مولده هدمت قريش الكعبة، والسبب في ذلك أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببناء الكعبة ففعلا ذلك، وأقام إسماعيل بمكة وكان يلي البيت مدة حياته وبعده ابنه نابت، ثم غلبت جرهم على ولاية البيت وبغت جرهم واستحلت حرمة البيت وظلموا من دخل مكة؛ فأرسل الله على جرهم الرعاف
16
فأفناهم، واجتمعت خزاعة على إجلاء من بقي منهم، فلما أحس عامر بن الحارث الجرهمي بالهزيمة خرج بغزالي الكعبة والحجر الأسود يلتمس التوبة فلم تقبل توبته، فدفن غزالي الكعبة ببئر زمزم وطمسها وخرج بمن بقي من جرهم فقال عمرو بن الحارث الجرهمي في ذلك:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وولي البيت بعد جرهم خزاعة ثم ولي البيت بعد خزاعة قريش، فحفر عبد المطلب بئر زمزم، ولما أرادوا هدم الكعبة هاب الناس هدمها، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأ لكم به فأخذ المعول فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم إلى الأساس وأفضت إلى حجارة خضر، ثم جمعوا الحجارة لبنائها وبنوا حتى بلغ البناء موضع الركن، فأرادت كل قبيلة رفعه إلى موضعه حتى تخالفوا وتواعدوا للقتال ثم تشاوروا وجعلوا من بينهم حكما فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأخبروه الخبر فقال: إلي ثوبا، فأتي به فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم قال: ليأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا. ففعلوا فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه.
ولما بلغ النبي
صلى الله عليه وسلم
أربعين سنة بعثه الله وأنزل عليه الوحي، وكان ذلك يوم الإثنين لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان في سنة عشرين من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وكان رسول الله قبل أن يظهر له جبريل عليه السلام يرى ويعاين آثار من يريد الله عز وجل إكرامه بفضله، وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة قومها بزمانه، وكانت الأخبار عن دلائل نبوته كثيرة.
وكان أول ما ابتدأ به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الرؤيا الصادقة، ثم حبب إليه الخلا؛ فكان يجاور بغار حراء
17
يتعبد فيه الليالي ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد أنت رسول الله، قال رسول الله: فجئثت
18
منه فرقا ثم رجعت فدخلت على خديجة فقلت: زملوني زملوني، ثم ذهب عني الروع فأتاني فقال: يا محمد أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من شاهق فتبدى لي حين هممت بذلك فقال: يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله، ثم قال: اقرأ، قلت: وما أقرأ؟ قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقرأت فأتيت خديجة فأشفقت على نفسي وأخبرتها خبري، فقالت لي: أبشر فوالله لا يخزيك الله تعالى أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل
19
فتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
20
ثم كان أول ما أنزل عليه من القرآن بعد «اقرأ» ن والقلم وما يسطرون، ويا أيها المدثر، والضحى، ثم فتر الوحي عن رسول الله فترة فحزن حزنا شديدا، فجعل يغدو إلى رءوس الجبال ليتردى
21
منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فيقول له: إنك رسول حقا، فيسكن له جأشه وترجع نفسه.
فلما أمر الله نبيه أن ينذر قومه عذاب الله على ما هم فيه من عبادة الأصنام دون الله تعالى، فكان أول من آمن به وصدقه خديجة بنت خويلد زوجته، ثم أول فرض فرضه الله عليه من شرائع الإسلام بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان؛ الصلاة، علم جبريل عليه السلام النبي الوضوء والصلاة وعلمهما النبي
صلى الله عليه وسلم
خديجة.
وأول من أسلم من الذكور علي بن أبي طالب وكان عمره تسع سنين، وزيد بن حارثة، وقيل: إن أول من أسلم من الذكور أبو بكر الصديق ثم بلال، وأسلم على يد أبي بكر: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، وأسلم أبو ذر وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وزوجته هنية بنت خلف.
ثم أسلم عمر بن الخطاب وحمزة عم النبي، فقوي المسلمون بهما ثم تبعهما غيرهما كثير ممن اعتز بهم الإسلام.
لقد كانت الدعوة إلى دين الله مستترة ثلاث سنين، وبعد مبعثه بثلاث سنين أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يصدع بما يؤمر وأن يظهر الدعوة عامة، وكان قبل ذلك لا يظهرها إلا لمن وثق به فكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى الشعاب
22
فاستخفوا.
واختلف الناس في وقت المعراج فقيل: كان قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل: بسنة واحدة، وأما المكان الذي أسري برسول الله فيه فقد اختلف فيه أيضا، فقيل: كان نائما في المسجد في الحجر
23
فأسري به منه، وقيل: كان في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وقد روى حديث المعراج جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة.
وكان في المسلمين قوم سبقوا إلى الإسلام لا عشائر لهم تمنعهم ولا قوة لهم يمتنعون بها فهؤلاء هم المستضعفون، وأما من كانت لهم عشيرة تمنعهم فلم تصل الكفار منهم إلى ما يريدون، وهؤلاء المستضعفون كبلال وعمار بن ياسر وسمية وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان، والطفيل أخي عائشة لأمها وأبي فكيهة واسمه أفلح وعامر بن فهيرة وغيرهم، عذبوا في الإسلام فلم يرجع منهم أحد عن دينه.
ومن العرب قوم شديدو الأذى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهم المستهزئون كأبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف وهو ابن خال النبي، والحارث بن قيس بن عدي السهمي، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وأمية وأبي ابني خلف وكانا من أشر الناس على النبي، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل السهمي والد عمرو بن العاص، والنضر بن الحارث بن كلدة وهو ابن خالة النبي وكان أشر قريش في تكذيب النبي، وأبي جهل بن هشام المخزومي، وغيرهم جماعة كثيرة من قريش كانوا من المستهزئين الشديدي الأذى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم .
ولما رأى رسول الله ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية لمكانه من الله عز وجل وعمه أبي طالب وأنه لا يقدر أن يمنعهم قال لهم : «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه.» فخرج المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله تعالى بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام؛ فخرج عثمان بن عفان وزوجته رقية ابنة النبي
صلى الله عليه وسلم
معه، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وامرأته معه سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، وغيرهم تمام عشرة رجال، وكان مسيرهم في رجب سنة خمس من النبوة، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان، وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة.
وتوفي أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين؛ توفي أبو طالب في شوال وعمره بضع وثمانون سنة، وماتت خديجة قبله بخمسة وثمانين يوما، وقيل كان بينهما خمسة وعشرون يوما؛ فعظمت المصيبة على رسول الله بموتهما.
وفي السنة الأولى من الهجرة بعد وفاة خديجة تزوج النبي
صلى الله عليه وسلم
سودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وبنى بها بعد مقدمه المدينة بثمانية شهور، ثم تزوج حفصة في السنة الثالثة من الهجرة، وأم حبيبة وأم سلمة تزوجهما في السنة الرابعة من الهجرة، وزينب بنت جحش في السنة الخامسة، وميمونة وجويرية وصفية، فهؤلاء التسع توفي عنهن.
كان رسول الله يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب فكانوا يردونه، وكان عمه أبو لهب يتبعه ويفسد عليه سعيه، وتتابع أصحاب رسول الله إليه وهو بمكة ينتظر من الله ما يؤمر به، وتخلف معه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق، فتآمر العرب عليه فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب وتشاوروا فيها، وكانوا عتبة وشيبة وأبو سفيان وطعيمة بن عدي وحبيب بن مطعم والحارث بن عامر والنضر بن الحارث وأبو جهل وغيرهم، وأرادوا قتله، فأتى جبريل النبي
صلى الله عليه وسلم
وقال له: لا تبت الليلة على فراشك، فنجاه الله تعالى من مكرهم وأمره بالهجرة، فعمل على الخلاص ليلا حتى وصل إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، فقدم به الدليل قباء يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فنزل النبي
صلى الله عليه وسلم
على سعد بن خيثمة، ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف بالسنح، وقيل: نزل على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج، وأما علي فإنه لما فرغ مما أمره النبي به هاجر إلى المدينة، وكان يسير الليل ويكمن بالنهار حتى قدم المدينة وقد تفطرت قدماه، فأتاه النبي واعتنقه وبكى رحمة له لما بقدميه من الورم، وفي اليوم الذي نزل فيه من قباء
24
في بني سالم في بطن واد لهم، أدركت رسول الله الجمعة فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحي إليه؛ فقال أنس وابن عباس: إنه أقام بمكة عشر سنين، وقيل: أقام ثلاث عشرة سنة، وكلاهما صحيح؛ فإن النبي بقي ثلاث سنين يسر الدعوة قبل عشر السنين.
وبنى
صلى الله عليه وسلم
في السنة الأولى من الهجرة مسجده بالمدينة حيث بركت ناقته لما دخلها، وكان هذا المكان لغلامين يتيمين هما: سهل وسهيل ابنا عمرو من بني النجار فأرضاهما معاذ بن عفراء من ثمنه عن ثمنه، فبنى المسجد، وكان
صلى الله عليه وسلم
قبل ذلك يصلي حيث أدركته الصلاة.
وفي السنة الثانية من الهجرة أخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
في عقد الألوية لرجاله من الصحابة، وابتدأ غزواته وإرسال سراياه،
25
ومنها: غزوة بدر الكبرى، وغزوة بني القينقاع، واستشهد في هذه السنة كثير من الصحابة.
وفي السنة الثالثة كانت غزوة بني سليم وغزوة أحد وغزوة حمراء الأسد.
26
وفي السنة الرابعة كانت غزوة الرجيع، وغزوة ذات الرقاع، وغزوة بدر الثانية.
وفي السنة الخامسة من الهجرة كانت غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب، وغزوة بني قريظة، وفيها تزوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زينب بنت جحش وهي ابنة عمته.
وفي السنة السادسة من الهجرة أتم بعض الغزوات كغزوة بني لحيان وغزوة بني المصطلق، وكاتب الملوك ورؤساء الحكومات وبعث الرسل؛ فأرسل حاطب بن بلتعة إلى المقوقس بالإسكندرية، وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق، وأرسل دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وأرسل سليط بن عمرو العامري إلى هودة بن علي الحنفي ملك اليمامة، وأرسل عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي ملك البحرين، وأسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، وفي هذه السنة كانت عمرة
27
الحديبية في ذي القعدة ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار.
وفي السنة السابعة كانت غزوة خيبر، وفي ذي الحجة خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
معتمرا عمرة القضاء، وتزوج في سفره هذا بميمونة بنت الحارث، وفيها اتخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
المنبر، وقيل: في السنة الثامنة، وهو الأصح، كان رسول الله يخطب إلى جذع نخلة فقالت امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار: يا رسول الله، إن لي غلاما نجارا، أفلا آمره أن يتخذ لك منبرا تخطب عليه؟ قال: بلى. فاتخذ له منبرا، وفي سنة ثمان أيضا فتحت مكة، وتوفيت زينب بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفيها كانت غزوة ذات السلاسل، وغزوة مؤتة، وغيرها من الغزوات.
وفي السنة التاسعة أسلم كعب بن زهير، وكانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة له
صلى الله عليه وسلم ، وجميع غزواته ست وعشرون، وقيل: سبع وعشرون.
وفي السنة العاشرة من الهجرة كثر قدوم وفود القبائل على رسول الله بإسلامهم وطاعتهم له، وفيها كانت حجة الوداع، خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى الحج لخمس بقين من ذي القعدة وحج بالناس وأراهم مناسكهم وعلمهم سنن حجهم، وحج معه من الصحابة مائة ألف أو يزيدون وكانت حجة الوداع؛ ذلك لأن النبي لم يحج بعدها وأراهم مناسكهم وعلمهم حجهم ورجع إلى المدينة.
وفي السنة الحادية عشرة من الهجرة قدم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفد النخع من اليمن في النصف من شهر المحرم وهم مائتا رجل مقرين بالإسلام وهم آخر من وفد على رسول الله من الوفود.
لما رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من حجة الوداع أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وفي أواخر صفر - 27 صفر سنة 11 الموافق 25 مايو سنة 632 - خرج رسول الله إلى بقيع الغرقد - مقبرة أهل المدينة - في جوف الليل ليستغفر لأهل البقيع، ثم رجع إلى أهله فلما أصبح ابتدأ بوجعه من يوم ذلك، قالت عائشة - رضي الله عنها: رجع رسول الله فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وا رأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه. وتتام
28
به وجعه، ثم دعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض عند عائشة فأذن له، فخرج من بيت ميمونة يمشي بين رجلين أحدهما الفضل بن العباس والثاني علي بن أبي طالب عاصبا رأسه ويخط قدماه الأرض إلى بيت عائشة، واشتد به وجعه وجعل يشتكي ويتقلب على فراشه، وقال أبو سعيد الخدري: جئنا رسول الله فإذا عليه صالب من الحمى ما تكاد تقر يد أحدنا عليه من شدة الحمى، ولما ثقل جاءه بلال ليؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وكان عند رسول الله سبعة دنانير وضعها عند عائشة فقال: يا عائشة، ابعثي بالذهب إلى علي. فبعثت به إليه فتصدق به ثم أمسى رسول الله ليلة الإثنين في حرد
29
الموت ثم غشي عليه وهو على صدرها ومات من ذلك اليوم، وكانت وفاته يوم الإثنين نصف النهار لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة - الموافق 8 يونيو سنة 632م - وهو ابن ثلاث وستين سنة، وبلغ أبا بكر الخبر وكان بالسنح
30
فجاء وعيناه تهملان فقبل النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو يبكي، وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وتكلم كلاما بليغا سكن به نفوس الناس وثبت جأشهم، قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله عز وجل:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ، فكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم، وغسله
صلى الله عليه وسلم
وعليه ثيابه علي والعباس وابناه الفضل وقثم، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجا، وصلى عليه المسلمون أفرادا لم يؤمهم أحد، وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران، وأطبق عليه تسع لبن،
31
ودفن في وسط الليل ليلة الأربعاء في الموضع الذي توفاه الله تعالى فيه حول فراشه، وكانت مدة شكواه ثلاث عشرة ليلة، واختلفوا في عمره يوم مات؛ فقال ابن عباس وعائشة ومعاوية: كان عمره ثلاثا وستين سنة، وقال ابن عباس أيضا ودغفل: كان عمره خمسا وستين سنة، وقال عروة بن الزبير: كان عمره ستين سنة.
أخلاقه
صلى الله عليه وسلم
كان
صلى الله عليه وسلم
أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، وكان أحسن الناس خلقا وخلقا، وألينهم كفا، وأطيبهم ريحا، وأكملهم عقلا، وأحسنهم عشرة، وأشجعهم وأعلمهم بالله، وأشدهم لله خشية، ولا يغضب لنفسه ولا ينتقم لها؛ وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات
32
الله عز وجل، فحينئذ يغضب ولا يقوم لغضبه شيء حتى ينتصر للحق، وإذا غضب أعرض وأشاح، وكان خلقه القرآن؛ فكان أكثر الناس تواضعا، يقضي حاجة أهله، ويخفض جناحه للضعفة، وما سئل شيئا قط فقال لا، وكان أحلم الناس، وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، والقريب والبعيد والقوي والضعيف عنده في الحق سواء، وما عاب طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وكان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، ويكافئ على الهدية، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعود المريض، ويجيب من دعاه من غني أو فقير، ولا يحتقر أحدا، ويتكلم بجوامع الكلم، وكلامه بين يفهمه من سمعه، ولا يتكلم في غير حاجة، وكان متقللا من أمتعة الدنيا وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها، وكان كل ضحكه التبسم، وضحك في أوقات حتى بدت نواجذه، ويحب الطيب، ويمزح ولا يقول إلا حقا، ويقبل عذر المعتذر إليه، وكانت معاتبته تعريضا، ويأمر بالرفق ويحث عليه، وينهى عن العنف، ويحث على العفو والصفح ومكارم الأخلاق، وكان مجلسه مجلس حلم وحياء وأمانة وصيانة وصبر وسكينة؛ لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن
33
فيه الحرم
34
أي لا يذكر فيه النساء بقبيح، ويصان مجلسه عن الرفث وما يقبح ذكره، يتعاطفون فيه بالتقوى ويتواصفون، ويوقر الكبار ويرحم الصغار، ويؤثرون المحتاج ويحفظون الغريب، ويخرجون أدلة على الخير، وكان يتألف أصحابه ويكرم كريم كل قوم، ويتفقد أصحابه، ولم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح، ولم يضرب خادما ولا امرأة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، وقد جمع الله سبحانه وتعالى له كمال الأخلاق ومحاسن الشيم، وأتاه الله علم الأولين والآخرين وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا معلم له من البشر، وأتاه لم يؤت أحدا من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين صلوات الله عليه دائمة إلى يوم الدين.
الزبير بن عبد المطلب
هو الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، وإخوته لأمه وأبيه عبد الله بن عبد المطلب أبو النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبو طالب وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة، وإخوته لأبيه العباس وحمزة والحارث وحجل واسمه مصعب ولقبه الغيداق والمقوم وضرار وعبد العزى وهو أبو لهب وصفية، وكان الزبير بن عبد المطلب من فرسان العرب وشجعانهم وشعرائهم. •••
ودخل على الزبير بن عبد المطلب أخوه العباس بن عبد المطلب وهو غلام فأقعده في حجره وقال:
35
إن أخي عباس عف ذو كرم
فيه عن العوراء إن قيلت صمم
يرتاح للمجد ويوفي بالذمم
وينحر الكوماء في اليوم الشبم
أكرم بأعراقك من خال وعم
تفسير الكلمات: «عف»: العفة الكف عما لا يحل ويجمل، عف يعف عفة وعفا وعفافا وعفافة فهو عفيف وعف. «العوراء»: الكلمة القبيحة أو الفعلة القبيحة. «الذمم»: العهود. «الكوماء»: ناقة عظيمة السنام طويلة. «الشبم»: البارد. «أعراق»: عرق كل شيء أصله، وجمعه: أعراق وعروق، ورجل معرق في الحسب.
العباس بن عبد المطلب
عم النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وباقي نسبه في نسب النبي، وكان يكنى أبا الفضل، ولد العباس بن عبد المطلب قبل قدوم أصحاب الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من رسول الله بثلاث سنين، وأمه نتيلة النمرية، وكان العباس رئيسا جليلا في قريش قبل الإسلام، وكان إليه عمارة
36
المسجد الحرام والسقاية،
37
وحضر ليلة العقبة مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى بايعته الأنصار قبل أن يسلم العباس فشدد العقد مع الأنصار وأكده، وخرج مع المشركين إلى بدر مكرها وأسر وفدى نفسه وابني أخويه عقيلا ونوفلا ابني الحارث وأسلم عقيب ذلك، وقيل أسلم قبل الهجرة وكان يكتم إسلامه مقيما بمكة يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله، وكان عونا للمسلمين المستضعفين بمكة، قالوا: وأراد القدوم إلى المدينة فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم : «مقامك بمكة خير.» وشهد حنينا مع رسول الله وثبت معه حين انهزم الناس، فأمره النبي أن ينادي بالرجوع فنادى فيهم وكان صيتا
38
فأقبلوا عليه وحملوا على المشركين، فهزمهم الله وأظهر المسلمين، وكان رسول الله يعظمه ويكرمه ويجله، وكان وصولا
39
لأرحام قريش محسنا إليهم، ذا رأي وكمال وعقل، جوادا أعتق سبعين عبدا، وكانت الصحابة تكرمه وتعظمه وتقدمه وتشاوره وتأخذ برأيه، وكان للعباس عشرة بنين وثلاث بنات: الفضل وكان أكبر ولده وبه كان يكنى، وقبره باليرموك من الشام، وعبد الله ومات بالطائف، وعبيد الله ومات بالمدينة، وقثم ومات بسمرقند، وعبد الرحمن ومعبد ماتا بإفريقية، وأم حبيبة، وأمهم جميعا: أم الفضل وهي لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رؤيبة، وله من الولد من غير أم الفضل: كثير وتمام وصفية وأميمة وأمهم: أم ولد، والحارث بن العباس وأمه: حجيلة بنت جندب بن الربيع، توفي العباس - رضي الله عنه - بالمدينة المنورة يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان، سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقبره بالبقيع. •••
ودخل على الزبير بن عبد المطلب أخوه ضرار بن عبد المطلب وهو أصغر من العباس فقال:
40
ظني بمياس ضرار خير ظن
أن يشتري الحمد ويغلي بالثمن
ينحر للأضياف ربات السمن
ويضرب الكبش إذا البأس ارجحن
التفسير: «مياس»: الميس؛ التبختر، ماس يميس ميسا وميسانا؛ تبختر، ورجل مياس وجارية مياسة: إذا كانا يتبختران. «الحمد»: الشكر والثناء، فيشتري الحمد: أي يفعل ما يوجب الثناء والشكر. «يغلي بالثمن»: أي يكثر من الفعال المحمودة الموجبة للشكر كنحر الإبل السمان وغيرها. «ويضرب الكبش»: كبش القوم رئيسهم وسيدهم وكبش القوم حاميتهم،
41 «إذا البأس ارجحن»: البأس هو الحرب أو الشدة في الحرب؛ أي إذا رجحت كفة الحرب. •••
ثم دخلت على الزبير بن عبد المطلب ابنته أم الحكم فقال:
42
يا حبذا أم الحكم
كأنها ريم أجم
يا بعلها ماذا يشم
ساهم فيها فسهم
التفسير: «ريم»: الريم: الظبي الأبيض الخالص البياض. «أجم»: الأجم الذي لا قرنين له. «يشم»: شم اختبر كأن بعلها يشم ما عندها وتشم ما عنده ليعملا بمقتضى ذلك. «وساهم»: القوم قارعهم فسهم فقرعهم.
أم الحكم
هي بنت الزبير بن عبد المطلب وأمها عاتكة بنت أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، تزوجها ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم فولدت محمدا - غير نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم - وعبد الله وعباسا والحارث وعبد شمس وعبد المطلب وأمية - رجلا - وأروى الكبرى فهي ابنة عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأطعم رسول الله أم الحكم في خيبر ثلاثين وسقا،
43
وروت أم الحكم عن النبي وروي عنها. •••
ثم دخلت عليه جارية له يقال لها: أم مغيث فقالت: مدحت إخوتك وبني أخيك ولم تمدح ابني مغيثا فقال علي به عجليه، فجاء به فقال:
44
وإن ظني بمغيث إن كبر
أن يسرق الحج إذا الحج كثر
ويوقر الأعيار من قرف الشجر
ويأمر العير بليل يعتذر
ميراث شيخ عاش دهرا غير حر
التفسير: «يوقر»: الوقر؛ الحمل وقد أوقر بعيره وأوقر الدابة. «الأعيار»: جمع عير وهو الحمار أيا كان أهليا أو وحشيا. «القرف»: لحاء الشجر. «يأمر العير»: العير؛ السيد والملك، وعير القوم: سيدهم. «بليل يعتذر»: أي إذا أمره سيده بعمل شيء ليلا أبدى الأعذار، أما تفسير يعتذر بيصنع عذيرة وهي طعام من أطعمة الأعراب فبعيد. «عاش دهرا»: الدهر: الزمان الطويل. «غير حر»: أي عبد رق.
المدح
كانت السيدة فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ترقص ابنها الحسين بن علي وتقول:
45
إن بني شبه النبي
ليس شبيها بعلي
التفسير: «بني»: بالتخفيف لضرورة وزن الشعر، و«بعلي»: بالتخفيف أيضا للضرورة.
فاطمة الزهراء
بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ولدتها وقريش تبني البيت - الكعبة - وذلك قبل النبوة بخمس سنين، وهي صغرى بنات رسول الله سنا، خطبها أبو بكر الصديق إلى النبي فرده بقوله له: «يا أبا بكر انتظر بها القضاء.» ثم خطبها عمر فقال له النبي مثل ما قال لأبي بكر، ثم إن أهل علي قالوا لعلي: اخطب فاطمة إلى رسول الله فقال: بعد أبي بكر وعمر؟ فذكروا له قرابته من النبي، فخطبها فزوجه النبي، وذلك أنه كان قد وعد عليا بها قبل أن يخطب إليه أبو بكر وعمر، وأصدق علي فاطمة درعا من حديد يدعى: «الحطمية»،
46
وكان ذلك في رجب بعد مقدم النبي المدينة بخمسة أشهر، وبنى بها بعد مرجعه من بدر، وفاطمة يوم بنى بها علي بنت ثمان عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة، وقال لها النبي
صلى الله عليه وسلم : «أما أني ما أليت
47
أن أزوجك خير أهلي.» وسكنت بيت حارثة، وجهزت فاطمة وما كان حشو فراشها ووسائدها إلا الليف، وكان فيما جهزت به سرير مشروط
48
ووسادة من أدم حشوها ليف وتورة
49
من أدم
50
وقربة - سقاء - ومنخل ومنشفة وقدح ورحاءان
51
وجرتان،
52
وولدت فاطمة لعلي الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب، وعاشت بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ستة أشهر، وتوفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها، وغسلها علي وأسماء بنت عميس، وصلى عليها العباس، وقيل: علي، وقيل: أبو بكر، ودفن علي فاطمة ليلا بناء على وصيتها في زاوية دار عقيل بالبقيع.
53
الحسين بن علي
ابن أبي طالب الهاشمي أبو عبد الله سبط رسول الله وريحانته، وهو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، ولد الحسين لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، قال رسول الله: «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا.» وقد حج الحسين خمسا وعشرين حجة ماشيا، وكان الحسين فاضلا كثير الصلاة والصوم والحج والصدقة وأفعال الخير جميعها، قتل - رضي الله عنه - يوم الجمعة، وقيل: يوم السبت يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وحزن الناس عليه كثيرا وأكثروا فيه المراثي، وللحسين من الأولاد: علي الأكبر، وعلي الأصغر، وفاطمة، وسكينة، رضي الله عنهم أجمعين. •••
وفي الحديث: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يرقص الحسن أو الحسين ويقول:
54
حزقة حزقه
ترق عين بقه
التفسير:
رجل حذق وحزق وحزقة: قصير يقارب الخطو، وحزقة مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره أنت حزقة، وحزقة الثاني كذلك، أو خبر مكرر، ومن لا ينون حزقة الأول أراد حذف يا النداء. «ترق»: بمعنى اصعد أو اعل. «عين بقة»: بمعنى يا عين البقة كناية عن الصغر؛ لأن عين البقة صغيرة جدا، فكان الحسين يرقى حتى يضع قدميه على صدر النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال ابن الأثير: ذكرها له على سبيل المداعبة والتأنيس له.
الحسن بن علي بن أبي طالب
هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي المدني سبط رسول الله وريحانته وابن فاطمة بنت رسول الله سيدة نساء العالمين، ولد في نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة، كان الحسن شبيها بالنبي، سماه النبي الحسن وكناه أبا محمد ولم يكن هذا الاسم يعرف في الجاهلية، أرضعته أم الفضل امرأة العباس مع ابنها قثم بن العباس، وحج الحسن ماشيا مرات وتصدق كثيرا من ماله، وكان حليما كريما ورعا، دعاه ورعه وحلمه إلى أن ترك الدنيا والخلافة، وكان من المبادرين إلى نصرة عثمان بن عفان، وولي الخلافة بعد قتل أبيه علي بن أبي طالب، وكان قتل علي لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين، وبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالحجاز واليمن والعراق وخراسان، ثم سار إليه معاوية من الشام، وسار هو إلى معاوية، فلما تقاربا علم أنه لن تغلب إحدى الطائفتين حتى يذهب أكثر الأخرى؛ فأرسل إلى معاوية يبدي له تسليم الأمر إليه على أن تكون الخلافة له بعده، وعلى ألا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان أيام أبيه، وغير ذلك من القواعد، فأجابه معاوية إلى ما طلب فاصطلحا على ذلك، وظهرت المعجزة النبوية في قوله
صلى الله عليه وسلم
للحسن: «إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.» وكان صلحهما لخمس بقين من شهر ربيع الأول على الأرجح سنة إحدى وأربعين، وروى الحسن عن النبي وروى عنه كثير، وتوفي الحسن بالمدينة مسموما سنة تسع وأربعين وقيل: خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، ودفن بالبقيع، وصلى عليه سعيد بن العاص. •••
كان عبد المطلب يرقص ابنه الحارث أو الزبير فيقول:
55
يا بأبي يا بأبي يا بأبي
كأنه في العز قيس بن عدي
في دار قيس ينتدي أهل الندي
التفسير: «يا بأبي»: يا؛ حرف نداء أو تنبيه، بأبي معناه: أفديك بأبي، «ينتدي»: ندا القوم وانتدوا وتنادوا: اجتمعوا، والندي: المجلس ما داموا مجتمعين فيه، فإذا تفرقوا فليس بندي، وقيل: الندي؛ مجلس القوم.
قيس بن عدي
كان سيد قريش في دهره غير مدافع، وبنو قيس بن عدي: حارث وعدي ورئاب وحذاقة والفاكهة وحنطب وأبو أمية والزبير، وكان هؤلاء يلقبون الفياطل، وكان لقيس بن عدي قينتان يجتمع إليهما فتيان قريش؛ أبو لهب وأشباهه، وهو الذي أمرهم بسرقة الغزال من الكعبة ففعلوا فقسمه على قيانه، وكان غزالا من الذهب مدفونا فقطعت قريش رجالا ممن سرقوه وأرادوا قطع يد أبي لهب فحمته أخواله من خزاعة.
عبد المطلب
ابن هاشم بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصي بن كلاب بن مرة إلى آخر النسب، وهو جد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن خواس بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، ويدعى عبد المطلب: شيبة الحمد، مات أبوه هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام فولي السقاية والرفادة
56
من بعده: المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من أخيه هاشم، وكان ذا شرف في القوم وفضل، فألحق المطلب ابن أخيه عبد المطلب به، ودخل به مكة قادما من المدينة، ثم مات المطلب بردفان من أرض اليمن، ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس وأقام للقوم ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم، ثم أخذ عبد المطلب يحفر بئر زمزم للسقاية، وهي «دفن»
57
بين صنمي قريش إساف ونائلة عند منحر
58
قريش، وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فلما دل على موضعها غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب فحفرا، فلما بدا الماء كبر فعرفت قريش أنه أدرك حاجته فشربوا واستقوا، وأقام عبد المطلب سقاية زمزم للحاج وانصرف الناس إليها؛ لمكانها من المسجد الحرام، ولفضلها على ما سواها من المياه؛ ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم، وافتخر بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب، فقال مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السقاية والرفادة، وما أقاموا للناس من ذلك وبزمزم حين ظهرت:
ورثنا المجد من آبا
ئنا فنمى بنا صعدا
ألم نسق الحجيج ونن
حر المذلاقة
59
الرفدا
60
ونلق عند تصريف ال
منايا شددا
61
رقدا
62
فإن نهلك فلم نملك
ومن ذا خالد خلدا
وزمزم في أرومتنا
ونفقأ عين من حسدا
وزوج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا، وكانت آمنة أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا فدخل عليها، وحملت منه برسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم ، فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب، فأتاه وأخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله ويتشكر له ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها والتمس له الرضعاء فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث، فأرضعته سنتين ثم فصلته وقدمت به على أمه فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب بن هاشم في كلاءة
63
الله وحفظه، وينبته نباتا حسنا، فلما بلغ رسول الله ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة، فلما بلغ رسول الله ثمان سنين توفي عبد المطلب بن هاشم وذلك بعد الفيل بثمان سنين، فلما توفي عبد المطلب بن هاشم ولي زمزم والسقاية عليها بعده العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ أحدث إخوته سنا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهي بيده، فأقرها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
له من ولايته، وكان رسول الله بعد موت عبد المطلب عند عمه أبي طالب، فكان يلي أمر رسول الله بعد جده، وكان عبد المطلب شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وكان حليما حكيما جوادا عادلا، وعاش خمسا وتسعين سنة، وقيل: اثنتين وثمانين سنة، توفي ورسول الله ابن ثمان سنين، وذلك بعد الفيل بثمان سنين ودفن بالحجون
64
عند جده قصي. •••
قال أبو علي وأخبرني عمي عن أبيه عن هشام قال: قالت أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي ترقص ابنها عبد الله بن العباس:
65
ثكلت نفسي وثكلت بكري
إن لم يسد فهرا وغير فهر
بالحسب العد وبذل الوفر
حتى يوارى في ضريح القبر
التفسير: «الثكل»: الموت والهلاك، والثكل والثكل بالتحريك: فقدان الرجل والمرأة ولدهما. «فهر»: قبيلة وهي أصل قريش وهو فهر بن غالب بن النضر بن كنانة، وقريش كلهم ينسبون إليه. «الحسب»: الشرف الثابت في الآباء، وقيل: هو الشرف في الفعل. «حسب عد»: قديم وهو مشتق من العد الذي هو الماء القديم الذي لا ينتزح. «الوفر»: المال الكثير الذي لم ينتقص منه شيء.
أم الفضل
هي لبابة الكبرى ابنة الحارث بن حزن، كانت أم الفضل أول امرأة أسلمت بمكة بعد خديجة بنت خويلد، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يزورها، وأخوات أم الفضل: ميمونة بنت الحارث بن حزن زوج النبي، ولبابة الصغرى وهي العصماء بنت الحارث بن حزن، وهي أم خالد بن الوليد بن المغيرة وعزة وهزيلة، فتزوج أم الفضل العباس - عم النبي - ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فولدت له الفضل وعبد الله وعبيد الله ومعبد وقثم وعبد الرحمن وأم حبيب، قال عبد الله بن يزيد الهلالي:
ما ولدت نجيبة من فحل
كستة من بطن أم الفضل
أكرم بها من كهلة وكهل
وهاجرت أم الفضل بنت الحارث إلى المدينة بعد إسلام العباس بن عبد المطلب، قال زيد بن علي بن حسين: ما وضع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رأسه في حجر امرأة ولا يحل له بعد النبوة إلا أم الفضل فإنها كانت تفليه وتكحله، فبينما هي ذات يوم تكحله إذ قطرت قطرة من عينها على خده، فرفع رأسه إليها فقال: ما لك؟ فقالت: إن الله نعاك لنا، فلو أوصيت بنا من يكون بعدك إن كان الأمر فينا أو في غيرنا، قال: إنكم مقهورون مستضعفون بعدي. وقال سماك بن حرب: إن أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب قالت : يا رسول الله، رأيت فيما يرى النائم كأن عضوا من أعضائك في بيتي، قال: خيرا رأيت، تلد فاطمة - ابنة رسول الله - غلاما وترضعينه بلبان ابنك قثم. قال: فولدت الحسين فكفلته أم الفضل، قالت: فأتت به رسول الله فهو ينزيه
66
ويقبله إذ بال على رسول الله فقال: يا أم الفضل أمسكي ابني فقد بال علي. قالت: فأخذته فقرصته قرصة بكى منها، وقلت: آذيت رسول الله، بلت عليه، فلما بكى الصبي، قال: يا أم الفضل، آذيتيني في ابني أبكيتيه. ثم دعا بماء فحدره
67
عليه حدرا، ثم قال: إذا كان غلاما فاحدروه حدرا، وإذا كان جارية فاغسلوه غسلا.
عبد الله بن عباس
ابن عبد المطلب بن هاشم الصحابي ابن الصحابي المكي ابن عم رسول الله، وهو أكبر أولاده، وأمه لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية، وكان يقال لابن عباس: حجر الأمة والبحر؛ لكثرة علمه، دعا له رسول الله بالحكمة وحنكه بريقه حين ولد وهم في الشعب،
68
قال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، وعاش ابن عباس بعد ابن مسعود نحو خمس وثلاثين سنة تشد إليه الرحال ويقصد من جميع الأقطار، ومشهور في الصحيحين تعظيم عمر بن الخطاب لابن عباس واعتداده به وتقديمه مع حداثة سنه، وعاش بعده ابن عباس نحو سبع وأربعين سنة يقصد ويستفتى ويعتمد، وهو أحد العبادلة
69
الأربعة: ابن عمر وابن عباس وابن عمرو بن العاص وابن الزبير، وكان ابن عباس أحد الستة من الصحابة الذين هم أكثرهم رواية عن رسول الله، وهم: أبو هريرة وابن عمر وجابر وابن عباس وأنس وعائشة، رضي الله عنهم أجمعين، وابن عباس أكثر الصحابة فتوى، روى عن النبي، وروى عنه خلائق لا يحصون من التابعين.
ولد ابن عباس عام الشعب في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فتوفي رسول الله وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل: ابن خمس عشرة سنة، وتوفي بالطائف سنة ثمان وستين، وقيل: سنة سبعين، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة، وكان قد كف بصره في آخر عمره ، وكذلك العباس وجده عبد المطلب، واستعمله علي بن أبي طالب على البصرة، ثم فارقها قبل علي وعاد إلى الحجاز، قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما رأيت أحدا أعلم من ابن عباس بما سبقه من حديث رسول الله وبقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، ولا أفقه منه ولا أعلم بتفسير القرآن وبالعربية والشعر والحساب والفرائض، وكان يجلس يوما للتأويل ويوما للفقه ويوما للمغازي
70
ويوما للشعر ويوما لأيام العرب،
71
ومناقبه كثيرة مشهورة. •••
قال حجة الدين أبو هاشم الشيخ محمد بن ظفر الصقلي:
72
بلغني أن عبد المطلب بن هاشم أتته امرأته نتيلة النمرية بابنه العباس بن عبد المطلب وهو رضيع فقالت له: يا أبا الحارث، قل في هذا الغلام مقالة، فأخذه منها وجعل يرقصه ويقول:
ظني بعباس حبيبي إن كبر
أن يمنع القوم إذا ضاع الدبر
وينزع السجل إذا اليوم اقمطر
ويسبأ الزق السجيل المنفجر
ويفصل الخطة في اليوم المبر
ويكشف الكرب إذا ما الخطب هر
أكمل من عبد كلال وحجر
لو جمعا لم يبلغا منه العشر
التفسير: «كبر»: الرجل والدابة يكبر كبرا ومكبرا فهو كبير طعن في السن. «الدبر والدبر»: الظهر، وضاع الدبر كناية عن الهزيمة، فإن المنهزمين يولون الأدبار، فهو يمنعهم وقت الهزيمة. «السجل»: الدلو الضخمة المملوءة ماء، وجمعها: سجال وسجول، والمساجلة مأخوذة من السجل، وأصله: أن المستقيين بسجلين من البئر يكون لكل واحد منهما سجل أي: دلو ملأى ماء فيخرج كل منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فهذه هي المساجلة، فضربته العرب مثلا للمفاخرة، ومنه قولهم: الحرب سجال، «اقمطر يومنا»: اشتد واقمطر الشيء: تقبض، ويوم قمطرير ومقمطر وقماطر: مقبض ما بين العينين لشدته، وفي التنزيل:
إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ؛ أي إنه يعبس الوجه فيجمع ما بين العينين. «يسبأ الزق»: سبأ الخمر يسبؤها سبأ وسباء ومسبأ ؛ اشتراها ليشربها، والزق: الذي تنقل فيه الخمر، «السجيل»: الضخم. «المنفجر»: من انفجر الماء والدم ونحوهما من السيال، وتفجر: انبعث سائلا. «يفصل»: أي يقضي أو يقطع ، «الخطة»: الحال والأمر. «المبر»: الغالب، يقال: أبره يبره إذا قهره بفعال أو غيره، وأبر فلان على أصحابه علاهم. «الكرب»: الحزن والغم الذي يأخذ بالنفس. «الخطب»: الشأن أو الأمر صغر أو عظم، «هر»: استعير من هرير الكلب، هر الكلب يهر هريرا إذا نبح وكشر عن أنيابه، والمعنى: إذا اشتد الخطب. «عبد كلال»: بن مثوب بن ذي حرث بن الحارث بن مالك بن غيدان، الذي بعثه تبع على مقدمته إلى اليمامة، فقتل طمسا وجديسا. «حجر»: بن النعمان بن الحرث بن أبي شمر الغساني.
نتيلة النمرية
أم العباس بنت جناب بن كليب وينتهي نسبها إلى معد بن عدنان، ونتيلة هي أول عربية كست الكعبة الحرير، قالوا: وسببه أن العباس ضاع وهو صغير، فنذرت إن وجدته أن تكسوها فوجدته ففعلت. •••
روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نظر إلى عبد الله بن الزبير حين ولد فقال: «هو هو»، فلما سمعت ذلك أسماء بنت أبي بكر الصديق تركت إرضاعه، فقيل: يا رسول الله، إن أسماء تركت إرضاع عبد الله من أجل كلمتك، فقال لها رسول الله: «أرضعيه ولو بماء عينيك.» ثم قال: «كبش بين ذئاب عليها ثياب، فليمنعن الحرم أو ليقتلن دونه.» وروي: «ليمنعن البيت أو ليموتن دونه.» وروي أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت وهي ترقص ولدها عبد الله بن الزبير:
73
أبيض كالسيف الحسام الإبريق
بين الحواري وبين الصديق
ظني به ورب ظن تحقيق
والله أهل الفضل أهل التوفيق
أن يحكم الخطبة يعيي المسليق
ويفرج الكربة في ساع الضيق
إذا نبت بالمقل الحماليق
والخيل تعدو زيما برازيق
التفسير: «السيف الحسام»: سيف حسام قاطع وكذلك مدية حسام، «الإبريق»: سيف إبريق كثير اللمعان، والإبريق: السيف الشديد البرق، سمي به لفعله. «الحواري»: كل مبالغ في نصرة آخر. «يحكم»: أحكم الأمر أتقنه. «الخطبة»: اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب. «يعيي»: أعيا أكل وأعجز. «المسليق»: والمسلق والمسلاق إذا كان نهاية في الخطابة، «والكربة»: الكرب والحزن والغم الذي يأخذ بالنفس، كربه يكربه كربا، والاسم: الكربة. «ساع الضيق»: الساع جمع ساعة كحاج وحاجة. «نبت»: نبا عنه بصره ينبو؛ أي تجافى ولم ينظر إليه، كأنه حقرهم ولم يرفع بهم رأسا. «المقل»: جمع مقلة وهي شحمة العين التي تجمع السواد والبياض، وقيل: هي العين كلها. «الحماليق»: جمع حملاق وهو ما غطى الجفون من بياض المقلة أو هو باطن أجفان العين. «تعدو»: العدو؛ الحضر، عدا الرجل والفرس يعدو عدوا وعدوا وعدوانا أحضر. «زيما»: أي متفرقة. «برازيق»: مفردها برزيق وهي جماعات الخيل، وقيل: هم الفرسان.
عبد الله بن الزبير بن العوام
هو أبو بكر ويقال: أبو خبيب القرشي الأسدي المكي الصحابي ابن الصحابي، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وجدته لأبيه: صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله، وعمة أبيه: خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وخالته: عائشة أم المؤمنين، وهو أول مولود ولد للمهاجرين إلى المدينة بعد الهجرة، وفرح المسلمون بولادته فرحا شديدا، ولما مات يزيد بن معاوية في منتصف شهر ربيع الأول سنة أربع وستين بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة، وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، ثم حصره الحجاج بن يوسف بمكة وقتله يوم الثلاثاء سابع جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.
أسماء بنت أبي بكر الصديق
امرأة الزبير بن العوام واسم أمها: قتلة ويقال: قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب، ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، وكان لأبيها أبي بكر حين ولدت إحدى وعشرون سنة، أسلمت أسماء قديما بعد سبعة عشر إنسانا، وكانت أسماء أسن من عائشة بعشر سنين وهي أختها لأبيها، وكان عبد الرحمن بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها، سماها رسول الله ذات النطاقين؛ لأنها صنعت للنبي ولأبيها سفرة لما هاجرا فلم تجد ما تشدها به، فشقت نطاقها وشدت به السفرة
74
فسماها النبي ذات النطاقين، هاجرت أسماء إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة، فكان أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة، بلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سن، ولم ينكر من عقلها شيء، وروت عن النبي، وروى عنها عبد الله بن عباس وابناها وغيرهم، توفيت بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بيسير، وشهدت أسماء بنت أبي بكر غزوة اليرموك مع زوجها الزبير، وولدت أسماء للزبير: عبد الله وعروة وعاصما والمنذر والمهاجر وخديجة وأم حسن وعائشة، ولم يكن في نساء العرب أجود من أسماء؛ فإنها كانت لا تدخر شيئا لغد. •••
رأى عبد المطلب بن هاشم ولده العباس يلعب القلة
75
مع لدات
76
له، فقال صبي منهم: لا يضرب هاتيك القلة إلا ابن وتغة
77
كيون
78
مهملة،
79
فقال له العباس: وبيت ربي لا لعبت معنا إنك بذاء الشعر قئول بالخنا،
80
فأكب عليه عبد المطلب فاحتمله، وجعل يرتجز ويقول:
81
لم ينمني عمرو ولا قصي
إن لم يسود فتى لؤي
التفسير: «لم ينمني»: نميت فلانا في النسب أي: رفعته فانتمى في نسبه أي ارتفع. «عمرو»: جده لأمه. «قصي»: معروف من أجداد النبي
صلى الله عليه وسلم ، «يسود»: من السؤدد وهو الشرف، سادهم سودا وسوددا وسوددا وسيادة وسيدودة. «فتى لؤي»: هو العباس بن عبد المطلب. •••
كان العباس بن عبد المطلب بمكة ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
بخيبر قد فتحها، وقدم الحجاج بن علاط السلمي مكة فأخبر قريشا عن رسول الله بما أحبوا أنه قد ظفر به وقتل أصحابه فسروا بذلك وأقطع
82
العباس خبره وساءه وفتح بابه وأخذ ابنه قثم فجعله على صدره، وهو يقول:
83
يا قثم يا قثم
يا شبه ذي الكرم
التفسير: «ذو الكرم»: النبي
صلى الله عليه وسلم . •••
قال أبو علي القالي: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا عمي عن أبيه عن هشام قال: قالت هند بنت عتبة وهي ترقص ابنها معاوية رحمه الله:
84
إن بني معرق كريم
محبب في أهله حليم
ليس بفحاش ولا لئيم
ولا بطخرور ولا سئيم
صخر بني فهر به زعيم
لا يخلف الظن ولا يخيم
التفسير: «معرق»: عرق كل شيء أصله، ورجل معرق في الحسب والكرم أي: عريق النسب أصيل. «فحاش»: كثير الفحش وهو القبيح من القول. «طخرور»: يقال للرجل إذا لم يكن جلدا إنه لطخرور. «يخيم»: يجبن، قال أبو علي القالي: يمكن أن يكون يخيم هنا يخيب، فأبدلت من الياء ميما، كما قالوا: طين لازب ولازم.
هند بنت عتبة
هي بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبسية، وأمها صفية بنت أمية بن حارثة، هي امرأة سفيان بن حرب وأم معاوية بن أبي سفيان، أسلمت بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة وحسن إسلامها وشهدت اليرموك مع زوجها أبي سفيان، توفيت في أول خلافة عمر - رضي الله عنه - ولما أسلمت جعلت تضرب صنما في بيتها بالقدوم حتى فلذته
85
فلذة فلذة وهي تقول: «كنا منك في غرور.» وقدمت هند على ابنها معاوية في خلافة عمر بن الخطاب، روى عنها ابنها معاوية وعائشة.
معاوية بن أبي سفيان
الصحابي ابن الصحابي هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، يجتمع أبوه وأمه في عبد شمس، أسلم هو وأبوه أبو سفيان وأخوه يزيد بن أبي سفيان وأمه هند في فتح مكة، وكان أسلم يوم الحديبية
86
وكتم إسلامه من أبيه وأمه، فدخل رسول الله مكة عام الفتح فأظهر إسلامه ولقي النبي فرحب به وشهد مع رسول الله حنينا والطائف، فأعطاه من غنائم هوازن مائة بعير وأربعين أوقية، وكان هو وأبوه من المؤلفة
87
قلوبهم ثم حسن إسلامهما، وكان أحد الكتاب لرسول الله، ولما بعث أبو بكر الجيوش إلى الشام سار معاوية مع أخيه يزيد بن أبي سفيان، فلما مات يزيد استخلفه على عمله بالشام - دمشق - وأقره عمر مكان أخيه، فلم يزل واليا لعمر حتى قتل عمر، ثم ولاه عثمان بن عفان ذلك العمل وجمع له الشام كلها حتى قتل عثمان فكانت ولايته على الشام عشرين سنة أميرا، ثم بويع له بالخلافة واجتمع عليه بعد علي بن أبي طالب فلم يزل خليفة عشرين سنة حتى مات بدمشق ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين وهو يومئذ ابن ثمان وسبعين سنة، ولي معاوية دمشق أربع سنين من خلافة عمر، واثنتي عشرة من خلافة عثمان مع ما أضاف إليه من باقي الشام، وأربع سنين تقريبا من خلافة علي، وستة أشهر من خلافة الحسن بن علي، وسلم إليه الخلافة سنة إحدى وأربعين.
وكان من الموصوفين بالدهاء والحلم، وذكروا أن عمر بن الخطاب لما دخل الشام فرأى معاوية قال: هذا كسرى العرب، ولما حضرته الوفاة أوصى أن يكفن في قميص كان رسول الله كساه إياه، وأن يجعل مما يلي جسده، وكان عنده قلامة أظفار رسول الله فأوصى أن تسحق وتجعل في عينيه وفمه، وقال: افعلوا ذلك في وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين، ولما نزل به الموت قال: ليتني كنت من قريش بذي طوى
88
وإني لم آل
89
من هذا الأمر شيئا، وولد له عبد الرحمن ويزيد وعبد الله وهند ورملة وصفية. •••
قال الزبير بن العوام في ترقيص ابنه عبد الله
90
وقيل: أخيه عروة:
91
أبيض من آل أبي عتيق
مبارك من ولد الصديق
ألذه كما ألذ ريقي
وجاء في العقد الفريد لابن عبد ربه وفي كتاب الدراري في الذراري لابن العديم الحلبي ص35:
أزهر من آل أبي عتيق.
التفسير: «الأزهر»: من الرجال: الأبيض العتيق البياض النير وهو أحسن البياض كأن له بريقا ونورا يزهر كما يزهر النجم والسراج والزهرة البياض. «أبي عتيق»: لقب أبي بكر الصديق، قيل: لقب به لجماله لقولهم: فرس عتيق إذا كان سبطا جميلا، والعتق: الجمال بعينه ولا يكون إلا مع شباب، وروت عائشة أن أبا بكر دخل على النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال له: يا أبا بكر أنت عتيق من النار فمن يومئذ سمي عتيقا، وعبد الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق؛ لذلك قال: من آل أبي عتيق. «ألذه»: اللذة نقيض الألم، واللذة: الأكل والشرب بنعمة وكفاية، ولذذت الشيء ألذه إذا استلذذته.
الزبير بن العوام
الصحابي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي المدني يلتقي مع رسول الله في قصي، وأم الزبير صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله وزوجه أسماء بنت أبي بكر الصديق، أسلم الزبير وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ست عشرة، وقيل: ابن اثنتي عشرة سنة، وكان إسلامه بعد إسلام أبي بكر بقليل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، وهو أي الزبير أحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة في أحدهم، وهم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، وكان الزبير أول من سل سيفا في سبيل الله، شهد بدرا
92
وأحدا
93
والخندق
94
والحديبية وخيبر
95
وفتح مكة وحصار الطائف مع رسول الله، وشهد اليرموك
96
وفتح مصر، وكان أسمر ربعة
97
معتدل اللحم خفيف اللحية، ومناقب الزبير كثيرة، وكان يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف فلحقه جماعة من الغواة فقتلوه بوادي السباع بناحية البصرة «وقبره هناك» في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وكان عمره حينئذ سبعا وستين سنة، وقيل: ستا وستين، وقيل: أربعا وستين. •••
قال أبو علي حدثنا أبو بكر قال: حدثني عمي عن أبيه عن هشام قال: قالت ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير وهي ترقص ابنها سلمة بن هشام بن المغيرة:
98
نمى به إلى الذرا هشام
قرم وآباء له كرام
حجاحج خضارم عظام
من آل مخزوم هم الأعلام
الهامة العلياء والسنام
التفسير: «نمى»: ارتفع. «الذرا»: جمع ذروة، وذروة كل شيء أعلاه، والجمع ذرا. «القرم»: من الرجال السيد العظيم. «حجاحج»: جمع حجحج وكبش حجحج عظيم. «خضارم»: جمع خضرم وهو الجواد الكثير العطية مشبه بالبحر الخضرم وهو الكثير الماء. «مخزوم»: ابن يقظة بن مرة بن كعب بن غالب أبو حي من قريش منهم هشام بن المغيرة وبنوه. «الهامة»: رأس كل شيء، وهامة القوم: سيدهم ورئيسهم. «وسنام»: كل شيء أعلاه.
ضباعة بنت عامر
هي بنت عامر بن قرط بن سلمة، كانت عند هوذة بن علي بن الحنفي فمات عنها فورثته مالا كثيرا فتزوجها عبد الله بن جدعان التيمي وكان لا يولد له فسألته الطلاق فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة فكان من خيار المسلمين فتوفي عنها هشام، وكانت من أجل نساء العرب وأعظمهن خلقا، وكان يغطى جسدها بشعرها.
سلمة بن هشام
ابن المغيرة القرشي المخزومي وأمه ضباعة بنت عامر وهو ابن عم خالد بن الوليد، أسلم سلمة قديما، وكان من فضلاء الصحابة، وهاجر إلى الحبشة ومنعه الكفار من الهجرة إلى المدينة وعذبوه بمكة في الله عز وجل، وكان رسول الله يدعو في قنوته
99
في الصلاة له ولغيره من المستضعفين ويسميه فيقول: «اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعباس بن أبي ربيعة والمستضعفين
100
من المسلمين.» وهؤلاء الثلاثة من بني مخزوم، وهاجر سلمة بعد الخندق إلى المدينة وشهد غزوة مؤتة،
101
وأقام بالمدينة حتى توفي رسول الله فخرج إلى الشام مجاهدا حين بعث أبو بكر الصديق الجيوش إلى الشام فقتل بمرج الصفر
102
في المحرم سنة أربع عشرة في أول خلافة عمر، وقيل: قتل بأجندين
103
في جمادى الأولى قبل وفاة أبي بكر الصديق بأربع وعشرين ليلة. •••
قالت فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ترقص ولدها عقيلا لما كان طفلا:
104
إن عقيلا كاسمه عقيل
وبيبي الملفف المحمول
أنت تكون ماجد نبيل
إذا تهب شمأل بليل
يعطي رجال الحي أو ينيل
ونقل البغدادي في خزانة الأدب
105
أن الأزدي رواه في كتاب الترقيص: «أنت تكون السيد النبيل.»
التفسير: «بيبي»: هكذا رواها البغدادي والعقد، وأصلها بأبي وخففت، ومعناه يفدى بأبي. «الملفف»: من اللفف وهو تداني الفخذين من السمن، أو هو الذي لف باللفافة. «والمعنى»: بأبي أنت ماجد نبيل تكون، فتكون هنا زائدة لا عمل لها، وكذلك الشأن في الرواية الثانية تقديرها أنت السيد النبيل تكونه، ونبيل: أي عاقل، وقيل: حاذق وقيل: نبيل أي رفيق بإصلاح عظام الأمور. «شمأل»: الشمأل؛ الريح التي تهب من ناحية القطب وفيها خمس لغات شمل وشمل وشمال وشمأل وشأمل والجمع شمالات وشمائل على غير قياس. «بليل»: ريح باردة مع ندى. «ينيل»: من أناله معروفة ونوله أعطاه.
فاطمة بنت أسد
هي بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وأمها فاطمة بنت قيس، وكانت فاطمة بنت أسد زوج أبي طالب بن عبد المطلب فولدت له طالبا وعقيلا وجعفرا وعليا وأم هانئ وجمانة وريطة بن أبي طالب، وأسلمت فاطمة بنت أسد وكانت امرأة صالحة وكان رسول الله يزورها.
عقيل بن أبي طالب
هو أبو يزيد وقيل: أبو عيسى عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المكي ابن عم رسول الله وهو أخو علي وجعفر وطالب لأبيهم، وأمه فاطمة بنت أسد، وكان أسن بني أبي طالب بعد طالب، وكان علي أصغرهم سنا وأولهم إسلاما، حضر بدرا مع المشركين مكرها وأسر يومئذ ففداه عمه العباس ثم أسلم قبل الحديبية وجاء إلى المدينة مهاجرا إلى رسول الله سنة ثمان، وشهد غزوة مؤتة مع أخيه جعفر، ثم رجع فعرض له مرض فلم يسمع له ذكر في فتح مكة ولا غزوة حنين والطائف، وأعطاه النبي من خيبر مائة وأربعين وسقا
106
كل سنة، وكان من أنسب
107
قريش وأعلمهم بآبائها وأيامها، وكان سريع الجواب المسكت للخصم، روى عن النبي وروى عنه ابنه محمد وابن ابنه عبد الله بن محمد بن عقيل والحسن البصري وغيرهم، توفي في خلافة معاوية وقد كف بصره ودفن بالبقيع، وكان لعقيل من الأولاد: مسلمة وعبد الله وعبيد الله ومحمد وعبد الرحمن وحمزة وعلي وجعفر وعثمان ويزيد، وبه كان يكنى، وسعد وأبو سعيد ورملة وزينب وفاطمة وأسماء وأم هانئ. •••
قال قيس بن عاصم المنقري وأخذ صبيا من أمه يرقصه وأمه منفوسة بنت زيد الفوارس والصبي هو حكيم ابنه:
108
أشبه أبا أمك أو أشبه عمل
ولا تكونن كهلوف وكل
يصبح في مضجعه قد انجدل
وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل
وجاء برواية أخرى: أو أشبه حمل في حرف حمل من لسان العرب.
التفسير: «أبو أمه»: هو زيد الفوارس وهو من أكبر بيوتات العرب كما سيجيء. «عمل»: قيل: هو اسم رجل وهو خاله يقول: لا تجاوزنا في الشبه. «الهلوف»: الثقيل البطيء الذي لا غناء عنده، «وكل»: الوكل الذي يكل أمره إلى غيره. «مضجعه»: المضجع مكان الاضطجاع، واضطجع: قام، وقيل: استلقى ووضع جنبه بالأرض. «انجدل»: الجدل؛ الصرع وجدله جدلا وجدله فانجدل، وقيل للصريع: مجدل لأنه يصرع على الجدالة وهي الأرض. «زنأ في الجبل»: زنأ يزنأ زنأ وزنوءا صعد فيه.
قيس بن عاصم الصحابي
هو أبو علي وقيل: أبو طلحة وقيل: أبو قبيصة التميمي المنقري، وفد على النبي
صلى الله عليه وسلم
في وفد بني تميم سنة تسع من الهجرة وأسلم، وكان قيس عاقلا حليما مشهورا بالحلم، وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ فقال: من قيس بن عاصم؛ رأيته يوما قاعدا محتبيا
109
بفنائه
110
يحدث قومه فأتي برجل مكتوف وآخر مقتول فقيل: هذا ابن أخيك قتل ابنك، فوالله ما حل حبوته
111
ولا قطع كلامه فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه، وقال: يا ابن أخي بئس ما فعلت أثمت عند ربك وقطعت رحمك وقتلت ابن عمك ورميت نفسك بسهمك وقللت عددك، ثم قال لابن له آخر: قم إلى ابن عمك فحل كتافه ووار أخاك وسق إلى أمك مائة من الإبل دية ابنها لأنها غريبة، وكان قيس حرم الخمر في الجاهلية، وكان جوادا، روى عن النبي أحاديث وروى عنه الأحنف بن قيس والحسن البصري وابنه حكيم بن قيس، وأوصى قيس بن عاصم بنيه عند موته: يا بني سودوا عليكم أكبركم فإن القوم إذا سودوا عليهم أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا سودوا أصغرهم أذري بهم عند أكفائهم، وعليكم بالمال واصطناعه فإنه مأبهة
112
للكريم ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس فإنها من آخر مكسبة الرجل، ولا تنوحوا علي فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم ينح عليه، ولا تدفنوني حيث تشعر بي بكر بن وائل فإني كنت أغاولهم
113
في الجاهلية، ونزل قيس البصرة ومات بها فرثاه عبدة بن الطيب بقوله:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
وقالت أمه منفوسة ترد على أبيه
114
قيس بن عاصم:
أشبه أخي أو أشبهن أباكا
أما أبي فلن تنال ذاكا
تقصر أن تناله يداكا
التفسير:
يقول قيس بن عاصم لابنه حكيم: أشبه أبا أمك أو أشبه خالك «عمل»، فترد عليه زوجه منفوسة بنت زيد الفوارس وهي ترقص وتقول له: أشبه أخي أو أشبه أباك، أما أبي فلن تشبهه بحال ما فإنك تقصر عن نيل ذلك الشرف.
منفوسة
بنت زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي، كان من أكبر الفرسان ومن أكبر بيوتات العرب، وشهد يوم القرنتين
115
ومعه ثمانية عشر من ولده يقاتلون معه وزيد كان فارسهم؛ ولذلك قيل له: زيد الفوارس. •••
في الحديث مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بجارية سوداء ترقص صبيا لها وتقول:
116
ذؤال يا ابن القرم يا ذؤاله
يمشي الثطا ويجلس الهبنقعه
فقال عليه السلام: لا تقولي ذؤال فإنه شر السباع.
التفسير: «ذؤال»: تصغير ذؤالة وهو الذئب. «القرم»: السيد. «يمشي الثطا»: أي يخطو كما يخطو الصبي أول ما يدرج. «الهبنقعة»: الأحمق، أرادت أنه يمشي مشي الصبيان ويجلس كما يجلس الحمقى. •••
كانت أم الأحنف بن قيس ترقصه بقولها:
117
والله لولا حنف في رجله
ودقة في ساقه من هزله
وقلة أخافها من نسله
ما كان في فتيانكم من مثله
118
التفسير: «الحنف»: أن تقبل الرجل بالإبهام على الأخرى. «الهزل»: والهزل والهزال؛ نقيض السمن.
الأحنف بن قيس
المضروب به المثل في الحلم والسيادة، واسمه الضحاك وقيل: صخر بن قيس، ويكنى أبا بحر، وأمه من بني قراض من باهلة، أدرك النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولم يره، ودعا له، حدث الأحنف قال: بينما أنا أطوف بالبيت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ لقيني رجل أعرفه فأخذ بيدي فقال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى، قال: أما تذكر إذ بعثني رسول الله إلى قومك بني سعد أدعوهم إلى الإسلام فجعلت أدعوهم وأعرض عليهم الإسلام، فقلت أنت : إنه ليدعو إلى خير ولا أسمع إلا حسنا، قال: فإني رجعت إلى النبي فأخبرته بمقالتك، فقال: اللهم اغفر للأحنف، فما شيء أرجى لي منها، وكان أحنف الرجلين جميعا، وكانت أمه ترقصه وتقول: والله لولا حنف في رجله؛ ولذلك سمي الأحنف، وكان ضئيلا أصلع الرأس متراكب الأسنان باخق العينين، وقد ساد بعقله وحلمه حتى كاد يجرد لأمره مائة ألف سيف، وكان أمراء الأنصار يلتجئون إليه في المهمات، وقيل للأحنف: يا أبا بحر إن فيك أناة شديدة، قال: «قد عرفت من نفسي عجلة في أمور ثلاثة: في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها، وجنازتي إذا حضرت حتى أغيبها في حفرتها، وابنتي إذا خطبها كفيئها حتى أزوجه.» ومن كلامه: «لا خير في لذة تعقب ندما.» «لن يفتقر من زهد.» «اقبلوا عذر من اعتذر.» «ما أقبح القطيعة بعد الصلة.» «أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك.» «لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان.» «اعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك.»
119 «أنفق في حق ولا تكونن خازنا لغيرك.» «لا راحة لحسود ولا مروءة لكذوب.» وقال يوما: «ما رددت عن حاجة قط.» فقيل له: ولم؟ قال: «لأني لا أطلب المحال.» وقال: «ما نازعني أحد إلا وأخذت في أمره بثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.» ومات الأحنف بن قيس بالكوفة سنة تسع وستين، وخرج مصعب بن الزبير والي الكوفة في جنازته ماشيا بغير إزار، وهو أول وال فعل ذلك في جنازة كبير، ولما وضع في قبره قامت امرأة له فقالت: «لله درك من مدرج في كفن نسأل الله الذي ابتلانا بفقدك أن يوسع لحدك ويكون لك يوم حشرك، أما والذي كنت من أمره إلى مدة لقد عشت حميدا مودودا ومت شهيدا مفقودا، ولقد كنت من الناس قريبا وفي الناس غريبا، رحمنا الله وإياك في الدنيا والآخرة وتوفانا بعدك مسلمين.» •••
قالت أعرابية ترقص ولدها:
120
يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامى في البلد
أهكذا كل ولد
أم لم يلد قبلي أحد
التفسير: «حبذا»: حب بمنزلة نعم، وذا اسم إشارة فاعل. «الريح»: نسيم كل شيء. «الخزامى»: قال أبو حنيفة: عشبة طويلة العيدان صغيرة الورق حمراء الزهر طيبة الريح لها نور كنور البنفسج، قال: ولم تجد من الزهر زهرة أطيب نفحة من نفحة الخزامى، واسمها العلمي
Lavandula vera . •••
قال ابن العديم: قرأت بخط علي بن هليل الكاتب أخبرنا عبد الله الفارسي قال: دخلت على ابن السراج وفي حجره ولد له وهو يقول:
121
أحبه حب الشحيح ماله
قد كان ذاق الفقر ثم ناله
إذا يريد بذله بدا له
التفسير: «الشح»: حرص النفس على ما ملكت وبخلها به، شح يشح شحا فهو شحيح. «ذاق الفقر»: أي كان الشحيح قد ذاق الفقر. «ثم ناله»: أي نال المال بعد الفقر. «إذا يريد بذله»: أي بذل المال. «بدا له»: أي ظهر الفقر أمامه.
ابن السراج
محمد بن السري البغدادي النحوي أبو بكر بن السراج، قال المرزباني: كان أحدث أصحاب المبرد سنا مع ذكاء وفطنة، وكان المبرد يميل إليه ويقربه فقرأ عليه كتاب سيبويه ثم اشتغل بالمنطق والموسيقى، فسئل عن مسألة بحضرة الزجاج فأخطأ في جوابها فوبخه الزجاج وقال: مثلك يخطئ في هذه المسألة؟ والله لو كنت في منزلي ضربتك ولكن المجلس لا يحتمل ذلك، وما زلنا نشبهك في الذكاء بالحسن بن رجاء، فقال: قد ضربتني يا أبا إسحاق وكان علم الموسيقى قد شغلني، ثم رجع إلى الكتاب ونظر في دقائق مسائله وعول على مسائل الأخفش والكوفيين وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة، ويقال: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله، أخذ عنه أبو القاسم الزجاجي والسيرافي والفارسي والرماني، وانتهت إليه الرياسة بعد موت الزجاج ولم تطل مدته، ومات شابا في ذي الحجة سنة 316ه، وله من الكتب: كتاب الأصول الكبير، وجمل الأصول، والموجز، وشرح سيبويه، واحتجاج القراء والشعر والشعراء والجمل والرياح والهواء والنار، والخط والهجاء والمواصلات في الأخبار والمذاكرات والاشتقاق لم يتم. •••
قيل: إن سعادة المرء أن يشبهه ابنه؛ ولذا قيل: فلان ينظر عن عين أبيه ويبطش بيديه، فكان سعيد بن صحصحة يرقص ابنه فيقول:
122
أحب ميمون أشد حب
أعرف منه شبهي ولبي
ولبه أعرف منه ربي
التفسير: «الشبه» والشبه والشبيه: المثل. «لب الرجل»: ما جعل في قلبه من العقل.
سعيد بن صحصحة
لم أعثر له على ترجمة. •••
كان عثمان بن عفان محببا في قريش يوصون إليه ويعظمونه، وكانت المرأة في قريش ترقص ولدها وهي تقول:
123
أحبك والرحمن
حب قريش عثمان
إذ دعا بالميزان
التفسير: «إذ دعا»: أي نادى. «بالميزان»: أعني العدل، الواو في والرحمن للقسم: أي أحبك أقسم بالرحمن.
عثمان بن عفان
أمير المؤمنين ويقال له: أبو عبد الله وأبو ليلى، وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي الأموي المكي ثم المدني، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولد عثمان في السنة السادسة بعد الفيل وأسلم عثمان قديما، دعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، هاجر بزوجته رقية بنت رسول الله الهجرتين الأولى إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة، ويقال لعثمان ذو النورين؛ لأنه تزوج بنتي رسول الله إحداهما بعد الأخرى؛ تزوج رقية قبل النبوة وتوفيت عنده في أيام غزوة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وكان تأخر عن بدر لتمريضها بإذن رسول الله فجاء البشير بنصر المؤمنين ببدر يوم دفنوها بالمدينة، ثم تزوج بعد وفاتها أختها أم كلثوم بنت رسول الله وتوفيت عنده سنة تسع من الهجرة، بويع له بالخلافة يوم السبت غرة المحرم سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بثلاثة أيام، وهو يومئذ ابن تسع وستين سنة، وفي زمان عثمان كانت أول غزوة غزيت الري ثم غزوة الإسكندرية ثم سابور ثم إفريقية ثم قبرص ثم سواحل بحر الروم وإصطخر الآخرة وفارس الأولى ثم خوز وفارس الآخرة ثم طبرستان ودارابجرد وكرمان وسجستان ثم الأساورة
124
في البحر وغيرهن، ثم مرو على يد عبد الله بن عامر سنة أربع وثلاثين، ثم حصر في داره عشرين يوما وقيل: أكثر من ذلك، وقتل شهيدا يوم الجمعة لثمان خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وقيل: يوم الأربعاء وهو ابن تسعين سنة، وقيل: أقل من ذلك قليلا «82 سنة»، ودفن بالبقيع ليلا بأرض يقال لها: حش كوكب
125
كان عثمان اشتراها وزادها بالبقيع، وأخفي قبره للعجز عن إظهار دفنه بسبب غلبة قاتليه، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا ليال.
وكان مما نقموا على عثمان أنه آوى الحكم بن أبي العاص وأعطاه مائة ألف درهم وقد سيره رسول الله ثم لم يؤوه أبو بكر ولا عمر. قالوا: وتصدق رسول الله بمهزور
126
موضع سوق المدينة على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان، وأقطع فدك
127
مروان وهي صدقة رسول الله، وافتتح إفريقية فأخذ الخمس فوهبه كله لمروان، وطلب إليه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم، وسير أبا ذر إلى الربذة،
128
وسير عامر بن عبد القيس من البصرة إلى الشام فسار إليه قوم من أهل مصر فيهم محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة في جند وكتامة بن بشر التجيبي في جند وابن عديس البلوي في جند، ومن أهل البصرة حكيم بن جبلة العبدي وسدوس بن عبيس الشني ونفر من أهل الكوفة منهم الأشقر بن الحارث النخعي فاستعتبوه فأعتبهم
129
وأرضاهم، ثم وجدوا بعد أن انصرفوا يريدون مصر كتابا من عثمان عليه خاتمه إلى أمير مصر: إذا أتاك القوم فاضرب رقابهم، فعادوا به إلى عثمان فحلف أنه لم يأمر ولم يعلم، قالوا: إن هذا عليك شديد يؤخذ خاتمك بغير علمك وداخلتك فإن كنت قد غلبت على أمرك فاعتزل، فأبى أن يعتزل وأن يقاتلهم ونهى عن ذلك وأغلق بابه، فحوصر عشرين يوما وهو في الدار في ستمائة رجل ثم دخلوا عليه في دار بني حزم الأنصاري فضربه نيار بن عياض الأسلمي بمشقص في وجهه فسال الدم على المصحف في حجره، ثم أخذ محمد بن أبي بكر بلحيته فقال: دع لحيتي ثم أجهزوا عليه.
قال الفرزدق في رثائه:
عثمان إذ قتلوه وانتهكوا
دمه صبيحة ليلة النحر
وقال آخر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقد حج عثمان بن عفان بالناس عشر سنين متوالية، وكان حسن الوجه رقيق البشرة كث اللحية أسمر كثير الشعر، بين الطويل والقصير وكان في قريش محببا، قال ابن قتيبة: «كان لعثمان بن عفان من الأولاد: عبد الله الأكبر وأمه فاختة بنت غزوان، وعبد الله الأصغر وأمه رقية بنت رسول الله، وعمر وأبان وخالد وعمرو وسعد والوليد والمغيرة وعبد الملك وأم سعيد وأم أبان وأم عمر وأم عائشة.»
وعثمان بن عفان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد المنفقين في سبيل الله الإنفاق العظيم، وأحد أصحاب رسول الله. •••
قال رجل يرقص ابنه وهو غير مشبه أباه:
130
والله ما أشبهني عصام
لا خلق منه ولا قوام
التفسير: «الخلق»: الخليقة وهو الطبيعة وفي التنزيل:
وإنك لعلى خلق عظيم ، جمعه أخلاق والخلق والخلق: هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه بصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق بصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها. «قوام الرجل»: قامته وحسن طوله. •••
قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت امرأة من حمير ترقص ابنها فتقول:
131
يا ربنا من سره أن يكبرا
فهب له أهلا ومالا حيرا
التفسير: «أهل الرجل»: عشيرته وذوو قرباه. «الحير» والحير: الكثير من المال والأهل.
وفي رواية: «فسق إليه رب مالا حيرا.» •••
قالت أعرابية وهي تزفن ابنا لها وتقول:
132
يا قوم ما لي لا أحب عنجده
وكل إنسان يحب ولده
حب الحبارى ويذب عنده
التفسير: «العنجد»: الزبيب، وعنجد وعنجدة اسمان. «الحبارى»: طائر يقع على الذكر والأنثى، واحدها وجمعها سواء، وفي المثل: «كل شيء يحب ولده حتى الحبارى»؛ لأنها يضرب بها المثل في الموق - والموق : الحمق في غباوة - فهي على موقها تحب ولدها وتعلمه الطيران. «يذب»: الذب؛ الدفع والمنع، «عنده»: عند الرجل يعند عندا وعنودا وعندا؛ عتا وطغا وجاوز قدره، والعند: الاعتراض ، فيذب عنده أي يدفع معارضته شفقة عليه. •••
وقال رجل يرقص ابنته:
133
بنيتي ريحانة أشمها
فديت بنتي وفدتني أمها
التفسير: «بنية»: تصغير ابنة. «فديت بنتي»: أي أفدي بنتي بنفسي وأمها تفديني بنفسها وذلك تكبيرا للبنت. •••
كانت أم الفرزدق ترقصه وهي تقول:
قصصت رؤياي على ذاك الرجل
فقال لي قولا وليت لم يقل
لتلدن عضلة من العضل
ذا منطق جزل إذا قال فصل
مثل الحسام العضب ما مس قصل
يعدل ذا الميل ولما يعتدل
ينهل سما من يعادي ويعل
التفسير: «عضلة من العضل»: أي داهية من الدواهي. «جزل»: كلام جزل أي قوي شديد جيد الرأي. «الحسام العضب»: السيف القاطع. «قصل»: القصل: قطع الشيء من وسطه أو أسفل من ذلك قطعا وحيا. «يعدل»: كل ما أقمته فقد عدلته أي يعدل كل من يميل عن الحق. «ينهل»: النهل: الشرب، تقول: أنهلت الإبل وهو أول سقيها. «يعل»: العل والعلل: الشربة الثانية، ويقال: الشرب بعد الشرب تباعا، يقال: علل بعد نهل، وعله يعله ويعله إذا سقاه السقية الثانية.
الفرزدق
هو همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي الشاعر صاحب جرير، وسمي الفرزدق؛ لجهامة وجهه لأن الفرزدق القطعة الضخمة من العجين، وكنيته أبو فراس، كان مع تقدم في الشعر وبلاغة فيه إلى الذروة العليا شريف الآباء كريم البيت مائلا لبني هاشم، رجع في آخر عمره عما كان عليه من الفسق والقذف وراجع طريق الدين، وكانت له بالله ثقة كبيرة وراجعه رجل في ذلك فقال: أتروني لو أذنبت إلى والدي أكانا يقذفاني في تنور وتطيب أنفسهما بذلك؟ قال: لا، بل كانا يرحمانك، فقال: أنا والله برحمة الله أوثق مني برحمتهما، وقيل: إنه كان يخرج من منزله فيرى بني تميم وفي حجورهم المصاحف فيفرح بذلك ويقول: إيه فداكم أبي وأمي هكذا والله كان آباؤكم، ويستدل على حبه لبني هاشم وتشيعه لهم بحكايته مع هشام بن عبد الملك؛ وذلك أن هشاما حج في خلافة أبيه فأراد أن يستلم الحجر فلم يتمكن لازدحام الناس فجلس ينتظر خلوه فأقبل علي بن الحسين - رضي الله عنه - وعليه إزار ورداء وهو من أحسن الناس وجها وبين عينيه سجاوة،
134
فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ الحجر تنحى الناس له هيبة وإجلالا؛ فغاظ ذلك هشاما فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي هابته الناس؟ فقال هشام: لا أعرفه؛ لئلا يرغب فيه أهل الشام، قال الفرزدق وكان حاضرا: لكني أنا أعرفه، فقيل له: من هو؟ فأنشد يقول:
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق.
وله كثير من الأخبار المستظرفة يضيق بنا المقام عن ذكرها، ومات الفرزدق سنة عشر ومائة. •••
قال أعرابي وهو يرقص ولده:
135
أعرف منه قلة النعاس
وخفة من رأسه في راسي
وقيل: «من رأسه لراسي.»
التفسير: «قلة النعاس»: كناية عن النشاط واليقظة والكلب يوصف بكثرة النعاس، وفي المثل مطل كنعاس الكلب أي متصل دائم. •••
قدم عبد الله بن الحارث حاجا فأتى ابن عمر فسلم والقوم جلوس فلم يره بش به كما كان يفعل، فقال عبد الله بن الحارث: يا أبا عبد الرحمن - كنية عبد الله بن عمر بن الخطاب - أما تعرفني؟ قال: بلى، ألست ببه؟ قال: فشق ذلك عليه وتضاحك القوم، ففطن عبد الله بن عمر فقال: إن الذي قلت لا بأس به ليس يعيب الرجل إنما كان غلاما خادرا
136
وكانت أمه تنزيه - أو تنزيه
137 - فتقول:
138
لأمنحن ببه ... إلخ.
قالت هند بنت أبي سفيان ترقص ابنها عبد الله بن الحارث:
139
لأمنحن ببه جارية خدبه
مكرمة محبه
تجب أهل الكعبه
التفسير: «ببه»: الببة: السمين، وقيل: الشاب الممتلئ نعمة، ولقب به عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب والي البصرة لابن الزبير كانت أمه هند لقبته به في صغره لكثرة لحمه. «الجارية»: فتية النساء. «خدبه»: ضخمة. «محبه»: أي محبوبة. «تجب»: جبت فلانة النساء تجبهن غلبتهن من حسنها، تجب أهل الكعبة أي تغلب نساء قريش في حسنها، وجابت المرأة صاحبتها فجبتها حسنا؛ أي فاقتها بحسنها.
هند بنت أبي سفيان
هي بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية، وأمها صفية بنت أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، تزوجها الحارث بن نوفل بن الحارث فولدت له عبد الله ومحمدا الأكبر وربيعة وعبد الرحمن ورملة وأم الزبير.
عبد الله بن الحارث
ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية، ولد عبد الله بن الحارث على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
فأتت به أمه هند بنت أبي سفيان أختها أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ، فدخل عليها رسول الله فقال: ما هذا يا أم حبيبة؟ قالت: هذا ابن عمك وابن أختي هذا ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وابن هند بنت أبي سفيان بن حرب، فتفل النبي في فيه ودعا له، وتزوج عبد الله بن الحارث خالدة بنت معتب بن أبي لهب بن عبد المطلب، وكان عبد الله بن الحارث يكنى أبا محمد، وسمع من كثير من الصحابة، وكان ثقة كثير الحديث، وكان قد تجول إلى البصرة مع أبيه وابتنى بها دارا، وكان يلقب ببه، فلما كان أيام مسعود بن عمرو وخرج عبيد الله بن زياد عن البصرة واختلف الناس بينهم وتداعت القبائل والعشائر أجمعوا أمرهم فولوا عبد الله بن الحارث بن نوفل صلاتهم وفيئهم
140
وكتبوا بذلك إلى عبد الله بن الزبير: إنا قد رضينا به، فأقره عبد الله بن الزبير على البصرة وصعد عبد الله بن الحارث بن نوفل المنبر فلم يزل يبايع الناس لعبد الله بن الزبير حتى نعس فجعل يبايعهم وهو نائم مادا يده، فقال سحيم بن وثيل اليربوعي:
بايعت أيقاظا وأوفيت بيعتي
وببة قد بايعته وهو نائم
فلم يزل عبد الله بن الحارث عاملا لعبد الله بن الزبير على البصرة سنة، ثم عزل، واستعمل الحارث عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وخرج عبد الله بن الحارث بن نوفل إلى عمان فمات بها.
عبد الله بن عمر بن الخطاب
ابن نفيل بن عبد العزى المدني الصحابي الزاهد، وأمه زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة، كان إسلامه بمكة مع أبيه وهو صبي، وهاجر قبل أبيه، وأجمعوا أنه لم يشهد بدرا لصغره، وقيل: شهد أحدا، قال: عرضت على النبي
صلى الله عليه وسلم
عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله، وشهد غزوة مؤتة واليرموك وفتح مصر وفتح إفريقية، وكان شديد الاتباع لآثار رسول الله؛ حتى إنه ينزل منازله ويصلي في كل مكان صلى فيه ويبرك ناقته في مبرك ناقته، ونقلوا أن النبي نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس.
روي له عن النبي أحاديث كثيرة، وروى عنه أولاده الأربعة وخلائق لا يحصون من كبار التابعين، ومناقبه كثيرة مشهورة، بل قل نظيره في المتابعة لرسول الله في كل شيء من الأقوال والأفعال، وفي الزهادة في الدنيا ومقاصدها والتطلع إلى الرياسة وغيرها، روي عن الزهري قال: لا يعدل برأي ابن عمر؛ فإنه أقام بعد رسول الله ستين سنة فلم يخف عليه شيء من أمره ولا من أمر أصحابه، وشهد النبي أن عبد الله بن عمر رجل صالح وكان كثير الصدقة وكان إذا اشتد عجبه بشيء من ماله تقرب به إلى الله تعالى، وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه فربما لزم أحدهم المسجد فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له، وكان كثير الحج، قال ابن عمر: البر شيء هين؛ وجه طلق وكلام لين، ولم يقاتل في الحروب التي جرت بين المسلمين، وكان ابن عمر يسرد الصوم أي يصوم الأبد، وابن عمر أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن النبي، وهم: أبو هريرة وابن عمر وأنس وابن عباس وجابر وعائشة، توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين بعد الحج، ويزعمون أن الحجاج دس رجلا فسم زج رمحه فرجمه في الطريق وطعنه في ظهر قدمه فدخل عليه الحجاج، فقال: يا أبا عبد الرحمن من أصابك؟ قال: أنت أصبتني، قال: لم تقول هذا رحمك الله؟ قال: حملت السلاح في بلد لم يكن يحمل فيه السلاح، ودفن عبد الله بن عمر بالمحصب
141
وقيل: بفخ
142
في مقبرة المهاجرين بقرب مكة، وكان يوم مات ابن أربع وثمانين سنة، وهو آخر من مات بمكة من الصحابة. •••
إن مضر يقولون: إن أم مسعود بن عمرو كانت ترقصه وتقول:
143
لأمنحن ببه
جارية في قبه
تمشط رأس لعبه
التفسير: «ببه»: تقدم شرحها. «الجارية»: فتية النساء. «القبه»: من الخباء بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب، والقبة من البناء معروفة وقيل: هي البناء من الأدم خاصة، والقبة: ما يرفع للدخول فيه ولا يختص بالبناء، «تمشط»: مشط شعره يمشطه مشطا: رجله. «لعبه»: اللعبة: ما يلعب به، واللعبة: التمثال.
مسعود بن عمرو
ابن عدي بن محارب كان سيد الأزد وهو الذي أجار عبيد الله بن زياد أخا المهلب بن أبي صفرة لأمه أيام الفتنة، وقتله بنو تميم، وذلك أنه لما مات يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد بالبصرة كتب إليه الحارث بن عباد بن زياد بهذه الأبيات:
ألا يا عبيد الله قد مات من به
ملكت رقاب العالمين يزيد
أتثبت للقوم الذين وترتهم
وذاك من الرأي الزنيق بعيد
وما لك غير الأزد جار فإنهم
أجاروا أباك والبلاد تميد
فتعجب عبيد الله من رأي ابن أخيه ودعا بمولى له يسمى مهران فقال: يا مهران إن أمير المؤمنين يزيد قد هلك فما الرأي عندك؟ فقال مهران: أيها الأمير إن الناس إن ملكوا أنفسهم لم يولوا عليهم أحدا من ولد زياد وإنما ملكتم الناس بمعاوية ثم بيزيد وقد هلكا، وإنك قد وترت الناس ولست آمن أن يثبوا بك، والرأي لك أن تستجير هذا الحي من الأزد؛ فإنهم إن أجاروك منعوك حتى يبلغوا بك مأمنك، والرأي أن تبعث إلى الحارث بن قيس فإنه سيد القوم وهو لك محب ولك عنده يد فتخبره بموت يزيد وتسأله أن يجيرك؛ ثم بعث عبيد الله من ساعته إلى الحارث بن قيس فأتاه فاستشاره فقال: المستشار مؤتمن، فإن أردت المقام منعناك معاشر الأزد وإن أردت الاستخفاء اشتملنا عليك حتى يسكن عنك الطلب ويخفى على الناس موضعك ثم نوجه معك من يبلغك مأمنك، فقال عبيد الله: هذا أريد، فأقام الحارث عنده إلى أن أمسي واختلط الظلام، وكان الحارث قد أمر عبيد الله بن زياد بأن توقد السرج في منزله ليلته كلها؛ ليظن من يطلبه أنه في منزله، وانطلق ابن الحارث إلى الحي وسارا حتى انتهيا إلى الأزد وأقحم الحارث بعبيد الله دار مسعود بن عمرو، وكان رئيس الأزد كلها بعد المهلب بن أبي صفرة وكان المهلب في ذلك الوقت بخراسان، فقال الحارث لمسعود: يا ابن عم هذا عبيد الله بن زياد قد أجرته عليك وعلى قومك، قال مسعود: أهلكت قومك يا ابن قيس وعرضتنا لحرب جميع أهل البصرة، ولما خرج عبيد الله بن زياد من البصرة شاع بها أن عبيد الله كان عند الأزد، فأقبل رجل من الخوارج ليلا فجلس لمسعود بن عمرو فلما خرج لصلاة الفجر وثبت عليه بسكين فقتله، فاجتمعت الأزد وقالوا: والله ما قتله إلا بنو تميم ولنقتلن سيدهم الأحنف بن قيس، فقال الأحنف لقومه: إن الأزد قد اتهموكم في قتل صاحبهم وقد استغنوا بالظن عن اليقين، ولا بد من غرم عقله، فجمعوا ألف ناقة ووجهوا بها إلى الأزد وكانت دية الملوك فرضيت الأزد وكفوا، وكان قتل مسعود بن عمرو في أول شوال سنة أربع وستين، ولما علم عبيد الله بن زياد بقتل مسعود ركب ولحق بالشام، وقيل: إنه لما استجار عبيد الله بن زياد بمسعود بن عمرو أجاره ثم سار ابن زياد إلى الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتى قدموا به إلى الشام. •••
كان رجل من طي يقطع الطريق فمات وترك بنيا رضيعا فجعلت أمه ترقصه وتقول:
144
يا ليته ما قطع الطريقا
ولم يرد في أمره رفيقا
وقد أخاف الفج والمضيقا
فقل أن كان به شفيقا
التفسير: «الفج»: الطريق الواسع في الجبل. «المضيق»: ما ضاق من الأماكن.
في حب البنات والاعتذار عنهن
ولدت لأعرابية بنية فأخذت ترقصها وتقول:
145
وما علي أن تكون جاريه
تكنس بيتي وترد العاريه
تمشط رأس وتكون الفاليه
وترفع الساقط من خماريه
حتى إذا ما بلغت ثمانيه
رديتها ببردة يمانيه
زوجتها مروان أو معاويه
أصهار صدق ومهور غاليه
وقيل في البيت الأخير: عتبة أو معاوية، وأختان صدق بدلا من أصهار.
التفسير: «العارية»: بالتخفيف في الياء وأصلها مشددة العارية منسوب إلى العارة: وهو اسم من الإعارة تقول: أعرته الشيء أعيره إعارة وعارة كلها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب. «والفالية»: فلا رأسه يفلوه ويفليه فلاية وفلاه: بحثه عن القمل والمرأة فالية. «خماريه»: الخمار: ما تغطي به المرأة رأسها. «رديتها»: كسوتها. «البردة»: كساء مربع أسود فيه صغر تلبسه الأعراب. «أصهار»: جمع صهر وهم أهل بيت المرأة ولا يقال لأهل بيت الرجل إلا أختان، والمعنى هنا في البيت يقتضي أن تستبدل أختان من أصهار فتكون صحة الشطر أختان صدق ... إلخ، كما جاء في مادة ختن من لسان العرب.
مروان
ابن الحكم: هو أبو عبد الملك وقيل: أبو القاسم وقيل: أبو الحكم مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي هو ابن عم عثمان بن عفان بن أبي العاص، ولد مروان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بمكة وقيل: بالطائف سنة ثنتين من الهجرة، قيل: ولد يوم أحد وقيل: يوم الخندق، ولم يسمع بالنبي
صلى الله عليه وسلم
ولا رآه؛ لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل حين نفى النبي
صلى الله عليه وسلم
أباه الحكم فكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان - رضي الله عنه - فردهما، واستكتب عثمان مروان ثم استعمله معاوية على المدينة ومكة والطائف، ثم عزله عن المدينة سنة ثمان وأربعين واستعمل عليها سعيد بن العاص، ولما مات معاوية بن يزيد ولم يعهد إلى أحد بايع بعض الناس بالشام مروان بن الحكم بالخلافة، وبايع الضحاك بن قيس الفهري بالشام لعبد الله بن الزبير فالتقيا واقتتلا بمرج راهط عند دمشق فقتل الضحاك، واستقام الأمر لمروان بالشام ومصر، قال ابن قتيبة: بويع بالجابية،
146
وكانت ولايته عشرة أشهر، وتوفي بالشام سنة خمس وستين، وكان له من الأولاد: عبد الملك ومعاوية وعبيد الله وعبد الله وأبان وداود وعبد العزيز وعبد الرحمن وبشر ومحمد وأم عمرو وأم عثمان وعمرة.
كراهة البنات
تزوج شيخ من الأعراب جارية من رهطه وطمع أن تلد له غلاما، فولدت له جارية فهجرها وهجر منزلها وصار يأوي إلى غير بيتها فمر بخبائها بعد حول وإذا هي ترقص بنيتها منه وهي تقول:
147
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبل رأس امرأته وابنتها.
التعريض بين الزوجين
قالت امرأة وقد رقصت ابنها وعرضت بزوجها:
148
وهبته من ذي ثفال خب
يقلب عينا مثل عين الضب
ليس بمعشوق ولا محب
التفسير: «وهبته»: أي أعطيته أياي يا الله، وإن قرئ وهبته يكون معناه: وهبه الله لي. «الثفال»: البطيء الثقيل الذي لا ينبعث إلا كرها. «الخب»: الخداع الذي يسعى بين الناس بالفساد. «عين الضب»: شبهته بالضب في خدعته يقال: «أخدع من ضب»، وامرأة خبة ضبة، «المعشوق»: من العشق وهو فرط الحب في عفاف. •••
فقال زوجها يرد عليها وأخذ يرقص ابنه:
149
وهبته من سلفع أفوك
سرح إلى جارتها ضحوك
ومن هبل قد عسا حنيك
يحمل رأسا مثل رأس الديك
التفسير: «وهبته»: قد شرحناها في القطعة السابقة. «السلفع»: امرأة سليطة جريئة، وقيل: هي البذية الفحاشة القليلة الحياء، وفي حديث أبي الدرداء: «شر نسائكم السلفعة.» وهي الجريئة على الرجال. «أفوك »: رجل أفاك وأفيك وأفوك: كذاب، وسلفع وأفوك يستوي فيهما المذكر والمؤنث، «سرح»: أي سريعة الذهاب إلى جارتها. «ضحوك»: كثيرة الضحك. «الهبل»: الضخم المسن من الرجال والنعام، وأيضا الثقيل المسن الكبير من الناس، «حنيك»: مجرب، والحنيك: الشيخ.
روي أن العجلان بن سحبان كان يرقص بنته ويقول:
وهبتها من قلق نطاقها
مشمر عرقوبها عن ساقها
يكثر في جيرانها إحداقها
التفسير:
وهبت يا رب هذه البنت. «قلق»: مضطرب من القلق وهو الانزعاج والاضطراب كأن حزامها أو ثوبها يضطرب لنحفها. «النطاق»: ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل، ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة فالأسفل ينجر على الأرض. «شمر عن ساقه»: أي خف وجد وشمر الشيء فتشمر: أي قلصه فتقلص، والمعنى أن عرقوبها متقلص عن ساقها دلالة النحف، «الإحداق»: الإحاطة بالشيء والاستدارة.
العجلان بن سحبان
ابن زفر بن إياس وسحبان هو المنسوب إلى وائل باهلة وهو وائل بن معن بن أعصر، وكان سحبان خطيبا بليغا، فضرب به المثل، وابنه عجلان بن سحبان الذي يقول في طلحة الطلحات:
منك العطاء فأعطني
وعلي مدحك في المشاهد
فأخذتها منه أمها وقالت وهي ترقصها:
150
وهبتها من شيخ سوء أنكد
لا حسن الوجه ولا مسود
يأتي الأمر بالدواهي الأبد
ولا يبالي جاره إن يبعد
التفسير: «الشيخ»: الذي استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب. «السوء»: الفجور والمنكر. «أنكد»: كل شيء جر على صاحبه شرا، نكد ينكد نكدا فهو أنكد ونكد. «والأمر»: اسم تفضيل من المرارة ومعناه هنا الشر أي يأتي الشر مصحوبا بالدواهي. «الأبد»: جمع آبدة وهي الداهية تبقى على الأبد. «أن يبعد»: من البعد وهو خلاف القرب، ويكون بمعنى الهلاك وكسرت الدال للروي. •••
فأخذها منها وأرقصها وقال:
وهبتها من ذات خلق سلفع
تواجه القوم بوجه أخدع
من بعد بيضاء لسوأى أربع
يا لهفي من بدل لي موجع
التفسير: «سلفع»: سليطة جريئة. «أخدع»: خدع أي مراوغ. «البيضاء»: الشمس شبهها بالشمس. «سوأى»: رجل أسوأ قبيح والأنثى سوأى قبيحة، «أربع»: جمع ربع وهو المنزل والدار بعينها والوطن متى كان وبأي مكان كان. «يا لهفي»: كلمة يتحسر بها على ما فات، واللهف: الأذى والحزن. «بدل الشيء» وبدله وبديله: الخلف منه. •••
وقال رجل يرقص ابنه ويعرض بزوجه:
وهبته من ذات ضغن خبه
قصيرة الأعضاء مثل الضبه
تعيا كلام البعل إلا سبه
التفسير: «الضغن»: الحقد والعداوة والبغضاء. «الخبة»: الخداعة التي تسعى بين الناس بالفساد. «الضبة»: أنثى الضب دويبة من الحشرات تشبه الورل إلا أن الورل سبط الخلق طويل الذنب، وذنب الضب ذو عقد وأطوله يكون قدر شبر، والعرب تشبه كف البخيل إذا قصر عن العطاء بكف الضب، ورجل خب ضب: منكر مراوغ. «تعيا»: عي وعيي يعيا عن حجته: عجز عنها. «البعل»: الزوج. «إلا سبه» السب: الشتم أي تعجز عن التكلم مع زوجها ولا تعجز عن سبه. •••
فأخذته منه وجعلت ترقصه بقولها:
وهبته من مرعش من الكبر
شرنفح وريده مثل الوتر
بئس الفتى في أهله وفي الحضر
التفسير:
وهبت له هبة إذا أعطيته، ووهب الله له الشيء: أعطاه فالمعنى أعطيته يا الله من مرعش. «مرعش»: الرعش: الرعدة، وارتعش رأس الشيخ: إذا رجف من الكبر، وأرعشه الله: فهو مرعش مرتجف، «الشرنفح»: الخفيف القدمين. «الوريد»: عرق الدم. «الوتر»: شرعة القوس ومعلقها، شبهت أوردته بالوتر؛ أي إنها اشتدت وصلبت حتى صارت كالوتر وهذا الحال لا تكون إلا في الطاعنين في السن. •••
ورقص رجل ولده وهو يقول تعريضا بزوجه:
151
وهبته من سلفع مشان
كذئبة تنبح بالركبان
التفسير: «سلفع»: تقدمت. «المشان»: من النساء السليطة المشاتمة، الركبان، والركب: راكبو الدواب؛ أي كالذئبة لخباثتها تنبح كل سار. •••
ورقصت أم ولدها وهي تقول:
152
وهبته ليس بشمشليق
ولا دحوق العين حندقوق
ولا يبالي الجور في الطريق
التفسير: «الشمشليق»: الخفيف والطويل السمين. «الدحوق»: الرأراء العين. «والحندقوق»: الرأراء العين أيضا، والرأراء: هو الذي يكثر تقليب حدقتيه، ويسمى في اصطلاح الطب
Nystagmus . «الجور»: الميل عن القصد. •••
وقال رجل في ترقيص ابنه يعرض بزوجه:
153
وهبته من وثبى قمطره
مصرورة الحقوين مثل الدبره
التفسير: «وثبى»: مرة وثبى سريعة الوثب. «قمطرة»: قصيرة عريضة، «مصرورة»: الصر: الجمع والشد. «الحقوين»: مثنى حقو: وهو الخصر ومشد الإزار من الجنب. «الدبرة»: النحل والزنابير. •••
إن رجلا كان له ابن من امرأة كبرت فأخذ ابنه يوما يرقصه ويقول:
154
يا حبذا درادرك
فعمدت المرأة إلى حجر فهشمت أسنانها ثم تعرضت لزوجها فقال لها:
أعييتني بأشر فيكف بدردر.
التفسير: «الدرادر»: جمع دردر: وهي مغارز الأسنان. «الأشر»: جدة ورقة في أطراف الأسنان، ومنه قيل: ثغر مؤشر وإنما يكون في أسنان الأحداث تفعله المرأة الكبيرة تتشبه بأولئك، ومنه المثل السائر، أعييتني بأشر فكيف أرجوك بدردر، وهذا رجل يخاطب امرأته يقول: لم تقبلي الأدب وأنت شابة ذات أشر في ثغرك، فكيف الآن وقد أسننت حتى بدت درادرك؟! •••
عمر بن شبه إنما سمي بأبي شبة؛ لأن أمه كانت ترقصه وتقول:
155
بابا وشب وعاش حتى
دب شييخا كبيرا أحنى
التفسير: «بابا»: حكاية صوت صبي وبأبأت الصبي وبأبأت به قلت له: بابا وقالوا: بأبأ الصبي أبوه إذا قال له: بابا، والبأباء ممدود: ترقيص المرأة ولدها تناغيه بهذا الكلام. «شب»: الغلام يشب شبا وشبوبا وشببا، والشباب: الفتاء والحداثة. «دب الشيخ»: أي مشى مشيا رويدا. «شييخا»: تصغير شيخ للتعظيم. «أحنى»: رجل أحنى الظهر أي في ظهره إحديداب.
عمر بن شبة
ويكنى أبا معاذ بن عبيدة بن زيد بن ريطة النميري البصري النحوي أبو زيد، سكن بغداد وكان عمر بصريا مولى لبني نمير شاعرا إخباريا فقيها صاحب عربية وأدب ثقة عالما بالسير وأيام الناس، صادق اللهجة غير مدخول الرواية، روى عن يحيى القطان وغندر وعلي بن عاصم وسواهم، وروى عنه ابن ماجه وأبو العباس الثقفي وأبو نعيم عبد الملك بن محمد الجرجاني وأبو القاسم البغوي وآخرون، وإنما سمي شبة؛ لأن أمه كانت ترقصه وتقول: بابا وشب ... إلخ، وله من الكتب: كتاب الكوفة وكتاب البصرة وكتاب المدينة وكتاب مكة وكتاب السلطان وكتاب مقتل عثمان وكتاب الشعر والشعراء وكتاب الأغاني وكتاب أخبار المنصور وكتاب أشعار السراة وكتاب النسب وكتاب أخبار بني نمير وكتاب ما يستعجم الناس فيه من القرآن ... إلخ، ومات عمر بن شبة بسر من رأى يوم الإثنين لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين، وعمره سبع وثمانون سنة. •••
ومدح أعرابي ابنه فقال:
156
يا حبذا روحه وملمسه
أملح شيء ظلا وأكيسه
الله يرعاه لي ويحرسه
التفسير: «الروح»: نسيم الريح. «أملح»: من الملاحة وهي الحسن. «أكيس»: أفعل من كيس وكيس من الكيس، وهي الخفة والتوقد، ظل كل شيء شخصه. •••
قال الحسن البصري يرقص ابنه:
157
يا حبذا أرواحه ونفسه
وحبذا نسيمه وملمسه
والله يبقيه لنا ويحرسه
حتى يجر ثوبه ويلبسه
التفسير: «أرواحه»: جمع ريح وهي نسيم الهواء، وكذلك نسيم كل شيء.
الحسن البصري
هو الإمام المشهور المجمع على جلالته في كل فن أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار التابعي البصري الأنصاري، وأمه خيرة مولاة لأم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولد الحسن بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر، قالوا: فربما خرجت أمه في شغل فيبكي فتعطيه أم سلمة - رضي الله عنها - ثديها فيدر عليه.
ونشأ الحسن بوادي القرى،
158
وكان فصيحا رأى طلحة بن عبيد الله وعائشة ولم يصح له سماع منهما، وقيل: إنه لقي علي بن أبي طالب ولم يصح، وسمع كثيرا من الصحابيين وخلائق من كبار التابعين وروى عنه خلائق من التابعين وغيرهم، وقال أبو بردة: لم أر من لم يصحب النبي أشبه بأصحابه من الحسن، وكان الحسن جامعا عالما رفيقا فقيها ثقة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما، وقدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه، توفي الحسن ليلة الجمعة في رجب سنة ست عشرة ومائة. •••
ذكر يونس أنه رأى أعرابيا يرقص ابنه وسمعه ينشد هذه الأبيات:
159
يربوع ذا القنازع الدقاق
والودع والأحوية الأخلاق
بي بي أرياقك من أرياقي
وعارض كجانب العراق
التفسير: «اليربوع»: دويبة فوق الجرذ، ويربوع اسم علم. «القنازع»: جمع قنزعة وهي الخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي. «الودع» والودع: مناقيف صغار تخرج من البحر تزين بها العثاكيل، وهي خرز بيض جوف في بطونها شق كشق النواة تتفاوت في الصغر والكبر، وذو الودع: الصبي لأنه يقلدها ما دام صغيرا . «الأحوية»: جمع حواء وهي أخبية يدانى بعضها من بعض أو هي جماعة بيوت الناس إذا تدانت وهي من الوبر. «الأخلاق»: جمع خلق أي بال يستوي فيه المذكر والمؤنث، ثوب خلق وملحفة خلق والجمع أخلاق وخلقان وقد يقال: ثوب أخلاق يصفون به الواحد إذا كانت الخلوقة فيه كله. «بي بي»: بفتح الياء الأولى أي بنفسي أنت أفديك أو بيبي أي بأبي للتخفيف ومعناها أفديك بأبي، «أرياقك»: جمع ريق: وهو الرضاب أو ماء الفم غدوة قبل الأكل. «العارض»: ما بين الثنايا والأضراس ومنه قيل للمرآة: مصقول عوارضها. «كجانب العراق»: شبه أسنانه في حسن نبتتها واصطفافها على نسق واحد بعراق المزادة؛ لأن خرزه متسرد مستو، والعراق: الخرز المثني في أسفلها، وقيل: عراق القربة: الخرز الذي في وسطها.
يونس بن حبيب الضبي
أبو عبد الرحمن، بارع في النحو، من أصحاب أبي عمرو بن العلاء، سمع من العرب وروى عن سيبويه فأكثر وله قياس في النحو ومذاهب ينفرد بها، سمع من الكسائي والفراء، وكانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم وطلاب الأدب وفصحاء الأعراب والبادية، قارب يونس تسعين سنة ولم يتزوج ولم يتسر، ومولده سنة تسعين، مات سنة ثنتين وثمانين ومائة في خلافة هارون الرشيد. •••
ذكر ابن الأعرابي أن أعرابيا رقص ابنه فقال:
160
وابأبي أرواح نشر فيكا
كأنه وهن لمن يدريكا
إذا الكرى سناته يغشيكا
ريح خزامى ولي الركيكا
أقلع لما بلغ التدريكا
التفسير: «وا»: للندبة وهي هنا للدهش والتعجب. «بأبي»: أنت أفديك. «النشر»: الريح الطيبة. «فيك»: فمك. «الوهن»: الجبن والفتور عن الإقدام، «يدريك»: دريت فلانا أدريه إذا ختلته أي خدعته عن غفلة. «الكرى»: النوم والنعاس. «سناته»: جمع سنة وهي النعاس من غير نوم. «يغشيك»: غشيت الشيء تغشيه إذا غطيته، وقرئ في سورة الأنفال:
يغشيكم النعاس
و
يغشيكم النعاس . «الخزامي»: سبق شرحها. «ولي الركيك»: الولي: المطر يأتي بعد الوسمي، ووليت الأرض وليا: سقيت الولي وسمي وليا؛ لأنه يلي الوسمي وهو مطر أول الربيع؛ لأنه يسم الأرض بالنبات وهو يكون بعد الخرفي في البرد ثم يتبعه الولي في صميم الشتاء ثم يتبعه الربعي، فولي بمعنى سقي متعدية إلى مفعولين. «الرك» والرك: المطر القليل أو المطر الضعيف، وقيل: هو فوق الرش، والركيكة من المطر كالرك. «أقلع»: عن الشيء: كف عنه، «التدريك»: من المطر أن يدارك القطر كأنه يدرك بعضه بعضا.
ابن الأعرابي
هو محمد بن زياد أبو عبد الله من موالي بني هاشم كان نحويا عالما باللغة والشعر ناشئا، كثير السماع من المفضل بن محمد الضبي، راوية للأشعار حسن الحفظ لها، ولم يكن أحد من الكوفيين أشبه رواية برواية البصريين منه وكان أحول أعرج، قال ثعلب: شاهدت ابن الأعرابي وكان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان كل يسأله أو يقرأ عليه ويجيب من غير كتاب، قال: ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابا قط، وما أشك في أنه أملى على الناس ما يحمل على أجمال، ولم يكن أحد في علم الشعر واللغة أغزر منه، وكان ممن وسم بالتعليم، وكان يأخذ كل شهر ألف درهم فينفقها على إخوانه وأهله، وكان شيخا جميل الأخلاق، وكان المفضل الضبي زوج أمه، قال ابن الأعرابي: ما رأيت قوما أكذب على اللغة من قوم يزعمون أن القرآن مخلوق، ولابن الأعرابي من التصانيف: النوادر والأنواء ونسب الخيل ونوادر الزبيريين ونوادر بني فقعس والنبت والبقل، ومات ابن الأعرابي بسر من رأى سنة ثلاثين ومائتين، وقيل: إحدى وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، ومولده ليلة مات أبو حنيفة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة سنة خمسين ومائة. •••
إن العاص بن وائل قال وهو يرقص ولده عمرا مرتجزا في حال طفولته:
161
ظني بعمرو أن يفوق حلما
وأن يسود جمحا وسهما
وينشق الخصم الألد رغما
وأن يقود الجيش مجرا دهما
يلهم أحشاد الأعادي لهما
التفسير: «جمح»: هو أبو بطن من قريش وهو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، «وسهم»: أخو جمح وهو من أجداد عمرو بن العاص. «ينشق»: أنشقته الدواء في أنفه: صببته فيه. «الخصم»: من الخصومة وهي الجدل. «الألد»: الخصم الجدل الشحيح الذي لا يرجع إلى الحق . «رغما»: الرغم: الذلة والكره. «الجيش مجرا»: جيش مجر كثير جدا، والمجر: الجيش العظيم المجتمع، «دهما»: جيش دهم أي كثير. «يلهم»: لهم الشيء يلهمه لهما ولهما: ابتلعه بمرة . «أحشاد»: جمع حشد، وحشد من الناس: أي جماعة قد احتشدوا.
العاص بن وائل
العاص - والعاصي بالياء وهو الفصيح عند أهل العربية ويقع كثيرا بحذف الياء - ابن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمر بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي من رجالات العرب وذوي الرأي فيهم لما بادى
162
رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه
163
وناكروه
164
وأجمعوا خلافه
165
وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون، وحدب
166
على رسول الله عمه أبو طالب فمنعه وقام دونه ومضى رسول الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم
167
من شيء أنكروه عليه من فراقه وعيبه آلهتهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، وكان منهم العاص بن وائل فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا
168
وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا أو تخلي بيننا وبينه، فردهم أبو طالب ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، وجعل الإسلام يفشو بمكة في قبائل قريش، فاجتمع أشراف قريش من كل قبيلة عند ظهر الكعبة وكان منهم أيضا العاص بن وائل فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك.
ولما أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي فغدى إليه وإذا غلام جاءه وقال عمر: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد، فقام جميل على باب المسجد وأتبعه عمر وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش ألا إن ابن الخطاب قد صبأ،
169
ويقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وثاروا وما برح يقاتلهم ويقاتلونه فينهاهم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة
170
وقميص موشى حتى وقف عليه فقال ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: مه،
171
رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل، فقال ابن عمر لأبيه بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ قال: ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي، والعاص هذا هو أبو عمرو بن العاص.
عمرو بن العاص
الصحابي هو أبو عبد الله ويقال: أبو محمد عمرو بن العاص بن وائل - وباقي النسب ذكرناه في نسب أبيه - أسلم عام خيبر أول سنة سبع، وقيل: أسلم في صفر سنة ثمان قبل الفتح بستة شهور، وقيل غير ذلك، وقدم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة فأسلموا، ثم أمره رسول الله في غزوات ذات السلاسل وهو وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من هجرة الرسول فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عمرو بن العاص، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا، وأمره بأن يستعين بمن يمر به من بلي وعذرة وبلقين وكان في جيشه من المهاجرين أبو بكر وعمر وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم، وقال لأبي عبيدة لا تختلفا، واستعمله رسول الله على عمان فلم يزل عليها حتى توفي رسول الله، ثم أرسله أبو بكر - رضي الله عنه - أميرا إلى الشام فشهد فتوحه، وولي فلسطين لعمر بن الخطاب ثم أرسله عمر في جيش إلى مصر ففتحها ولم يزل واليا عليها حتى توفي عمر ثم أمره عليها عثمان أربع سنين، ثم عزله فاعتزل عمرو بفلسطين وكان يأتي المدينة أحيانا ، ثم استعمله معاوية على مصر فبقي عليها حتى توفي واليا عليها ودفن بها، وكانت وفاته يوم الفطر سنة 42، وقيل: 43، وقيل غير ذلك، وكان عمره سبعين سنة، وصلى عليه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان عمرو من أبطال العرب ودهاتهم، وكان قصيرا، ذا رأي، وأعتق عمرو كل مملوك له، وقيل لعمرو بن العاص: ما المروءة؟ فقال: «يصلح الرجل ماله ويحسن إلى إخوانه.» ولما حضرته الوفاة قال: «اللهم أمرتني فلم أأتمر، ونهيتني فلم أنزجر، ولست قويا فأنتصر ولا بريا فأعتذر ولا مستكبرا بل مستغفرا لا إله إلا أنت.» فما زال يرددها حتى توفي، روى عن رسول الله، وروى عنه أبو عثمان النهدي وقيس بن حازم وعروة بن الزبير وعبد الرحمن بن شماسة.
Bilinmeyen sayfa