أما هذا المجتمع العباسي، فهو مزاج عجيب من أمم شتى، تجمعها عقيدة واحدة، وتفرقها ألوان من التفكير، وألوان من التاريخ، وألوان من الحضارات، وألوان من الوراثات.
وابتدأ هذا المجتمع الجديد يجذب إليه العقول من أطراف المشرق، تهرع إليه لتهتدي بهدي قرآنه، أو لتلتمس العيش في آفاقه ورحابه.
فلم يكن بدعا أن يتفجر من هذا المجتمع أعجب مزاج فكري في تاريخ الفكر والإنسان، ابتدأت أقلام العلماء من أبناء فارس والروم واليهود تنقل كنوز الفرس والإغريق والهنود في سرعة وحماس، يزكيهما إقبال الجماهير وتأييد الولاة، كما ظهر على أطراف الحياة الإسلامية فلاسفة إسلاميون تتلمذوا على اليونان والإغريق، وأضافوا إلى تراثهما المعارف الإسلامية الجديدة.
وامتد تأثير هذا البعث السريع المتلاحق إلى الحياة الفكرية عامة؛ فترك طابعه على الآداب العربية، كما تأثر به رجال الفقه والرواد الكلاميون، فإن المعتزلة - وهم طلائع الكشف الفكري في الإسلام - يدينون لفلسفة اليونان بأكثر ألوان الجمال المشعة في منطقهم وحججهم.
ثم تلا عصر الترجمة عصر تلاطمت فيه المعارف الجديدة؛ فنشأ عنها وجوه مبتدعة من التفكير والبحث والتأمل، وتميز العصر الجديد بسماحة كاملة وحريات تامة، عصر انتفت منه العصبية الفكرية الحساسة الغيور، وسادته إباحة مشرقة تشعر بحاجتها إلى الاستزادة من المعارف، وتحس ظمأ ملحا إلى تلك الآفاق المجهولة التي تتفتح أمامها من مشارق الأرض ومغاربها.
فما انتصف القرن الخامس الهجري، أو ما يسمونه بالعصر العباسي الثالث، حتى كانت الدولة العباسية أمة مترفة الفكر، مترفة المزاج، مترفة البحث الحر.
كان للعصر العباسي الثالث طابع الإسراف في التفكير وجموح الخيال؛ بل لقد انقلبت وجوه الإسراف إلى بلبلة عجيبة وعرض عجيب للملل والنحل والمذاهب.
مجتمع عجيب! امتلأت حقائب تاريخه بمئات من الشيع والفرق والمذاهب الدينية والفلسفية والكلامية؛ حتى لقد أصبح لكل لسان ذرب مذهب خاص به، ولكل قلم ممتلئ أمة فكرية تتبعه.
كان العلماء فيه أشبه بالثوار في عصور الفوضى، في كل قرية ثائر، وفي كل طريق فارس ملثم أو سافر.
وكان لا بد لتلك الأمواج من المذاهب والنحل والشيع أن تطغى وأن تثور، وكان لا بد لها أن تتقاتل وتتطاحن، وكان لا بد لها أن تملأ الدنيا دويا وزلزالا، ومن ثم شهد هذا المجتمع أعنف حرب فكرية في التاريخ.
Bilinmeyen sayfa